رؤية محمد بن سلمان

بين النفط واللانفط.. كارثة محقّقة!

هيثم الخياط

الشهر الماضي، إتصل بن ردودس، أحد كبار المستشارين للرئيس الأميركي باراك أوباما، بولي ولي العهد محمد بن سلمان وأمره بالتراجع عن (اتفاق الدوحة) الرباعي بين قطر والسعودية وروسيا وفنزويلا بخصوص تجميد الانتاج، وهذا ما حصل.

في سبتمبر 2014 اشتعلت الحرب النفطية، بعد أن أغرقت الرياض الأسواق العالمية بكميات ضخمة من النفط من أجل تسديد ضربة مؤلمة للاقتصادين الروسي والايراني. كان القرار أميركياً، بهدف إرغام ايران على التنازل في مفاوضات النووي، والضغط على روسيا في الملفين السوري والاوكراني، ومعاقبة فنزويلا.. مع أن القرار له ارتدادات على النفط الصخري في الولايات المتحدة، وعلى الاقتصاد السعودي الذي كانت خسارته الكميّة، تعد الأكبر كما ظهر ذلك في موازنة عام 2016، وآيتها الأولى عجز بقيمة 87 مليار دولار على الأقل.

عادت واشنطن وتدخّلت ومنعت أي اتفاق مع روسيا، مع بقاء الهدف ذاته في الملفين السوري والاوكراني، حيث يجري العمل على الهبوط بالسعر الى ما بين 20 ـ 15 دولاراً.

في مقالة بيبي اسكوبار في (سبوتنيك) في 23 إبريل الماضي بعنوان: (الخوف والبغض في ليالي العرب) حديث عن أن أوباما جاء للمملكة للمشاركة في قمة مجلس التعاون الخليجي، بهدف طمأنة الحلفاء وسط عواصف نفطية.

قمة الدوحة سبقت زيارة أوباما، وكان يفترض أن تكرس لخفض انتاج النفط من جانب أوبك، جنباً إلى جنب مع روسيا، ولكن من الناحية العملية تبدّدت كغبار متطاير.

وفيما كان الوفد السعودي في الدوحة، اتصل محمد بن سلمان بالوفد وقال لهم: (الصفقة انتهت)، وطالبهم بالعودة، ما تسبّب بصدمة كل الأفرقاء في سوق الطاقة. وبخلاف ما قيل عن أن القرار كان سعودياً مستقلاً، فإن حقيقة الأمر استناداً الى مصدر مالي وثيق الصلة بالعائلة المالكة، أن «الولايات المتحدة هدّدت الأمير في تلك الليلة بعواقب وخيمة للغاية إذا لم يتراجع عن تجميد أسعار النفط.” وعليه، فإن المسألة أبعد من كونها سعودية داخلية، أو أنه يتصل بالسلوك المتهوّر وغير المستقر للأمير محمد بن سلمان.

ويوضح المصدر بأن من شأن خفض إنتاج النفط، إعاقة «هدف الولايات المتحدة من إفلاس روسيا عبر حرب أسعار النفط».

وكانت ايران قد بدت واضحة للغاية بعد رفع العقوبات، بأن ليس لديها أي سبب للشروع في خفض الانتاج. على العكس من ذلك؛ فالنفط يساهم بنسبة 23٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن بالنسبة للسعودية فإن الأمر أشد ايلاماً حين يتعلق بعجز الميزانية الذي بلغ 98 مليار دولار بحسب موازنة 2016 التي أعلن عنها في ديسمبر 2015، مع أن السعودية وعدت، على لسان وزير البترول السابق علي النعيمي، بخفض معتدل، جنبا إلى جنب مع أكثر دول أوبك وروسيا.

بدت الادارة الاميركية حريصة على إبقاء سعر النفط منخفضاً، وفرضت على السعودية ان تبقى مستوى الانتاج مرتفعاً، وكان ذلك موضع اهتمام الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري.

اغراق السوق العالمية بالنفط كما رآه آل سعود، يمكن أن يحقّق ثلاثة انتصارات كبرى:

1 ـ القضاء على المنافسة من قبل إيران وصناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة.

2 ـ منع المنافسة من سرقة الحصّة السوقية للسعودية مع العميل الرئيسي للطاقة المتمثل في الصين.

3 ـ إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد الروسي.

في صميم ذلك كله يكمن تهديد واشنطن للرياض بتجميد الأصول السعودية في جميع أنحاء الطيف، إذا لم تتعاون الأسرة المالكة في السعودية في حرب أسعار النفط ضد روسيا.

لقد تدخّل الكونجرس للنظر في مشروع قانون يربط السعودية بهجمات الحادي عشر من سبتمبر بما يؤدي الى تجميد جميع الأصول السعودية في جميع أنحاء المعمورة. ان رفع السرية والإفراج عن 28 صفحة سيئة السمعة أثارت فزع آل سعود. وليس من قبيل المصادفة أن يكون طرح هذا الموضوع قبل احتفاظ أوبك، حيث يراد الضغط على السعوديين لمواصلة حرب النفط ضد روسيا.

لا أحد يعرف حقاً كم وظفت السعودية من أموال في سندات الخزانة الاميركية، باستثناء قلة من المطلّعين في كل من الرياض وواشنطن، وهؤلاء لا يتحدثون. ما هو معروف هو أن وزراة الخزانة الأميركية تجمع ممتلكات الرياض مع ممتلكات مشيخات خليجية أخرى. وقد بلغت مجتمعة 281 مليار دولار قبل شهرين.

 
ابن سلمان: أجدادنا لم يعتمدوا على النفط!

السعوديون يقولون أنهم يريدون التخلص من 750 مليار دولار. المصرف الاستثماري في نيويورك ذكر أن «ستة تريليون دولار قد يكون رقماً قريباً من ذلك». وفي وقت سابق من هذا العام ذكر الكاتب كيف كان آل سعود يقومون بتفريغ تريليون دولار من الأوراق المالية الأمريكية في السوق، لتحقيق التوازن في ميزانيتها الكارثية. المشكلة أنه ليس هناك احد كان من المفترض معرفة ذلك.

والحقيقة هي أن الولايات المتحدة والغرب جمّدوا 80 مليار دولارا من الأصول التي تخص الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك. لذلك فإن التجميد ارتبط باتهام المملكة السعودية بالإرهاب قد لا يكون من الصعب تسويقها.

السعودية التي تنتظر بشغف انتهاء فترة الرئيس أوباما، لا تتوقع ان تكون المرحلة المقبلة وردية بالضرورة في ظل ازدراء الحزبين الجمهوري والديمقراطي لها. واشنطن بلا شك تحتاج الرياض لمواصلة سياسة فرق تسد ولمحاصرة ايران، وهذا لا يعني بالضرورة أن آل سعود قد لا يُرمون تحت الحافلة في ومضة إذا اقتضت الضرورة.

خيار الرياض المربح هو: الدخول في تعاون مع روسيا في تحالف جديد لخفض انتاج النفط بنسبة 20% لتؤدي الى ارتفاع سعر النفط الى 200 دولار للبرميل، وتعويض الخسائر الهائلة التي تسبّبتها الضغوط الأميركية. ولكن هذا لم يعد ممكنا، وربما هذا ما أملى على محمد بن سلمان أن يستعجل بطرح رؤيته.

في 25 إبريل الماضي، أطلّ محمد بن سلمان عبر شاشة «العربية»، ليكشف النقاب عن خطته الإقتصادية الإستراتيجية الهادفة إلى إنهاء اعتماد – أو حتّى إدمان – المملكة على النفط وعائداته، في عملية إصلاحية أثارت موجة تحليلات لتقييم القدرة الفعلية للسعودية على إحداث تغيير جذري في مسار اعتُبر على مرّ عقود العمود الفقري لقوة النظام الحالي.

لكن هذا الطرح المتفائل تقابله سلّة عوامل ووقائع بارزة، وضوابط يفرضها منطق الواقعية السياسية، تجعل من رؤية محمد بن سلمان التي ينوي إنجازها بحلول العام 2030، مراداً بعيد المنال، أقلّه إن لم نجزم بعدم قابليّته للتحقّق. فهل ما تعهّد به نجل العاهل السعودي هدف ليس تحقيقه بالمستحيل، أم حلم سوريالي؟

في مقال نشره موقع «جيوبوليتيكال فيوتشرز» في 26 إبريل الماضي بعنوان (المشروع الاصلاحي المحفوف بالخطر في السعودية)، يصف الكاتب كامران بخاري مشروع ابن سلمان الإصلاحي بأنّه «محفوف بالمجازفات»، مشيراً بدايةً إلى أنّ هدف ولي ولي العهد بيع حصة من شركة «أرامكو» النفطية وإنشاء صندوق سيادي، يصطدم بجملة القيود التي تفرضها التحديات الداخلية والخارجية التي تواجها المملكة.

ويأتي طرح ابن سلمان في وقت لجأت فيه المملكة إلى إستدانة عشرة مليارات الدولارات من الخارج للمرة الأولى منذ 25 عاماً، فيما يعوّل الأمير السعودي على تفعيل الإستثمارات غير النفطية، وتطوير قطاعات حيوية بعيداً عن البترول، خصوصاً في مجالات الدفاع والطاقة المتجددة.

أمّا مشروعه بشأن منح الأجانب بطاقات إقامة دائمة في السعودية، على غرار النظام المعتمد من قبل أميركا، فليس مرشّحاً لجذب الكثيرين إلى المملكة، ذلك أنّ التيار المحافظ لن يرحّب بما يستوجبه هذا الإقتراح من اعتماد قوانين علمانية!

ثمّ إنّ تعهّد ابن سلمان بخلق المزيد من فرص العمل للنساء خاصة، يضعه في موقف لا يحسد عليه في وجه المحافظين الأصوليين الوهابييّ العقيدة، الذين ما زال من شبه المستحيل إقناعهم بالسماح للمرأة بقيادة السيارة!

كما أنّ تصميم بن سلمان إصلاحاته على اعتبار أنّ سعر برميل النفط سيستقرّ عند 30 دولاراً أميركياً، يزعزع قابلية هذا المشروع للتحقّق؛ فماذا لو جاءت الحقيقة عكس توقّعاته وكان سعر البرميل دون ما يراهن عليه؟

بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن لإبن سلمان أن يفصل رؤيته الإقتصادية عن الواقع الذي فرضه اختراق تنظيميّ «داعش» و»القاعدة» الإرهابيّين لحدود المملكة، ناهيك عن التوغل السعودي في وحول حرب اليمن.

في 25 إبريل قال بن سلمان إنّ ما أعلنه «ليس حلماً، بل واقعاً سيُنجز حتماً، بمشيئة الله»؛ وعلى مرّ عقود، كانت السعودية تقول في أكثر من محطة إنّ الوقت قد حان لوقف الإعتماد على النفط؛ واليوم، يقول الواقع، في البيت السعودي وفي محيطه الأقرب والأبعد، إنّ خطة ابن سلمان الإصلاحية تفتقر إلى بعض من الواقعية، في بلاد حفرت إسمها في التاريخ الحديث بحروف من الذهب الأسود.

ويرى كامران بخاري بأن الوضع الاقليمي المعقّد والقيود المحليه تمنح السعودية مساحة محدودة للغاية للمناورة. ومن المستبعد جداً أن تنجح الرياض في جهودها لإصلاح الاقتصاد السياسي. في هذه العملية، قد ينتهي المطاف بالمملكة الى المزيد من المشاكل أكثر مما تتواجهه في الوقت الحالي.

في تقييم رؤية ابن سلمان، كتبت جين كينينمونت نائبة، رئيس والباحثة الزميلة في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز تشاتام هاوس في لندن، مقالة في 29 نيسان الماضي بعنوان (السعودية تواجه مستقبلها في الخطة الاصلاحية رؤية 2030). ترى كينينمونت بأن سياسات تنويع الاقتصاد التي كانت دول الخليج تعمل على تطويرها على مدى أعوام ليست من الناحية الجذرية جديدة، ولكن تدل على محرك بعيد المدى للإصلاح الاقتصادي والذي اكتسب طابعاً ملحّاً جديداً من خلال انخفاض أسعار النفط وقيادة الجيل الجديد.

العناصر التي تعد جديدة في الرؤية، بحسب الباحثة كينينمونت، تشمل الخصخصة من خلال طرح عام أولي لبيع حصة صغيرة من شركة أرامكو. الخطوة الدراماتيكية الأخرى هي حصول العمال الاجانب على البطاقة الخضراء، وإنهاء نظام الكفالة الحالي والذي سهلّ انتهاكات حقوق الانسان. تستحضر كينينمونت تجربة البحرين في هذا السياق، وبرغم من الغاء نظام الكفيل فإن الممارسات التعسفية بحق العمال في البحرين بقيت عملية معقّدة جداً.

الطموحات لتنويع الإقتصاد وتطوير القطاع الخاص كان بعيداً جداً عن التنفيذ لأسباب أربعة: الأول أن هذه المبادرات ليست متواشجة مع عمل الحكومة، وثانياً: لم تأخذ الحكومة في نظر الاعتبار، وتبني على، المصالح الخاصة للنخبة التجارية التقليدية ورجال الاعمال في العائلة المالكة في الحفاظ على الوضع الراهن: الحفاظ على نموذج الاعمال التجارية التي تعتمد على الطاقة الرخيصة، والعمالة الرخيصة، والرعاية وحسن نيّة الحكومة (الضرورية للعقود، والحصول على الأراضي والتراخيص في اقتصاد خاضع للدولة بصورة معقّدة)، ثالثا: يتوقع الجمهور العريض تقليدياً مزايا تقدّمها الدولة مثل الإعانات، وظائف وخدمات في القطاع العام والذي ينظر اليه بكونه حصة مشروعة في الثروة الوطنية، وكثيراً ما توصف بأنها جزء من «الصفقة الريعية»، أو العقد الاجتماعي. رابعاً، أن أسعار النفط المرتفعة في السنوات الأخيرة مكّنت القيادة من تأجيل أو تخفيف بعض الإصلاحات المخطط لها، وعلى وجه التحديد زيادة الإنفاق العام في كل عام، مع التقديمات الواسعة لا سيما في وقت الربيع العربي وصولاً الى لحظة تولي الملك سلمان العرش.

إن الدعم الذي حظي به محمد بن سلمان لتعميم رؤيته من والده، الملك، يواجه كثيراً من التحديات. فإضافة الى التحديات الاقتصادية والتشريعية والسياسية، فإن ثمة هواجس تبعثها رؤية ابن سلمان على مستوى وراثة العرش. فالحضور الكثيف لشخصية بن سلمان في الاعلام كما في السياسة يبعث دون ريب مخاوف لدى ولي العهد محمد بن نايف الذي وجد نفسه على هامش السياسة السعودية.

يمكن تلمّس هواجس محمد بن نايف إزاء رؤية ابن سلمان، التي لم تعد خافية بأنها ـ أي الرؤية ـ تمثل الرهان الجديد للفوز بالعرش. وقد انفرد ابن سلمان بالرهانات المتوالية منذ الحرب على اليمن مروراً بالتحالف العسكري الإسلامي وما بينهما من مبادرات جزئية أدارها والصلاحيات التي حصل عليها في ملفات الاقتصاد والأمن، والسياسة الخارجية والدفاع، وهو ما لم ينل معشاره ولي العهد محمد بن نايف.

الصفحة السابقة