أشرف ريفي والسفير السعودي عسيري   نهاد مشنوق والسفير السعودي عسيري

آل سعود ومعركة الزعامة السنيّة في لبنان

عمرالمالكي

منذ مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، لم ينجح آل سعود في إحلال نجله، سعد، في كرسي الزعامة خلفاً لوالده. كل الدورات التأهيلية التي خضع لها سعد الحريري لم تجعل منه قائداً للسنّة في لبنان. الفراغ القيادي في الطائفة السنيّة كان نتيجة التفتيت الممنهج الذي قامت به السعودية في لبنان بتهميشها العوائل السنيّة التقليدية من أمثال كرامي، سلام، ميقاتي، الصلح، لصالح تثبيت بيت الحريري كمرجعية وحيدة للطائفة السنيّة.

سطوة شخصية رفيق الحريري جعلت من بروز أي شخصية أخرى من داخل بيته أو من خارجها أمراً صعباً، وشكّلت تحدّياً خطيراً على الطائفة السنيّة في لبنان، فكان مقتله ـ برغم مما حققه من مكاسب سياسية، ومن بينها خروج القوات السورية من لبنان ـ قد أفضى الى ان يكون الوريث، دون قدر مقاس الخلافة.

كان سعد الحريري يعتقد بأن زعامته السنيّة محسومة، وإن لا منافس محتملاَ يمكن أن يولد، ولكنه اكتشف عكس ذلك، فقد أطيح به بطريقة ديمقراطية في عام 2009، وتولى مكانه نجيب ميقاتي، ثم بعد استقالة الأخير، لم يكن هو المرشح المقبول لرئاسة الحكومة، بل جاء مكانه تمّام سلام. وإذا كانت له فرصه كبيرة في العودة الى رئاسة الحكومة، فإنما بارتباطها بتنازلات كبيرة أيضاً من جانبه، وهو ما لا تريده السعودية، ومن بينها القبول بمرشح حزب الله وبعض حلفائه لرئاسة الجمهورية، أي الجنرال ميشال عون.

بمرور الوقت، وغياب سعد الحريري الطويل عن الساحة اللبنانية، أوقع الطائفة السنيّة في مشكلات من بينها بروز ظاهرة أحمد الأسير في شكلها المتطرف، وكذلك جماعات الاسلام الراديكالي في الشمال اللبناني. وفي التداعيات بدأت وجوه سنيّة من داخل فريق 14 آذار تسوّق نفسها في مقابل سعد الحريري. ويأتي ذلك في ظل بوادر انهيار الامبراطورية المالية الحريرية في السعودية.

كانت العودة الأخيرة لسعد الحريري الى لبنان، بمثابة محاولة انقاذية لعرشه الذي يتهاوى، بعد أن تصدّع البيت الآذري، بخروج رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع عن خط 14 آذار بترشيحه عون رئيساً للجمهورية في مقابل مرشح الحريري، سليمان فرنجية. كان سعد الحريري بانتظار صندوق باندورا لبناني بدأت من أزمته المالية المستعصية، وانتقالاً الى تمزّقات 14 آذار، ووصولاً الى بروز منافسين سنييّن في التيار الآذاري.

بدأ التنافس مع أشرف ريفي، وزير العدل المعلّق، الذي بدأ «يعمل لحسابه»، وتحوّل الى «قائد محور» في طرابلس، ودخل في تحالف خفي مع الشيخ أحمد الأسير.. بدأ ريفي يتصرّف بصورة مستقلة عن الحريري، وتحوّل الى منافس جدّي له، برغم من محاولة سعد إبعاده عن الرعاية السعودية، خوفاً من صعوده كمرشح راجح للزعامة السنيّة.

في 20 مايو الماضي، أقام السفير السعودي في لبنان علي عواض عسير مأدبة عشاء ضمّت أكثر من 150 شخصية وكان من بين المدعوين: رئيس الحكومة تمّام سلام، وسعد الحريري، وأمين الجميل، وميشال عون، وسليمان فرنجية، وسمير جعجع، إلى جانب رؤساء حكومة سابقين، وعدد من الوزراء والنواب، وقائد الجيش العماد جان قهوجي، وعدد من الشخصيات السياسية الشيعية ورؤساء البعثات الدبلوماسية.

الجديد في المأدبة، هو غياب أشرف ريفي، الذي قيل بأن غيابه كان بطلب من سعد الحريري بعدم توجيه دعوة إليه، لتمرّده عليه، رغم ما قيل عن توجّه سعودي بعدم «تكبير حالة ريفي» في طرابلس، وأن زياته الأخيرة التي قام بها ريفي الى الرياض لم تكن تحظى بتغطية صحافية لافتة. والحال، أن إشادات صحافية سعودية بالزعامة الصاعدة لأشرف ريفي تشي بقبوله منافساً راجحاً على الزعامة السنيّة. إن براءة الحريري من ريفي وعدم تمثيله له، لم يحل دون الدخول على ملف مقتل الحريري الأب، لاقتطاع جزء من المشروعية الشعبية في المجال السنّي.

شخصية أخرى برزت في حلبة المنافسة، وتتمثل في وزير الداخلية الحالي نهاد المشنوق، وهو شخصية لدودة لأشرف ريفي. وقد فجّر المشنوق معركة وسط تيار 14 آذار، وأصاب الراعي السعودي بجرح عميق.

في مقابلة المشنوق مع مارسيل غانم في برنامجه (كلام الناس) على قناة إل بي سي اللبنانية في 2 يونيو الجاري، حمّل المشنوق السياسة السعودية السابقة (مرحلة الملك عبدالله) مسؤولية خيارات سياسية اتخذها سعد الحريري و»تيار المستقبل» وقد «أوصلتنا الى ما أوصلتنا اليه اليوم»، وسأل ماذا كان ليأخذ الحريري الى دمشق لولا القرار السعودي الذي دفعنا للتقرب من الخط السوري؟

 
ماذا وراء تصريحات مشنوق المؤذية للرياض؟

وقال المشنوق، وفي مواقف حادة من عهد الملك عبد الله، أنه كان مطلوباً من سعد الحريري التخلي عن المحكمة الدولية، وليس فقط ربط نزاع مع «حزب الله»، وهو قاوم هذا الخيار لأجل استمرار المحكمة، وقال: «لا يجوز أن ننسى أين عاش الحريري، وأين يعمل، وأين مصالحه» في إشارة الى الضغوطات السعودية التي يتعرض لها لوجود مصالحه فيها.

وبخصوص موقفه من أشرف ريفي، دعا المشنوق غريمه ريفي الى التوقف عن استثمار واستغلال دماء رفيق الحريري سياسياً. وقال إنه لا يملك أي دليل أو فكرة عن مصادر تمويل اللائحة التي دعمها ريفي في طرابلس.

وكشف المشنوق أن الحريري رشح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، لكن السياسة السعودية السابقة: «قالت ما لا يقال حول الموضوع». وكشف أيضاً أن ترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية لم يأتِ من سعد الحريري، بل من البريطانيين الذين نقلوا الأمر الى الأميركيين، ومن هناك انتقل الأمر الى السعودية ثم الى الحريري «وهذا الأمر لم يقرّر بين ليلة وضحاها، بل هو جزء من نظرة دولية مفادها أن حزب الله سيعود في نهاية الأمر من سوريا، ولن يكون رابحاً، وسيكون مثل الفيل في محل زجاج، وسيكسر الزجاج كيفما تحرك، ومن الأفضل وجود رئيس للجمهورية يريح الحزب مثل فرنجية، بدل الذهاب الى خيارات مثل المؤتمر التأسيسي وغيره».

كان يمكن أن تمرّ تصريحات المشنوق بهدوء لولا تسريبات قناة (الجديد) في 4 يونيو التي حملت إشارات واضحة بتمسّك المشنوق بمواقفه، بل واستعداده لأن يخوض المواجهة حتى النهاية. وقد أوردت (الجديد) في مقدّمتها: (في جديد المواقف للمشنوق ما أسّر به لقناة الجديد من أنه لم يقل كل الكلام بعد، فمن حق الناس أن تعرف فأنا «ملّيت وقرفت». لدي الكثير وإذا أضطرني الأمر سوف أتحدث ولنبدأ مرحلةً جديدة. وعن رأي السعودية فيما أدلى به وما سيكون لاحقاً، قال المشنوق: لم أعد مهتماً «وإذا حدا عم بيقدملي شي ياخدو»..).

وتضيف (الجديد): (وإذ كشف وزير الداخلية أن الحريري اتصل به في أعقاب الحلقة التلفزيونية، أكد أن زعيم المستقبل أبدى عتباً على طرح موضوع سليمان فرنجية. واعتبر طرحَ هذا الملف على هذا الشكل: خسارة. فرد المشنوق: لن نخسر شيئاً من قضية خاسرة أساساً، إذ أن فرنجية لن يصبح رئيساً وعون «ما حدا بدو ياه» فلماذا نتكاذب على بعضنا).

المشنوق تدارك الأمر، وكتب تغريدة باسم مكتبه نفى فيها المعلومات التي نسبتها له القناة في مقدمة أخبارها المسائية. ولكن الملف لم يغلق، فقد بقيت تداعيات المقابلة والمعلومات حاضرة في الإعلام، تستدرج ردود فعل من الاطراف كافة.

في 3 يونيو الجاري، أعرب السفير السعودي في لبنان علي عسيري عن استغرابه للمواقف التي أدلى بها وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق في المقابلة التلفزيونية، وإقحامه السعودية في عدد من الملفات الداخلية اللبنانية، على حد تعبيره. وقال عسيري إن: «المملكة لم ولن تتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، ولا سيما ملف رئاسة الجمهورية الذي تعتبره ملفًا سيادياً يعود للأشقاء اللبنانيين وحدهم حق القرار فيه»، وفق ما نقلته وكالة الأنباء السعودية الرسمية.

عسيري الذي يصرّ على إبقاء كذبة «عدم التدخل في الشؤون الداخلية»، ساءته «مكاشفة» المشنوق، الذي عاش لحظة تجلي مع ذاته، وأعلنها صراحة، رغم أن الشرر أصاب عهد الملك عبد الله، ولم يطل العهد الحالي، ولكنه ينطوي على إشارات سلبية بأن الحكم السعودي كله لم يعد محصّناً أمام نقد الحلفاء، والمتمرّدين منهم على وجه الخصوص.

بطبيعة الحال، فإن تفوّق ريفي في طرابلس في الانتخابات البلدية الأخيرة، أحدث ما خشي منه غريمه المشنوق، الذي تحوّل الى صانع ملوك دون إرادة منه، فقد تكفّل بتمهيد الطريق بوصفه وزيراً للداخلية ومعني بتوفير أجواء أمنية مناسبة لتسهيل عملية الاقتراع، أمام ريفي الذي بدأ يكسب الأرض والقاعدة الشعبية في الشمال ابتداءً، بما يجعله مرشحاً جديّاً للزعامة السنيّة، وقد يقدّم أوراق اعتماده للراعي السعودي عمّا قريب.

بالنسبة للمشنوق، فإن تحميل العهد السعودي السابق مسؤولية الاخفاقات الحريرية لا يقرّبه من العهد السلماني الجديد، فقد جرّب أناس في الداخل، من بينهم الشيخ محسن العواجي، في التنكيل بالعهد السابق، فقرر الملك سلمان إلغاء البرنامج واستدعاء العواجي، والسبب ببساطة أن سلمان يخشى من فتح باب التطاول على مقام الملك وليس شخص الملك.

لا ننسى أن المشنوق لم يبرئ العهد الحالي من مسؤولية التدخل في الشأن اللبناني، ولذلك نقد ترشيح سعد الحريري لسليمان فرنجية، ولكنه أرجع الترشيح الى قرار سعودية عبر القناة البريطانية.

ما أساء السفير عسيري، والنظام السعودي من ورائه، أن المشنوق مرّغ المقولة المعلّبة التي باتت علامة فارقة للسفير السعودي في لبنان «إن المملكة تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف»، وإذا بشخص من داخل الدار يقوّض المقولة، ويؤكّد أن المملكة ليست كذلك، بل هي «تتدخل» و»تملي» أيضاً.

التفسير المتداول بأن المشنوق شعر بالهزيمة بعد فوز منافسه المباشر ريفي في طرابلس، وأراد أن يفجّرها مدوّية لإيصال صوته الاعتراضي الى كل من يهمه الأمر، وهذا قد يوحي بأن المشنوق أقدم على ما يشبه عملية «انتحار سياسي»، أو في الحد الأدنى «مغامرة سياسية»، في وقت تبدو فيه الرهانات السياسية الرابحة في الجبهة السعودية وعلى الساحة اللبنانية على وجه الخصوص ضئيلة، بل نادرة.

على أية حال، فإن بروز شخصيات مثل ريفي والمشنوق في تيار 14 آذار كمنافسين لسعد الحريري على الزعامة، في محاولة لاستدراج الدعم أو الاهتمام السعودي، قد يقلّص من هامش المناورة لدى الحريري، ويدفع به الى الدخول في صفقة مع فريق 8 آذار، ولكن ضمن سقف شروط منخفض، فهو يأتي دون إجماع في بيته وتياره، وإن حصوله على مكافأة رئاسة الحكومة يتطلب تنازلات مؤلمة، ولا سيما تجاه الفاعل القوي في تيار 8 آذار، أي حزب الله، والذي أحرق سعد الحريري قناة التواصل معه بفعل التدابير التصعيدية التي اعتمدها منذ عودته الى لبنان، سواء لجهة مواصلة الهجوم عليه، والاصرار على تحميله مسؤولية اغتيال والده، وعدم تحريك الجمود الذي رافق الحوار بين الفريقين، والذي أصبحت مهمته مقتصرة، على حد المشنوق، على «ربط النزاع» السني الشيعي.

احتدام الصراع بين المشنوق وريفي قد يريح الحريري لجهة إبقائه في موقع الزعامة الى أمد قريب، ولكن بالتأكيد سوف يضعف التيار الذي ينتمي إليه هؤلاء جميعاً. وبالنسبة للراعي السعودي، فإن النزاع في التيار يضعف قدرته على المناورة بالاستناد على أوراق لم تعد صالحة، أو صالحة ولكن بقيمة منخفضة.

شخصيات عدّة انفضت من حول الحريري، من بينها خالد الظاهر، ونجيب ميقاتي، ومحمد الصفدي، وأخيراً ريفي وغيره، وهذا الانفضاض يعبر عن أزمة داخل قيادة حزب المستقبل، والحريرية السياسية في نهاية المطاف. ويمكن القول بأن علاقة الحريري والعهد الجديد في المملكة السعودية ليست على ما يرام، وسوف تكون أسوأ في حال وصل الأمير محمد بن نايف الى العرش، وهو الذي يطلبه بثأر شخصي لاتهامه إياه بأنه «سفّاك» في سنوات سابقة. وبالمناسبة فإن محمد بن نايف لا ينسى من أساء إليه، ويحيل السياسة الى شأن شخصي في الغالب.

الصفحة السابقة