اختلفت الأشكال، والطائفية مرجعهم!

مستقبل الخطاب.. مستقبل الدولة السعودية

عاصفة الحزم.. وتمذهب الخطاب الرسمي

(الحلقة الأخيرة)

تساؤل برز في عهد الملك سلمان هو: ما طبيعة الخطاب الذي ينتج في المملكة السعودية؟ من هو المستهدف بالخطاب؟ وما علاقة هذا الخطاب بالهوية وتالياً بمشروع الدولة؟ وهل يعبّر الخطاب عن عموم المكوّنات السكّانية؟ وهل ينسجم مع متطلبات الدولة الوطنية؟ وما تأثير هذا الخطاب على مستقبل المملكة؟

خالد شبكشي

بعد احتلال تنظيم «داعش» الموصل في 10 يونيو 2014، تشكّل مشهد غير مسبوق، إذ بتنا أمام ما يشبه إعادة إدماج «القاعدة» و»داعش» في المجال الثقافي والعقدي الوهابي تشرعنه الخصومة مع إيران وحزب الله في لبنان/ سوريا والحشد الشعبي في العراق. ثم جاءت الحرب على اليمن في 26 مارس 2015 لتنقل الخطاب السائد في الدولة الى مسرح آخر، حيث يحتدم النزال السياسي والعسكري والاعلامي على خلفية مذهبية مكشوفة.

المفتي العام للمملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أطلق خلال خطبة صلاة الجمعة في مسجد جامع الإمام تركي بن عبدالله بمنطقة قصر الحكم وسط مدينة الرياض في 10 إبريل 2015 دعوة للتجنيد الاجباري، وقال: «لا بد من تهيئة شبابنا التهيئة الصالحة؛ ليكونوا لنا درعاً للجهاد في سبيل الله ضد أعداء الدين والوطن». جاءت الدعوة في سياق عقدي سبق ان عبّر عنه المفتي نفسه في مقابلة مع صحيفة (عكاظ) في 10 نوفمبر 2009، أي إبان الحرب السادسة التي شاركت فيها السعودية ضد حركة «أنصار الله»، وصف فيها عقيدة الحوثيين بالفاسدة وقال بأن «من يقاتلون الحوثي إنما هم مجاهدون».

ومنذ اندلاع الحرب العدوانية الأخيرة على اليمن، ساهم الخطاب الطائفي المرتفع في المملكة على وجه الخصوص والمنطقة عموماً في تقريب المسافة بين المعتدل والمتشدّد في المجال الجغرافي الذي نشأت فيه الوهابية، حتى باتت أدوات التحليل متطابقة بين العلماني اللاديني، والسلفي المتشدّد، داخل المجال الوهابي السعودي.

مرّ الاعلام السعودي الرسمي بمنخفض أخلاقي وثقافي حاد، وبدا كأن العقل النمطي هو المسؤول عن توحيد الرؤية إزاء الآخر، فلا فرق بين الآخر/الدولة، أو المذهب او الجماعة، إذ توحّدت المعايير وأصبح المذهب وحده معيار الحكم النهائي.

وبلغ التوتّر ذروته، وبات جمهور السلطة عامل ضغط إضافي على القيادة السياسية، وأصبح شريكاً في صوغ خطاب طائفي موتور، بل أوحى تفشي الخطاب على نطاق واسع أن الجمهور صار يظهر ما تبطنه القيادة، بما في ذلك الحديث عن تشكيل «حلف سني» يضم الى جانب دويلات الخليج في مجلس التعاون مصر وتركيا وباكستان.

كان المحرّض الطائفي نشطاً في «عاصفة الحزم» في وقت كاد يغيب فيه المحرّض الوطني، إذ غابت الدولة وحضرت الطائفة بسطوة شعاراتها من قبيل «من ليس معنا فهو ضدنا» و»سوف نحارب لوحدنا حتى لو تخلى العالم بأسره». وحتى القوة العربية المشتركة التي جرى الاعلان عنها بطريقة احتفالية، أسبغ عليها طابعاً طائفياً، وغذّت أحلاماً مندّسة في اللاوعي الجمعي، الى حد أن هناك من وهبها تفويضاً مفتوحاً بـ «إنقاذ» الأمة واستكمال مهمتها في سوريا وربما العراق!

بدأ العدوان السعودي على اليمن عبر «عاصفة الحزم» فجر السادس والعشرين من مارس 2015 وبدأت معه حفلة جنون غير مسبوقة في المملكة السعودية. فقد تساوى الشارع والنخبة السلطوية في التفكير، واللغة، والاسفاف، والبذاءة، فلا تكاد تميّز بين ما يلفظه «الشوارعي» و»النخبوي» من معسكر السلطة السعودية. عشرات بل مئات المقالات وبرامج تلفزيونية وإذاعية، دع عنك مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر) و(فيسبوك)، كشفت عن جنوح غير مسبوق وسقوط أخلاقي يعبّر عن نفسه في لغة مجنونة ومنفلتة. لا يكاد تجد فيها ما يفيد بفكرة، بل هي حفلة هلوسة غرائزية تطيح كل القيم الأخلاقية وأدب الحوار، فضلاً عن العلمية شبه المعدومة.

هي تصفية حسابات طائفية. يخرج فريق من مثقفين وإعلاميين ونخبويين الهراء، كل الهراء، المتراكم منذ سنين. لافرق بين (العربية) و(الاخبارية) وقنوات (إم بي سي) من جهة، وقناتي الفتنة (وصال) و(صفا)، كما لا فرق بين خالد الدخيل، وتركي الدخيل، وعبد الله الغذامي، وحسين شبكشي، وسعود الريس، وعبد العزيز قاسم، والمحامي عبدالعزيز القاسم، ومحمد الرطيان، وعشرات أمثالهم.. وبين شيوخ الفتنة أمثال ابراهيم الفارس، ومحمد البراك، وناصر القفاري، وناصر العمر وعشرات أمثالهم. يصدر هؤلاء جميعاً عن رؤية واحدة ترى في كل «مختلف» خصماً، وكل من ليس مع «عاصفة الحزم» هو عدو حكماً، وينفّذ أجندة إيرانية.

التسيّب المطلق في مقاربة الموضوعات السياسية كان مفاجئاً، الى القدر الذي يجعلك تشكّك في أن أصحابها هم أنفسهم الذين كانوا فيما مضى يتناولون قضايا أخرى سياسية وثقافية بمنهجية هادئة وراقية. سقطت الدولة والوطن وعادت السعودية الى جذورها الطائفية والقبلية والمناطقية، وهو ما يبديه الاعلام السعودي بكل أدواته.

لم يكن أمير المنطقة الشرقية سعود بن نايف، شقيق ولي العهد ووزير الداخلية، «مسحوباً من لسانه» كما يقال، حين أطلق تصريحاً طائفياً هابطاً ووصف سكّان المنطقة التي يحكمها بأنهم «أتباع عبد الله ابن سبأ الصفوي المتلون»، ما شجّع أحد جنود آل سعود: طلال المطيري، لكي يهدّد مواطني القطيف قائلاً: «والله لو أدخل القطيف لأنحر رضيعكم قبل كبيركم». ولم تكن زلّة لسان من الأمير ممدوح بن عبد الرحمن آل سعود (عضو شرف في نادي النصر الرياضي)، وهو يتداخل هاتفياً ليصف الاعلامي الرياضي الحجازي عدنان جستنية بـ «طرش البحر»، وهي العبارة العنصرية التي يستخدمها النجدي السلطوي لوصف سكّان الحجاز.

مجلة (فرونت بيج) الأميركية نشرت تقريراً في 24 فبراير 2014 بعنوان (السعودية الدولة العنصرية في الشرق الأوسط) من اعداد دنيال جرينفيلد، جاء فيه: (ثمة بلد في الشرق الأوسط حيث 10% من سكّانه لا يتمتعون بحقوق متساوية بسبب اللون، حيث أن الرجال ذوي البشرة السوداء غير مسموح لهم بتولي مناصب حكومية عديدة. وهناك ثلاثة ملايين مواطناً من أصول أفريقية لا يحصلون على حقوق متساوية، ويمنعون من العمل في منصب: قاضي، مسؤول أمني، دبلوماسي، رئيس بلدية وكثير من المواقع الرسمية؛ وأن النساء المواطنات من أصول أفريقية ممنوعات من الظهور على الكاميرا).

حملة «الإعادات» لقراءة التاريخ القديم والحديث من قبل فريق المثقفين والاعلاميين والكتّاب تصلح مادة للدراسة بحد ذاتها، لأنها ظاهرة فريدة نسبياً، إذ يخرج هؤلاء طبائع لم يكن خروجها سهلاً دون اختبار العدوان على اليمن.

الكاتب والدبلوماسي عبد الله الناصر، كتب سلسلة مقالات في (الرياض) حول حزب الله وأمينه العام مثل (نصر الله و»عاصفة الحزم»: إيران تتحدث)، و(حزب الله..المعركة الأخيرة)، و(العرب وأوهام المقاومة.. القابلية للإنخداع!)، و(في لبنان للباغي صرعة)، و(لماذا تفاجأنا؟)، وكتب غيره على المنوال نفسه في الصحيفة ذاتها وفي غيرها من الصحف. لنتوقف عند مقالة الناصر بعنوان (حسن نصر الله.. المعمم العميل)، ويكفي العنوان دليلاً على محتوى المقالة، التي يحاول فيه إعادة قراءة حرب تموز 2006 في ضوء نظرية المؤامرة، وقال: «فقد ظننا أنها حرب بين عدوين حقيقيين، وسرقتنا حبكة اللعبة وأدهشتنا..». والحال، بحسب اعتقاده، أنها حرب «أعدت إعداداً مدروساً لأغراض وأهداف محسوبة النتائج وبدقة متناهية الخبث، وأن لهذه الحرب المفتعلة ما بعدها» وأن الهدف من تلك الحرب وياللدهشة: «هو تمكين إيران من احتلال لبنان».

لم يكن الناصر بحاجة الى إعادة قراءة مثل هذه الحرب، فـ «الإعادة» لم تتم لأن ثمة قراءة أولى كانت راسخة وقارّة في الوعي الجمعي الوهابي.. تلك القراءة لدى الطيف «المتطيّف» في نجد والوهابية عموماً والتي ترى في حزب الله خصماً ابتدائياً، وأن صاحب الاكتشافات المبكّرة مثل الشيخ ناصر العمر كان يردد دائماً بأنه حذّر قبل عشرين عاماً من أن حزب الله هو حارس حدود الكيان الإسرائيلي.

لم يختلف الناصر عن سعود الريس في مقالته (أبو بكر خامنئي.. للشيعة دواعشهم) المنشور في (الحياة) في 7 مايو 2015، والذي أطاح مهنية الصحيفة بعد أن أقحمها كتّابها السعوديون في لعبة غرائزية أحالتها أداة في صراع هابط، فصارت جزءاً من لعبة «شوراعية» يقودها فريق مدجّج بتعاليم مدرسية أدمنت الإحساس بالتميّز الوهمي، والوعي المثخن بخيالات العقيدة التنزيهية.

ويتسابق الكتاب في صحيفة (الحياة): جمال خاشقجي، وخالد الدخيل، وداوود الشريان، في التحريض المذهبي والعرقي. فقد دعا خاشقجي في مقال بتاريخ 9 مايو 2015، الى الجهاد ضد.. كل الدول التي يعتبرها عدوة. وهو يضع لتحقيق ذلك خارطة طريق: أولاً باستخدام «عاصفة الحزم، في اليمن وسوريا وما تبقى من العراق ولطرد إيران من عالمنا». ويضيف «وبالجهاد نحارب ايران بالطريقة الايرانية، بمتطوعينا..». وبينما يتهم ايران (والعراق وسوريا واليمن) بالطائفية واستخدام الميليشيات، إذا هو يدعو الى محاربة الآخرين بنفس السلاح «متطوعين» أي مليشيات.

وعلى المنوال نفسه من التحريض توالت مقالات خاشقجي في (الحياة)، فمن «دروس فتح كابول الى فتح دمشق» (2 مايو 2015) الى «احذروا ايران» (25 ابريل 2015) الى «أخي الحوثي: السعودية ثابت... وايران متحول» (11 إبريل 2015)، الى «5 زائد واحد، ما بعد عاصفة الحزم» (4 إبريل 2015)؛ و»مبدأ سلمان» (28 مارس 2015)، وأخيراً وليس آخراً «إما أن تكون معنا أو ضدنا» (9 يناير 2016) حتى يخال القارئ نفسه امام «داعشي» متنكّر.

بدا خاشقجي منذ انطلاق عدوان (عاصفة الحزم) على اليمن مستميتاً في الدفاع عن الموقف السعودي الى القدر الذي بدت المبالغة في الدفاع ممجوجة، فاضطرت الخارجية السعودية إلى إصدار بيان في 20 ديسمبر 2015 تنفي فيه أي علاقة له بأي جهة حكومية وأنه، إضافة الى نواف عبيد وأنور عشقي، لا يعكسون وجهة نظر حكومة المملكة، وأن آراءهم تُعبر عن وجهات نظرهم الشخصية(1). على أية حال، فإن السماح لهؤلاء الثلاثة بممارسة حرية مطلقة في تبني مواقف ووجهات نظر داعمة للنظام السعودي، تجعل من التبرؤ منهم مجرد إجراء شكلي لرفع الحرج عنها إزاء من يرغبون في إظهار مواقف صريحة في الدفاع عن الحكومة.

بعد بيان الخارجية، كتب خاشقجي عدداً من المقالات بلهجة انفعالية وحادّة وفي مقدمها مقالة استعار فيها تصريحاً للرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر جاء فيه «من لم يكن معنا فهو ضدّنا». خاشقجي وصفه بأنه «شعار جيد ومناسب للمرحلة، وحري بالسعودي أن يعتمده وهو يلج غمار أهم صراع وجودي يواجهه». لغة المقالة كانت لاهبة وغير منضبطة، وتوحي وكأنها من بيانات الحرب. وبرغم من تخطئة حلفاء الولايات المتحدة قبل أعدائها لذلك الشعار، إلا أن خاشقجي أضفى عليه وجاهة، بل كاد أن ينزله بمنزلة العقيدة الوهابية في «الولاء والبراء» بقوله (إنها «حال ولاء وبراء» سياسية ضرورية في زمن المواجهات المصيرية الكبرى التي بها «نكون أو لا نكون» مثل ما يجري حالياً في المنطقة).

ذهب خاشقجي بعيداً في تصوير المواجهة المحثوثة بشعار (معنا أو ضدنا)، وفتح مساحة المواجهة لتتجاوز السعودية وإيران، والسنّة والشيعة، و(إنما بين الحق في الحرية والاختيار، أو الرضوخ تحت نظام «الولي الفقيه»). ولفت خاشقجي الى أن التحالف الاسلامي العسكري لا يستهدف الارهاب كما أعلن عن ذلك محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع في منتصف 2015، بل هو مصمّم لمواجهة ايران، وأن ترميم الرياض لعلاقاتها مع الدول الأخرى هو لغرض بناء تحالف عسكري ضد ايران وأنها تعمل على إحباط ما تعتقده «ضد مشروع ومخطط وتريد من بقية المسلمين أن يصطفوا معها ضدهما».

يعتقد خاشقجي بأن كل الدول العربية والاسلامية تتفق مع رؤية السعودية في محاربة النفوذ الايراني، وأن السعودية «تحارب اليوم من أجل كل الأمة» وعلى الدول المتضررة «أن تصطف بوضوح مع المملكة»(2(.

تلبيد الفضاء الاعلامي بكمية هائلة من المواد الاعلامية ذات المضمون الطائفي والعنصري لا يعكس سوى أزمة عميقة تعيشها الدولة السعودية، وإن خلق التوترات الداخلية بين المكوّنات الاجتماعية تهدف الى صرف النظر عن استحقاقات الإصلاح السياسي، التي تحاول العائلة المالكة الهروب منها عبر تعزيز الانقسامات الداخلية. لكن الأخطر من ذلك كله أن هذه المواد الاعلامية تسهم بصورة مباشرة في صوغ خطاب الحكم السعودي، والذي من المؤكد يتعارض ومتطلبات الدولة الوطنية.

لم ينفك العدوان السعودي على اليمن عن الحملة الطائفية المسعورة التي أطلقتها وغطّت كامل المساحة الاعلامية. هستيريا لم تكد تستثني زاوية ولا برنامجاً ولا عموداً يومياً ولا حتى فاصل إعلامي.. وحتى البرامج الرياضية على قنوات إم بي سي كانت لها مساهمات لافتة في الردح الطائفي، وبات كل يمارس سقوطه الاخلاقي على طريقته، فثمة طائفية في شكلها الشفّاف تطفح بذاءة وفحشاً في القول وفجوراً في الخصومة.

في لحظة ما توحّد مجتمع السلطة، فلا تمايزات فكرية ولا سياسية ولا اجتماعية، فقد تلاشت الحواجز فجأة، وصار الجميع يردد لغة شوارعية، هي نفسها التي يتقنها الأمير، والشيخ، والمثقف، والاعلامي، وصولاً واستواءً مع أي شوارعي يغرد في تويتر او يتحدث في الكيك والانستغرام واليوتيوب.

لا يتطلب اختيار مثال في هستيريا الاعلام السعودي جهداً من أي نوع، فأين ما تفتح عينك على صحيفة ورقية أو الكترونية، قناة فضائية أم إذاعة إف إم، أو أرضية، خطبة في الجامع، أم محاضرة ثقافية واعلامية في الجامعة.. سوف تجد نفسك أمام حفلات جنون بأنغام متعددة.

كل من يعارض العدوان السعودي على اليمن يصبح تلقائياً هدفاً لفريق المتفلّتين في الاعلام الرسمي، تخويناً، وتسقيطاً، وتشهيراً. إنه تحرّر من القيم والثوابت التي يزعم فريق السلطة أنه يتمسّك بها ويدافع عنها، ويحاكم الآخرين على أساسها في زمن الرخاء والهيمنة. أما اليوم فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فإما أن تكون مع «عاصفة الحزم» وعليه مع آل سعود وأشياعهم، أو أنت إيراني ورافضي وخائن ومجوسي وصفوي.

ومن أجل تزخيم الشبكة الغرائزية لدى جمهور السلطة، تتسابق الأقلام الأكثر بذاءة وتبجّحاً في النيل من الآخر. لا مكان هنا لمبدأ «الاختلاف في الرأي» ولا لمقولة «إختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، فهنا يصبح الـ «نحن» والـ «هم» في حالة اشتباك مصيري، يتقرر على ضوئه أين يكون الـ «نحن» وأين يكون الـ «هم». وعليه، يأخذ الإختلاف مع الآخر شكل قطيعة تامة تؤسس لمواجهة مسلّحة وعدوانية.

قبل عدوان آل سعود على اليمن، أطلق ناشطون في التيار السلفي الوهابي حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لجهة إحداث توازن إزاء توصيم الوهابية بكونها راعية لكل التنظيمات الإرهابية وفي مقدمها «داعش» الوهابي، فراحوا يلقون باتهامات على المذاهب الأخرى وخصوصاً الشيعة بكل أطيافهم. وحين شنّ آل سعود الحرب على اليمن أخذت الحملة طابعاً مذهبياً صرفاً، فراح فريق السلطة يحاكم معتقدات مواطنيه، وفتحت الصحف أبوابها لكل من أراد أن ينال من الشيعة، وكذلك القنوات الفضائية بكل أنواعها، وراح البعض يضع المواطنين أمام اختبار جدارة أو وطنية أو ولاء: إما أن تكون معنا أو أنت خائن.

في النتائج، فإن من مجمل التجاذبات الثقافية والسياسية المحلية تتظهّر الانقسامات بصورة حادّة وتغيب المشتركات، فالاعتصام ليس بهوية وطنية أو مرجعية الدولة، وهذا يسري على الغالبية العظمى من التيارات السياسية والفكرية.

وإن أخطر ما تنتجه جولات الردح على خلفية طائفية (وهابي/ شيعي) أو إيديولوجية (ليبرالي/ إسلامي)، هو تمزّق الأنسجة الرئيسة المسؤولة عن تشكيل الهوية الوطنية، والتي من الصعب تعويضها في غضون جيل أو جيلين، لأنها باتت مندغمة في التكوين الثقافي والنفسي للأفراد. علاوة على ذلك، إن غياب الثقافة البديلة، أي الوطنية، التي يمكن الاتكال عليها في التصدي لمفاعيل خطاب الانقسام، يجعل من إمكانية زوال هذا الخطاب في فترة قصيرة أمراً مستحيلاً. وعليه، فإن بروز تيارات متطرّفة في المجتمع إنما يعكس فشل الدولة والقوى الاجتماعية في توليد ثقافة مشتركة وهوية كلية يلتقي عليها الجميع. فانتشار تنظيم «داعش» في بعض الأوساط الاجتماعية يترجم حالة اليأس لدى الكثير من الشباب، كما يعبّر عن شغفهم نحو الانتظام في إطار يلبي بعض حاجاتهم، ويشبع رغبات مكبوتة لم تنجح الدولة في احتوائها. وهذا بحد ذاته يومىء الى فشل من نوع آخر، أو ما يمكن التعبير عنه بنهاية الرواية الرسمية، بما يلغي احتكار الدولة لرواية الوقائع بكل أصنافها، السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. فحين تعجز الدولة عن إنتاج خطاب كاسر للتوازن، يصبح خطابها في مرحلة دفاعية وثانوية.

في حصاد الخطاب المنتج في عهد الملك سلمان، ثمة ضمور سريع لهالة السلطة، بعد أن فقدت بصورة علنية وظاهرة كونها إطاراً محايداً وجامعاً. فقد تحوّلت السلطة الحاكمة الى طرف في الخصومات الأهلية، وباتت تغذّيها بإتاحة المجال لأطراف في تلك الخصومات باستغلال مؤسسات الدولة (الاعلامية، التعلمية، الدينية، الثقافية...) لتعميم خطابها الخاص. وبذلك، فإن الهوية التي تنتجها الدولة مستمدة من الخصومات الأهلية.

كشفت النتاجات الثقافية خلال عهد سلمان عن رسوخ الانتماء الفرعي (المذهب، المنطقة، القبيلة) على الانتماء الكلي (الوطن/ الدولة الوطنية/ الأمة). الأخطر في الظاهرة أن كثيرين خلعوا رداءاتهم الثقافية الحديثة (القومية والليبرالية والعلمانية وحتى الالحادية) ولجأوا الى مخزون السجالات المذهبية بكامل حمولتها، وأصبحوا ينظرون الى الواقع من زاوية مذهبية خالصة (سني شيعي)، ولسان حالهم أن المرجعيات الثقافية الحديثة تفتقر الى خاصية الاشباع على المستوى الغرائزي.

إذا كانت الفتنة هي لعبة بلا ضوابط أخلاقية وقانونية، فإن طبيعة الجدالات الدائرة بين القوى السياسية من الأطراف كافة تنبىء عن عدم التزام بأي ضابطة أو معيار من أي نوع، لا الوطني ولا الديني في بعده الأخلاقي والروحي، ولا الانساني في بعده القيمي.

في التفجيرات الارهابية التي وقعت في مساجد الشيعة في الإحساء والقطيف ونجران، برزت الطائفة ضد الوطن، وتراوحت ردود الفعل على حادث التفجير الأول بين:

ـ التعميم والغموض

ـ الادانة المشروطة

ـ الانتصار للدولة وتحميل ايران

وفي الانفجارات اللاحقة أخذت ردود الفعل مستويات ثلاثة:

ـ إدانة باهتة

- تحميل الضحايا المسؤولية بالشرك والبدعة

- التجاهل التام

تراجع رتبة الإدانة لا يعزى لتكرار الهجمات، إذ إن التفاعل في الهجوم الأول لكونه غير مسبوق، بما يجعل عنصر الدهشة حاكماً على ردود الفعل الأولى، ولكن حقيقة الأمر أن ثمة استعدادات سابقة لتبني مواقف ملتبسة وغير أصيلة. وهذا ما جعل المواقف اللاحقة من الهجمات الارهابية تبدو كما لو أنها مؤيّدة، سواء عبر مطالبة الضحايا بإدانة هجمات وقعت في العراق أو سوريا أو حتى تأييد «عاصفة الحزم»، وهناك من كاد أن يحسب تلك الهجمات بمثابة «إجراءات استباقية»، كما جاء في تغريدة للشيخ الصحوي ابراهيم السكران في 7 فبراير 2016: (الفارق بين الميليشيا الشيعية المتفننة بالتعذيب والقتل بالعراق، والشيعي الخليجي الذي يلقي المولوتوف على المنشآت؛ هو فارق القدرة، لا فارق القيم).

في كل الاحوال، فإن الخطاب المنتج في المملكة السعودية لا يشكل أساساً لهوية وطنية بل هو على النقيض منها، وهو يمثّل معولاً خطيراً لتقويض أي مكوّن ثقافي وطني.. وإن دخول المزيد من المثقفين من تيارات أخرى ليبرالية وعلمانية الى حلبة التجاذبات الطائفية تحت عنوان الصراع السعودي الايراني، يؤول الى أفول فرص انقاذ الدولة من خصومها، والهوية الوطنية من مضاداتها. وعليه، تصبح العودة جماعية الى مرحلة ما قبل السلطة الناظمة للمكوّنات السكانية ضمن إطار جغرافي وإن بالقوة.


هوامش

(1) السعودية تتبرأ رسمياً من تصريحات خاشقجي، موقع 24 أبو ظبي، 20 ديسمبر 2015، أنظر الرابط:

http://goo.gl/JKR2AY

(2) جمال خاشقجي، إما أن تكونوا معنا وإما ضدنا، صحيفة (الحياة) 9 يناير 2016

http://www.alhayat.com/Opinion/Jamal-Khashoggi/13312982

الصفحة السابقة