انحدار العلاقات بين البلدين

العلاقات السعودية الإيرانية الى أين؟

توفيق العباد

لم تكن العلاقات السعودية الإيرانية وفي مختلف العهود ـ قبل قيام الثورة عام 1978 وبعدها ـ تميل الى الإسترخاء، فقد كانت عوامل الريبة والحذر والرؤية التصادمية في تقييم المصالح الخاصة غالبة، وتلقي بظلالها على أية تطورات إيجابية شهدتها تلك العلاقات حتى هذا اليوم. وبالرغم من أن البلدين ـ السعودية وإيران ـ قد وقعا اتفاقيات تعاون خلال العقدين الماضيين، وتحديداً أواخر القرن الماضي، لم يشهد تاريخ العلاقات بين البلدين نظيراً لها، إلاّ أن تلك الإتفاقيات لم يطبق معظمها، بل أن العلاقات بين البلدين أصيبت بانتكاسة جديدة خلال السنوات الماضية لم يخرج البلدان منها حتى الآن.

من بين الاتفاقات التي تم توقيعها أواخر التسعينيات الماضية، في عهد الرئيسين رفسنجاني وخاتمي، التالي:

في مايو 1998 وقعت السعودية وايران اتفاقات شاملة في حقول عديدة عسكرية وثقافية وتجارية واقتصادية ونفطية وصناعية وزراعية وصحية، وبعد زيارة رفسنجاني في 1998 للرياض، تبادل البلدان وفوداً تجارية وزيارات بين مسؤولي غرف التجارة، ولقاءات مشتركة، أثمرت اتفاقات في موضوعات الأبحاث التقنية، وتبادل الخبراء والمهارات، والتدريب المشترك، وتأسيس مراكز أبحاث، ومؤتمرات ثقافية، وتعاون بين الجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى.

تأسس إثر ذلك (في 1998) لجنة وزارية مشتركة تجتمع سنوياً لمراجعة تطبيق الإتفاقيات بين البلدين. وتطور التبادل التجاري بين البلدين بشكل سريع بين 1999-2002، الى ثلاثة أضعاف، وأقامت ايران عدداً من المعارض التجارية في الرياض وجدة والظهران، وبدأت البضائع الإيرانية والسعودية تتدفق على اسواق البلدين. وفي نوفمبر 1999 أقيم معرض في طهران للبضائع السعودية رافقه وزير الصناعة والكهرباء السعودي وبمعيته وفد من رجال الأعمال بلغ عددهم 117.

وحتى عام 2003 كان هناك 12 مشروعاً استثماريا مشتركا. وعليه كان متوقعاً ان تكون ايران من أكبر شركاء السعودية التجاريين، وأن تكون ايران محطة هامة لصادرات دول الخليج باتجاه آسيا الوسطى. في تلك الفترة، عادت الخطوط الإيرانية للعمل في مايو 2000، في حين حطت أول طائرة سعودية مطار طهران في يناير 2001. وانعكس تطور العلاقات السعودية الإيرانية على النفط حيث عمل البلدان عام 2002 مع أعضاء أوبك الآخرين لخفض الإنتاج، الأمر الذي سمح بارتفاع تدريجي لأسعار النفط.

وأخيراً، كان هناك حراك باتجاه تجسير ثقافي بين البلدين لم يتعدّ الأطر الرسمية، حيث قامت وفود إيرانية أكاديمية بزيارات الى السعودية، وشارك بعضها في مناسبات ثقافية سعودية، كما أُقيم أسبوع ثقافي سعودي في طهران.

وحتى موضوع الحج، الذي كان أحد أسباب توتير العلاقات بين البلدين في الماضي الى حد قطع العلاقات بين البلدين عام 1989، توصل الطرفان بشأنه الى نقاط اتفاق، فلم يعد يشكل مصدراً للتوتر، الى ان انفجر الصراع فيما بعد بشكل أكثر حدّة.

وتوصل البلدان في ذات الفترة الى اتفاقات تم إبرامها شملت جوانب استثمارية ورياضية وفنيّة وقضائية، واتفاقات تتعلق بالنقل الجوي، ونقل المياه إلى السعودية، وتأسيس مصنع للحافلات الإيرانية. زد على ذلك، الأهمية الإستثنائية للإتفاقية الأمنية السعودية الإيرانية التي وقعها الأمير نايف بن عبدالعزيز في 17/4/2001، والتي اعتبرت تدشيناً لمرحلة مفصلية في تاريخ العلاقات بين البلدين. حسب الصحافة الإيرانية (جريدة اطلاعات) فإن الإتفاقية الأمنية شملت مواضيع: تحجيم نشاطات المعارضين في البلدين، أن تمد إيران السعودية بالمعلومات اللازمة فيما يتعلق بدخول أي مواطن سعودي إلى إيران، ولأي سبب دخل، اضافة الى موضوع تبادل المجرمين، وتبادل الخبرات الأمنية، وغيرها.

 
استماتة سعودية للمواجهة مع ايران

كل هذه الإتفاقات لم ينفذ منها شيء ذا بال. فقد حدث تطور كبير بعد تفجيرات سبتمبر 2001، واشتركت السعودية مع امريكا في تسهيل احتلال افغانستان ثم العراق في 2003، وتوترت العلاقات بين امريكا والسعودية، وتصاعدت التهديدات، وتمدد النفوذ الإيراني على حساب النفوذ السعودي، ما أدّى في النهاية الى تصادم كبير في المصالح بين البلدين.

المساحة المشتركة بين السعودية وايران ـ ومن الناحية النظرية ـ تبدو كبيرة للغاية، إلا أن المشترك نفسه قد يكون عامل تأزيم في العلاقات بدل أن يكون عامل تقارب وتنسيق. فرؤية البلدين لنفوذهما وطموحهما متقارب، الأمر الذي يفسر بعض عوامل الخلاف، كون مجال أهدافهما متقارب، وتحقيقه من قبل أحدهما قد يكون خسارة للآخر. وحتى المصالح الإقتصادية بين البلدين، ومجالها واسع للغاية، فإنها لم تلعب إلاّ دوراً جزئياً في تحسين العلاقات، لأن المشكلة أعمق من أن تكون إقتصادية، بل هي في جوهرها أيديولوجية سياسية وأمنية.. المشكلة تكمن في أن هناك طموحات متضاربة، رغم تشابه الأهداف في كثير من الأحيان، بحيث يمكن بسهولة لطرف من المعادلة التضحية بالمصالح الإقتصادية، أو الإستعاضة عنها بروابط أخرى مع بلدان مختلفة، إن لم يحلّ جذر الأزمة.

وفي الغالب يطرح الباحثون والكتاب مروحة من العوامل التي تسبب الصدع في علاقات السعودية مع إيران وهي عوامل أقرب ما تمثل (أعراضاً للمشكلة) وليس جوهرها. من الجانب السعودي (ويشترك معها في بعض الأحيان دول الخليج ومصر) هناك مشكلة الجزر مع الإمارات، وهناك مسألة التسلح الإيراني وما يتصل به: (أمن الخليج)، والملف النووي الإيراني، وهناك الخلاف حول المواقف السياسية: في العراق ولبنان وفلسطين والبحرين واليمن (استعيض عنه مؤخراً بتعريفه: تدخلاً ايرانياً في الشؤون العربية)، وهناك أيضاً إرث الصراع الأيديولوجي/ الديني التاريخي السلبي بين الشيعة والسنّة، وهناك الخلافات حول مواضيع النفط: حجم الإنتاج، والأسعار.

وفي الجانب الإيراني هناك الشكوى من القواعد الأميركية في الدول الخليجية التي يمكن أن تنطلق منها الحرب الأميركية على ايران، وهناك عدم اعتراف خليجي بدور إيراني قائم على حقيقة أن إيران جار كبير يحتل النصف الاخر من شرق الخليج، وهناك إرث الدعم السعودي لصدام حسين في حربه عليها، والترويج المذهبي السعودي باتجاه العداء لإيران ثقافة ومذهباً خاصة في جمهوريات آسيا الوسطى والدول الأخرى المحاددة لإيران كالباكستان وأفغانستان، وتمويل المعارضة الإيرانية من تحت الطاولة، ثم في العلن. وزادت الأمور مؤخراً حين تبنّت السعودية مواقف تؤجج للصراع الفارسي العربي، واعتبار ايران أكثر خطراً من اسرائيل، ومحاولات السعودية تفكيك الدولة الإيرانية عبر وراثة دعم حركات انفصالية في الأهواز وبلوشستان وحتى كردستان.

وحتى لو حلّت هذه المشاكل المستعصية، فإنه ستطرأ مشاكل أخرى لتحلّ محلّ سابقاتها، مادامت العلاقات بين السعودية وإيران قائمة على الريبة والشك والتنافس غير المنضبط في إطار (شراكة) أوسع بين البلدين. إذ يمكن تفسير أية حادثة أو موقف أو قضية على أنها (تصعيد سياسي) أو أنها ارتداد على سياسة التفاهمات ـ غير الثابتة وغير المحددة والمؤطرة.

واليوم ترفض السعودية التوصل الى تفاهمات ضابطة لنفوذ الطرفين رغم الحاح الإيرانيين، ورغم الحاح اوباما والاتحاد الاوروبي. فالرياض تعمل وفق نظرية كسر العظم، او نظرية المتنبي: (لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ)!

هذا ادّى الى تشجيع السعودية لحرب امريكية او حتى اسرائيلية على ايران، والى تدمير اسعار النفط كما رأينا ما آذى السعودية اكثر من غيرها. كما أدّى الى تمديد الحرب في سوريا، والى عدوان سعودي غير مبرر اطلاقاً على اليمن، والى تدخل عسكري مباشر في البحرين جعلها وحكامها وشعبها لعبة في الصراع السعودي ضد ايران.

مشكلة الرياض، أنها شهدت انحداراً متسارعاً في نفوذها السياسي في المنطقة، ناتج في الأساس عن قصور في الأداء من جهة، وبسبب كثرة التحديات التي واجهت السياسة السعودية، وفي مقدمها تحديات داخلية انعكست على ضعف اهتمام السعودية بالشأن الخارجي في مرحلة ما بعد احتلال الكويت ولعقد كامل (طيلة عقد التسعينيات)، إضافة الى رد فعل السعودية غير المتعقلة إزاء النتائج الهزيلة فيما يتعلق بموضوع دعم الجماعات والحركات الإسلامية والتي وقفت أثناء غزو العراق للكويت الى الجانب العراقي.

ومع أن الطابع العام الذي لفّ العالم العربي كشف عن انهيار الدور المتمثل في (الدولة القائدة) والذي كانت تلعبه مصر مرة والسعودية مرة أخرى (ما سماه هيكل الحقبة السعودية)، وكارتيل من الدول مرة ثالثة (مصر والسعودية وسوريا) وحلف المعتدلين (مصر والسعودية والأردن ودول الخليج) مرة رابعة وهكذا.. إلا أن هذا الضعف الذي أصاب مجموع الدول العربية بالشلل شبه التام، ترك فراغاً سياسياً كبيراً وفسحة للنفوذ الغربي، وشجع دولاً مثلت تحدياً للسعودية في محيط نفوذها وزعامتها العربية. فقد تصاعد ولفترة الدور المصري بين دول الخليج الصغيرة مثلاً ـ الإمارات بشكل خاص، في اواخر عهد مبارك، وتصاعد دور الأردن في الموضوع الفلسطيني، ولفترة أيضاً قبل ان ينكفيء الأردن على نفسه؛ واحتكرت سوريا قبل ان تعصف بها العواصف الوهابية الإرهابية بدعم من تركيا وقطر والسعودية، احتكرت عدداً من الأوراق في موضوع لبنان وفلسطين والعراق.

لكن التحدّي الأكبر للسياسة الخارجية السعودية، وللأيديولوجية التي تقف وراءها جاء مبكراً من إيران.

ويكشف خطاب تركي الفيصل امام المعارضة الإيرانية في باريس، أنه ومنذ انتصار الثورة في ايران، اعتبرتها السعودية عنصر تهديد متعدد الجوانب لها، حيث نُظر الى إيران الجديدة بما تحمله من أيديولوجيا وتطلعات وكأنها تستبطن عناصر التهديد للنفوذ السعودي، وأنها بالقوة ـ وليس بالفعل ـ تتحدّى أهم عناصر السياسة الخارجية السعودية.

كانت السعودية، الدولة الوحيدة التي تتحدث بإسم المسلمين جميعاً ولو بدون تفويض، وهي الدولة الوحيدة التي تزعم أنها تتبنّى الأيديولوجية الإسلامية (الصحيحة). فجاءت إيران على ذات القاعدة الإسلامية لتقدم نسختها ونموذجها الديني، الذي بدا متألّقاً في أيام الثورة الأولى قبل أن تحاصره السعودية (طائفياً) وعسكرياً وسياسياً عبر الحرب العراقية على ايران. سبب النموذج الإيراني مشكلة داخلية للسعودية، اضطرت الملك فهد معها الى إعطاء دعم وصلاحيات غير مسبوقة للتيار الأيديولوجي الوهابي المتطرف الذي تتبناه الدولة، من أجل إعادة شرعنة النظام داخلياً الذي كان يواجه أسئلة محرجة وتحديات عنف (حركة جهيمان العتيبي واحتلاله الحرم المكي في نوفمبر 1997م).

وسبب النموذج الإيراني تحدياً خارجياً للسياسة السعودية، فعكفت الأخيرة على إرساء الحدود الطائفية لإيقاف الزخم الثوري الإيراني، وزادت من جرعات الدعم للمؤسسات والجمعيات والمراكز والأقليات الإسلامية. وحين جاء الإحتلال السوفياتي لأفغانستان، كانت السعودية وتيارها الديني مندفعين لتبنّي المجاهدين الأفغان، بغرض تحقيق نموذج ثوري سنّي موازي، شاركا فيه بالمال والرجال، وانتهى ذلك النموذج ليعود على السعودية بالضرر الداخلي من خلال (الأفغان العرب/ السعوديين) ثم نشاطات (القاعدة) فـ(داعش).

أيضاً تحدّت إيران بشكل غير مباشر وتدرّجي مجالات التأثير السعودي في المحيط العربي.

فالقضية الفلسطينية صارت ركناً أساسياً في السياسة الخارجية الإيرانية، وفي وقت تخلّت فيه الدول العربية النافذة عن مرتكزات سياستها الفلسطينية، جاءت إيران لتشغل الفراغ، ولتسبب حرجاً لكل من السعودية ومصر بالتحديد. لبنان كان استثمار الإيرانيين فيه طويلاً، لم تظهر نتائجه إلا أواخر القرن الماضي، وليتجلّى النجاح الإيراني من جهة، والفشل السعودي/ المصري/ الأردني من جهة أخرى، في معارك تموز 2006، حيث كانت الرهانات السياسة بين الطرفين متناقضة.

ايضاً استطاعت ايران المحاصرة سياسياً واقتصادياً أن تحقق اختراقات على الصعيد العربي، وصارت لاعباً عربياً، أي لاعباً اساسياً في قضايا عربية، شأنها شأن تركيا، على حساب لاعبين آخرين أساسيين كمصر والسعودية، أكبر المتضررين من توسع الدور الإيراني وحتى التركي، وإن كانت قدرتهما على منافسته بدون مشروع أو إنجاز سياسي تبدو مستحيلة.

السعودية هنا وجدت نفسها وزعامتها ومكانتها تتبدّد، في فلسطين ولبنان والعراق، وحتى بين دول الخليج (الصراع القطري السعودي مثلاً قبل أن يُعاد ترقيعه بنحو او بآخر من خلال استقالة امير قطر حمد بن خليفة آل ثاني، وهناك الغضب السعودي المتنامي من سلطنة عُمان، وحتى من الكويت).. بل ان السعودية لم تحتفظ بأوراقها (الإسلامية) لا في أفغانستان ولا حتى في القارة الأفريقية، ولا في العراق، ولا حتى في سوريا.

الربيع العربي شكّل للرياض خطورة من جهة، وفرصة من جهة أخرى.

خطورة واجهتها محلياً بالقمع. وواجهتها خارجياً بالثورة المضادة كما في مصر واليمن والبحرين مثلاً.

وفرصة لتستخدم الحراك الثوري لمواجهة ايران، فكان اقتحامها للموضوع السوري بالتخريب ودعم داعش والنصرة وجيش الإسلام وغيرها من الجماعات، وكأنه تعويض لخسائرها امام ايران. ثم اشعلت حرب اليمن لتستعيد مكانتها الإقليمية في ظل ملك جديد (سلمان). لكن معارك السعودية خسرت حتى الآن. فاتجهت الى الإقتصاد، ودمّرت مرّة اخرى اسعار النفط ضمن سياسة (عليّ وعلى أعدائي)، فكانت بين أكبر الخاسرين. ثم جاءتها صفعة الإتفاق النووي، ثم اتهامات بتمويل الإرهابيين الذي فجروا نيويورك وواشنطن. وهكذا، فالرياض تقفز الى الأمام، تاركة وراءها المزيد من النيران، والمزيد من المشاكل والعقد التي تحتاج الى حل.

السياسة التصادمية زادت حدّة بسبب الفشل المتكرر للسعودية.

فلا عجب اذن، ان تصف الخارجية الايرانية خطاب تركي الفيصل بأنه عملٌ يائس.

هو كذلك حقاً.

التصعيد الأخير لتركي الفيصل، يبيّن أن لا أفق لعلاقات طبيعية ايرانية سعودية في المدى المنظور. اختارت الرياض أن ينكسر أحد الطرفين، والأرجح انها ستكون هي المنكسرة، وليست المتراجعة، فتيارها الوهابي لا يقبل ولا يستطيع بعد هذه التغذية الطائفية الحادّة، ان تطبع السعودية العلاقات مع خصمها اللدود، الذي روجت انه اخطر من اسرائيل!

الصفحة السابقة