دولة التطبيع

ليس التطبيع هو الخبر المفاجىء، فقد كان يتم بصورة هادئة وممنهجة منذ سنوات، على الأقل منذ 2008 بصورة علنية في الحد الأدنى، حين وصلت مراسلة صحيفة «يديعوت أحرونوت» الرياض بدعوة من وزارة الخارجية السعودية لحضور القمة العربية في الرياض في مارس من ذلك العام..وزارة الخارجية التي كان على رأسها الأمير سعود الفيصل، شقيق تركي الفيصل، الذي يتولى الآن وعلى مدى سنوات مهمة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي منذ لقائه مع ديفيد أيالون، السفير الاسرائيلي الأسبق في واشنطن، ونائب وزير الخارجية الإسرائيلي لاحقاً في مؤتمر الأمن في برلين في أكتوبر 2010.

أقول، ليس التطبيع هو المفاجىء بل المفاجىء حقّاً هو رد الفعل المتأخر عليه. وإذا كانت زيارة أنور عشقي، المتحدّر من المؤسسة الأمنية التي كان يرعاها تركي الفيصل، الى فلسطين المحتلة، ولقائه بالمسؤولين الاسرائيليين هي الموقظ من السبات، فإن زيارة عشقي لم تكن هي الأولى أيضاً، فقد زار قبل عام من زيارته الأخيرة وبنفس الوفد والتقى مسؤولين اسرائيليين، ولم تحدث ردة فعل بنفس القدر الذي لحظناه في هذه الزيارة..

في الواقع، أن رد الفعل في الداخل وسط تيار شبابي من المستوى الثالث في التراتبية النخبوية المحلية، كان استجابة لرد فعل خارجي، ولا سيما من المحور الخصم، أي المحور الإيراني، الذي كان يوصم بأنه متطابق مع المشروع الاميركي والصهيوني، وإذا بهذا المحور يشن حملة غاضبة على التطبيع السعودي مع الكيان الاسرائيلي، وبناء على دليل ملموس، ليعيد فتح ملف اللقاءات بين مسؤولين سعوديين وصهاينة، ولا سيما تركي الفيصل.

بطبيعة الحال، إن أولئك الذي انتفضوا في العالم الافتراضي ولا سيما في تويتر، أو حتى تلك المجموعة الشبابية التي تسلقت جبال الهملايا لتصل الى قمة ايفرست وتعرض قماشة كتب عليها سعوديون ضد التطبيع، وقد نالوا إعجاب كل العالم، أثاروا أسئلة مشروعة، ومن بينها سؤال غياب مشايخ الوهابية الذين أغرقوا الدنيا ضجيجاً حول محاربة الصهاينة وتحرير فلسطين ونصّبوا من أنفسهم وكلاء عن الشعب الفلسطيني حتى طالبوا قادة حماس بقطع علاقتهم بايران والتماهي مع السعودية..غاب هؤلاء المشايخ، كما غاب الملك ونجله وبن نايف وبقية الشلّة، فلم يصدر تصريح واحد يدين خطوة العشقي التي لم تكن بطبيعة الحال منفردة، ولم نسمع عن موقف نقدي لما قام به تركي الفيصل على مدى سنوات..

نتوقف هنا عند مقالة السفير السعودي في الامم المتحدة عبد الله المعلمي، في صحيفة (عكاظ) في 8 أغسطس الجاري عن التطبيل والتطبيع. مقالة تستحق التقدير لأنها كسرت حاجز الصمت، وأظهر المعلمي على مستوى الشخص ولربما على مستوى فئة من المسؤولين ترفض التطبيل والتطبيع واستعار من كلام للشاعر نزار قباني حول الهرولة في توصيف المتلهّفين على التطبيع مع اسرائيل وأيضاً من قصيدة أمل دنقل «لا تصالح»، لمواجهة من وصفها بـ «حفنة من الانهزاميين الذين يدَّعون أنهم يتوشحون برداء العقلانية والاعتدال، ويحاضرون علينا بضرورة قبول الأمر الواقع ومواجهة الحقائق، ونسوا أو تناسوا أن أولى الحقائق هي أن الأيدي التي يمدها الإسرائيليون إلينا مازالت تقطر بدماء الفلسطينيين، وأن بساطير عسكرهم مازالت تدنِّس القدس الشريف، وأن أعلامهم ترفرف فوق الأرض المحتلة، وأنهم إن ابتسموا لنا وهم يواجهوننا فإنهم يضحكون علينا خلف ظهورنا ملء أشداقهم لأنهم يعرفون أن ما يسمونه تطبيعاً ما هو إلا استسلام، وما ينشدونه منا هو تثبيت الأمر الواقع الذي يفرض احتلالهم وحرمانهم الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة في الحياة والحرية والكرامة».

تعمّدت نقل هذه الفقرة بالكامل، لأننا سوف نعود إليها يوماً ما حين تباشر السعودية على المستوى الرسمي إجراءات التطبيع، وإن ما كانت تخفيه في العلاقات مع الصهاينة سوف تخرجه للعلن، وسوف يصبح غضب الشباب، ومقال المعلمي ليس من الماضي فحسب، بل لا نستبعد أن تتحول سبباً للاستدعاء والتحقيق وربما الإعفاء من المنصب..لأن المطلوب من السعودية إن أرادت الحصول على دعم واشنطن شق قناة تطبيعية مع الصهاينة..وقد تعهد بن سلمان في زيارته الأخيرة الى واشنطن لتحقيق ذلك..هذا ما كشف عنه موقع (ميدل ايست آي) في يونيو الماضي، حين تحدّث عن خطة محمد بن زايد لتسويق شخصية محمد بن سلمان الى واشنطن والقائمة على مسارين: الأول تقليص نفوذ المؤسسة الدينية، والثاني: شق قناة فاعلة مع الصهاينة.

سوف نستعين بأحد أبالسة التحليل المؤامراتي، والذي يخبرنا بأن الغضب الشبابي الذي تفجّر في العالم الافتراضي ومتوالياته على زيارة أنور عشقي لفلسطين المحتلة ليس بعيداً عن صراع الأجنحة، وأن ثمة يداً خفيّة لابن نايف، ولي العهد ووزير الداخلية، عن كل مايجري، ويأتي في سياق إفشال مخطط بن سلمان في شق قناة مع الصهاينة، وبالتالي خسارة الدعم الأميركي لمشروعه في الوصول الى العرش.

نستدرك هنا للضرورة والإنصاف أن هؤلاء الشباب لم يتحرّكوا بوحي من إملاءات آخرية وغير ذاتية، بل على العكس فإن الأغلبية الساحقة تعبّر عن مشاعر أصيلة ومدفوعة بإحساسها بالمسؤولية إزاء قضية مركزية وسوف تبقى كذلك. إذن ما الخبر؟ وما هو دور محمد بن نايف في هذا الشأن؟ نقول: لقد اعتاد آل سعود على استغلال المشاعر النبيلة والنوايا الصافية من قضايا الأمة لخدمة أهداف خاصة وعائلية، تماماً كما هو استغلال الاسلام، والعروبة، والحرمين الشريفين، وكل الرأسمال المقدّس لخدمة أهدافهم الدنيئة.

الصفحة السابقة