بين الإنفجار والإنفراج

الحرب المتدحرجة بين الرياض وطهران

محمد الأنصاري

لا ينقص الحرب بين طهران والرياض سوى لحظة جنون لتفجيرها، ولن تكون حرباً كلاسيكية بل إن الشحن المتصاعد يجعلها من أشد الحروب ضراوة وتدميراً. كل محاولات التهدئة والوساطات فشلت، وفيما كانت الرياض تصرّ على نبرة التصعيد ضد طهران، كانت الأخيرة تواصل مساعيها للمصالحة والحوار مع الرياض، ولكن بلا طائل. وقائع كثيرة رفعت من مستوى خطر المواجهة المباشرة، لا وتقتصر على الملفات السورية والعراقية واليمنية، وحتى ملف النفط الذي يمثّل نقطة خلافية بين البلدين كان يلعب دوراً تسخينياً، وجاءت مأساة منى في حج العام 1437هـ وسقوط المئات من الحجاج الايرانيين لتسكب مزيداً من الزيت على الأزمة المتصاعدة بين طهران والرياض.

توتّر شديد أصاب علاقات البلدين على خلفية إعدام رجل الدين الشيعي البارز الشيخ نمر النمر في 2 يناير 2016، وما تلى ذلك من ردود فعل في الشارع الايراني أفضى إلى عملية تخريب للسفارة والقنصلية السعودية في طهران ومشهد وانتهت الى قطع العلاقات بين البلدين في خطوة وصفت بأنها رد فعل مبالغ من الجانب السعودي ومتعمّد، الأمر الذي قرّب فرص المواجهة المباشرة بين البلدين.

مبادرات عمانية وكويتية وحتى قطرية وأخيراً تركية لم توصل حتى الآن الى نتيجة حاسمة، برغم من أن الرياض وجدت نفسها في منتصف الطريق، فلا هي قادرة على التراجع ولا السير الى الأمام، إذ لابد من حل.

كان شهر سبتمبر الماضي حافلاً بعناصر التفجّر وزاد من فرص المواجهة بين ايران والمملكة السعودية، ويمكن رصدها على النحو التالي:

ـ في الجانب الإيراني، تمثّل مقالة محمد جواد ظريف، وزير الخارجية، في صحيفة (نيويورك تايمز) في 13 سبتمبر الماضي عنصر تفجير لافت. المقالة التي حملت عنوان «لنخلص العالم من الوهابية»، تناول التحوّلات التي شهدتها الوهابية، وتحدث عن تغيّر أوجه «الوهابية المتشددة» منذ احداث الحادي عشر من سبتمبر، لكنه أكّد ما بات معلوماً بأن الوهابية هي التي تستمد منها القاعدة وداعش فكرها.

ولفت ظريف الى مساعي سعودية بهدف إقناع حلفائها الغربيين بدعم تكتيكاتها «القصيرة الأمد» بناء على «الفرضية الخاطئة» التي تقول بأن إدخال العالم العربي في المزيد من الفوضى سيؤدّي بشكل ما إلى الحاق الضرر بإيران. و قال ان «الفكرة الخيالية» التي ترى بأن عدم الإستقرار في المنطقة سيساعد على احتواء إيران و أن الخصام السني الشيعي يؤجج الصراعات تتناقض والواقع، إذ إن أسوأ أعمال العنف تعود الى ما يقوم به الوهابيون ضد أبناء الطائفة السنية.

وجادل ظريف بأن أكثر المتضررين من تصدير «عقيدة الكراهية»، أي الوهابية هم السنّة العرب، برغم من كون المتطرفين «بدعم رعاتهم الأثرياء» استهدفوا المسيحيين واليهود والايزيديين والشيعة وغيرهم. وعليه، فإن المنافسة بين الوهابية والاسلام بصورة عامة ستكون لها تداعيات أكبر على المنطقة، وليس النزاع الطائفي «المفترض» بين السنة والشيعة. وعدّ ظريف الاجتياح الاميركي للعراق عام 2003 عامل تفجير للقتال الذي يدور اليوم، ولكن المسبب الأساس لهذا العنف هو الفكر المتطرّف الذي روجت له السعودية.

ورأى ظريف بأن «أمراء الرياض» سعوا جاهدين الى إحياء أيام حكم صدام في العراق، حيث قام «طاغية» بالتصدي لما يسمى التهديد الايراني مع «دعم مادي من نظراء عرب ومن غرب ساذج». وطالب حكّام السعودية بقبول حقيقة أن أيام صدام قد ولّت، وأن تقبّل هذا الواقع سيكون أفضل لجميع الاطراف. وتحدّث عن حقائق جديدة في المنطقة يمكن ان تتسع للسعودية حتى في حال اختار السعوديون نهجاً مختلفاً.

وأعاد ظريف ما تناوله باحثون ومسؤولون أميركيون، بمن فيهم سفير الولايات المتحدة في كوستاريكا، عن حجم الاموال التي تنفقها السعودية على نشر الوهابية في العالم، وقال بأن الرياض أنفقت عشرات المليارات من الدولارات خلال العقود الثلاث الماضية من أجل تصدير الوهابية عبر المساجد و المدارس المنتشرة حول العالم، ربط ذلك بما أحدثته الوهابية من إشعال الفوضى من آسيا الى أفريقيا الى أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية.

 
مناورات درع الخليج 1: رسالة سعودية لإيران

وأكّد ظريف على التأثير المدمّر للوهابية على الرغم من أنها استقطبت نسبة قليلة جداً من المسلمين، وقال ان كل الجماعات الارهابية تقريباً التي تستغل إسم الاسلام - من القاعدة و اتباعها في سوريا الى بوكو حرام في نيجيريا - وجدت في الوهابية مصدر الهام لها. ولفت الى أن السعوديين نجحوا حتى الآن بجعل حلفائهم يتماشون مع خطواتهم الخاطئة في أماكن مثل سوريا واليمن من خلال التركيز على «الورقة الايرانية» (التهديد الايراني المفترض)، وجزم بأن ذلك سيتغير مع تنامي الإدراك بأن رعاية الرياض للتطرف تتناقض وزعمها بأنها قوة من أجل الاستقرار. وطالب العالم بعدم التزام موقف المتفرج فيما يستهدف الوهابيون ليس فقط المسيحيين واليهود والشيعة، بل أيضاً السنة. وشدّد على وجود خطر تقويض «جيوب الإستقرار القليلة المتبقية» في الشرق الاوسط بسبب النزاع الحاصل بين الوهابية والاسلام السني.

ظريف صعّد من نبرة خطابه ونقل المعركة مع السعودية الى المحافل الدولية، وأكّد على ضرورة العمل المنسّق في الأمم المتحدة لقطع التمويل عن إيديولوجيات الكراهية والتطرف، وكذلك على ضرورة وجود استعداد لدى المجتمع الدولي للتحقيق في قنوات تمويل وتسليح الجماعات المتطرّفة. وضع ظريف ذلك في سياق المبادرة التي أطلقها الرئيس الايراني حسن روحاني عام 2013 تحت مسمى «عالم التطرف الدموي»، داعياً الامم المتحدة الى اعتماد المبادرة لناحية تعزيز الحوار بين الأديان و الطوائف المختلفة بغية التصدي للفكر المتطرف «الخطير الذي يعود الى العصور الوسطى»، حسب قوله.

وواصل ظريف نقده للوهابية، ورأى أن الهجمات التي وقعت في نيس وباريس وبروكسل يجب أن تقنع الغرب بأنه لا يمكن تجاهل تهديد الوهابية، داعياً المجتمع الدولي إلى تبني إجراءات ملموسة ضد التطرف وعدم الاكتفاء بالتعبير عن غضبه و تعازيه.

ولم يغلق ظريف الباب في وجه خصومه، بل دعا لأن تكون السعودية جزءاً من الحل «على الرغم من أن الكثير من أعمال العنف التي تُرتكب باسم الاسلام تعود الى الوهابية»، حسب قوله. وطالب حكام الرياض بوقف خطاب اللوم والخوف والإنضمام الى بقية الدول من أجل التخلص من الإرهاب والعنف الذي «يهدّدنا جميعاً».

مقالة ظريف لم تمرّ بهدوء، فالمضمون الانفجاري فيها دفع فريق الاعلام الرسمي قبل الفريق السياسي للرد.

ولكن الأبرز من ردود الفعل صدر في اليوم التالي، أي 14 سبتمبر، من أمير مكة خالد الفيصل الذي تحدّث بلغة الحرب بما نصّه: «إذا كانوا يجهزون لنا جيشاً لغزونا، فنحن لسنا لقمة سائغة حتى يجهّز لنا من أراد ويحاربنا متى ما أراد، نحن بعون الله وتوفيقه سوف نردع كل معتد، ولن نتوانى أبداً عن حماية هذه الأراضي المقدسة وبلادنا العزيزة».

هناك من تجاوز سؤال الحرب وحقيقة وقوعها، وانتقل للحديث عن تفاصيل الاستعدادات لدى كل طرف، بل وضعت مواقف الطرفين على أنها جزء من خطاب الحرب الوشيكة.

موقع (Global Firepower) لعام 2016 يعتمد خاصية المقارنة بين القدرات العسكرية بين بلدين، إلى جانب تصنيفه الدول عسكرياً اعتماداً على 50 عامل يشمل السكّان والدخل وعدد القطع العسكرية الجوية والبرية والبحرية وأعداد الجيوش وغيرها. وفي المقارنة بين ايران والسعودية، يصنّف الموقع ايران في مرتبة 21، بينما تحتل المملكة السعودية مرتبة 24 من أصل 126 دولة في العالم تتصّدّرها من حيث القوة: الولايات المتحدة ثم روسيا وتالياً الصين والهند.

http://www.globalfirepower.com/countries-listing.asp

إن اعتماد الرياض على الدعم الأميركي العسكري والاستخباري وحتى السياسي قد يشكّل عاملاً مهماً في القرار العسكري السعودي. ولا شك أن إقرار قانون جاستا من قبل الكونغرس (الشيوخ والنواب) سوف يدفع الرياض لإعادة حساباتها في أي حرب قد تفكّر في شنّها ضد إيران، للتعويض عن فارق النقص في القوة بينهما. ما تجدر الإشارة إليه، أن هناك مجموعات داخل الكونغرس تعمل منذ شهور على سن تشريع يحد من بيع الأسلحة للسعودية في سياق الضغط عليها لابتزازها مالياً وسياسياً، وفي الوقت نفسه كبح جماح نزوعها نحو الدخول في حروب لا تحظى بقبول واشنطن.

لا ريب أن القرار العسكري السعودي يتوقف بدرجة أساسية على الغطاء الأميركي، إذ لايمكن الرياض التعويل على شن حرب بقرار منفرد، وبفعل القرارات الأميركية المتعاقبة بات من الصعوبة على السعودية الوثوق بالحماية الاميركية. واشنطن ليست ضد الحرب على ايران ولكن تريدها حرباً مضمونة وبشروطها، ولأنها غير واثقة من الخروج منها بسلام فضلاً عن مكاسب فهي لا تسعى إليها ولا تقبل حتى مجرد الاستدراج السعودي، فواشنطن لا تزال تراهن على الاختراق الناعم في الفضاء الايراني الاجتماعي والثقافي، وتنأى عن التورّط في مغامرة عسكرية غير مأمونة العواقب.

إن التفوق النوعي لسلاح الجو الحربي السعودي والذي يمكنه إلحاق أضرار فادحة بالمنشآت الإيرانية المدنية والعسكرية وحتى النووية وتعطيل دور الطائرات الايرانية القديمة، لايقلل من قدرة إيران على تعويض الفارق في الجو عبر تصنيع ترسانة من الصواريخ الباليستية التي يمكن أن تطال كل أجزاء المملكة السعودية وتحدث دماراً هائلاً وكبيراً للمنشآت الحيوية السعودية وهي في متناول الصواريخ الباليستية المتوسطة.

حدّة الاستقطاب السياسي والمذهبي بين ايران والسعودية تجعل إمكانية حشد الأنصار والمقاتلين أمراً متوقعاً بل وحتمياً، الأمر الذي سوف يحيل منطقة الخليج والجزيرة العربية الى مسرح عمليات مفتوحة، أي تهديد الاستقرار وتعميم الفوضى المدمّرة..وكما في تجارب العراق وسوريا واليمن حيث مشاركة التشكيلات العسكرية غير النظامية في الحرب، فإن أي مواجهة عسكرية بين ايران والسعودية سوف تجعل نطاق الحرب أوسع مما نتخيل، وإن السيطرة عليها سوف يكون مستحيلاً حتى لو اجتمعت الدول الكبرى.

بالنسبة للسعودية، فإن الحرب قد بدأت، وأخذ شكلاً اقتصادياً منذ عام 2014 حين قررت تخفيض أسعار البترول من جانب واحد بهدف الإضرار بالاقتصاد الايراني، وأخذت شكلاً إعلامياً تصعيدياً منذ اعلان الحرب على اليمن في 26 مارس 2015، وأخذت شكلاً أمنياً بحضور الأمير تركي الفيصل في مؤتمر المعارضة الإيرانية الممثلة في مجاهدي خلق في باريس في يوليو الماضي ودعوته بصورة علنية بإسقاط النظام في ايران، وتبع ذلك تحريك مجموعات مسلّحة كردية وبلوشية وأهوازية لإحداث اضطرابات داخل ايران. وبرغم من أن مثل هذه التدابير وضعت بأنها عودة سعودية الى حرب النيابة لعدم قدرتها على شن حرب، ولكن حين توضع إلى جانب أشكال أخرى من المواجهة نصبح أمام حرب متدحرجة.

 
مناورات ايرانية: رسالة الى أمريكا!

كثافة الصفقات التسليحية التي لجأت اليها الرياض في الآونة الأخيرة ليست مفصولة عن أجواء الحرب بينها وبين طهران، وتندرج في سياق اللحاق وراء تعديل ميزان القوة العسكرية الذي لا يزال يميل لصالح إيران. وبرغم من حديث الرياض عن مشروع التصنيع العسكري في الداخل الا أن احتمالات تنفيذه لا تزال بعيدة، بل إن الغرب المستفيد من بيع السلاح للدول النفطية لن يشجّع مثل هذه المشاريع التي تضرّ بمستقبل صناعته العسكرية. ولا شك أن الغرب هو المستفيد الأول من تأزم العلاقات بين طهران والرياض، ويجني من وراء ذلك أموالاً طائلة عبر إبرام صفقات التسلّح الضخمة.

في كل الإحوال، إن قدرة البلدين على تفادي الإنزلاق نحو المواجهة المباشرة تضعف بصورة تدريجية. فالخصومة بين ايران والسعودية تتصاعد بثبات وتنتقل من حرب النيابة الى مواجهة عسكرية مباشرة. وبرغم من أن الطرفين لا يرغبان في مواجهة شاملة، فإنهما على ما يبدو عاجزان عن التحكّم في مسار يقود الى نزاع عسكري متقطع أو يحول دون حرب مفتوحة.

ويمكن وضع مناورات «درع الخليج 1» الذي بدأته السعودية في 4 أكتوبر الجاري في سياق التصعيد العسكري. وهذا ما عبّرت عنه بحرية الحرس الثوري الايراني في بيانها في 5 أكتوبر بتحذير القطع البحرية السعودية المشاركة في المناورات من الاقتراب من المياه الإقليمية. وقال البيان بأن المناورات «تهدف إلى خلق التوتر وتقويض الأمن المستديم في الخليج». وأكّد البيان بأن الحرس الثوري والجيش الايرانيين «على أتم الجهوزية والاستعداد للحفاظ على الأمن في الخليج ومضيق هرمز وسترد بشكل مناسب وفوري على أي تحرك وسعي لزعزعة الأمن والاستقرار».

إذاً، ليس هناك ما يمكن التعامل معه بمعزل عن أزمة آخذة في التفاقم بين البلدين، وإن أي خطأ من أي طرف قد يؤول الى اشعال حرب إقليمية. المؤشر المقلق حالياً لدى كلا الطرفين هو الرغبة في تجاوز الخطوط الحمراء لدى الآخر. فقد قامت السعودية برعاية المعارضة الايرانية بصورة علنية، وباتت الاجتماعات تعقد في جنيف وباريس ولندن بين السفراء السعوديين وقادة مجاهدي خلق دون تحفّظ. وقد كشفت المخابرات الايرانية أكثر من مجموعة مسلّحة وخلايا أمنية تعمل لحساب السعودية. في المقابل، تقدّم ايران كل أشكال الدعم الممكنة لحركة أنصار الله في اليمن في الحرب التي يقودها التحالف العربي بقيادة السعودية.

وعلى أفق واسع، إن نزاعات النيابة المتصاعدة في سوريا واليمن، وعلى مستوى أقل في البحرين والعراق ـ تسارعت مصحوبة بلغة مذهبية حادة بشكل متزايد، وخلقت مساحة لدورة التصعيد التي قد تفضي في لحظة حرجة الى فقدان السيطرة.

في مطلع الشهر الفائت، سبتمبر، شن قائد الثورة الايرانية علي خامنائي هجوماً غير مسبوق على المملكة السعودية بنعته أسرة آل سعود بأنها أشرار صغار حقراء في خدمة الشيطان الأكبر، أي الولايات المتحدة.

وأعقب ذلك كلام غير مسبوق أيضاً للمفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مستخدماً لغة ذات طبيعة عنصرية بوصفه الايرانيين بـ «المجوس»، وتوصيمه الشعب الإيراني بأسره بالكفر.

خلفية الحرب الكلامية كانت حاضرة، فقد جاء هجوم الخامنائي عقب مرور قرابة العام على مقتل 464 حاج إيراني في منى، وعقب إعدام الرمز الديني والسياسي الشيعي الشيخ نمر النمر في 2 يناير 2016، وإن شئنا العودة الى حوادث 1987 حين لقى نحو 300 حاج إيراني مصرعهم على يد قوات أمنية سعودية بلباس مدني.

يبقى أن التنافس الإقليمي بين البلدين تمثّل العنوان الكبير للتوتر في علاقاتهما. لابد من الإشارة الى أن الخصومة بين الرياض وطهران قديمة وتعود الى انتصار الثورة الايرانية وقيام نظام إسلامي، ولكن التنافس لم يظهر حينذاك بسبب انخراط ايران في حرب مع العراق بأموال سعودية وخليجية ودعم أميركي. ولكن بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003 وما بعدها من تحوّلات سمحت لإيران بالعودة الى المنطقة ومراكمة نفوذ بارز وشعرت السعودية بأنها ليست اللاعب الوحيد في المنطقة وعليها القبول بمنافس جديد له نفوذ واسع وإن لم يكن له وجود مباشر. وكانت خسارة العراق بالنسبة للسعودية الأكبر، وهي التي كانت تراهن، بحسب تصريح سابق لوزير الخارجية السعودي السابق سعود الفيصل، أن تتقاسم كعكة العراق مع الولايات المتحدة. ولكن النتيجة كانت مخيّبة، فقد دخلت ايران على الخط وبدأت تحقق نفوذاً لها في العراق، ونجحت في أن تكون رقماً صعباً، وهذا ما دفع السعودية الى تمويل الجماعات المسلّحة لتخريب العملية السياسية في العراق.

الى جانب العراق، تحوّلت إيران الى لاعب رئيس في المعادلة اللبنانية وإن بطريق غير مباشر عبر حليفها القوي، أي حزب الله، وبالتالي منعت السعودية من التفرّد في القرار اللبناني. وحتى مع انشغال سوريا في الازمة الداخلية، فإن ايران عوّضت الغياب السوري وحافظت على التوازن داخل الساحة اللبنانية. بصورة إجمالية، فإن النفوذ الايراني يطاول كل زوايا المنطقة، ويجعل من ايران القوة المهيمنة في الشرق الأوسط. ولا غرابة في عدم كف واشنطن محاولاتها في التواصل مع طهران من أجل التوصّل الى تفاهمات حول ملفات المنطقة.

إن إضافة أهمية كبيرة للعامل المذهبي بوصفه عامل التوتير الأقوي قد لا يكون صحيحاً، وإن جرى استغلاله في التحشيد والتعبئة والاستقطاب، فقد يكون عاملاً مضللاً، بالنظر الى أن ايران والسعودية دولتان ناضحتان وعاقلتان وأنهما يوصغان وينفذان سياسة خارجية تقوم على المصالح القومية وليس على الاعتبارات الخاصة، المذهبية أو الفئوية. فالمذهبية، أو أي شكل من أشكال الهوية، تكتسب أهميتها طالما انها تتواشج مع المصلحة الوطنية ويمكن توظيفها في تحقيق أهداف جيوسياسية معقولة.

ما يشدّد التصعيد الخطير اليوم ليس النزاع المذهبي المتصاعد في المنطقة، أو حتى اليد العليا لإيران في حروب النيابة في سوريا والمن، ولكنّه الإدراك السعودي للتحوّل الحاسم في ميزان القوى الاقليمية.

فهناك أدلة لدى الرياض لتأكيد هذا المنحى من الصراع. ولعل الأكثر أهمية هو الانسحاب الأميركي التدريجي من المنطقة والتنامي الثابت للثقة بالنفس الإيرانية في منطقة الخليج، كما ظهر في مشهد الحجز المذل لعدد من ضباط البحرية الأميركية في يناير الماضي، وكذلك الاستعراضات العسكرية الضخمة التي جرت مؤخراً في الذكرة الـ 36 لبداية الحرب العراقية الايرانية..

ومن أجل إعاقة مسار التطوّرات الاستراتيجية، فإن الملك سلمان تبنى سياسة عدوانية بهدف احتواء النفوذ الإيراني، وكان السلوك السعودي يهدف إلى زعزعة استقرار الأمن القومي الايراني من خلال دعم المعارضين والجماعات المسلّحة الايرانية. لقد نبّه مسؤولون إيرانيون مثل رئيس الحرس الثوري الأسبق محسن رضائي ووزير الخارجية محمد جواد ظريف من خطورة الوضع وأن تصرّفات السعودية تهدف الى اشعال الحرب. صحيح ان حاصل جمع العوامل الاستراتيجية والعسكرية تميل الى غير صالح المواجهة المباشرة، ولأن الولايات المتحدة وهي القوة العسكرية الأكبر في الخليج ليست في وارد خوض حروب خارجية مهما بلغت مستويات التوتّر في العالم، وبالتالي فإنها سوف تبادر الى احتواء أي نزاع محتمل بين طهران والرياض، خصوصاً إذا ما تطلب توفير ضمانات لتدفق النفط عبر مضيق هرمز. العامل الآخر، إن عدم وجود حدود بريّة بين ايران والسعودية يصعّب من احتمالية وقوع نزاع مسلّح مباشر وبالتالي فإن التعويل سوف يقتصر على القوتين الجوية والبحرية والصاروخية، وهناك يبدو التوازن واضحاً، فإذا كانت السعودية متفوقة في الجو فإن ايران متفوقة بمراحل كثيرة في البحر، إضافة الى اعتماد الأخيرة على الصواريخ الباليستية القادرة على ردع الهجمات الجوية السعودية على منشآتها الحيوية.

وفيما يتصاعد التوتّر بين البلدين، فإن الراجح هو وقوع مواجهات متقطّعة والتي قد تستمر لسنوات وربما أكثر، إلى أن يتشكّل المشهد الإستراتيجي والأمني الجديد في المنطقة.

الصفحة السابقة