تجربة الضرائب وسخط العامّة والخاصّة!

محمد قستي

الى وقت قريب كان الأمراء يضللون أنفسهم بأن الشعب يحبّهم ويحترمهم، ولا يصدّق ما يُقال فيهم، ولا ما يُنشر عنهم. وأن الشعب ـ كل الشعب ـ مع ولاة أمره المزعومين، مهما تغيّرت الأحوال، وتبدّلت الظروف.

لكن وكما قالها وزير سعودي سابق، بأن الإختبار الحقيقي لعمق الولاء لآل سعود من عدمه، سيظهر حينما تجفّ الخزينة.

والأمير سلطان ولي العهد الأسبق، قالها صراحة على التلفاز، بأن المواطنين لن (يحبّونا، اذا ما أعطيناهم)!

إذن هو ولاء مشروط بالمال، وبمقدار العطاء، وبالرواتب الإضافية، فإذا ما تعطل كل هذا تغيّرت الأحوال.

الأزمة المالية والإقتصادية التي أصابت البلاد، جراء الفساد أولا، والحروب ثانياً، وسوء الإدارة ثالثاً، جاء علاجها من قبل الأمراء ـ خاصة محمد بن سلمان مسؤول الملف الاقتصادي والعسكري معاً ـ من خلال فرض ضرائب، وتخفيض رواتب، وتعطيل مشاريع، وإيقاف التوظيف، ورفع الدعم عن السلع، وغيرها.

نُصح محمد بن سلمان أن يأخذ الأمور بالتدريج، وإلا انفجر الوضع بوجهه، لكنه يعتقد ـ كما أمراء آخرين ـ بأن ولاء المواطنين لآل سعود صادق وحقيقي، فأخذ القرارات بتسارع الواحد تلو الآخر، مثل صفعة تتلوها أخرى، حتى انقلب الولاء في بضعة أشهر الى سخط شعبي عامٍ جارف، شمل الموالاة والمعارضة والمحايدين؛ كما شمل الأغنياء والفقراء معاً؛ وشمل فيما شمل الموظفين في القطاع الحكومي، كما في القطاع الخاص، وأيضاً شمل بلاءه العاطلين عن العمل أيضاً.

خصم ما بين 30 الى 40 بالمئة من الراتب كان أمراً يفوق الإحتمال، خاصة وأنه جاء بعد سلسلة متواصلة من الضرائب ورفع الدعم عن الوقود، وزيادة فواتير الكهرباء والماء وغيرها من الخدمات.

وبمجرد أن بدأ المواطنون بالجأر بالألم، رأينا ظاهرتين:

الأولى: كثرة الدعاء للملك عبدالله، نكاية بالملك سلمان وإبنه، اللذين يريدان تحميل الملك السابق تبعات الأزمة الحالية.

الثانية: تحميل المواطن الأزمة الإقتصادية، وأنه ليس فقط كسول لا يعمل إلا ساعة واحدة، كما قال أحد الوزراء، بل أنه بحاجة الى أن يستغفر الله ويلجأ اليه، كحل لما هو فيه من بلاء وأزمة.

كثر الدعاء في مواقع التواصل الاجتماعي لمجابهة نقد آل سعود وسياساتهم. وكثرت توصيات رجال المباحث وغيرهم بأنه يجب على المواطنين الدعاء والإستغفار، فمن قائل: (لن تفلس السعودية؛ فقط لو استمرينا بالإستغفار)؛ الى من يقول: (ما تفلس بلاد دستورها القرآن، تحكم بشرع الله)؛ وثالث يقول: (كيف لها ان تفلس وصوت الأذان يعلو بكل مكان).

اتسعت النقمة أكثر فأكثر حينما نشرت صحيفة نيويورك تايمز في منتصف اكتوبر الماضي خبر شراء محمد بن سلمان يختاً في ابريل الماضي قيمته (550 مليون دولار) أي ما يصل الى ملياري ريال. الخبر فاجأ المواطنين، وأوضح لهم بلا لبس أن أموال الضرائب والرسوم وما يقتطع من الرواتب، إنما يتم نهبه والاستيلاء عليه، بلا محاسبة، في نظام سياسي يرفض الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولا يستغني عن النهب والفساد. مع العلم أن محمد بن سلمان قد سبق له وان اشترى يختاً قبل عامين بمائة وخمسين مليون دولار، وهو يخطط لصرف مائتي مليون دولار على يخته الجديد، إصلاحاً وتطويراً!

يقال دائماً ان المجتمع المُسعوَد، غير جاهز للإصلاحات السياسية. فقال المواطنون: المجتمع غير جاهز لليخت!، وسخروا من محمد بن سلمان وهزأوا به. قالت مغردة: (اخترعْ رؤية، واحصلْ على يخت مجاناً)؛ وقال آخر: (ولكن الشعب جاهز للطرارة/ أي للشحاذة). والمحامي في المنفى طه الحاجي يقول بسخرية: (نعم المجتمع غير جاهز لليخت، ولكنه جاهز لدفع قيمة الضرائب، وجاهز للسجون والقتل، وجاهز لتمويل الحرب والتضحية، بدون أن يزعج أحد سموّه في نقاهته على اليخت).

أمام الغضب الشعبي، قرر الملك سلمان، تشتيت الرأي العام المحلي، فأُعلن عن إعدام أمير قاتل هو تركي بن سعود بن تركي الكبير آل سعود، لقتله صديقه عادل المحيميد عمداً بالرصاص.

كانت هذه اول مرة في تاريخ العائلة المالكة يتم فيها اعدام أمير سعودي، رغم تكرار التعدي والقتل من الأمراء، سواء بحق مواطنين او عمال أجانب، او عاملات منازل، او حتى دبلوماسيين. وفي الغالب يتم تعويض عائلة الضحية، وإجبارها على التنازل عن اعدام الأمير. كان بإمكان الأمير أن يفلت من العقاب، لولا عدّة أمور:

الأول ـ ان القضية أصبحت قضية رأي عام، بسبب مواقع التواصل الاجتماعي التي طالبت في حينه بقتله والقصاص منه. ورغم محاولة العائلة المالكة الضغط على عائلة الضحية للتنازل، وتوسيط قبائل، واستخدام مواقع التواصل للضغط، كما حدث في مايو الماضي، إلا أن ذلك لم يحدث حتى اللحظات الأخيرة من اعدام الأمير.

الثاني ـ ان الأمير المعدوم تركي بن سعود الكبير، ليس من أمراء الدرجة الأولى، اي ليس من (أصحاب السمو الملكي) الذين ينتسبون الى مؤسس الدولة. وهذا ما جعل الدفاع عنه من قبل الملك سلمان أقل حماسة. خاصة وان الملك نفسه قد قال سابقاً بأن السيف لا يأكل من لحم آل سعود. اي لا ينفذ في آل سعود الحدود والقصاص.

الثالث ـ أن حكومة آل سعود تواجه نقداً واسعاً في قضايا الحرب مع اليمن والفشل السياسي الخارجي، ونهب استثمارات البلد على خلفية دعم الإرهاب، اضافة الى المشاكل الإقتصادية والضرائب وغيرها. لهذا جاء اعدام الأمير، ليغير مجرى النقاش والإهتمام من جهة؛ وأيضاً ليعيد تلميع العائلة المالكة كحامية للشرع ومطبقة له، خاصة بعد أن أُعلن عن شراء محمد بن سلمان يخته.

لم ينجح اعدام امير في تغيير مجرى النقاش، فاضطرت العائلة المالكة الى فتح النقاش متأخراً بشأن الضرائب. ذلك أنه من المعتاد في الدول التي تحترم شعبها، أنها تهيّؤه للقرارات المصيرية التي تنوي اتخاذها.

والغرض من التهيئة، أمور عدة، بينها:

أولاً ـ تفهّم الشعب لطبيعة القرارات والظروف التي أملتها.

ثانياً ـ إشراك الشعب في صناعة القرار من خلال ليس فقط اقناعه بالقرارات المزمعة، وإنما أيضاً توعيته السياسية بخلفياتها، والطلب اليه بأن يبدي رأيه فيها من خلال وسائل الإعلام والنقاشات العامة، وفي كثير من الأحيان يتمّ تعديل القرارات بناء على تلك النقاشات.

وثالثاً ـ فإن من أهداف القرارات الكبيرة ومناقشتها مع الجمهور قبل إقرارها: إعطاء قيمة للمواطن ولرأيه، خاصة في الدول الديمقراطية التي يتطلع السياسيون الى عدم اغضابه حتى لا ينتخب غيرهم في المستقبل.

الملك سلمان وإبنه، ومنذ أقل من عامين اتخذا قرارات خطيرة واستراتيجية ليس فقط دون مشاورة المواطنين، او حتى مجلس الوزراء او مجلس الشورى المعيّن، بل أنه اتخذها وفرضها على شكل إملاءات حاسمة، دون تقدير للعواقب، ودون اهتمام بالرأي العام، ودون تهيئة للمواطنين. اهم القرارات التي اتخذها النظام ثلاثة: الأول، شنّ الحرب على اليمن؛ وهذه استطاع النظام ابتداءً ان يجيّش جزء غير قليل من الشارع معها، لكنه ما لبث ان تفاجأ بعدم تفاعله ولما طالت الحرب أصبحت نسياً منسياً، خاصة وان الحرب انحصرت في الحدود، وان معظم الضحايا هم من أهل الجنوب، وليسوا من الطبقة النجدية المدللة لدى النظام.

وثاني القرارات، هو إغراق السوق العالمي بالنفط، وعدم التشاور لا مع منتجي النفط الآخرين لا من داخل الأوبك ولا من خارجها. كان أمراً متعمّداً، أدى الى إنقاص الإيرادات أكثر من ستين بالمائة. وكان لهذا انعكاس على حياة المواطنين مباشرة، خاصة مع استنزاف حرب اليمن وتوابعها من شراء الولاءات والدول.

وثالث القرارات الخطيرة التي اتخذها سلمان وابنه، دون ان يناقشها مع أصحاب الرأي، ودون شرح الأمر للمواطنين انفسهم المعنيين بها، هو فرض الضرائب والرسوم وتخفيض الرواتب وإلغاء البدلات والعلاوات، وغيرها.

إزاء السخط الشعبي المتعاظم، قرّر آل سعود بشكل متأخر، ان يتحدثوا الى المواطنين، ليهدّؤوا من سَوْرَةِ غضبهم، وليبرروا لهم لماذا اتخذوا تلك الإجراءات الحادة، وليجيبوا على بعض تساؤلاتهم وإن كان بشكل متأخر جداً.

جاءتنا محطة الإم بي سي، وباتفاق مع رموز الحكم، فاستضافت ثلاثة مسؤولين: وزير الخدمة المدنية خالد العرج؛ ووزير المالية ابراهيم العساف؛ ونائب وزير الإقتصاد والتخطيط محمد التويجري.

وبدل أن يطمئنوا المواطن، ويعتذروا اليه بشأن الضغوط الاقتصادية والمالية التي ألمّت به وهو يسدد ثمن عجز ميزانية الدولة من قوت عياله. فجّر الثلاثة قنابل عديدة، أهمها ما قاله التويجري بأن الإجراءات التقشفية الحادّة، منعت افلاس الدول الذي كان سيحدث خلال ثلاث سنوات. اما وزير الخدمة المدنية، فألقى باللائمة على مليون ومائتي الف موظف لدى الدولة، وحمّلهم المسؤولية، وقال أن معدل عملهم اليومي هو ساعة انتاجية واحدة. ووزير المالية العسّاف ألقى باللائمة الإقتصادية على انخفاض أسعار النفط، وليس على هدر الفائض المالي الكبير أيام الوفرة، حيث لا تخطيط ولا استثمار.

اشتعل الغضب من جديد، على الحكم وأدواته من الوزراء، وأخذ المواطنون يجلدون الوزراء، فمن جهة زاد قلقهم بسبب احتمالية افلاس الدولة، وتساءلوا من هو المسؤول عن الكوارث غير الأمراء وأدواتهم من الوزراء؟ كما استاؤوا من اتهامهم بالكسل وعدم العمل.

حاول محمد بن سلمان تهدئة الشارع، فأقال وزير المالية إبراهيم العسّاف، وهو أمرٌ كان متوقعاً، وقد سبق للمواطنين ان طالبوا بإقالته، فكثير منهم لم يكونوا يجرؤون على مواجهة صانع القرار، وهو ابن الملك، محمد بن سلمان، فكان الضرب في المسؤول (ابن العامّة) الذي شغله ينحصر في تنفيذ القرارات، وليس في صناعتها، وهو لا يتحمّل مسؤوليتها في الأساس. لهذا تساءل الكاتب حمد آل الشيخ ما إذا كانت الإقالة للعساف قد نفّست الإحتقان الشعبي، مؤكداً ان هناك أسئلة أخرى أكثر أهمية لم يتم الإجابة عليها. وتساءل الصحفي الإخواسلفي عبدالملحم: (لماذا يفرحون بإعفاء ابراهيم العساف؟ هل كان حاكماً بأمره في وزارة المالية؟ أم مسؤولاً يُؤمَر فيطيع، ويُزجَر فينتهي؟).

كل المهدّئات استخدمها الأمراء لتهدئة الشارع المحتقن ولكن لا فائدة، بما فيها فشل اشغال المواطن بكذبة الصواريخ اليمنية التي قال الكذابون الأمراء انها تستهدف الكعبة. وفي محاولة يائسة اخرى، تمّ افتعال (جلد أمير) آخر، في خبر تمّ تسريبه من الامراء لصحيفة عكاظ، التي لم تذكر اسمه، ولا تهمته، ولم تقدم لنا صورة لحادثة الجلد، ما دفع المواطنين الى تكذيب الخبر تلقائياً، خاصة وأن عكاظ انفردت بنشر الخبر الكاذب. بل أن المواطن صار يستفزه أي أمرٍ او خبر يتعلق بالأمراء وأخطائهم.

أية حادثة صغيرة يمكن أن تفجر طوفاناً من الغضب المتراكم. مثلاً، أراد الأمير نواف بن سعد رئيس نادي الهلال، أن يدخل بسيارته الاستاد الرياضي لحضور مباراة فريقه مع نادي الإتحاد، وذلك عبر مدخل مخصص للمشاة، فرفض العسكري السماح له بذلك، طبقاً للتعليمات، فأراد سائق الأمير الدخول عنوة فتم منعه، فجاء ضابط عسكري أعلى رتبة، واعتذر للأمير نواف، الذي طلب بمعاقبة العسكري وسجنه هكذا اعتباطاً.

ظهر هاشتاق بالمناسبة بعنوان: (سجن عسكري بسبب رئيس الهلال)، استهجن فيه المواطنون فعل الأمراء وتجاوزاتهم التي لا حدود لها. وهنا تدخل أمير آخر، وهو سطام بن خالد آل سعود، وطالب في تغريدة مستفزّة جداً، معاقبة العسكري لأنه تطاول على احد أفراد الأسرة المالكة، حيث قال ما نصّه: (تجرّؤ عسكري على أمير الأخلاق نواف بن سعد، منحنى خطير، ولا بدّ أن يُعاقب العسكري عقاباً شديداً، لتطاوله على الأمير نواف، ليس لأنه رئيس الهلال، بل لأنه فردٌ من افراد الأسرة المالكة).

جُنّ المواطنون غضباً، فجاءت الإتصالات سريعة من أمراء كبار لسطام تطلب منه الاعتذار والتراجع، فاعتذر وقال: (للتنويه فقط.. أنا لم أقصد والله التكبّر والفوقيّة، بل أبناء الأسرة المالكة هم من أبناء الوطن. ويشهد الله أني أفتخر أن أكون مواطن مثلي مثلكم).

في كل الأحوال، فإن الشعب الذي كان الأمراء يظنّون أنه موالٍ لهم مهما كانت الأحوال، خاصة في نجد، قد كشّر عن أسنانه، ولعلّ التدهور الإقتصادي هو مفتاح التغيير السياسي هذه المرّة.

الصفحة السابقة