الدولة المعطّلة

منذ نشأتها الاولى كانت الدولة السعودية تحمل بداخلها نقيضها الموضوعي، أي اللادولة، فهي ذات خصائص مختلفة وليس فيها ما يصلح لإرساء أساسات الدولة بوصفها مجالاً عاماً يشدّ اليه وفيه مكوّنات المجموع الكلي لحاصل الجمع بين فئات اجتماعية متنوعة، وقانون عام، وأقاليم عدة..

لقد بسطت السلطة هيمنتها على المجال الحيوي للدولة، وبدلاً من أن يتم دمج الاطراف الملحقة قسراً بالمركز أصبح الأخير ممتداً ومنبسطاً في الاطراف، فنتج عن تلك النزعة السلطانية أن تم تعطيل المشروع الدولتي وجرى به وعبره صناعة سلطة شديدة المركزية. ولهذه السلطة خصائص فريدة لا تحمل بداخلها مواصفات الدولة بل هي خصائص مصممة لانتاج مفاعيل السلطة الخاصة.. فالعائلة المالكة، والايديولوجية الدينية، والاقليم النجدي هي خصائص السلطة المركزية الشديدة التي أنشئت على يد ابن سعود. ورغم ما يقال عن الدولة فهي لا تعدو أكثر من استعمال لفظي تجاوزي لاطار جيوبوليتيكي يضم بداخله عدة مناطق ملحقة بصورة قسريّة. إن النشأة الخاصة للسلطة رغم النجاح الكبير الذي حققته بوصفها سلطة قاهرة لم تنجز ما كان ينتظر منها، أي بناء دولة وطنية بكامل مواصفاتها المعروفة، وإنما ظل المشيّدون لهذه السلطة متمسكين بخيار بناء السلطة على حساب الدولة، وإن افتأتت الأولى على الثانية وسلبتها معانيها ووظائفها. فهي في الظاهر تبدو دولة ذات بناء مؤسسي، ونظام قانوني، وسياسات عامة، ولكن في جوهرها سلطة شمولية تديرها فئة محدودة العدد تنتمي الى عائلة واقليم محددين.

وبالرغم من أن مصادرة الدولة من قبل السلطة باتت ظاهرة مشرقية منذ قيام الدولة القطرية، الا أن ما يميّز الدولة السعودية أن قرار المصادرة يستند على عنصرين: السبقية، أي أن التخطيط لانشاء سلطة هاضمة لمشروع الدولة جاء قبل الشروع في انشاء الدولة/السلطة، وثانياً الأيديولوجية الدينية، التي ساهمت بصورة أساسية في توفير الضمانة أو المشروعية الدينية لتحقيق سلطة شمولية يستشعر القائمون عليها بحق التوسع والهيمنة والاسئثار بكافة مقدرات الدولة، ولذلك لم يكن للأخيرة سمات عامة الا ما تقرره السلطة ذاتها..وهنا يكمن سر اختزال الدولة في هيئة سلطة ممثلة في رجالها، ورموزها، ومركزها، وثقافتها.

إن نزعة المؤسسين الأوائل كانت تنحو ـ منذ البدء ـ باتجاه صناعة هذه السلطة المركزية، من خلال تفكيك الوحدات القبلية، والغاء المؤسسات القضائية والثقافية والتعليمية القائمة في المناطق الملحقة، واحلال مكانها مؤسسات من سنخها، أي بتعميم وبسط القبيلة/السلطة على الدولة المزعومة، أي تغلغل المركز في الاطراف، وتعميم النظم القضائية والثقافية والتعليمية الخاصة بأهل السلطة على كافة المناطق، فالخاص هنا قد حّل مكان الخاص هناك، مع فارق أن الخاص الأول كان نابعاً من صميم تلك المناطق الملحقة وناطقاً عن هويتها، أما الخاص الثاني فهو مملى خارجي ومفروض عليها بالقوة وناطق بهوية السلطة القاهرة، وهذا ما يفسّر بصورة مباشرة فشل مشروع الدولة، لأن الاخيرة كانت غائبة في كل الاحوال، بل بإسمها جرى تشويه كينونتها ووظائفها.

وبنظرة عاجلة منذ نشأة الدولة عام 1932 وحتى الوقت الراهن، نجد أن السلطة تتحرك في مسار معاكس لحركة الدولة ومتطلباتها، فقد ربطت الأخيرة بمركز نشأة السلطة فصار مواطنوها رعايا في (مملكة نجد وملحقاتها) وحين تم احتلال الحجاز في الفترة ما بين 1924 ـ 1926 جرى تعديل الاسم بحيث يكون (مملكة نجد والحجاز وملحقاتها) وفي كلي الاسمين دلالة واضحة على أن السلطة بكل مقاصد الهيمنة تعلو على ما يميل اليوم أفراد العائلة المالكة الى إسباغ اسم الوطن عليه كمصنّع للدولة. فالأمر لم يكن كذلك، بل حتى التشكيلات الوزارية وتوزيع الثروة والخدمات وبرامج الدولة كانت تنبّه الى أن المعدّين ليسوا أكثر من رجال حكم وسلطة ولا تعنيهم أمور الدولة الا بما يعزز سلطان العائلة المالكة وحلفائها. فقد بدأت السلطة التنفيذية بشخص عبد الله السلمان وكان يطلق عليه وزير مالية ابن سعود، فكان يستعمله كحامل محفظة نقود أو جهاز صرف آلي، ثم أضاف المؤسس الأول الى الجهاز الاداري مكتب للشؤون الخارجية وعيّن عليه أبنه الملك فيصل، ولكن كان لابن السعود الكلمة الفصل في الشؤون الداخلية والخارجية والمالية. وحتى بعد بدء التشكيل الوزاري في عهد الملك سعود واشراك عدد من المتخصصين والبيروقراطيين في تسيير أعمال السلطة، فقد بقيت للملك وللعائلة المالكة هيمنة عليا غير منظورة ولكنها حاسمة. وقد يعكس ذلك تجاذب اتجاهين متعارضين: اتجاه الدولة الممثل في الجهاز الاداري التنفيذي الممثل في الوزراء والطبقة العاملة في الجهاز الاداري واتجاه السلطة الممثل في الملك وكبار الأمراء والعائلة المالكة بصورة عامة.

إن هذا التجاذب ظل قائماً الى اليوم حتى مع ما يقال عن التحوّلات الادارية في اطار عمل السلطة، فقد احتفظ رموز السلطة بروح القرار وزمامه، فيما بقي الجهاز الاداري، أي السلطة التنفيذية او مجلس الوزراء لا يعد أكثر من غلاف خارجي للسلطة وليس للدولة. ولذلك، فإن من يقرر مصير ومسار الدولة ليس الممثلين لها، أي ليس وزير النفط والخارجية والتعليم والصحة والتربية، فهؤلاء جميعاً يمارسون أدواراً فنيّة محضة، ويمتثلون لمقررات رموز السلطة الحقيقيين، أي الملك وكبار الأمراء مثل ولي العهد والأمير سلطان والأمير نايف والأمير سلمان، فهؤلاء الى جانب عدد آخر من الأمراء يديرون دفة الحكم خارج اطار عمل الدولة، لأن رموز السلطة وحدهم يقررون ما يشاءون، ولهذا السبب يمم دعاة الاصلاح وجوههم قبل هذا الأمير وذاك لأنهم القابضون على السلطة، وهذا يعني أن الدولة في بلادنا مازالت معطّلة النشأة والسيادة.

الصفحة السابقة