العلاقات السعودية الأمريكية: من (التحالف) الى (الإرتياب)

(القسم الرابع)

بين الحاجة وعدم الثقة يكمن المخبوء البراغماتي في تفسير مآل العلاقة المرتبكة بين الرياض وواشنطن. أسئلة جمة تحوم حول المنعرجات الحادّة التي مرّت بها تلك العلاقة منذ نشأتها وحتى اليوم. فإلى أين تسير هذه العلاقة، وما هي متغيراتها وثوابتها؟ مالذي تغيّر في مكوّنات التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن؟ وهل حقاً بدأت الرياض تبحث عن شركاء جدد؟

سعدالشريف

المسألة السورية: بين الحرب والسياسة

لا يختلف الطرفان السعودي والاميركي على مبدأ إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. وحتى الحادي والعشرين من سبتمبر سنة 2013، كان الطرفان يعملان على تحقيق خطة الإسقاط عبر الخيار العسكري. ولكن منذ تسوية الملف الكيماوي السوري، ومن ثم تراجع أوباما عن ضرب سوريا، شعرت الرياض بأنها أصيبت بطعنة في الظهر، ليس فقط لأنها خسرت فرصة سانحة لإطاحة بشار الأسد، ولكن أيضا بسبب الرسالة التي تلقتها الرياض فيما يتعلق بمعادلة النفط مقابل الحماية، والناظم لعلاقة يعود عمرها لأكثر من ستة عقود. تهاوى التعاون السعودي الأميركي منذ قرار أوباما التخلي عن الحرب على سوريا في سبتمبر سنة 2013، الأمر الذي تسبب في إحباط لدى حكّام السعودية.

لاريب أن الخلافات بشأن إيران ومصر، وعلاوة على ذلك سوريا التي يعتبرها الملك عبد الله مهمة شخصية، تسببت في إحداث خلخلة عميقة في موازين القوى في الشرق الأوسط، وإليها يعود بقاء سنوات مشحونة بالتوتر من عمر العلاقة الطويلة(1).

زيارة أوباما للمملكة في أواخر مارس سنة 2014 كانت تستهدف طمأنة السعوديين إلى التزام واشنطن بواجباتها تجاه العلاقة التاريخية بين البلدين، وتلت ذلك وفود أخرى من الولايات المتحدة للمملكة من مختلف فروع الحكومة، على رأسها وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيجل، الذي أكد بدوره التزام بلاده بأمن منطقة الخليج، إنه أمن المنطقة التي تنتج معظم نفط العالم.

ولكن غريغوري غوس، المحاضر في جامعة فيرمونت الأميركية، بدا أقلّ تفاؤلاً بعد قرار أوباما إلغاء فكرة الانخراط في حرب ضد النظام السوري، وأن زيارة أوباما للسعودية خفّفت نسبياً مفهوم أن العلاقات بين البلدين «في أزمة». ويرى جوز بأنه «لطالما كان هذا هو الشعور العام للعلاقة بين البلدين، والذي عززه السعوديون أكثر من الأمريكيين، والمبالغ به دائماً»(2).

وجود مصالح مشتركة على مستويات عدّة تربط بين البلدين بدءاً من التعاون المشترك لمكافحة الإرهاب ووصولاً إلى احتواء نفوذ إيران الإقليمي»، لا يخفي الأزمة البنيوية، كما يلفت جوز، في العلاقات بين الرياض وواشنطن، فهذه الأزمة «متأصلة في طبيعة التحالف غير المتماثل بين سلطة أقوى وسلطة أضعف». وقد عبّر عدم التماثل عن نفسه في القلق السعودي إزاء ملفات عديدة، ساخنة في المنطقة ازداد حضورها كثافة منذ الربيع العربي، إذ بدا تباين المقاربات بين الطرفين واضحاً، وقد تسنى لمثل المتغيّرات المفاجئة أن تكشف عن جزء جوهري في اللامفكر فيه في العلاقة بين البلدين، وأفشى كل طرف عن نزوعه المستقل، ووضع كلاهما أمام اختبار مبادئه فكان على كل طرف التعبير عن موقفه الحقيقي.

رئيس الاستخبارات العامة الأسبق، والسفير السعودي في لندن وواشنطن سابقاً الأمير تركي الفيصل تحدث بصراحة «إن علاقة المملكة مع الولايات المتحدة الأمريكية تمر بأزمة ثقة، وأن هناك اختلافاً حول القضيتين السورية والفلسطينية»(3).

في زيارة وزير الخارجية الاميركي جون كيري في الخامس من نوفمبر 2013 الى الرياض أصدر نظيره السعودي سعود الفيصل بياناً نفى ما ورد في «التحليلات والتعليقات والتسريبات» التي وصفت العلاقات السعودية الاميركية «بالتدهور، ومرورها بالمرحلة الحرجة والدراماتيكية» وقال:«غاب عن هذه التحليلات أن العلاقة التاريخية بين البلدين كانت دائما تقوم على الاستقلالية، والاحترام المتبادل، وخدمة المصالح المشتركة، والتعاون البناء في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية خدمة للأمن والسلم الدوليين». ولفت الى وجود «نقاط التقاء، ونقاط إختلاف» في الرؤى والسياسات.

وأشار الفيصل الى واحدة من نقاط الاختلاف وهي الأزمة السورية وقال بأن «اختزال الأزمة السورية في نزع السلاح الكيماوي الذي يعتبر أحد تداعياتها ، لم يؤد إلى وضع حد لأحد أكبر الكوارث الانسانية في عصرنا الحالي». وأيضاً الملف النووي الايراني وانتقد ما أسماه»التقاعس الدولي في التعامل الحازم وتطبيق سياسة جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل والسلاح النووي..» في إشارة الى مفاوضات خمسة زائد واحد مع ايران حول ملفها النووي. وقال بأن «المفاوضات لا ينبغي أن تسير إلى ما لا نهاية..».

وعلّق كيري في المؤتمر الصحافي المشترك وقال «إن العلاقات بين المملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة الأمريكية علاقات استراتيجية، طويلة الأمد، تتعلق بكثير من الأمور التي تخص البلدين». وذكّر بخطاب أوباما أمام الأمم المتحدة الذي يشتمل على الرؤية الجديدة للسياسة الخارجية الاميركية وقال: «إن أمام الولايات المتحدة خيارات كثيرة، بما في ذلك القوة لتأمين الشرق الأوسط، وإن الولايات المتحدة سوف تواجه أي اعتداء خارجي ضد أصدقائنا كما فعلنا أثناء حرب تحرير الكويت، وسنؤكد ونضمن استمرار تدفق النفط من الخليج إلى العالم بأكمله، وسنقوم أيضاً بتدمير الشبكات الإرهابية، ولن نسمح بتطوير أواستخدام أسلحة الدمار الشامل، هذي هي المصالح الأمريكية الرئيسية».

وتحدّث كيري عن «تعزيز موارد الطاقة المتجددة، وتأمين الأمن، ومكافحة الإرهاب، وفي التدريب، والاستثمار، والعلوم، والتقنية، والأمور الطبية، والتعليم، والتبادل الخارجي, وهي علاقات عميقة، استمرت سبعين عاماً، وسوف تستمر إلى مالا نهاية».

 
اوباما في الرياض 2014، تهدئة مخاوف
ال سعود بشأن استمرار الحماية الأمريكية

وأضاف: «المملكة العربية السعودية شريك لا يُمكن التخلي عنه، ومن الواضح أن هذا الشريك لديه آراء تخصّه، ونحن نحترم ذلك، ونتطلع إلى الاستمرار في التعاون من أجل تعزيز أمننا وازدهارنا المشترك».

وفي ملف الأزمة السورية أكّد كيري على «أن الأزمة السورية لن تنتهي بالحل العسكري، أن إعلان جنيف نصّ على أجنده للمفاوضات، ويستجيب للكارثة الإنسانية في سوريا، ومواجهة الجماعات المتطرفة، وتجنب المزيد من عدم الاستقرار..» وشدّد على ضرورة العمل من أجل انعقاد مؤتمر جنيف ـ 2.

وفي ملف المفاوضات النووية مع ايران قال كيري بأن «الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بأن تحصل على سلاح نووي، هذه السياسة لم تتغير، والرئيس أوباما أكد مراراً أن تفضيلنا هو حل هذه المسألة سلمياً عبر الدبلوماسية، ونحن ملتزمون بإعطاء الدبلوماسية الفرصة..». وعاد كيري الى الاختلافات بين واشنطن والرياض وقال «قد نختلف مرة أو مرتين على تكتيكات، وأساليب هنا وهناك، إلا أن هذه الاختلافات لن تغير شيئاً..»(4).

وتأتي التصريحات تلك على خلفية توتر العلاقات الثنائية السعودية الأميركية بفعل مواقف واشنطن الجديدة من سوريا وايران. وكان مستشار الأمن الوطني ورئيس الاستخبارات العامة السابق بندر بن سلطان قال بأن الرياض قد تعيد النظر في علاقاتها مع واشنطن. وقد أبلغ بندر دبلوماسيين أوروبيين أن الرياض ستحجّم علاقاتها مع واشنطن بسبب موقفها من سورية وايران(5). المتحدّث باسم البيت الأبيض جاي كارني ردّ على ما قاله بندر ووصف العلاقة بين بلاده والسعودية بالقوية والمستقرة وأن الدولتين تربطهما شراكة طويلة، وأنهما «تتشاوران بشكل وثيق حول مجموعة من القضايا الإقليمية والسياسية والأمنية..».

من وجهة نظر كارين إيليوت هاوس، المتخصصة بالشؤون الدولية إن السعودية تبتعد عن الولايات المتحدة التي باتت بالنسبة لها «دولة جبانة،» مضيفة أن السعوديين يلعبون دوراً قد يكون الأخطر في تاريخهم، مشبهة دورهم في سوريا بمن وضع قدمه على رأس أفعى مميتة، هي النظام، دون أن يتمكن من سحقها ودون أن تتدخل أمريكا لمساعدتهم». وبتوضيح حقيقة الموقف السعودي تقول هاوس:

«أظن أن السعوديين هم من قرر التخلي عنا، فبالنسبة للسعودية - باعتبارها مجتمعا قبلياً - فالمظهر الضعيف قد يشجع الآخرين على ارتكاب أعمال عدائية.. السعوديون لا يرغبون في السير يدا بيد في منطقة الشرق الأوسط المضطربة مع أمريكا الجبانة.. هذه هي وجهة نظرهم»(6).

وذكرت هاوس أمثلة على ذلك من بينها السماح بسقوط مبارك، والتراجع عن الضربة العسكرية للنظام السوري رد على هجومه الكيماوي..وقالت هاوس«لو أنني كنت دولة أعتمد على أمريكا لضمان أمني (في منطقة الشرق الأوسط) لكنت الآن أشعر بالذعر الشديد، ولذلك أظن أنهم قرروا بأنه من الأسلم لهم السير قدما بمفردهم». وفسّرت رفض السعودية لمقعد في مجلس الأمن على أنه يحمل «احتجاجا ضمنيا على الولايات المتحدة..».

على الخطى نفسها جاءت مقالة السيناتورين البارزين جون ماكين وليندسي غراهام في صحيفة (واشنطن بوست) والتي تضمنت انتقادات شديدة لسياسة أوباما في الشرق الأوسط (7). وقالا:

«يجب على كل أمريكي أن يطّلع ما تنشره وسائل الإعلام الكبرى، والتي تقول إن إدارة أوباما بدأت تستقيل من دورها القيادي في الشرق الأوسط، مع ما سيتركه ذلك من تداعيات على مصالح الأمن القومي الأمريكي». وأضافا: «أن العلاقات مع السعودية «تتدهور بسرعة بما يزعزع الأمن القومي الأمريكي في حين تنغمس واشنطن في محادثات مع إيران التي اعتادت على ممارسة ذلك التكتيك».

ما هو أسوأ، من وجهة نظر ماكين وجراهام، فشل ادارة أوباما في سوريا وهو جزء من انهيار واسع لمصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبالاستناد الى تقارير حديثة، فإن اسرائيل وشركائنا من عرب الخليج يفقدون كل الثقة في الكفاءة، والقدرة، والحكمة لدبوماسية الادارة في المنطقة. علاقة الولايات المتحدة مع السعودية، على وجه الخصوص، تتدهور بسرعة، الى حد الإضرار بمصالح الأمن القومي الأميركي. وذكر ماكين وجراهام على سبيل المثال قرار السعودية التخلي عن مقعد في مجلس الأمن. ونقل ماكين وجراهام ما قاله بندر بن سلطان للدبلوماسيين بأن القرار كان «رسالة الى الولايات المتحدة وليس الى الأمم المتحدة».

أماط التوتر المتصاعد في العلاقات السعودية الاميركية على خلفية مواقف واشنطن من الملفين السوري والايراني عن هشاشة الأسس التي قامت عليها، كونها علاقات قائمة على أساس «ملفات» أو مصالح وليس على «مبادىء» «ورؤى» أو استراتيجية.

الادارة الأميركية بأركانها الأساسية وعلى وجه الخصوص (البيت الأبيض، والخارجية) شدّدت على التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن. وبقي هذا الموقف يتردد على مدى سنوات ثلاث، وكان أحدث تلك التصريحات ما جاء على لسان المتحدّثة باسم الخارجية الأميركية ماري هارف بقولها «سوف نستمر في الحفاظ على علاقة وثيقة ومنتجة الى جانب العمل معًا لمعالجة العديد من التحديات الخطيرة وصداقتنا الإستراتيجية مع المملكة طويلة المدى في ظل الإدارات المتعددة والعديد من الملوك في المملكة وهذه الشراكة ستستمر بالتأكيد بعلاقة وثيقة ومثمرة مع القادة السعوديين»(8).

بالرغم من ردود الفعل الحادة والانفعالية من الجانب السعودي كما جاءت في تصريحات عدد من الأمراء في العائلة المالكة، إلا أنه جرى احتواء الخلافات على نحو يجعلها خلافات يمكن تطويقها ولا يخرجها من إطارها المنضبط.

الخلاف السعودي الأمريكي حول المسألة المصرية
 
وزير الدفاع الامريكي: نحميكم، ولكن لن نخوض حرباً مباشرة في سوريا!

في المسألة المصرية، كان الخلاف بين السعودية وأمريكا واضحاً في الحالتين: في ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011، دعمت واشنطن خيار الشعب المصري بعد أن بات واضحاً انتصاره، وقد وعارضته الرياض، وفي انقلاب الثلاثين من يونيو سنة 2013 دعمت الرياض عودة حكم العسكر وعارضته واشنطن.

كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 امتحاناً بالغ الصعوبة بالنسبة للعلاقات السعودية الأميركية. فبينما كانت واشنطن ترقب مسار الاحتجاجات الشعبية في المدن المصرية وعلى ضوئها تقرر الموقف المناسب، والذي انتهى الى دعم الخيار الشعبي بعد أن بدا واضحاً انتصاره على بقاء مبارك في قصر عابدين، وجدت القيادة السعودية في الموقف الأميركي تخاذلاً في دعم حليف مخلص للولايات المتحدة.

ونقلت وكالة الأنباء السعودية الرسمية كلمة للملك عبد الله ينتقد فيها المتظاهرين في مدن مصر ضد نظام مبارك وقال بأنهم يحرّضهم من الخونة. وصف الملك عبد الله في اتصال هاتفي مع مبارك عشية تنحيه عن السلطة، المتظاهرين بأنهم «بعض المندسين باسم حرية التعبير بين جماهير مصر الشقيقة واستغلالهم لنفث احقادهم تخريبا وترويعا وحرقا ونهبا ومحاولة اشعال الفتنة الخبيثة»، وأدان ما أسماه «العبث بأمن واستقرار مصر»(9).

وقد أطلق الملك عبد الله صرخة عشية سقوط حسني مبارك في مصر، حين وجّه من منتجعه في الدار البيضاء في المغرب رسالة إلى أوباما للبحث في «حل مشرّف» لمبارك، وعقدت مباحثات في هذه المدينة في السابع والعشرين من يناير سنة 2011 حضرها سعود الفيصل وغاب عنها الملك المغربي محمد الثاني، ووصفت المفاوضات بين الرياض وواشنطن بالمتشنّجة للغاية(10).

وبلغ التوتر في العلاقات الخليجية الأميركية مستوى متقدّماً حول مستقبل حسني مبارك. وانتقد سعود الفيصل تدخّل بعض الدخول، في إشارة الى الولايات المتحدة، في الشأن المصري، واعتبر هذا التصريح انتقاداً علنياً نادراً للسياسة الأميركية(11). وعاب الملك عبد الله خلال المباحثات مع الجانب الأميركي على واشنطن تخليها عن حليف تاريخي، أي حسني مبارك، بالرغم من الخدمات التي قدّمها للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. ومن بين الخدمات التي عدّها الملك: موقف مبارك في الحرب العراقية الإيرانية، والوقوف في وجه ما سماه «الأطماع الإيرانية»، وحرب الخليج الثانية في وجه أطماع صدام حسين.

صحيفة «التايمز» البريطانية ذكرت أن الملك عبد الله قال لأوباما إن بلاده ستدعم مبارك إن أوقفت الولايات المتحدة المساعدات التي تقدّمها لمصر، وأنه أبلغ أوباما في مكالمة هاتفية في التاسع والعشرين من يناير سنة 2011: «ألا يهين مبارك الذي يتعرض لضغط من محتجين مصريين يطالبون بتنحيه عن السلطة على الفور»(12).

مذّاك، بدا للرياض وكأن ثمة تبايناً جوهرياً قد طرأ على الرؤى السياسية لدى الجانبين الأميركي والسعودي. وكان على الرياض أن تستقبل الإشارة الأميركية في مرحلة مبكرة بأن من غير الممكن النوم مع الشيطان إلى الأبد، فالمصلحة ستصل في لحظة ما إلى نقطة صدام مع صديق الضرورة.

رسائل متكررة بعث بها الأميركيون إلى حلفائهم السعوديين بأن يقوموا بما يجب لتجنيب بلادهم عواقب وخيمة قد لا تقدر واشنطن نفسها على حماية النظام السعودي منها. حدث ما يشبه البروفة لقيامة سياسية في السعودية إبان أزمة الخليج الثانية، حين انفجرت ظاهرة الصحوة الدينية في المملكة، وواجه النظام السعودي تحدي سقوط المشروعية الدينية والسياسية على وقع العرائض التي رفعها إصلاحيون من أطياف اجتماعية وسياسية متنوّعة ومن رجال دين سلفيين ينتمون إلى الصف الثاني في التراتبية الدينية الرسمية إلى الملك فهد، للمطالبة بإصلاحات سياسية ودينية شاملة.

على أية حال، فإن الرياض التي عارضت وصول الاخوان المسلمين الى السلطة في مصر، عملت على تغيير المعادلة، ونجحت بالتنسيق مع شخصيات رفيعة في دولة الامارات بالتخطيط لإنقلاب عبر مؤسسة الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي وتثمير الاحتجاجات الشعبية ضد حكم الاخوان كيما يبدو الأمر وكأنه ثورة على الإخوان كما حصل في الثلاثين من يونيو سنة 2013. وقد عارضت الولايات المتحدة ودول كثيرة في العالم ما حصل في مصر، ووصفته بأنه «انقلاب على الشرعية»، فيما التزمت السعودية وقلة نادرة من الدول الخليجية بدعم النظام المصري الجديد.

وزير الخارجية السابق سعود الفيصل زار فرنسا في الثامن عشر من أغسطس سنة 2013 والتقى الرئيس فرانسوا هولاند لتوحيد الموقف من التحوّل في مصر، وقال بأن بلاده وآخرين «سيمدّون يد العون» لمصر في حال توقف الدعم الأميركي، وقال: «بالنسبة لأولئك الذين أعلنوا عن وقف مساعدتهم لمصر، أو يهدّدون بوقفها، فإن العرب والامة الاسلامية غنيّة بشعبها، وقدراتها وسوف تمدّ يد العون لمصر»(13). بحسب تفسير ديفيد أغناطيس أن ثمة موضوعاً دارجاً في الحياة السياسية العربية الحديثة يتكرر وخلاصته: «أن تدخل السعودية ودول محافظة أخرى مماثلة في النزاعات العربية الأخرى من أجل إبقاء جزئياً الأزمات خارج الحدود(14).

النفط: الحرب الناعمة
 
سعود الفيصل في مؤتمر صحفي: مختلفون وأمريكا بشأن سوريا

كان التعاون بين واشنطن والرياض على وشك الانحسار التام حتى نهاية الربع الأول من عام 2014، في ظل تقارير أميركية تتحدث عن دخول النفط الصخري على خط الانتاج والتسويق على مستوى العالم، وبدء الولايات المتحدة انتاج معظم حاجتها من مصادر الطاقة محلياً فيما تستورد القليل من الشرق الأوسط، فإن اهتمامها بالنفط السعودي لم يعد كما كان في السابق. ولكن السعودية نجحت في قيادة حرب نفطية متعدّدة الأهداف: وقف انتاج النفط الصخري بكلفته العالية، ضرب الاقتصادين الروسي والايراني، الأمر الذي أوجد مبرراً للتعاون الأميركي السعودي، وبالتالي الابقاء على أهمية النفط السعودي للأسواق العالمية ولاقتصاديات العالم.

اليمن

لم يعد العامل اليمني في العلاقة بين واشنطن والرياض مرتبطاً بموضوع القاعدة والارهاب، ومنذ السادس والعشرين من مارس سنة 2015 بات اليمن موضوعاً خلافياً. فبالرغم من مشاركة الولايات المتحدة السعودية في الحرب على اليمن، وتقديمها خدمات لوجستية وعسكرية واستخبارية، إلا أن المقاربة الاميركية للحرب على اليمن ليست بالضرورة متطابقة مع المقاربة السعودية.

مارست إدارة أوباما ضغطاً هادئاً على السعودية لوقف قصف اليمن والدخول في مفاوضات سلام من أجل حل سياسي للمشكلة في اليمن. وفيما يردد مسؤولو البنتاغون بأنهم لا يزالون يدعون حملة القصف السعودية ضد أهداف الحوثيين في اليمن، فإن البيت الأبيض يطلق إشارات متزايدة برغبته في نهاية الحملة. وقد ذكرت سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي في إدارة أوباما، في التاسع والعشرين من إبريل سنة 2015: «ليس هناك حلّ عسكري للأزمة في اليمن، وأن الوضع الإنساني سوف يسوء فحسب في حال تواصلت الأزمة». وقالت بأن الادارة «تعمل مع كل الأطراف لإنهاء العنف وبذلك تستطيع المفاوضات السياسية بقيادة الامم المتحدة الاستئناف بسرعة..»(15).

الشراكة إلى أين؟

لفهم مسار العلاقات السعودية الأميركية ومستقبلها، لابد من إخضاع العوامل المكوّنة لها والمؤثّرة فيها، وهي: النفط وبدائله وبروز دول نفطية جديدة، الجيواستراتيجيا: الشرق الأوسط ليس مركز الجاذبية في الاستراتيجية الاميركية (سوزان رايس ـ هولاند)، التحوّلات العالمية: الحرب الباردة وما بعدها واختلال ميزان القوى.

تفيد المعلومات التي كشف النقاب عنها في العاشر من يونيو سنة 2015 بأن إنتاج النفط في الولايات المتحدة بلغ ذروته بعد ثلاثة وأربعين سنة في 2015 حيث ارتفع الانتاج الى تسعة فاصل ثلاثة وأربعين مليون برميل يومياً، وهو الأكبر منذ العام 1972، بحسب تقرير صادر عن إدارة معلومات الطاقة (EIA) (16).

وذكرت وكالة الطاقة الدولية في تقرير صادر عنها في التاسع من يونيو سنة 2015 إن الولايات المتحدة ستتفوق على السعودية وروسيا لتصبح أكبر منتج للنفط في العالم في عام ألفين وخمسة عشر وتقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة وتقليل اعتمادها على إمدادات أوبك.

وقال فاتح بيرول كبير اقتصاديي الوكالة لوكالة (رويترز): «نتوقع أن تمر أسواق النفط بمرحلتين. قبل عام 2020 نتوقع أن يرتفع انتاج النفط الصخري الخفيف..ويمكن أن أطلق عليها طفرة. ومع الزيادة في (إنتاج) البرازيل من المؤكد أن الطلب على نفط الشرق الأوسط سيقل خلال السنوات القليلة المقبلة»(17).

إن التقديرات المتعلقة بأحجام الانتاج والأسعار وحتى مستويات الاستثمار في مجال الطاقة والطاقة البديلة تجعل من الصعوبة بمكان التكهّن بنوع العلاقة المقبلة بين الرياض وواشنطن، ولكن ماهو مؤكّد أن عاملاً أساسياً في الشراكة الاستراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة يخضع لتبدّل سريع وجوهري.

سعى رؤوساء الولايات المتحدة بصورة دائمة من أجل التحرر من ضغط الاعتماد على النفط السعودي والخارجي عموماً. ولذلك سعى الرؤوساء من ريتشارد نيكسون ومن بعده لمضاعفة الجهود لرفع معدلات اقتصاد الوقود، وزيادة إجراءات التخزين، وتطوير مصادر الطاقة الأخرى، ومن بينها النفط الصخري الذي يحقق هدفاً أساسياً وهو عدم الاعتماد على الخارج في تغطية حاجة الأسواق المحلية الى النفط. السعودية ضاعفت انتاجها من النفط لتدفع الأسعار للتراجع، والحفاظ على حصتهم السوقية وبالتالي تقويض عمليات انتاج النفط الصخري الأميركي.

 
يجب حماية الحليف مبارك: خلاف سعودي امريكي بشأن الثورة المصرية

الخبير الاقتصادي عبد العزيز الدُخيّل، قارب وبصورة نقدّية العلاقة بين السعودية والولايات المتحدةّ انطلاقاً من المفهوم التقليدي للعلاقة بين الأقوياء والضعفاء، وفي ضوء تجارب دول أخرى مثل ايران ومصر. يعقد الدخيّل موازنة بين رهان السعودية على الولايات المتحدة في تأمين الحماية على أساس المقايضة مع النفط، والتي أثبتت التجارب التاريخية (ايران الشاه، تونس زين العابدين، مصر حسني مبارك..) عدم فعاليتها، وبين الرهان على الدعم الشعبي «لقد أثبت التاريخ أن الضمانة والحماية الحقيقية لأي نظام حكم، هي شهادة حسن السير والسلوك الصادرة من الشعب المحكوم..». ما يخلص اليه الدخيّل هو «إن تبرير انضواء السياسة السعودية الخارجية تحت مظلة السياسة الأمريكية لابد أن يكون له أسباب أخرى وجيهة ما دامت سببية الحماية قد سقطت وثبت عدم جدواها الفعلية(18).

لكن ثمة متغيّرات طرأت على العلاقات الأميركية السعودية في السنوات الأخيرة تستحق التأمل طويلاً. من بين تلك المتغيّرات: النفط الصخري وتحوّل وجهة واشنطن ناحية الشرق الأقصى.

كلمة وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، في كلمته بمنتدى الاقتصاد والتعاون العربي مع دول آسيا الوسطى وأذربيجان، في الرياض في الثالث عشر من مايو سنة 2014 تضمنت معطيّات بالغة الأهمية، إذ بدأ كلمته بالحديث عن «تحوّل السياسة الدولية عن التوازن»، و«الدولية» هنا ليست شيئاً آخر غير الولايات المتحدة. وهو ما اقترب من الإفصاح عنه في الفقرات التالية، حين لفت إلى «دول كبرى كانت على الأقل تعمل وفق مبادئ المنظومة الدولية، وكانت هناك محاولات للتصدي للأزمات الدولية على أساس السعي لخلق مصالح مشتركة يرى فيها الجميع مصلحة له...». فالدول والكبرى والمنظومة الدولية تشيران بدرجة أساسية الى الولايات المتحدة، والأزمات الدولية هي الأخرى ليست سوى «سوريا وإيران ولبنان والعراق».

يجيب سعود الفيصل بموقف نقدي لواشنطن، وبلغة الإشارة، «لم نكن نسمع من الدول الكبرى مقولة أن سياساتها الخارجية مبنية على المصالح الوطنية فقط، وإنما كان ينظر لتنمية المصالح المشتركة بينها وبين الدول الأقل حجماً، فتغير الوضع من الحرص على سيادة الدول واستقلالها والحرص على أمنها إلى نهج يؤكد أن إصلاح الأوضاع الدولية يكمن في تغيير الأوضاع في هذه الدول من الداخل».

وهنا تبدو القضية أكبر من كونها مجرد وجهة نظر، فهو يتحدث عن تحوّل كبير وخطير في الموقف الأميركي، حيث يلفت إلى أن واشنطن لم تعد تكترث بسيادة السعودية ومثيلاتها في المنطقة، من الدول الأقل حجماً، وأن المنهج الجديد يقوم على مطلب التغيير وربط إصلاح الأوضاع الدولية بالإصلاحات السياسية في هذه الدول.

ويضيف الفيصل أيضاً: «أصبحت المطالبات بتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية الداخلية من الدول المتقدمة على اعتبار أنهم يمثلون القيم الإنسانية مما يسمح لهم بهذا التدخل، وأصبحت الأزمات عندما تظهر إلى الوجود مجالاً للتسابق على التدخل في الشؤون الداخلية، وما يؤدي إليه من تفكك في المجتمعات». فلأول مرة يتحدث رجل الديبلوماسية السعودية السابق بمنطق اتهامي لدولة حليفة لبلاده، ويعتبر مطلبها بالإصلاح السياسي في الدول الحليفة، الأقل حجماً، تدخّلاً في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

في مقابلة تلفزيونية في قناة (نيويورك تايمز) مع الصحافي توماس فريدمان، قال الرئيس أوباما قال بأن التهديدات الكبرى التي تواجه ـ أصدقاءنا العرب ـ قد لا تأتي من غزو إيراني. ولكن سوف تكون من السخط داخل بلدانهم». ولفت الى سخط الشبان الغاضبين والعاطلين والإحساس بعدم وجود مخرج سياسي لمظالمهم(19).

مثّل التفاهم الايراني الأميركي على خلفية الملف النووي قلقاً سعودياً ونقطة اشتباك ساخنة في العلاقة السعودية الأميركية على مدى سنوات طويلة. وكانت الرياض تسعى الى حسم الملف النووي الايراني بطريقة راديكالية، أي بـ «قطع رأس الأفعى» في موقف للملك عبد الله، كما كشفت عن ذلك وثائق ويكيليكس(20).

مع بدء تصاعد وتيرة المفاوضات النووية بين طهران و خمسة زائد واحد وقرب التوقيع على اتفاق نهائي افتراضي في نهاية يونيو سنة 2015، كانت الرياض تستعد لمرحلة تكون فيها لاعباً مستقلاً تعتمد فيها على مبادراتها المستقلة في مجالي الحرب والسلم..ولربما، كانت الحرب على اليمن التي خاضتها السعودية منذ السادس والعشرين من مارس سنة 2015 تشكل «أهم امتحان للعلاقة الأميركية - الخليجية، بالذات الأميركية - السعودية، لأن التحالف العربي في اليمن لا يلقى موقفاً أميركياً يتفهم منطق التحالف العربي». وتفسير ذلك يقوم على أن «الولايات المتحدة مستعدة للاستغناء عن علاقتها الأمنية والتحالفية مع دول الخليج إذا خُيِّرت بينها وبين العلاقة التي تصبو إليها مع إيران»(21).

وفق هذا الخطر المصعّد، تأتي الرؤية الاستشرافية التصعيدية لمستقبل التوتر في العلاقات السعودية الايرانية والذي من المرجّح بلوغه نقطة الصدام المسلّح(22).

تنظر السعودية بقلق بالغ الى التحوّل الجوهري في المقاربات الأميركية لملفات خلافية في المنطقة: الأزمة السورية، النووي الايراني، والاستراتيجية الاميركية في الشرق الأوسط.

 
شراكة امريكية سعودية في العدوان على اليمن: توافق على الأهداف، واختلاف في المقاربات

لاشك أن النفط كان العنصّر الأكثر أهمية في العلاقة بين الرياض وواشنطن، كما مثّل أحد ركني التحالف الاستراتيجي بينهما، وكذلك المعادلة الحيوية القائمة على النفط مقابل الحماية.

حقّقت السعودية نجاحاً لافتاً في تأجيل لحظة تحرر الولايات المتحدة من ضغط الحاجة الى نفط السعودية، عبر تخفيض أسعار البترول الى مستويات دنيا ليس فقط لضرب اقتصاديات روسيا وايران، بل وأيضاً لناحية إحباط خيار «النفط الصخري» بكلفته الانتاجية المرتفعة. الا أن الفارق الكبير في الكلفة الانتاجية بين النفط الصخري وخام الشرق الأوسط وبسبب ارتفاع أسعار النفط العالمية جعل لانتاج النفط الصخري جدوى اقتصادية وساهم في تخفيض معدل الطلب على خامات النفط الاخرى. وبدا وزير البترول السعودي حينها علي النعيمي إيجابياً في النظرة الى دور النفط الصخري، وقال بأن «الطلب العالمي يكفي لاستيعاب النفط الصخري الأمريكي والنفط السعودي وإن زيادة المعروض في السوق تساعد على خفض أسعار الخام العالمية إلى مستويات مريحة للجميع»(23).

وكان من أهداف الحرب النفطية الضغط على الولايات المتحدة لإجراء تعديل جوهري في خياراتها خصوصاً لناحية نقل ثقلها الاستراتيجي الى الشرق الأقصى، الأمر الذي سوف ينعكس على طبيعة التحالف بين الرياض وواشنطن بل والموازانات السياسية والاستراتيجية في المنطقة، وهو ما دفع السعودية الى اعتناق مقاربات جديدة تقوم على المبادرة الفردية دون الاعتماد على الولايات المتحدة.

وبصرف النظر عن مدى فعالية النفط الصخري في التأثير على طبيعة العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة، إلا أن ثمة عوامل أخرى تؤكد حصول تحوّل كبير في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والخليج.

في هذا الصدد، يمكن للمرء أن يلحظ أحد أهم التعيينات الأخيرة في إدارة أوباما، أي تعيين روبرت مالي، رجل مجموعة الأزمات الدولية، المحامي وعالم السياسية الأمريكية والذي يحمل رؤى إبداعية عادة في تقديم حلول للمشاكل السياسية المعقدة، ومالي في مقدمه الوفد الذي سيصاحب أوباما إلى المملكة العربية السعودية، ومن خلفه أصوات أمريكية عددية تعرف مدى الأهمية الإستراتيجية للمملكة العربية السعودية، منها على سبيل المثال وليس الحصر، الكاتب الأمريكي الشهير «دافيد إغناطيوس» الذي كتب عبر صفحات الواشنطن بوست داعيا إلى إنقاذ العلاقات الأمريكية السعودية بعد نحو عامين من ترديها.

وكانت الحكومة السعودية تتوقع تغييراً في بنية فريق الأمن القومي في ولاية أوباما الثانية، نتيجة ما تعتقده سلوكاً منحازاً لدى رايس ضد المملكة.

مستقبل العلاقة

ملفات خلافية جمّة فرضت نفسها على علاقة الرياض وواشنطن، بدأت من الموقف الأميركي من الربيع العربي، ورفض واشنطن الإنقلاب المصري بتمويل سعودي ـ إماراتي في الثلاثين من يونيو سنة 2013، والملف النووي الايراني وأحاديث عن قرب تسويته، وتراجع الدور الاميركي في الملف السوري، وملف النفط الصخري، وعلاوة على ذلك التحوّل الكبير في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، طرح سؤال كبير حول مستقبل العلاقات السعودية الأمريكية. حينذاك أثيرت حزمة أسئلة حول الحوافز والأخطار في تلك العلاقة، وتجاوزت السؤال التقليدي الذي يتجدد طرحه بعد كل انتكاسة في تلك العلاقة القائمة بين نظام ديمقراطي ليبرالي ونظام ديني شمولي.

كانت الهجمات المسلّحة التي شنّها (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب) في عام ألفين وثلاثة داخل الأراضي السعودية بمثابة مناسبة لقلب الصورة، وتحويل النظام السعودي الى ضحيّة، وهو ما عمل على تكريسه في المحافل الدولية وأمام الرأي العام العالمي. وكانت تلك فرصة لخلق مبرر لتطوير العلاقة بين الرياض وواشنطن. على أية حال، إن الاسباب التي دعت الى تشكّل العلاقة لم تخضع للإختبار كما خضعت منذ بداية الألفية الثالثة.

وشكّل الربيع العربي أحد أهم التحديات التي واجهت العلاقات السعودية الأميركية، إذ وضعت المبادىء والمصالح والتطلعات والمخاوف وجهاً لوجه. وكان الموقف السعودي من الربيع العربي محثوثاً بقلق ليس من انتقال عدوى الثورات الى الداخل فحسب بل وبقلق من تكرار الموقف الأميركي في تونس ومصر من الثورة في المملكة السعودية. وعليه، عملت السعودية من أجل تغيير الواقع الجديد في مصر، وأماكن أخرى في العالم العربي.

وصف ديفيد اغناطيوس، حالة السعودية ودول الخليج الأخرى وكيف اصطفوا خلف ثورة مضادة دموية في مصر في الثلاثين من يونيو سنة 2013، وبدا أن الملكيات المحافظة في الخليج على استعداد لأن تحارب حتى آخر مصري ضد الاخوان المسلمين وإشعال ما يمكن أن يرقى الى مستوى حرب نيابة ضد التهديدات التي تواجه هذه الأنظمة من قبل الجماعة.

منذ سقوط مبارك والموقف الاميركي السلبي منه، كانت السعودية ودول خليجية أخرى تناقش، بصورة عامة وخاصة، بأن القوة الأميركية تتضاءل وأن عليهم أن يمسكوا بزمام المسؤولية من أجل أمنهم(24). وازداد قادة السعودية والامارات العربية المتحدة والبحرين احباطاً حين رفضت الولايات المتحدة الانضمام اليهم في تأييد حكومة عسكرية في مصر أطاحت الرئيس محمد مرسي. وقد رأوا ذلك بأنه دليل آخر على أن سلطة أمريكا تتراجع عالمياً..

كانت استراتيجية واشنطن على مدى السنوات تقوم على طمأنة حليفها السعودي إزاء أية أخطار محتملة قد تهدد النظام. وهي استراتيجية أرست العلاقات بين البلدين منذ اللقاء الذي جمع عبد العزيز وروزفلت.

لقد أثبتت الاجتماعات بين أوباما والملك عبدالله أنها عبارة عن حقل ألغام سياسي ودبلوماسي. فاجتماعهما الأول في أبريل سنة ألفين وتسعة، أظهر مقطع فيديو شهير لأوباما وهو يحني رأسه أمام الملك عبد الله، وكانت تلك فرصة انتهزها نقّاده للتدليل على أن الرئيس أوباما كان مفرطاً في الخضوع.

أوباما، شأن أسلافه خصوصاً بيل كلينتون وجورج بوش الإبن، تعرّف على تقاليد التعامل مع العائلة المالكة، وقيمة احترام كبار السن، إلى جانب الطابع الشخصي الذي يحظى بأهمية خاصة في السياسة السعودية، بفعل البنية الأبوية التي تحكم إدارة السلطة. ولطالما عبّر الرؤوساء الأميركيون عن تقديرهم لأشخاص الملوك أو الأمراء في تعبير عن فهم ثقافة البلد الذي يتعاملون معه، وتفهّم رغبتهم في أن تكون السياسة مقتصرة، أو بالأحرى قائمة، على مبدأ «وعد رجال».

بعد شهرين من الزيارة الأولى، توقف أوباما في الرياض قبل إلقاء خطابه الشهير في القاهرة الذي تعهّد فيه بـ «بداية جديدة» للعلاقات الأمريكية مع العالمين الإسلامي والعربي بعد قيام الولايات المتحدة بغزو أفغانستان والعراق في عهد بوش(25). كانت زيارة بروتوكولية ولكن كان يراد منها إيصال رسالة ذات دلالة للقيادة السعودية.

زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الى الرياض للقاء الملك السابق عبد الله في 28 مارس سنة 2014، وهي الثانية خلال ولايتيه الأولى والثانية، جاءت في سياق أزمة حادة شهدتها العلاقة بين واشنطن والرياض على خلفية قرار أوباما التخلي عن فكرة الحرب على سوريا في سبتمبر 2013، ما أحدث إرباكاً شديداً لحسابات الرياض الإقليمية وتالياً الدولية كما ظهر في تخليها عن مقعد غير دائم في مجلس الأمن بعد فوزها به في الثامن عشر من أكتوبر من العام نفسه.

بالرغم من ذلك، بقيت العلاقة بين واشنطن والرياض متماسكة، ومحكومة لمبدأ المصالح المشتركة والخدمات المتبادلة: النفط مقابل الحماية. لم يطرأ ما يعكّر صفو العلاقة، ولم يكن هناك تباين حاد يستوجب استعلان مواقف تشي بانفراط عقد التحالف، أو حتى إصابة بعض حلقاته بالتلف. كانت واشنطن تفيد من ضعف حليفها وحاجته إليها. وكانت الرياض في المقابل تعمل على احتكار «الفرادة» في الشراكة مع واشنطن وقطع السبيل على أي تقارب يمكن أن يحصل بين واشنطن وأي من عواصم المنطقة.

يقدّم المسؤولون الأميركيون في إدارات متعاقبة مبررات غير مقنعة لنوع العلاقة الوثيقة التي تربط واشنطن والرياض، ومن بينها ما جاء على لسان الجنرال برنت سكوكروفت، المستشار السابق لشؤون الأمن القومي في عهد الرئيس بوش الأب: «رغم أن النظام السعودي ليس نظاما يتماشى مع المبادئ الأمريكية، ورغم وجود اختلافات ثقافية هائلة، فإنه يتطور بشكل بطيء، والدولة السعودية تمر بمرحلة انتقال من العصور الوسطى إلى التحديث والمعاصرة، ولكن يجب ألا يكون ذلك مبعث قلقنا، خاصة في الظروف الحالية»(26).

كان إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في السعودية مؤشراً على متغيّر جوهري في العلاقة بين البلدين، إذ بات على الطرفين مقاربة التعاون بينهما وفق متحوّلات سياسية محلية وإقليمية ودولية. وسواء كان الضغط الشعبي أو تهديدات «القاعدة» السبب وراء إنهاء الوجود العسكري الأميركي فإن هناك من طالب حينذاك بإحداث نقلة في العلاقات السعودية الأمريكية.

وبحسب مقاربة المحاضر في جامعة فيرمونت جريجوري جوز، فإن الوضع في العراق خلق أسساً جديدة للسياسة الأمريكية إزاء دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها السعودية، هي: اولا، العودة الى علاقة أمنية مع السعودية تحمل سمات ما قبل حرب تحرير الكويت، ويعني ذلك التقارب والتعاون، لكن بدون نشر قوات أمريكية فيها، ثانياً، تجنب الوقوع في إغراء النظر إلى السعودية كعدو بعد علاقة صداقة دامت عشرات السنين واستفادت منها الولايات المتحدة في قضايا الطاقة ثم في الحرب ضد الإرهاب. ثالثاً، تشجيع الإصلاح النابع من داخل السعودية دون جعل ذلك الإصلاح حجر الزاوية في العلاقات السعودية الأمريكية والابتعاد عن الخوض في القضايا المشحونة بالمشاعر، مثل حقوق المرأة والنظام التعليمي في السعودية. رابعاً، الإقرار بأن دول الخليج الصغيرة توفر مناخا أقل إثارة للمتاعب بالنسبة لعملية توفير قواعد للقوات الأمريكية في الخليج. خامساً، عدم إغفال أهمية الرأي العام في دول الخليج الأصغر من السعودية، حيث سيعتمد استمرار الوجود العسكري الأمريكي فيها على إقناع شعوبها بأن ذلك الوجود مفيد لدولهم ولا يضر العالمين العربي والإسلامي. سادسا، مقاومة الإغراء بالقيام بدور بريطانيا، حينما كانت تلك الدول محميات بريطانية، بالتدخل المباشر في النزاعات المحلية داخل الأسر الحاكمة(27).

المصادر:

(1) Liz Sly, U.S.-Saudi relations still strained by Syria, The Washington Post, May 27, 2014

(2) غريغوري غوس، توترٌ في العلاقات السعودية-الأمريكية، معهد بروكنز، 27 أبريل 2014

(3) تركي الفيصل: نمر بأزمة ثقة مع أمريكا.. ويرد على الظواهري، 3 يناير 2014، سي ان ان، عن مقابلة مع تركي الفيصل على قناة «روتانا الخليجية» في 1 كانون الثاني/ يناير 2014

(4) خادم الحرمين يستقبل وزير الخارجية الأمريكي، دنيا الوطن، 5 نوفمبر 2013

(5) روسيا اليوم، 31 تشرين أول (أكتوبر) 2013

(6) محللة: السعودية تلعب أخطر أدوارها وتعتبر أمريكا «جبانة»، سي إن إن بالعربي، 29 تشرين الأول/أكتوبر 2013

(7) McCain and Graham: Obama is failing the Middle East, and U.S. interests there, The Washington Post, October 25, 2013

(8) وكالة الأنباء السعودية (واس) بتاريخ 30/04/2015

(9) السعودية تتضامن مع مصر وتدين العبث بالأمن والاستقرار، جريدة اليوم، الصادرة بالدمام السعودية، 30 يناير 2011

(10) الملك السعودي عبد الله يبحث مع الولايات المتحدة عن حل مشرف للرئيس المصري حسني مبارك القدس العربي، 7 شباط (فبراير) 2011

(11) Angus McDowall, Mubarak’s Departure Deals Blow to Saudis;
The Wall Street Journal, Feb. 12, 2011,
http://www.wsj.com/articles/SB10001424052748703786804576138321598498188

(12) Hugh Tomlinson, Saudis told Obama not to humiliate Mubarak,
The Times, February 10 2011; see:
http://www.thetimes.co.uk/tto/news/world/middleeast/article2905628.ece

(13) Minister of Foreign Affairs visit France to Discuss the Current Situation in Egypt,
date: 21 August 2013, see:
http://www.mofa.gov.sa/sites/mofaen/ServicesAndInformation/news/
MinistryNews/Pages/ArticleID20138208437344.aspx

(14) David Ignatius: Saudi Arabia stirs the Middle East pot, The Washington Post, August 21, 2013

(15) Guy Taylor, U.S. pressures Saudi Arabia to stop bombing Iran-backed rebels in Yemen, The Washington Times, April 30, 2015

(16) Moming Zhou, Bloomberg , U.S. oil production to peak at 43-year high before trailing off, BUSINESS NEWS NETWORK, 10 June, 2015

(17) وكالة: أمريكا ستتقدم على السعودية لتصبح أكبر منتج للنفط في 2015، رويترز، Nov 12, 2013

(18) عبد العزيز الدُخيّل، ما هي طبيعة العلاقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية؟ صحيفة (الشرق)، عدد رقم 274، تاريخ 31 أيلول (سبتبمر) 2012

(19) Thomas Friedman, Iran and the Obama Doctrine, The New York Times, April 5, 2015

(20) Ross Colvin “Cut off head of snake” Saudis told U.S. on Iran, Reuters, Nov 29, 2010

(21) راغدة درغام، خيارات المنطقة لوقف التشرذم، صحيفة (الحياة) اللندنية، الجمعة 5 حزيران (يونيو) 2015

(22) جمال خاشقجي، هل ستقع حرب بين السعودية وايران، صحيفة (الحياة) السبت 6 حزيران (يونيو) 2015

(23) السعودية ترحب بطفرة النفط الصخري الأمريكي ولا ترى حاجة لخفض الإنتاج، وكالة رويترز، 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013

(24) David Ignatius: Saudi Arabia stirs the Middle East pot, The Washington Post, August 21, 2013

(25) سايمون هندرسون، المشكلة السعودية ورأس الأفعى، معهد واشنطن، 28 آذار (مارس) 2014

(26) محمد ماضي، مستقبل العلاقات السعودية الأمريكية، بتاريخ 30 مايو 2003 SWISSINFO.CH

(27) محمد ماضي، المصدر السابق.

الصفحة السابقة