دولة الهاوية

لم نعتد على هذا الكم الهائل من التقديرات المتشائمة لمستقبل المملكة السعودية، كما لم نعهد صحفاً كانت تروّج للخطط التنموية والإصلاحية السعودية تشارك اليوم في تعميم القلق الذي يساور الخبراء الاقتصاديين المحليين إزاء ما يمكن أن تؤول اليه البلاد نتيجة تخبّط السياسات الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية.

إن سياسة الحزم التي انتهجها سلمان منذ توليه الحكم في 23 يناير 2015، طاولت كل المجالات العامة، وكانت العواقب في كل الأحوال وخيمة الوقوع في الخطأ ليس عيباً، ومن لا يعمل لا يخطىء، ولكن العيب كل العيب أن تقع في الخطأ ذاته مرة تلو أخرى، وأنت تعلم النتيجة سلفاً.

في عامين كاملين، إحترف الملك، وإبنه وثالثهما ابن نايف، الخطأ والخطيئة. راهنوا على أوهام تبدّدت أمامهم كفقاعات الصابون.

وبنظرة خاطفة على كل الملفات التي دخلوا فيها، بدءاً من تغيير هيكلية السلطة واختصارها في مجلسين: مجلس الشؤون السياسية والأمن، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وعليه تركيز السلطة في شخصين أو ثلاثة، لتختزل، في الأخير، في شخص واحد هو محمد بن سلمان، الذي يدير دفة مملكة بكامل حمولتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية والأمنية.

جرى استبعاد مئات الأمراء، دع عنك الشعب كله من مضمار المشاركة السياسية ودائرة صنع القرار، وعليه زُرِعَ أول لغم في طريق الدولة، وحدة واستقراراً.

وبعد شهرين من استلام السلطة، قرّر سلمان ونجله خوض حرب عدوانية لا مبرّرَ لها سوى مواجهة النفوذ الايراني. بنك الاهداف المعلنة للعدوان على اليمن تطلب عملاً عسكرياً ضخماً وطويل المدى، ولكن صانع «عاصفة الحزم» تمسّك بوهم الحسم السريع، حتى قال قائلهم: سوف نكون في صنعاء في غضون إسبوع، برغم تعارض ذلك مع المنطق العسكري، وقواعد الاشتباك، والشروط الحتمية العسكرية والمادية والبشرية لتحقيق الأهداف المعلنة.

منذ الشهر الأول بدا واضحاً أن الحرب العدوانية على اليمن لا أخلاقية لأن المدنيين هم أولى وأكبر ضحاياها، وأن الأهداف التي أصابتها صواريخ المقاتلات الحربية السعودية وحليفاتها قد انتهت، سواء عسكرية أم مدنية.

بقيت الأهداف المعلنة على حالها دون تحقيق.. بل على العكس، كان القصف الجوي يتواصل، وكان الجيش واللجان الشعبية في اليمن تواصل تمدّدها أرضياً، فيما كانت تتساقط المراكز العسكرية الحدودية.

في النتيجة، نحن اليوم على مقربة من العامين على بدء العدوان وقد تحوّل اليمن بالفعل الى فيتنام سعودية، أي الدخول في المأزق وتواصل النزف. فلا بن سلمان قادر على الخروج من الحرب ولا الاستمرار فيها، لأنه يدرك بأن الخروج سوف ينعكس على باقي الجبهات التي يخوض فيها معارك أخرى. والأخطر من ذلك كله، هو الانعكاس الداخلي، بما ينطوي عليه من تهديد بتصدّع قاعدة السلطة والعائلة المالكة، وهذا الذي يدفع بها الى زيادة وتيرة استعراضات القوة في المناطق الأخرى، للإيحاء بأن الدولة لا زالت متماسكة وقادرة على البطش.

بكلمة: هناك هزيمة موصوفة في اليمن، وأن الالتفاف عليها يتم عبر اعتماد أسلوب استنزاف كل ما تملكه السعودية من ثروات من أجل تدمير اليمن، وحتى لا يقال عنها أنها هزمت.

حال النظام السعودي ـ بقيادة سلمان ونجله وثالثهما ابن نايف ـ في الملفات الأخرى ليس بأقل سوء مما هو عليه في اليمن.

في الملف النفطي على سبيل المثال، شنّت السعودية منذ أكتوبر 2014 حرباً نفطية لإسقاط الاقتصادين الروسي والايراني، بناء على رغبة أميركية، كما كشف ذلك الرئيس الاميركي باراك أوباما، والسناتور الجمهوري جون ماكين. والنتيجة، أن انهيارات اقتصادية أصابت الجميع، ولكن ما أصاب الاقتصاد السعودي كان مفجعاً، وكان كمن يطلق النار على رجله، إذ تبيّن أن الخسائر فادحة على الخزينة السعودية، انعكست في عجز مالي غير مسبوق (79 مليار دولار في 2016، ويتوقع أن يصل الى 52 مليار دولار في 2017 في حال بلغ سعر البرميل 55 دولاراً)، إضافة الى تآكل الرصيد من العملات الاجنبية الذي هبط بصورة خاطفة الى 564 مليار في سبتمبر 2016 بعد أن تجاوز 720 مليار دولار في 2014.

تبع ذلك سياسة تقشف صارمة: زيادة ضرائب، واقتراض من البنوك المحلية والاجنبية، ووقف أو تقليص الانفاق الحكومي على المشاريع، وركود اقتصادي.

والنتيجة: استجداء السعودية موافقة ايران والعراق وروسيا لناحية تخفيض الإنتاج من أجل رفع الأسعار، وهي التي كانت تتحكم في سقف الانتاج ومستوى الأسعار. وفي القرارات: هي من تحمل القسط الأكبر من التخفيض، فيما رفعت إيران مستوى إنتاجها ليعود إلى مرحلة ما قبل العقوبات.

في ملف الحرب السورية، كان النظام السعودي الفاعل الرئيس فيه، وكانت غرفة العمليات التي أنشئت في العاصمة الأردنية، عمّان، وبإشراف نائب وزير الدفاع الأمير سلمان بن سلطان، تدير الجماعات المسلّحة وتشرف على خطط الهجوم.

اليوم، أين هي الغرفة؟ بل أين هو الدور السعودي؟ لقد تجاهله الصديق والعدو، وبات التنسيق روسياً تركياً إيرانياً. وبعد حلب أصبح على سلمان وإبنه وثالثهما ابن نايف، التفكير في تدوير الزوايا بحثاً عن خروج مشرّف من الأزمة السورية.

في لبنان، خسرت السعودية رهانها، وحتى حليفها الثابت سعد الحريري أصبح يتصرف اليوم كما لو أنه بلا غطاء ولا سند، بعد أن أكلت القطة عشاءه، وبات الافلاس كابوساً يحوم حول أملاكه في المملكة، بما في ذلك بقرته المقدّسة (سعودي أوجيه).

في العلاقات الإقليمية (مصر نموذجاً)، والدولية (الأميركية نموذجاً) مؤشرات سلبية على أن المستقبل في أدناه غامض، وفي أقصاه توتّر وقطيعة. وفي كل الأحوال نحن أمام دولة تسير الى الهاوية.

الصفحة السابقة