دولة العمى

بشارة محمد بن سلمان، ولي ولي العهد، والرجل الأقوى في الدولة حاليا.. بشارته (رؤيته) في منتصف 2016 لم تثمر حتى الآن سوى كوابيس محفوفة بالخوف من المستقبل والقلق على المصير.

رؤية السعودية 2030 التي يروّج لها النظام في إعلامه، ويجعلها عنواناً ثابتاً في الصفحة الأولى من جرائده، ومواقعه الخبرية على الشبكة العنكبوتية، وحتى في القنوات التلفزيونية الرسمية.. كانت مصمّمة لقلب النظام الاقتصادي في المملكة السعودية، على أساس التخلي عن النفط كمصدر دخل، والانتقال الى عالم الاستثمار. الاستثمار في كل شيء يمكن استثماره، تمهيداً لإحداث نقلة نوعية هائلة في اقتصاد البلاد.

وكما هو معلوم، فإن الرؤية جاءت على خلفية انهيار أسعار النفط، وتالياً حصول تراجع حاد في المداخيل الأمر الذي تطلب “فكرة ثوريّة” تحرّر الاقتصاد من هذا التقلّب المتكرر.

كان من بين القرارات الثورية: إعلان محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع ورئيس المجلس الاقتصادي والتنمية ورئيس..ورئيس..الخ، عن بيع 5% من شركة أرامكو ـ اكبر شركة نفطية في العالم، في كل عام، لمدة عشر سنوات، للوصول الى بيع 49% منها بنهاية المدة.

وكان محمد بن سلمان يتحدث مع قناة العربية في لقاء مع تركي الدخيل عن تريليوني دولار، لا تستطيع السوق السعودية استثمارها، وعليه فإن توظيف ما يتم خصصته منها في مشاريع استثمارية سوف يدرّ أرباحاً طائلة على خزينة الدولة.

نام كثيرون على حرير، طالما أن هذه النسبة الضئيلة تساوي تريليوني دولار، فإن القيمة السوقية لأرامكو تساوي أربعين تريليون دولار. وهذه ثروة لم يسبق أن طالها لا ملك ولا تاجر منذ أن خلق الله تعالى الأرض ومن عليها. وحق لهؤلاء أن يناموا قريري العين، وأن ينعموا في الخير الوفير.

كان الجميع ينتظر الفرج الاقتصادي الكبير، واذا بالتقديرات تقول أن كل قيمة ارامكو التي هي مصدر دخل الدولة شبه الوحيد، لا يزيد عن خمسمائة مليار دولار، اي نصف تريليون دولار!

وإذا بمشروع الرؤية يبدأ بثورة ضريبية وتقشفية يقودها ابن سلمان وفريقه الاقتصادي متبوعة بقرصنة واسعة النطاق على جيوب المواطنين. بدأت القرارات بفرض ضرائب تدرجية على الكهرباء والماء والتلفون، ومن ثم رفع الدعم عن السلع والمشتقات البترولية، ولاحقاً إلغاء البدلات (وقد بلغت واحداً وخمسين بدلاً)، والترقيات ما ادى الى انخفاض الرواتب بين 30-40%، وتوقف الانفاق الحكومي عن كثير من المشاريع، وأخيراً زيادة كلفة الخدمات الحكومية للجوازات وكفالات العمالة والغرامات المتصاعدة وغيرها. ومن المخطط لتنفيذه في المدى القريب والمنظور: رفع سعر البنزين مرة ثانية بنسبة 30%، وإرساء ضريبة القيمة المضافة على السلع، وضرائب على الزبالة، وضرائب على الهاي واي، وغيرها.

بين الإحباط والتشاؤم، غمرت سيول الأمطار أرجاء المملكة، وأماطت الزيف عن رؤية ابن سلمان وفريقه الفاسد. لم يتغيّر شيء منذ 2009 و2016، فالحال السيء هو نفسه، المدن تغرق بما فيها من بشر ومركبات وممتلكات بكل أصنافها. لا حساب، لا كتاب، ولا عقاب، فالمسؤولون باقون على مقاعدهم، لا يتحرّك في أجفانهم شعرة لهول ما أصاب المواطنين/ الرعية من سيول الأمطار.. وحده سعود بن نايف، أمير المنطقة الشرقية، الذي أراد أن يلعبها بصورة صحيحة وخانه الفعل، فقد حمّل نفسه مسؤولية ما أصاب سكّان الشرقية، ولكنّ عزّ عليه الكرسي الذي يشتاق اليه.

مضى أكثر من عامين على تولّي سلمان الحكم، وسوف تحلّ علينا الشهر القادم الذكرى السنوية الأولى لإعلان الرؤية السعودية 2030، وتحديداً في 25 إبريل 2016.

لو كان هناك برلمان منتخب كامل الصلاحيات، وليس معيّناً ومشلولاً كما هو مجلس الشورى..

ولو كانت هناك سلطة قضائية مستقلة ونزيهة وليست فاسدة ومرتهنة للملك ولوزارة الداخلية..

ولو كان هناك إعلام حر وليس تابعاً وبوقاً لحكّام آل سعود..

ولو كان هناك مجتمع مدني يعمل في فضاء مفتوح ومتحرر من كل قيود السلطة..

إذن، لأرغم ابن الملك محمد بن سلمان على المثول أمام الشعب لتقديم مطالعة دقيقة وتفصيلية لما أنجزه خلال عام، ولخضع لمساءلة البرلمان والقضاء على الهدر المالي الكبير، والذي كشف عنه الخبير الاقتصادي حمزة السالم بقوله أن تريليون ومائة مليار أهدرت في غضون 18 شهراً.

هل من أجاب عن سؤال السالم؟ وهل من قدّم معطيات مضادة لما استعرضه في مقالته البحثية في خريف العام الماضي؟

وهل يعقل بأن دولة تريد أن تخوض غمار الاستثمار على مستوى عالمي، أن يتراجع معدل صادراتها بنسبة 52 بالمئة بين 2012 ـ 2016، فقد كان حجم الصادرات يقدّر بـ 388 مليار دولار، فيما انخفضت الى 205 مليار دولار. وكذلك الحال بالنسبة للواردات التي تراجعت بمستويات مماثلة.

ليست المشكلة أن تكون لديك رؤية وتفشل في تحقيقها، ولكن المشكلة كل المشكلة حين تكون الرؤية عمياء من بدياتها، وغير علمية، وحتى بعد أن تكتشف مبكّراً أنك لم توفّر شروط نجاح الرؤية، فإنك تصرّ على السير حتى النهاية حتى لو ارتطمت بجبل من المشاكل.

يدرك غالبية المواطنين بأن ابن سلمان يريد تسويق نفسه للعرش، سابقاً ولي العهد محمد بن نايف، عبر مشاريع عسكرية كحربه على اليمن، وأخرى اقتصادية عبر محاولة تحقيق منجز اقتصادي نوعي. ولكن النتيجة في كل المحاولات التي قام بها هي صفر، ما يجعل حلمه بتولي العرش يمرّ عبر القوة العسكرية ليس إلا.

الفشل الذي يعاني منه النظام السعودي ليس سوى تظهير لأزمة رؤية، فهو يسير في الاقتصاد، كما في السياسة، وكما في الحرب، والسياسة الخارجية على غير بصيرة. عهد سلمان كما لو أنه افتتاحي، يجرّب ويخطأ، ويعيد الكرّة ويخطأ، ويواصل التجارب والأخطاء، وكأنه بلا سوابق، ولا ذاكرة، ولا مرجعية.

مطالعة سريعة في مجمل المشاريع التي دخل فيها سلمان ونجله منذ تشكيل تحالف عربي تحت قيادته لشن عدوان على اليمن عشية السادس والعشرين من مارس 2015.

وبعد مرور عامين على العدوان لم يتحقق سوى الدمار والمجاعة والتخريب الأعمى في اليمن، وفي المقابل فشل عسكري بمستوى فضيحة لدى النظام السعودي.

وفي منتصف 2016 أعاد سلمان ونجله الطائش الكرّة وأعلن عن تشكيل التحالف الاسلامي العسكري لمحاربة الارهاب، وكان تحالفاً كارتونياً، ليس فيه ما يستحق سوى الاستعراض الفارغ للقوة الوهمية.

أعقب ذلك محاولات تشكيل أحلاف على قاعدة طائفية ضد ايران، تضم تركيا ومصر وباكستان وحتى اندونيسيا وماليزيا.

وحين فشلت المحاولة، اخترعوا حلف ناتو عربي يشارك فيه الكيان الاسرائيلي، وترعاه إدارة دونالد ترامب.

اليست هذه المعطيات وغيرها اكثر من دليل دامغ على أن الدولة السعودية، هي بالفعل (دولة العمى)؟.

الصفحة السابقة