مناهج التربية الوطنية لا تعلّم وطنية ولا ترعى حقوقاً وتغلّب الفئوية النجدية

عقم النموذج أم الأداء العقيم؟

فشل الدولة السعودية

الحلقة الثانية

سعدالشريف

حاول عبد العزيز، وتالياً أبناؤه الملوك، التأكيد على خاصيّة امتلاك واحتكار الدولة للعنف، ومنعت في سياق تأكيد هذه الخاصية ظهور أي قوة يمكن أن تحدث تغييراً طفيفاً أو جوهرياً في امتياز أسرة آل سعود بوصفها المالك الحصري للعنف.

كان استعراض القوة أمام الحركات المطلبية التي بدأت منذ إعلان الدولة السعودية، وتظهّرت بصورة منظّمة في الخمسينيات مع مطالب العمال في شركة أرامكو، وتأييد حركة التحرر الناصرية في السيتينيات، وحركة جهيمان العتيبي في نوفمبر 1979 حتى بعد زوال الخطر الأمني الذي شكّلته بعد استعادة السيطرة على الحرم المكي ومقتل قادتها، واعتقال أغلب كوادرها، وانتفاضة المنطقة الشرقية في ديسمبر 1979 رغم كونها مطلبية وسلمية، وتالياً تيار الصحوة في مطلع التسيعينيات، وأخيراً الاستخدام المفرط للقوة ضد الحراك المطلبي في المنطقة الشرقية الذي بدأ في فبراير 2011، والاستعراضات المتكررة للقوة العسكرية، بما فيها اجتياح مدينة العوامية بصورة متكرّرة بحجة ملاحقة مطلوبين، ووضع نقاط تفتيش عند مداخل المدن والطرق السريعة وحتى داخل الأحياء.. كان كل هذا، يمثّل في مجمله خط سير واحد لناحية إثبات قدرة الدولة على النجاح في استعمال العنف وليس شيئاً آخر، بما في ذلك انتاج حلول لمشكلات جوهرية، تتعلق بعلاقة المجتمع بالسلطة أو تحقيق تطلعات المواطنين.

إن طريقة العلاج الموحدّة لتلك الوقائع تشي بتصوّر موروث لدى العائلة المالكة، مفاده أن عنف الدولة وحده الكفيل بالحفاظ على وحدتها واستقرارها، وليس التعاقد الحر والتوافق بين المكوّنات السكّانية. إن اللجوء الى العنف ابتداءً يفصح عن المحرّك الغريزي الأولي لدى أهل الحكم، محرّك سوف يبقى قائماً طالما أن الدولة لم تحدث تغييراً في مصادر مشروعيتها، ولا في رؤية الأسرة المالكة لذاتها وللشعب الذي تحكمه.

ما قام به عبد العزيز منذ اعلان نفسه ملكاً على المملكة السعودية في 23 سبتمبر 1932، كان تفتيتاً لمصادر القوة الكامنة الفعلية والممكنة في المجتمع. فقد أبطل مفعول الميول البدائية لدى القبائل في الاحتكام الى السيف في تسوية خصوماتها، وعليه أصبح عبد العزيز رمزاً للدولة، ومرجعاً لها، وناظماً لخصوماتها وأيضاً لمصالحها، وبات هو من يدير شبكة القبائل عبر ربطها بمنظومة مصالح ثابتة في هيئة «شرهات» شهرية او سنوية او دورية، يقدّمها لزعماء القبائل، بهدف ربط مصيرهم بالدولة، وهذا من شأنه خلق مبرر الذود عنها وتعزيز الرابطة معها، كونها المصدر الحيوي والوحيد لضمان مصالح القبائل.

في وجه آخر، فإن تعزيز الرابطة بين الملك وزعماء القبائل من شأنه إحباط الميول الفطرية نحو العنف لديهم، وقد راجت أقوال عن ترويض نزعة التمرد لدى القبائل عبر إشباعها الدائم مثل (كل طير يشبع بمخلابه).. كناية عن الاعتماد على النفس في طلب الرزق، وتأكيد مفهوم الحرية التي فيها عزّة وكرامة الرجل. ويقترب من ذلك المثل القائل: (من شرب بيد غيره، مات من الضمى والماء زلالي).

إن أخطر ما تخشاه أسرة آل سعود هو نشوء ما يطلق عليه بـ «القبلية السياسية»، بأن تتحول القبيلة الى كائن سياسي يهدّد كيانية الدولة، ويجعل منها مرجعاً نهائياً لأفرادها، وقد تتطوّر في مرحلة لاحقة فتصبح مشروعاً مناهضاً للدولة، كبنية بديلة أو مضادة لتتحول الى مصدر زعزعة لكيانية الدولة وبنيتها. وتأخذ المشكلة مساراً أشد خطورة حين تبني قبيلة ما تحالفاً مع قبيلة أخرى خارج رعاية الدولة وربما على النقيض مع مصالحها.

لقد تنبّهت العائلة المالكة الى بزوغ الهويات الابتدائية في مرحلة ضعف القدرة الرعوية للدولة، لا سيما منذ تسعينيات القرن الماضي، فاضطرت الى إقرار مادة «التربية الوطنية» في عام 1996/97 بهدف «تنمية الولاء للجماعة (الوطن) وتعزيز سلوك المواطنة، كما يحافظ على الهوية والخصوصية السعودية..»(1).

وجاء في تعريف التربية الوطنية بأنها «عملية مقصودة لتنمية العاطفة الإيجابية في نفوس الناشئة والشباب نحو وطنهم ليزدادوا اعتزازاً به وحباً له، مما يدفعهم للذود عن حياضه، والحفاظ على مكتسباته، والإسهام الإيجابي في نهضته المعاصرة أياً كان موقعهم»(2).

لتحقيق الهدف، أقرّت وزارة التربية والتعليم مادة التربية الوطنية في المدارس الرسمية. وحدّد وزير التربية والتعليم الأسبق محمد أحمد الرشيد ثلاثة مسوغات رئيسة وراء إقرار المادة وهي كونها: ضرورة وطنية، وضرورة إجتماعية، وضرورة دولية(3).

ما يؤدي الى فشل الاهداف من وراء إقرار مادة التربية الوطنية، هو توظيفها لخدمة هدف غير تربوي وغير وطني، حيث جرى العمل منذ المسودات الأولى للمادة على تعزيز مفهوم الولاء للسلطة وللعائلة المالكة على وجه الخصوص. فقد بتنا أمام نص ديني بغايات سياسية يبتغي ربط الطلاّب بالدولة عبر سردية الإنجازات الاقتصادية والتنموية والعمرانية، ولكن النتيجة، في نهاية المطاف، إخفاق في صوغ ذاكرة وطنية مشتركة كأحد مداميك التربية والهوية.

وزاد الطين بلة، إن المقاربة الدينية، والسلفية بوجه خاص، لموضوع التربية الوطنية أفقدها هويتها، وتالياً وظيفتها، إذ بات الحديث على طريقة سليمان الحقيل، استاذ التربية في جامعة محمد بن سعود، بربط الأمة بعقيدتها، معلّلاً ذلك أن التربية الوطنية الحديثة تتعارض مع الإنتماء الى أمة الاسلام(4). يستكمل مقاربته في التربية الوطنية، فيضيف إليها بعداً مناطقياً يؤكّد نزعة الوصاية النجدّية وتفوقها على بقية المناطق، فمنها يبدأ تاريخ الوطن وذاكرته بقيام تحالف الامير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفي ضوء المعارك التي خاضها قوات التحالف السعودي ـ الوهابي يتولّد مفهوم الوطن، وعلى أساسه نكون أمام عنف شرعي مزعوم في مقابل أعداء غير شرعيين يجوز احتلال مناطقهم، واستباحة ممتلكاتهم وأعراضهم.

في مادة التربية الوطنية، وللعجب، يتم تلقين الطلاّب في أرجاء المملكة المؤسسة على الاستخدام المفرط للعنف، برواية من صنع الغالب، المحتكر لحق استخدام العنف، إذ يتحدث بلغة مناطقية بعد مرور أكثر من نصف قرن على قيام الدولة السعودية فيكتب: (لكن النجديين، لم يقنطوا من رحمة الله، ولم ييأس آل سعود.. واستطاع تركي بن عبد الله أن يكسر شوكة الطغاة وينازل أعداء الوطن، ويطهّر الأرض من دنس الإحتلال، وأن يعيد لنجد وحدتها وكرامتها بعد الفوضى والتفرق والإنحلال)(5). ذلك كله، ولا زلنا في محضر مادة للتربية الوطنية، وإذ بها تسرد تاريخ سيطرة نجد على بقية المناطق.

لم تكن الفقرة نشازاً في سردية التربية الوطنية، إذ أعاد الحقيل تأكيدها مرة تلو أخرى، فتحدث مثلاً عن «حبّ أهل نجد للبيت السعودي وتقديرهم له، ولولا هذا الحب والتقدير لما نجح»، ويقول في مكان آخر «لقد جرّب أهل نجد أنواعاً منوّعة من نظم الحكم قبل العهد السعودي.. لذا لم يتردّدوا في نصر الراية السعودية.. ودفعوا ثمنها غالياً، ودماءً زكيّة بذلوها في سبيل نجد، فرفعوا شأنها وعظموا قدرها، فأحبّتهم وناصرتهم»(6).

ثمة ما هو ثاوٍ في تعبيرات مثقفي نجد المقرّبين من السلطة تبطن إيحاءات من نوع أنا الغالب/ المسيطر/ مالك الحق والحقيقة حيث احتجاب الآخر عن رؤية الغالب، وانحصارها في الذات ومتوالياتها. وهنا يصبح الحق حصرياً في الذات دون سواها، بلا شريك أو نظير.

يكتب الناقد عبد الله الغذامي في 18 نوفمبر 2015 في هاشتاق (#استشهاد_رجلي_أمن_بالعوامية): «من يقتل رجال أمننا فهو يعلن الحرب علينا كلنا». لم يكترث الغذامي للتنبيه بوقوع الحادثة عند نقطة تفتيش على مقربة من مدينة سيهات وعلى الطريق السريع المؤدّي الى مدينة الجبيل، ولا صلة مؤكّدة للعوامية في الحادث. ولكن قبول الرواية المضادة يقوّض ليس رواية في حادثة، بل يزعزع العقل النمطي الذي تشكّل على أساس ثنائية التفرّد بالخير، والحق، والتميّز، في مقابل الشر، والباطل، والانحطاط الذي عليه الآخر.. هو في نهاية المطاف تبرير غير مباشر لاستخدام العنف واحتكاره، ولذلك يسقط من الحساب عشرات الضحايا الذين سقطوا في مسيرات سلمية منذ بدء الحراك السلمي في محافظة القطيف في شباط (فبراير) 2011، وبالتأكيد لن يتذكّر الغذامي إسماً واحداً منهم، بل قد يستنكر سقوطهم برصاص عشوائي وقتل عمدي، وسوف يصوغ رواية أخرى لتسويغ قتلهم بأنهم سقطوا في مواجهات مسلّحة، وأن ايران قامت بتهريب شحنات أسلحة لمواجهة رجال الأمن، وأن مؤامرة ايرانية صفوية بمشاركة دول وأحزاب طائفية تقف وراء هذه المواجهات! أليست هذه هي الرواية المتداولة في الاعلام الرسمي؟!.

في الخلاصات، وجّه وزير التربية والتعليم الأسبق محمد الرشيد انتقاداً لمادة التربية الوطنية شكلاً ومضموناً، وعبّر عن عدم رضاه عن نتائج تدريس المادة، وأنها لم تحقق الغاية لافتاً الى «أن طريقة التدريس وكذلك منهج المادة ليس هو الذي نريد ونتطلع اليه، ولكن غرسنا هذا المفهوم ونسعى الى تطوير المادة وتحديثها(7).

تأكد فشل النتائج في كلام ولي العهد، حينذاك عبد الله، الملك لاحقاً، حول غياب حب الوطن لدى الطلاّب، وتساءل في لقاء مع مسؤولي التعليم في تشرين الأول (أكتوبر) 2004 عن ضعف الإحساس بالوطن لدى التلاميذ، وعن سر غياب حب الوطن. وقد استمع لشكاوى وطلبات مسؤولي التعليم، وعلّق «ما سمعت شيء، وهو غرس حب الوطن في أبنائكم التلاميذ.. ما سمعت هذه منكم كلكم.. سمعت مطالب فقط، وهذه ـ أي حب الوطن ـ أهم شيء»(8).

يمكن المجادلة بأن العقد الأول من الألفية الثالثة شهد فحصاً علنياً للميول الحقيقية للأفراد، في ظل انتعاش الهويات الفرعية القبلية والمناطقية والمذهبية. لا غرو أن ترعرع مفاهيم الولاء والانتماء والهوية باهتمام مضاعف في تلك السنوات يغذي الحاجة لمزيد من البحث في تجربة الدولة السعودية بكامل حمولتها.

بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني في 23 سبتمبر سنة 2009، بدا أن شعوراً متزايداً بتضارب الولاءات يفرض نفسه في الواقع المجتمعي، ما تطلب استنفاراً من جهات حكومية وأمنية معنية بالأمن الفكري لإطلاق دعوة تقوم على فك الاشتباك بين الولاءات الفرعية والكلية(9).

كل ما سبق يعكس عقلية السلطة وليس الدولة، التي تغمرها نزوعات الأقلوية/ الفئوية والخاصة، ويشي بالجذور التأسيسية للكيان، وبالتصوّرات الأولية التي حملها الجيل المؤسس للدولة، عن طريق تثبيت نفسه كقوة قاهرة وقادرة على صنع المعادلات، في مقابل الجماعات الأخرى (قبائل، عوائل أو غيرها من تشكيلات إجتماعية) التي يتم ترويض ميولها نحو تحقيق الذات بوسائل سلميّة أو عنفية. فتلك القبائل التي حاربت الملك عبد العزيز (مطير، عتيببة، حرب والعجمان، وشمّر)، كفّت عن خصومتها له حين دخلت في شبكة المصالح التي أقامها هو بعد حسم المعارك في الداخل، وتنصيب نفسه ملكاً مطلقاً على أجزاء شاسعة من الجزيرة العربية.

ولكن ثمة مشكلة أخرى برزت فور سيطرة عبد العزيز على المناطق التي احتلها بقوات عسكرية تابعة له، وهي افتقاره للفريق الإداري عدداً وعدّة يكون قادراً على تسيير شؤون تلك المناطق وربطها بالمركز. ولذلك، لجأ في البداية الى التقاليد السائدة في إدارة المناطق وعقد اتفاقاً معها، وكان يركّز على موقعين أساسيين: القاضي والعمدة، وكان يخضع المرشحين لهذين المنصبين لمعايير خاصة، تقوم على الإنتماء لعوائل كبيرة وذات سطوة إجتماعية معنوية ومادية، يعملون على تثبيت أركان الدولة ويمدّونها بالعون وإن لم يكتسبوا صفة رسمية بالمعنى الوظيفي للكلمة، أي إعادة انتاج البنية القبلية الأبوية في الدولة، وهذا ما كان تقوم به طبقة الوجهاء لدى الشيعة، وكبار الأسر الحجازية، وكذلك رؤساء القبائل في الوسط والجنوب والشمال.

 
ابن سعود أقام دولة نجدية أقلوية بهوية نجدية ومذهب وهابي وثقافة مناطقية

لافتقاره للقدرة العملانية واللوجستية، لجأ عبد العزيز الى البنى المجتمعية القائمة وتعامل معها لحاجته إليها، فمكّن من أمن منها، وقبل الإنضواء في منظومته البيروقراطية، فأضافوا الى قوتهم الاجتماعية بحكم البنية البطركية القائمة للمجتمعات القائمة في أغلب مناطق الجزيرة العربية، قوة الدولة التي يمثّلونها، فأثروا مالياً، ونفذوا اجتماعياً.. وقد استغلتهم الحكومة في أوقات الإضطراب السياسي والأمني كوسطاء لإيصال رسائل السلطة المركزية، وفي الغالب وعيدها وتهديداتها.

ومع تمدّد المجال الرسمي، نتيجة تسارع وتيرة التجنيد لعناصر في الأجهزة الأمنية والبيروقراطية عموماً، تناقصت سلطة العمد والقضاة، فكانت الدولة تؤكّد حضورها عبر شرطتها وموظفيها المباشرين دون واسطة من السكّان المحليين. وهنا نقف أمام رواية أخرى لشكل الدولة التي أخذت في التبلور، إذ كانت السلطة تنزع الى تأكيد تسلّطها (authoritarianism) وليس هيمنتها (hegemony)، وفق المفهوم الغرامشي.

لا شك أن شغف عبد العزيز ببناء كيان يحمل إسم أسرته لا يدخله في تاريخ بناة الأوطان، لأن تلك مهمة أخرى لا تتطابق مع الأدوات ولا الاستراتيجيات التي اعتمدها منذ بداية مشروع إقامة الكيان. ويمكن القطع، بأن عبد العزيز ومن كان قبله لم يحملوا فكرة واضحة عن الدولة الوطنية وما تنطوي عليه من مفاهيم الشراكة، وتقاسم السلطة، وعدالة توزيع الثروة، والتمثيل المتكافىء، وحكم القانون. من اللافت أن لا أحد سأل عن غياب دستور للدولة السعودية منذ الاعلان عن قيامها في 1932، وإن أبناءه الذين ردّدوا عبارة «دستورنا القرآن» بطريقة مبتذلة، يدركون أن القرآن لا يأتي على تفاصيل إدارة الحكم وتنظيم العلاقة بيين الحاكم والمحكوم.

إرتبطت الدولة في إدراك الملوك السعوديين بالأمن، فكانوا يتمسّكون به كمنجز سياسي ومصدر لمشروعية حكمهم. ولذلك، كانوا يردّدون على الدوام بأن لولاهم لما توقّفت القبائل عن شن الغارات على المناطق الأخرى، وأنهم من خضّد شوكة القبائل، وعطّل غريزة الغزو والنهب والسلب. وعليه هم من جلب الأمن للناس، برغم من أنهم أيضاً من قتل آباءهم وأجدادهم منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين. هو المنطق الذي يسمح للقوي تبرير سيطرته على من شارك معهم في استعمال العنف ثم خلص الى احتكاره لنفسه بعد ان قضى على منافسيه من داخل معسكره، كما حصل مع الإخوان ـ إخوان من طاع الله. وطالما أن ابن سعود وأبناءه من بعده يقدّمون ما يصفه فريديك لين خدمة الحماية، فذلك يعطيهم الحق في الحكم ويسبغ عليهم شرعية لقاء هذه الخدمة.

يفرّق لين بين نوعين من العلاقات القائمة على منافع الحماية، للتمييز بين مشروعين:

الأول: مشروع ينتج الحماية وذلك يطلق عليه بحكومات.

الثاني: مشروع ينتج بضائع وخدمات أخرى ويدفع للحكومات طلباً للحماية(10).

وبرغم من أن لين يؤرّخ لتجربة أوروبا وعلاقة الحكومات بالتجّار والعلاقة النفعية المتبادلة القائمة على خدمات الحماية، فإن الحكّام السعوديين لم يكفّوا عن تكريس هذا المفهوم مع المحكومين ومع التجّار بدرجة أساسية الذين يدفعون ثمن الحماية بأشكال مختلفة، شاؤوا ذلك أم أبوا. وبحسب لين فإن مجرد احتكار الحكومات للعنف يمنحها الحق في مطالبة من يتمتعون بالحماية أو بمعنى آخر من لم يطالهم العنف بدفع ثمن ذلك. هنا تبدو المعادلة النفعية أن الحكومات تقبض ثمن الحماية من التجّار في مقابل مصادر التهديد التي يواجهونها في الداخل (العدوان من الرعية أو منافسيهم في المهنة) والخارج (عبر توفير تسهيلات تجارية بالنفاذ الى الأسواق الخارجية أو الحصول على ضمانات حماية من الدولة إزاء الخصوم والمنافسين الخارجيين)، وهم يقبضون من الناس ثمن الخدمات التي يقدّمونها بدعم من الحكومات، والحكومات والتجّار يحصلون على ريع مشترك نتيجة المنافع المتبادلة القائمة على الحماية مدفوعة الأجر.

لمزيد من الشرح الضروري ذي الصلة بموضوعنا نضيف: لقد تبدّل مفهوم الدولة منذ القرن الثامن عشر، إذ استبدلت اليابسة بالماء كمكوّن جوهري في الدولة. كانت الهيمنة على طرق البحار دليل القوة، ورمزاَ للسيادة القومية، ما جعل القوى الكبرى حتى ذلك القرن دولاً بحرية (بحسب رصد فرينارد برادل: إمبراطورية البندقية، إمبراطورية جنوة، أنتوريب في اسبانيا، أمستردام في هولنده، لندن في انجلترا، ونيويورك في الولايات المتحدة)(11). وكانت البحار مسرح عمليات عسكرية دائمة فيما بينها، بل وساحة مواجهة لامتحان قدرة الدول على الصمود والمواجهة أمام الأخطار المحدقة بها من قبل القوى الأخرى، فإن الأرض ـ التراب بدأت تحتل مكان الماء ـ البحر في مفهوم الدولة حتى باتت هي ثالث ثلاثة: الأرض، والشعب، والقانون.

من المفارقات، أن التحالف السعودي الوهابي دخل حيز التنفيذ العملياتي في منتصف القرن الثامن عشر على أساس التمدّد الترابي/ الأرضي، لأنه ينسجم مع طبيعة التحالف نفسه الذي نشأ في منطقة صحراوية ليست متاخمة للماء من أي جوانبها، وأن تجارب الصراع المسلّح بين قبائلها كان دائماً يحوم حول الأرض بكامل حمولتها (الماء، العشب، المرعى، المسكن).

لم يخض عبد العزيز ولا أسلافه حروباً بحرية، وليس من بين قواته من لديه خبرة في المواجهات البحرية. ولكن، أولى عبد العزيز عناية فائقة لأن يكون له سيادة على الطرق البحرية لتأمين احتياجاته من المؤن من الهند والعراق وغيرها، وكان يستعين بتجّار نجديين يعيشون في الخليج، مثل القصيبي في البحرين لتوفير الاحتياجات الاساسية من رز وشاي وطحين وسكر وغيرها.

لم يكن يملك عبد العزيز بنية تحتية بحرية، وكان يعتمد بشكل شبه كامل على كل ما له صلة باليابسة من قوات أو نقل بري، على بدائيته، لنقل المؤن والبضائع. أما النقل البحري بكامل مستلزماته بما في ذلك الحماية، أي حماية طرق التجارة والبضائع، فكان يستعين بقوى أخرى، دولية لها حضور إقليمي مثل بريطانيا..

حكم آل سعود بلداً شاسعاً، ولكنه متباعد جغرافياً ومنقسم مجتمعياً، وذي تعداد سكني قليل، ولذلك كانت الدولة تنمو بيروقراطياً تدريجاً مع زيادة وتيرة التواصل الجغرافي بين المناطق والسكان. لم تواجه الدولة السعودية تهديدات كبيرة داخلية ولا حتى خارجية، فكانت تعتمد على الدعم العسكري والأمني الأميركي، فكان البنتاغون مسؤولاً عن تطوير مؤسسات الجيش السعودي، وكانت وكالة الاستخبارات المركزية سي آي أيه مسؤؤولة عن جهاز الاستخبارات العامة. لم يتطوّر الجيش النظامي تبعاً لتزايد حاجات الدولة ومؤسساتها البيروقراطية، بل بقي جهازاً ضئيل الفعالية السياسية محلياً والعسكرية خارجياً. وكان الإعتماد في الغالب على عناصر من الخارج. في حرب اليمن بين الجمهوريين والملكيين سنة 1962، لم يشارك الجيش السعودي في القتال المباشر مع القوات المصريّة، بل جرى الاعتماد على مقاتلين يمنيين، ولذلك لم يرد ذكر أسماء عسكريين سعوديين قتلوا في تلك الحرب رغم استمرارها لسنوات.

أما فيما يتعلق ببناء الدولة (في معناه الضيق كتحييدٍ أو القضاء على الخصوم المحليين لأولئك الذين يحكمون الدولة)، فإن المنطقة المأهولة باقطاعيين عظام أو جماعات دينية متمايزة تكلّف المحتلّ تكلفة أعلى من منطقة تكون فيها القوة مفتتة أو تتسم ثقافتها بالتجانس. السويد المتجانسة والمفككة وذات العدد السكاني الصغير والتي امتازت بأجهزة حكم فعالة تعطينا مثالًا لهذه الحالة.

إذا صح هذا التحليل فستكون لدينا نتيجتان ضمنيتان مهمتان فيما يتعلق بتطور الدول القومية. الأول، أن المقاومة الشعبية لصناعة الحرب وبناء الدولة صنعت فرقًا. عندما كان الناس العاديون يقاومون بشراسة فإن السلطات كانت تقدم التنازلات: ضمانات للحقوق، ومؤسسات تمثيل ومحاكم استئناف. هذه التنازلات بدورها قيدت المسارات اللاحقة لبناء الدولة وصناعة الحرب.

بالنسبة للدولة السعودية التي لم تولد مستقلة منذ النشأة، أي لم تحقق في ذاتها شروط الولادة الطبيعية للدول الوطنية، وإنما رهنت وجودها وتماسكها لمبدأ الحماية، البريطانية ابتداءً والاميركية تالياً، فإن المؤسسات الأمنية والعسكرية التي رافقت تطوّر الدولة لم تتأسس على خلاصة فرق القوة بين الحكّام والمحكومين، أي وفق مقتضيات التعاقد المشروط بين الطرفين، وإنما كانت مكفولة بخطة الرعاية الخارجية بما تمليه من تزويد بالتجهيزات الضرورية العسكرية، والتدريب، والتسليح، لتأمين التفوق على باقي التنظيمات المحلية بأشكالها كافة، أي لكي تحقق في ذاتها عنصرالهيمنة (hegemony).

إن مجرد امتلاك الدولة لمصادر دخل كبيرة لا يحيلها كياناً مستقلاً. فواحدة من أخطر عيوب الاقتصاد الريعي، وإن بلغ مستوى تراكمياً إسطورياً، لا يفضي بالضرورة الى مآثر في مجال التنمية، ولا يحررها من التبعية. أكثر من ذلك: إن السياسة المتبعة في مجال استخدام الريع تعزّز التبعية بدل أن تلغيها(12).

علي الصعيد الديمغرافي، عمّقت غالبية دول الخليج ظروف تبعيتها، ذاك أنها تخضع أكثر فأكثر ليد عاملة موصوفة آتية من الخارج. وفي اختيارها الوظائف غير المنتجة كأولوية تخلّت النخبة السعودية عن المراكز الأهم لمهندسين وتقنيين جاؤوا من أمكنة أخرى وتحديدا من العالم العربي. وباستثناء قلة أظهرت التحقيقات التي أجريت مع هذه الشريحة المهاجرة أن انتماءها الى العالم العربي لا يأتي في المرتبة الأولى، بل على العكس فالفئات الأكثر مردوداً والأكثر كفاية داخل هذه الشريحة تحدد هويتها أولاً، أما بالنسبة لمنشآتها، أو لنظام من القيم تسيطر عليه نزعة العمل، والنزعة التكنوقراطية، وحتى الكوسموبوليتية ذات التوجه العلماني. بالاجمال، يساعد المنطق المجتمعي لاقتصاد الريع على تنشئة النخب انطلاقاً من مراجع ثقافية غربية النمط، ويسرّع من اندماجها في شبكات مجتمعية يسيطر عليها، بصورة خاصة، العديد من الأندية حيث يتم بالدرجة الأولى الاخلاص لغرب كانوا قد تابعوا فيه إعدادهم الجامعي(13).

إن العولمة بآثارها الثقافية والاجتماعية والتقنية أفضت الى تآكل صلاحية الدول الشمولية. حتى الولايات المتحدة التي أيقنت ذات غفلة تاريخية بأنها قادرة على إدارة حرب ناعمة ضد خصومها الكبار والصغار، فاقت على صدمة بطعم الخديعة مع نتائج الانتخابات الرئاسية آواخر نوفمبر 2016، وتفوّق المرشح دونالد ترامب على منافسته، المكفولة حزبياً ومؤسسياّ وإعلامياً، هيلاري كلينتون. وجّهت المؤسسة (the establishment) أصابع الاتهام الى روسيا، وبدأ الأمر بتقرير لوكالة الاستخبارات المركزية سي آي أيه، ثم من الرئيس السابق باراك أوباما، بتوجيه تهمة القرصنة الالكترونية الروسية للانتخابات الأميركية وتحميل الرئيس فيلاديمير بوتين شخصياً بالتدخل لصالح ترامب(14).

هذا المثال يعني، من بين أمور أخرى، أن العالم لم يعد قابلاً للسيطرة، وأن من كان يعتقد بأنه قادر على الامساك بزمام العالم اكتشف بأنه مارس الخداع ضد ذاته؛ فقد تكاثرت مراكز الاستقطاب، وأن حزمة الانبثاثات الثقافية والاعلامية والديمغرافية العابرة للحدود بين الدول والقارات تبطن رسالة مدوّية بسقوط المفهوم الكلاسيكي للسيادة، وحتى الجيوسياسية تصبح ذات قيمة ضئيلة في ظل عالم متعدد الاقطاب ومتداخل.

في رأس أولويات الدولة ـ الوطنية، يأتي صهر الهويات الفرعية لناحية إنتاج هوية كليّة مشتركة، إذ ليس هناك دولة تولد مكتملة النمو وطنيّاً، وإن الروح المشتركة لا تتشكّل مع لحظة ميلاد الدولة، بل هناك مهمّة عاجلة واستراتيجية لرسم خطة الإدماج واسع النطاق لاستيعاب المكوّنات السكانية كافة في مركز السلطة. ولذلك، فإن الهوية الوطنية للدولة لا تكتمل الا في حال ترشيد الهويات الفرعية والتغلب على انبعاثاتها الثقافية والنفسية والإجتماعية والسياسية.

صحيح، إن الولاء للدولة لا يتحقق في ظل ولاءات أخرى فرعية نشطة، ولكن المشكلة تكمن في أن الدولة قد تتحوّل هي الأخرى الى مولّد لموجة ولاءات فرعية، نتيجة تغليب الطبقة الحاكمة لمكوّناتها الفرعية، الذي يجعل منها طرفاً مكافئاً لباقي الأطراف الفرعية، وقد تزيد عليها في كونها مالكة للقوة القادرة على تغليب ولائها الخاص وهويتها الفرعية على الولاء العام والهوية الوطنية الجامعة.

حين قرّر الملك عبد العزيز إقامة دولة وراثية، كرّس جهداً استثنائياً لبناء مجتمع او حاضنة لها. ولا يمكن لهذا المجتمع أن ينشأ من قبائل غير مستقرة، إذ كان مفهوم الدولة لدى عبد العزيز يقتصر على عنصر الأرض/ التراب. ولذلك، أدرك عبد العزيز أن فكرة المستوطنات (الهجر) كفيلة بتبديل حياة التنقل والترحال التي حكمت البدو وأن استقرارهم واشتغالهم في الزراعة سوف تربطهم بالأرض «وستوجد لدى سكانها كل الأسباب التي تجعلهم يؤيدون حكومة قوية ثابتة تمكنهم من الزراعة بسلام. وبهذه الطريقة يمكن القضاء على الفوضى التي كانت سائدة في الماضي. وكان ابن سعود يأمل أن يغرس عقيدة ابن عبد الوهاب في تلك الهجر حتى يرتبط ساكنوها به، لا برباط الرغبة المشتركة في السلم فقط، وإنما برباط العقيدة الدينية الجامعة أيضاً»(15).

لم تشهد المناطق الأخرى مجهودات مماثلة، فقد كان عبد العزيز يرى في نجد منطلقاً ومركزاً وحاضنة لدولة، فيما كان ينظر الى المناطق الأخرى بأنها خاضعة بالقوة لا تربطه بها سوى رابطة الهيمنة والسيطرة. في حقيقة الأمر أن التأهيل الكثيف لمجتمع نجد كان بهدف تمكينه من المناطق الأخرى، وكان في ذلك أول خلل في علاقة غير توافقية أو غير تعاقدية.

كان تصوّر عبد العزيز للدولة نجدياً بامتياز، فقبل استيلائه على الحجاز لم يكن له قناصل رسميون أو ممثلون دبلوماسيون في الدول الأجنبية. وكان التجار النجدّيون المستقرون في تلك الدول يعملون بصفتهم وكلاء له.. ومن يختاره منهم لا يتسلمون أجوراً على ما يقومون به من خدمات. لكنهم كانوا يكسبون بكونهم وكلاء الملك زيادة في مكانتهم الإجتماعية ومزايا في تعاملهم التجاري»(16). يصف مترجم الملك عبد العزيز ومستشاره الخاص محمد المانع طبيعة المجتمع النجدي “ولعل نجاح هذا النظام كان عائداً الى طبيعة الوشائج الموجودة في المجتمع النجدي، ذلك أن النجديين كلّهم يعتبرون أنفسهم جزءاً من أسرة كبيرة، ويظل بعضهم وفيّاً للبعض الآخر، خاصة إذا كانوا خارج بلادهم»(17).

ويذكر المانع من مشاهير وكلاء الملك من النجديين خارج بلادهم الشيخ فوزان السابق في القاهرة، وعبد الله باشا المنديل في بغداد والبصرة، والشيخ عبد الله النفيسي في الكويت، والشيخ عبد الله الفوزان في بومبي، والشيخ ابن ليلى في دمشق والشيخ عبد الرحمن القصيبي في البحرين» وهؤلاء كانوا أشبه بقناصل قبل أن يؤسس عبد العزيز خدمت قنصلية رسمية(18).

إن النزوع النجدي لدى عبد العزيز ليس منفصلاً عن نزوعه الشخصاني. ينقل المانع مشهداً يختزن رؤية ابن سعود للدولة بما نصّه: “حين استولى ابن سعود على الرياض سنة 1902 كان من الصدق أن يقال بأن خزينة الدولة كانت برمتها في أخراجه المعلّقة على ظهور إبله، ولم تتحسن الحالة المالية كثيراً طيلة العشرين سنة التالية لذلك”(19).

شخصنة الدولة ليست شيئاً آخر غير انعكاس للفهم الحقيقي لدى عبد العزيز عن الدولة. هذه الشخصنة التي تنعكس في تعامله مع ماليات الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية. في أحد الأيام رفض حمد بن سليمان، أخ وزير المالية، عبد الله بن سليمان، أن يدفع مبلغاً من المال إلى إحدى زوجات الملك عبد العزيز رغم أمره بذلك. فغضب الملك وأرسل اثنين من خدامه بسيارة، وأمرهما أن يأخذا حمد إلى تل بعيد عن المدينة ويتركاه هناك دون ماء أو طعام، وظل هناك يومين قبل أن يستطيع أخوه الحصول على إذن من الملك بإعادته(20).

ذهل عبد العزيز عن تطوير مشروع الدولة بما يتناسب وطبيعة التلاوين الإجتماعية والثقافية والدينية المتنوعة، واختار أن يبقي على تفوق العنصر النجدي وعلى الشخصنة التي رافقت الدولة السعودية بما جعل من الملك حاكماً مطلقاً وصانع القرار الأوحد.

إن فشل الدولة السعودية في أن تتحول الى مصهر (melting pot) للهويات الفرعية والولاءات الوسيطة، يعود، في جوهره وحقيقته، الى فشل الانتقال الى دولة وطنية على أساس مبدأ المواطنية كعاصم ومعيار لعلاقة المجتمع بالدولة والأفراد بالسلطة.

إن الركون الى مكوّن التراب كمبرر لخضوع الأفراد للدولة، بوصفه إطاراً جغرافياً كثيف الحضور والسطوة مع إغفال عناصر أخرى قانونية وثقافية يؤسس لأزمة طويلة الأمد بين المجتمع والدولة، إذ يرجح عامل الأرض/ الأقليم/ التراب على عوامل أخرى حاسمة، وإن لم تملك خاصية التحاكم. وهكذا، يتم تعريف الدول على ضوء حريمها الترابي، ولذلك اعتبرت السفارات والقنصليات جزءاً لا يتجزأ من ذلك الحريم.. وهو الحيز المكاني الذي تترجم عليه السلطة السياسية سيادة الدولة بكافة تعبيراتها الناعمة والصلبة.

يعرف ماكس فيبر الدولة في كتابه (الاقتصاد والمجتمع) بأنها: «مؤسسة ذات طابع مؤسساتي، تطبق إدارتها الأنظمة من منطلق احتكار الإكراه المادي الشرعي على إقليم معين». من منظور فيبر، تعد السيادة في مفهومها العام من أهم عناصر الفعل الجماعي. وأن الفعل الجماعي لا يدل على بنية سلطوية، ولكن السيادة تلعب لدى أغلب أنواع الفعل الجماعي دوراً حاسماً جداً(21).

ويضع فيبر السيادة في إطار الفعل التعاقدي الجمعي وينأى عن معنى السيطرة لتوضيح مفهوم السيادة. وقد أضاف فيبر الى النماذج الثلاثة الخالصة/ المحضة للسيادة الشرعية، فكرة رابعة حول المشروعية، وهذه الفكرة تقوم على إرادة المحكومين/ الرعية(22). ويأتي ذلك على حساب الصيغة القيادية لسوسيولوجيا السيادة، أي التحول من “مبايعة الحاكم الكاريزماتي الى الانتخاب الفعلي للحاكم” عن طريق المحكومين.

ويفرّق فيبر بين نماذج ثلاثه لسيادة المشروعية:

1ـ سيادة القوانين المعقلنة المتفق عليها أو المفروضة كما يعرضها نظام القضاء البيروقراطي في شكله الخالص داخل رابطة سيادة الدولة وحسن الكفاءات والدرجات الموزّعة بصفة هرمية، وهي التي تصدر الأحكام حسب القواعد/ قوانين نافذة المفعول ولا تخصع للتتغيير بل تفترض الطاعة/ الامتثال.

2ـ سيادة الماضي الأبدي الأصيل الذي يعتبر مقدّساً وثابتاً.

3 ـ السيادة الكاريزماتية. فالسيادة لا تتأسس هنا على قواعد مقننة قصد أهداف نبيلة، ولا على التقليد الذي يمنع المساس به، وإنما على خصال الحاكم الخارقة للعادة أو خادميه: مثل السحر والوحي أو البطولة. فالحق/ القانون والادارة هما غير معقلنين تماماً باعتبارهما مرتبطين بالخلق عن طريق الوحي أو ما يماثله. في مقابل التقليد، تتمثل سيادة النبي أو البطل في المبدأ التالي: “هذا جاء مكتوباً، غير أني أقول لكم. وعلى مدى التاريخ بأكمله يتأرجح التناقض بين هذين الشكلين من المشروعية: أي بين التقليد والكاريزماتية”.

الشكل الخالص لهذه السيادة يتمثل داخل المجال الخاص في الاقتصاد المنزلي لرب البيت، وفي المجال السياسي في السلطة الأبوية/ الاماراتية ودولة الأعيان، ويسير كل من الإدارة والقضاء داخل هذا النموذج حسب القواعد/ النواميس التقليدية التي ينظر اليها على أنها ثابتة ونافذ المفعول منذ الأزل. ليس أعضاء السيادة/ السيطرة في الاقتصاد المنزلي كما في السيادة السياسية رؤساء وموظفين في المعنى الجاري للكلمة، بل هم خدّام شخصيون أو أمناء شخصيون لرب البيت أو الأمير، فمفهوم الكفاءة غير معروف ويتم تعويضه عن طريق المجال الاقتصادي الخاص المتعدد جداً واللاعقلاني لبعض الأمناء والخدّام والقائم على دفع الامتيازات والمصالح.

وفق هذا الشرح الفلسفي لمفهوم السيادة لدى فيبر، يمكن التوقّف عند نقطة فارقة لأحد تفريعات السيادة من إطار الدولة الوطنية. فثمة إلتفاتة حاذقة ودقيقة لأزمة المواطنة في الغرب الديمقراطي والمشرق العربي الشمولي، حيث تكون أزمة المواطنة في أوروبا والولايات المتحدة انعكاساً للأزمات الاقتصادية أكثر من كونها تعبيراً عن أزمة الأطر السياسية الحديثة لهذه القوى الدولية، ولكن في العالم العربي هي تعبير مباشر عن أزمة المشروع الديمقراطي.

يرتكز هذا التمايز على مستويين للمواطنة: مواطنة تحتية ومواطنة فوقية. المواطنة بالمعنى الواسع والوظيفي والتي تشمل مجموعة من الممارسات المواطنية، تحديداً المشاركة في الحياة العامة للمدينة وللوطن عموماً معدومة في عالم العرب. ومن آيات هذه المشاركة بمضمونها التعاقدي، الانتخابات التي تجري تحت رعاية الحكومات وبتنظيم منها، أو غير تعاقدية مثل المبادرات الجمعية الأهلية مثل (الاحتجات الشعبية السلمية، مظاهرات)، أو الانتماء الى مؤسسات أهلية أو مهنية (نقابة، اتحاد عمالي)، وهذه التي يطلق عليه بـ «مواطنة تحتية»، وهي الغائبة عملياً في الحياة العامة للمواطنين العرب.

في المقابل، فإن ثمة مواطنة فوقية، وهي المواطنة الوحيدة المعترف بها عملياً ورسمياً في معظم الدول العربية لكونها مؤسسة من طرف قادة هذه الدول وتكاد تقتصر على من يرعى مصالحهم. تغدو المواطنة أكثر ثراء عندما ترتكز على فرد يتمتع بحقوق المواطنة المدنية المتعلّقة بالحريات الأساسية (حرية التعبير، المساواة أمام العدالة، حق الملكية)، والمواطنة السياسية المؤسسة على مبدأ المشاركة السياسية (حق التصويت، حق الترشح، حق التعيين في بعض الوظائف العامة، حق الحماية من الخارج)، المواطنة الاجتماعية والاقتصادية (الحق في الصحة، حق الحماية من البطالة، الحقوق النقابية)، والمواطنة الثقافية، وعندما ترعاها دولة تعترف بهوية المواطن وحقه في الاختلاف(23). وفق هذه العلائق التعاقدية تجعل من المواطنة شرطاً للشرعية ومصدر الديمقراطية، وهي الفعالية الاجتماعية والسياسية للحياة الديمقراطية(24).

يضعنا ما سبق مع النموذج المستورد للدولة، أي الدولة بما هي خلاصة تجربة حداثوية حيث أصبحت الدولة بنموذجها المكونن ترجمة لمجموعة من القيم الضمنية للحداثة السياسية، ومن أبرزها مأسسة السلطة بمعنى تسجيلها ضمن إطار عام وجماعي، يتجاوز الشخصية العرضية لمالكيه، اعتبار الدولة المحدد الوحيد لمجال السيادة، المصدر الوحيد لسن القوانين وإصدارها، المؤهلة وحدها لاستخدام وسائل الإكراه، وأخيراً تصور المواطنة على أنها صلة حصرية لا تتلاءم مع وجود ولاءات موازية أو منافسة.


المصادر

(1) التربية الوطنية في مدارس المملكة العربية السعودية: دراسة تحليلية مقارنة في ضوء التوجهات التربوية الحديثة..دراسة مقدمة للقاء السنوي الثالث عشر لقادة العمل التربوي الباحة ١٤٢٦ هـ، إعداد: د. راشد بن حسين العبد الكريم، د. صالح بن عبدالعزيز النصار، المقدّمة

(2) التربية الوطنية، دليل ارشادي، أنظر الرابط:

www.kau.edu.sa/Files/0008612/.../23032_التربيــــة%20الوطنــية

(3) محمد بن احمد الرشيد، تعليمنا إلى أين؟، مطابع العطار، الرياض، 1425هـ/2004، ص 97.

(4) أنظر: سليمان بن عبد الرحمن الحقيل، الوطنية ومتطلباتها في ضوء تعاليم الاسلام، مطابع الحميضي، الرياض، 2004

(5) سليمان بن عبد الرحمن الحقيل، في آفاق التربية الوطنية في المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، الرياض، 1414 هـ. ص 19

(6) المصدر السابق، ص 20

(7) الرشيد: التربية الوطنية لا ترضيني، صحيفة (اليوم) الصادرة بالدمام، 10 إبريل 2004

(8) فؤاد ابراهيم، النضال الشيعي في السعودية..مراجعة أولية، دار الملتقى، بيروت، الطبعة الأولى 2009، ص 23

(9) اليوم الوطني: (الانتماء الوطني).. ضرورة للحفاظ على الوحدة والإنجازات ومواجهة التحديات، تحقيق نايف آل زاحم، جريدة (الرياض)، 23 سبتمبر 2009، أنظر:

http://www.alriyadh.com/461404

(10) Fredreic C. Lane, Profits of Power, State Universtity of New York Press, Albany, 1979, p2

(11) Tilly, Charles “War Making and State Making as Organized Crime”, In: Bringing the State Back in (eds) P. Evans, D. Rueschemeyer and T Skocpol, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 1985, Page178

(12) برتران بادي، الدولة المستوردة، مصدر سابق، ص 60.

(13) برتران بادي، ص 60 ـ61

(14) White House says Vladimir Putin had direct role in hacking US election, the Guardian, 16 December 2016,

https://www.theguardian.com/world/2016/dec/15/white-house-putin-russia-hacking-us-election-trump

(15) محمد المانع، توحيد المملكة العربية السعودية، ترجمة عبد الله الصالح العثيمين، أبناء المرحوم محمد عبد الله المانع، الرياض، الطبعة الثانية 1415هـ، ص 110

(16) محمد المانع، توحيد المملكة.,,، ص 246

(17) المانع، المصدر نفسه

(18) المانع ص 246، 255

(19) المانع، ص 258

(20) المانع ص 263

(21) ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع، ترجمة محمد التركي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت أيار مايو 2015، ص 183

(22) ماكس فيبر، ص 762

(23) الدكتور سيد محمد ولد يب، الدولة واشكالية المواطنة.. قراءة في مفهوم المواطنة العربية، دار كنور المعرفة، عمان ـ الاردن،/ 2011، ص 15 ـ 16.

(24) الدكتور سيد محمد ولد يب، المصدر السابق، ص 17.

الصفحة السابقة