القمة الأمريكية الإسلامية في الرياض

قـمّــة الإستـتـبــاع!

محمد قستي

هل يعيد التاريخ نفسه؟ سؤال جدلي يتردد كثيرا على ألسنة المحللين وكتاباتهم، في محاولة لرصد التطورات التي تموج بها المجتمعات العربية الحديثة وربطها بأحداث تاريخية مشابهة.

البعض يرفض الفكرة، والبعض الاخر يعتقد ان الاحداث تتكرر فعلا انما بأشكال اخرى، وضمن معطيات مختلفة، ليبقى جوهر اللعبة هو ذاته، بعد ان يتلون بتطورات وشخصيات مختلفة، هي اشبه بالديكور الذي لا يغير من جوهر المسألة.

وعلى هذه القاعدة وامام محاولة قراءة ابعاد ودلالات الهجمة الاميركية الجديدة على المنطقة، التي تتوجها زيارة الرئيس الأمريكي ترامب الى الرياض، وانعقاد ثلاث قمم: خليجية، وعربية، واسلامية، تحت مظلّة ولي الأمر ترامب.. تستعيد الذاكرة سريعا محاولة اميركية سابقة لم يمض عليها الا واحد وعشرون عاما، وبالتحديد في مارس 1996، حين استدعت الادارة الاميركية عددا من زعماء المنطقة والعالم للمشاركة في قمة اطلقت عليه (قمة صانعي السلام)، ضمت عدداً كبيراً من المشاركين بلغ 29 دولة بجانب الدولتين الراعيتين لعملية السلام بالمنطقة وهما الولايات المتحدة وروسيا. وشاركت في القمة أطراف مباشرة في الصراع هي إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن، و12 دولة عربية أخرى هي مصر، والمغرب، وموريتانيا، وتونس، والجزائر، واليمن ودول مجلس التعاون الخليجي الست، فيما رفض كل من سوريا ولبنان المشاركة في هذه القمة.

وما اشبه الليلة بالبارحة، فها هي الولايات المتحدة تجدد هجومها على المنطقة مستعيدة اسلوبها القديم لحشد الانظمة في تحالف وهمي جديد، ضمن المشروع الاميركي الصهيوني المعد للمنطقة.

إختلافات شكلية

جوهر العملية والهدف منها، لم يتغير وان تغيرت اهدافه وشعاراته التكتيكية.. ومن اهم الاختلافات ذات الدلالة ان قمة شرم الشيخ كانت برئاسة حسني مبارك، الرئيس المصري الذي اضطلع بمهمة عراب المشروع الاميركي الصهيوني حينها.. وانعقدت بقيادة بيل كلينتون الزعيم الديمقراطي، الذي اعتبر تحقيق السلام في الشرق الاوسط جزءا من استراتيجية الولايات المتحدة للهيمنة على ثروات المنطقة، وتوسيع افق السوق العالمية امام مفهوم التجارة الحرة الرائج حينها، واسقاط ما تبقى من حواجز امام الشركات الاميركية العملاقة.

اما قمة الرياض، فقد استبدلت حسني مبارك بالملك سلمان بن عبد العزيز، والنظام السعودي يتحفز لتجديد مهمته بأن يكون وكيل المشروع الاميركي الاقليمي، والدافع نحو التطبيع مع الكيان الاسرائيلي خطوات الى الامام، ونافخ الروح في الانظمة الرجعية المتهالكة، لتشكل حزاما امني لاسرائيل وبوابة للقضاء على القضية الفلسطينية.

ومن الاختلافات السلبية بين القمتين، ان مصر التي قادت عملية السلام مع الكيان الصهيوني، تستند الى عمق تاريخي نضالي وجيش حارب المشروع الصهيوني لعدة عقود من الزمن، قدم خلالها اثمانا باهظة من التضحيات والشهداء والبطولات، ومجتمع مشبع بالشعارات القومية والتحررية التي تبناها في المرحلة الناصرية.

اما النظام السعودي فهو يقدم نفسه لقيادة المرحلة الراهنة بوجه كالح هو الاكثر رجعية وتخلفا، ليس في المنطقة وحسب، بل في العالم ايضا، اذ انه من الانظمة الدكتاتورية والمعادية للحريات والقيم الانسانية القليلة المتبقية في هذه المرحلة من التاريخ، والاسوأ من كل ذلك انه يستند الى قاعدة ثقافية مذهبية ونهج ديني تكفيري، يشيع العداء والكراهية للآخر، ويستسهل سفك الدماء.

لقد انتقل هذا النظام السعودي من مرحلة قمع شعبه، ومنع الحريات بكافة انواعها، واتهام اي دعوة للديمقراطية او المشاركة السياسية، بأنها معادل للكفر والزندقة، وتمزيق البنية الاجتماعية في الجزيرة العربية داخل اراضي الكيان السعودي بالنعرات المناطقية والعنصرية والمذهبية، واعتماد مفهوم الولاء للعائلة الحاكمة شرطا للمكانة الاجتماعية.. انتقل النظام السعودية من ممارسة هذه المفاهيم المغرقة في الرجعية والسلبية في الداخل السعودي، الى تعميمها على المنطقة والعالم، بحيث تنخرط السعودية بقيادة هذه العائلة في كافة الحروب الدامية والفتن التي تغرق دول المنطقة.

وامتدت يد هذا النظام الملكي للمشاركة في اي حرب اميركية في الدول الاسلامية، بدءا من الصومال وتقسيم السودان وحروب افغانستان والبوسنة، وامتداداتها من الازمات الذي يثيرها الارهاب التكفيري في نيجيريا وعموم افريقيا، وصولا الى الفيليبين وباكستان وماليزيا والشيشان. بل اننا لا نبالغ في القول ان اي تفجير ارهابي في العالم لا بد ان يكون فيه اصبع سعودي، وقد صار من المسلمات ان السؤال الاول لدى حصول اي عمل ارهابي في اوروبا واميركا ان تسأل الصحافة والاجهزة الامنية عن علاقة الارهابي المنفذ بالمملكة السعودية.

واذا كان المشروع الاميركي بقيادة كلينتون مبارك، قد قاد الأمة الى مسلسل من الكوارث التي لا تخفى، والتي اقر بها اصحاب المشروع انفسهم، فإن النسخة الجديدة من الاستراتيجية الاميركية تنذر بعواقب اكثر سوءا، واكثر تدميرا في عمق الثقافة والمجتعات الاسلامية والعربية، نظرا الى ما يتميز به النظام السعودي على صعيد نزعته الدموية المفرطة، وثقافته التكفيرية التي تبيح القتل لأتفه الاسباب، وتقسم الامة الى فسطاطين، تماما كما يفعل النظام الاميركي في اعتبار نفسه رأس معسكر الخير، والاخرين هم معسكر الشر، وهي الفرضية الموازية للشعار النازي والصهيوني في النظر الى العالم.

قبل واحد وعشرين عاما، اجتمع قادة تحدثوا عن الامل، وعن السلام والامن، وعن حلول لمشكلات المنطقة.. واضمروا استهداف المقاومة لضمان امن الكيان الصهيوني.

واليوم يستضيف ملك السعودية قمة الرياض الاميركية ـ الاسلامية، للحديث عن العداء والكراهية وتوسيع الحروب.. وهي تستهدف دولا وشعوبا واتباع مذاهب دينية.

عام 1996، رفع المؤتمرون شعار اقامة الدولة الفلسطينية الى جانب اسرائيل، وتنشيط التنمية في المنطقة.. واليوم تستضيف بلاد الحرمين بقيادة ال سعود، قمة تتجاهل اول القبلتين وثالث الحرمين، وتتجاهل معاناة شعب فلسطين اللاجئ، ومن هم تحت الاحتلال او في السجون.. وتجاهر بالمصالحة مع الكيان الصهيوني والتحالف معه ضد دول اسلامية.

في قمة شرم الشيخ دفع العرب ـ عن عمد ـ ثمن بضاعة أميركية صهيونية قبل أن يعاينوها أو يحصلوا عليها. فالثمن هو الالتزام بوقف الانتفاضة، أو بالأدق إنهاء المقاومة٬ ووصمه بالارهاب، أما البضاعة فهي مجرد كلمة (الدولة الفلسطينية).. تلك الدولة التي لم يعلن الأميركيون أو الصهاينة حدودا لها، ولم يسموا عاصمة لها٬ كما لم يكشفوا أي ملامح لتلك المولودة التي لم تولد حتى تاريخه.

اما اليوم فهم يتعهدون بتدمير بلدانهم، وتسليم ثرواتهم للاميركي والاسرائيلي، مقابل الحفاظ على عروشهم، وحتى بدون اي وعود بل مجرد احلام وامنيات.

في عام 1996 انعقدت في شرم الشيخ قمة عربية أميركية أوروبية، تقاطر فيها القادة والسياسيون لدعم شيمون بيريز في انتخابات ذلك العام، رداً على أعمال قامت بها المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية. وأقرت القمة يومها ما يسمى بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فاستغل بيريز هذا التفويض وارتكب مجزرة قانا في 18 إبريل 1996 والتي راح ضحيتها 102 من اللبنانيين.

واليوم يسعى اللوبي الصهيوني الاميركي للحصول على تفويض وتغطية لتقسيم سوريا والعراق وارتكاب المزيد من المجازر ضد شعوب المنطقة.

مفارقات ايجابية

الا ان ما يجب الا يغيب عن البال المفارقات التالية بين القمتين الأمريكتيين في شرم الشيخ والرياض:

اولا: الدور الروسي المتعاظم في المنطقة، فروسيا لم تعد جزءا من الكورس الذي يسير في الركب الاميركي، بل عادت لتشكل لاعبا اساسيا متمايزا، ودورها هو في كل المعايير، يحاول ان يوازن الدور الاميركي المتحيز للكيان الصهيوني، واعادة رسم خرائط الدول في المنطقة.

ثانيا: يومها كانت اميركا واسرائيل اقوى وكانت المقاومة اضعف.. والذي تغير هو أن التجربة الميدانية اكسبت محور المقاومة قدرات قتالية استطاعت كبح جماح تسونامي التغيير والفوضى الذي اطلقته واشنطن باسم الربيع العربي. وتمكنت قوى المقاومة ان تثبت النظام الجديد في العراق، وتمنع سقوط النظام في سوريا لمصلحة مجاميع قوى التكفير والارهاب، بعد ان انزلت اكثر من هزيمة بجيش الاحتلال الاسرائيلي في غزة ولبنان، واقامت في مواجهته توازنا للرعب يمنع اعتداءاته على لبنان خصوصا.

ثالثا: وخلال هذه المدة تحررت ايران من الحصار الدولي، وخرجت من عزلتها الاقتصادية بعد توقيع الاتفاق النووي مع مجموعة خمسة زائدا واحدا.. واستطاعت ان تطور ترسانتها العسكرية، وامتلاك قوة ردع حقيقية تجعل من اي اعتداء عليها مغامرة غير محسوبة النتائج. واكثر من ذلك، اكتسب النظام الايراني ثقة متزايدة في العالم بدوره الايجابي، كما وثقت ايران تحالفاتها الاقليمية والعالمية مع اصدقاء موثوقين، واصبحت جزءا من منظومة عالمية لمواجهة التغول الامبريالي الاميركي.

رابعا: في 1996 كانت انظمة الخليج اغنى واكثر استقرارا، وكانت شعوبها اكثر رضى وانشغالا بالتنمية والاستفادة من الثروة المتفجرة.. اليوم هي اضعف وامكاناته محدودة، وشعوبه اكثر وعيا وتطلعا للحرية والمشاركة السياسية واقامة دولة القانون والمجالس المنتخبة.

خامسا: في 1996 جاءت اميركا بوهم السلام، وانهاء الحروب، لاستمالة الرأي العام العربي والاسلامي، اما اليوم فقد انكشفت كل تلك الاوهام، ولا يوجد من يراهن على رئيس اميركي مثل دونالد ترامب، ولا ادارته اليمينية المتعصبة، لكي تجلب السلام والحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

لهذا كله فإن القمة الموعودة في الرياض بين ترامب وقادة عرب ومسلمين، تولت الرياض توجيه دعوات مباشرة اليهم بإسم الملك سلمان.. باتت مكشوفة ومفضوحة الاهداف، ولا مجال للمناورة بشعاراتها، وتكاد ان تكشف بنفسها عن اهدافها الخطيرة والتآمرية على كل شعوب المنطقة، وخصوصا على القضية المركزية للعرب والمسلمين.

انه قمة تستهدف الامعان في ابتزاز العرب والمسلمين سياسيا، وتثبيت سياسة استتباعهم للمشروع الامريكي، واستغلال حالة الضعف والتشرذم التي تعانيها معظم الدول العربية والاسلامية المدعوة للاجتماع، وازماتها الاقتصادية الامنية، لالحاقه بالمشروع الصهيوني الاميركي، بوهم الحفاظ على امنها ومنع اقتصاداتها من الانهيار.

وهم النظام السعودي

يخطئ النظام السعودي اذا ما اعتقد ان دونالد ترامب جاء ليخلصه من ازماته، او انه يفتح له باب النجاة من المآزق التي قادته اليها سياساته الرعناء، باعتماد المذهبية والارهاب ركنين اساسيين لسياسته الخارجية.. فواقع الحال ان جل ما يمكن ان يقدمه دونالد ترامب، الذي يفتقد لأي استراتيجية ثابتة في سياسته الخارجية، هو ان يستفيد من قدرات هذا النظام في معاركه السياسية، بانتظار توقيع اتفاقيات او انتصارات تخص المصالح الاميركية، ثم لن يتوانى عن ترك النظام السعودي يتخبط في ازماته، وربما على شفا نهايته.

ولعل التجربة السعودية مع كل الادارات الاميركية كافية لتأكيد هذه الحقيقة، بدءا من تمويل جيش الارهاب القاعدي وشحنه بمخزون الوهابية الثري، من فتاوى التكفير والموت المجاني، وانتهاء بارهاصات الحرب الاميركية الجديدة على الارهاب الذي تم اطلاقه بالمال السعودي والعقيدة الوهابية، والاشراف والتوجيه الاميركي.

وليس هناك من سبب لكي يعتقد محمد بن سلمان بأنه اكثر ذكاء من اسلافه، الذي تورطوا في الولاء المطلق للادارة الاميركية والذين اورثوا هذه المملكة ارثا بشعا من الممارسات الارهابية، لا تزال تلاحق النظام اخلاقيا وسياسيا وماليا في المحاكم الاميركية ذاتها، عطفا عن انفاق مليارات الدولارات من عائدات الثروة النفطية، لتغذية حروب عبثية دمرت اكثر من بلد اسلامي.

ولا نحتاج الى كثير من الجهد لنكتشف ان سياسات المملكة السعودية، والمواقف التي يعلنها خصوصا ولي ولي العهد الامير محمد بن سلمان، او وزير الخارجية عادل الجبير، هي مواقف اميركية، يمهد لها السعوديون لجس النبض او لتهيئة الارضية الشعبية لاستقبالها. اذ ان كل المواقف والشعارات التي يطلقها السعوديون، وتبدو مستغربة اول مرة، يعود الاميركيون للتأكيد عليها بعد فترة من الزمن. وما يكون مستهجنا ولا صلة له بالمصلحة السعودية او القومية، يجد تفسيره في انه جزء من الاستراتيجية الاميركية التي اوكل للنظام السعودي أمر ترويجها وتحمل جانبها القذر.

وفي الشكل لا شك بأن النظام السعودي حقق انجازا حيويا بالنسبة للعائلة الحاكمة باستعادة مكانتها لدى الراعي الاميركي، وتجديد ثقة واشنطن بها، باعتبارها اداة لا تزال صالحة للعب دور في الاستراتيجية الاميركية، ومحاولة اعادة هيمنتها المنفردة على العالم.

ولا شك ايض ان العائلة السعودية تشعر بالارتياح الان، رغم انها لم تحقق اي اضافة الى ما كانت تتمتع به منذ انشاء المملكة على يد المستعمر البريطاني في ثلاثينات القرن الماضي.. فآل سلمان استطاعوا ان يحافظوا على مكانتهم لدى البيت الابيض، بعد ان تعرضت هذه العلاقة الى اهتزاز في السنوات القريبة الماضية.

ان هذه النشوة التي يشعر بها النظام السعودي، لن تفضي الى اي نتيجة سوى المزيد من الغرق في وحل الحروب، واضافة اوزار اخرى من الانتهاكات والممارسات اللاأخلاقية ضد شعوب المنطقة، والتي تتنافى مع كل قيم الدين الاسلامي وروابط الاخوة والجوار والتاريخ المشترك.

وبعيدا عن موجة الفرح والسعادة التي غمرت امراء العائلة الحاكمة، انصرف المحللون الى التساؤل بدهشة غير خافية، عن سر اختيار السعودية واسرائيل والفاتيكان لاول ظهور خارجي لسيد البيت الابيض؟ وما الذي يجمع بينها في الاستراتيجية الاميركية؟

والاجابات كلها كانت سلبية، وهي تتراوح بين التخطيط للمزيد من الحروب والقلاقل والتدمير في المنطقة العربية خصوصا، وبين المناورة بالقوة لحصد مكاسب للمشروع الصهيوني بتعويم الكيان الاسرائيلي المأزوم سياسيا وامنيا، وللمشروع الاميركي باعادة تفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم دون منازع او شريك.

اما الانظمة المستتبعة وخصوصا النظام السعودي، فعليها ان تدفع تكاليف المغامرات الاميركية، وثمن السلاح، وثمن الحماية الأمريكي، دون ان تجد حل لازماته الداخلية والخارجية، ولن يستطيع آل سعود استعادة نفوذهم السابق في المنطقة.

الصفحة السابقة