الصراع بوسائل أخرى

مقتدى الصدر في الرياض

محمد قستي

فاجأتنا الحكومة السعودية، كما مقتدى الصدر، بالزيارة التي قام بها الأخير الى الرياض.

فالى ما قبل الزيارة، كان الاعلام السعودي يشنّ هجومه على الصدر، ويتعرض لعقيدته، ويصفه بأنه قاتل أهل السنّة، والعميل لإيران، وغير ذلك مما تنضح به وسائل الإعلام السعودية. وبالأمس القريب كان محمد بن سلمان يتحدث للإعلامي داود الشريان متسائلاً: كيف أنه لا يستطيع ان يتعامل مع من يؤمن بالمهدي المنتظر. والمفارقة ان مقتدى الصدر ليس فقط يؤمن بالمهدي، كبقية الشيعة والمسلمين عامة، بل انه أسس جيشاً أسماه (جيش المهدي)، قبل ان يتم حلّه بأوامر منه.

ومقتدى الصدر من جانبه، كان يعلن دوماً بأنه لا ينتمي الى محاور: لا المحور الايراني، ولا المحور الأمريكي؛ ويدعو الى خط او محور ثالث يكون هو على رأسه. كما كان الصدر وتياره شديد النقد للسعودية وكثير من سياساتها، وانتقد طائفيتها ومشايخها ومكفّريها.

فمالذي حدث وغيّر رأي الطرفين في بعضهما البعض، ومالذي يطمح له كلّ منهما؟

ابتداءً فإن زيارة مقتدى الصدر للرياض، جاءت في وقت تشتعل فيه جبهة العوامية، حيث القصف المنهجي بالأسلحة الثقيلة، وحيث التشريد والقتل للمواطنين على خلفية مذهبية.

وتأتي الزيارة في توقيتها ايضاً، وقد انتهت عملية تحرير الموصل، وتكسير أطراف ورأس داعش في العراق، بحيث لم يتبقَ منها الا أشلاء. والثابت عند كل العراقيين بمختلف أطيافهم المذهبية وتوجهاتهم السياسية، أن السعودية تعتبر أكبر شريك وممول للإرهاب في العراق، وانها أكثر من خرّب في العراق، عبر شبابه وبأمواله وفتاواه واعلامه، لا يوازيه في ذلك الا دولة قطر، الوهابية هي الأخرى.

فما عدا مما بدا؟

كيف أصبحت السعودية، العدو بالأمس، الى بلد يشارك العراق انتصاراته على داعش؟! بل ويذهب رئيس الإركان السعودي الى العراق ليعلن عن ذلك!

السعودية التي هُزمت سياسياً وأيديولوجياً في العراق، بمشروعها، وبتكفيرييها، وبفتاوى مشايخها الذين أفتوا: (لا جهاد إلا في العراق) فتم تصدير الشباب الداعشي ـ على اساس ذلك ـ ليقتلوا الآمنين في الأسواق واماكن العبادة.. كيف يطيب لدولة كهذه، لها أن تقول بأنها شاركت في انهاء داعش في العراق (الطرفة ان ذلك جاء من خلال محاربة قطر ـ كما يقول الاعلام والإعلاميون السعوديون)؟!

لماذا يسمح الساسة العراقيون للسعودية بأن تعود الى العراق بعد انتصارهم على داعش، لكي يتم تأهيلها من جديد فتعمد الى ممارسة سياستها الطائفية وصبّ الزيت على النار، وتمزيق المجتمع، على خلفية طائفية مقيتة؟

في فبراير الماضي زار عادل الجبير العراق، في خطوة فسرها البعض بأنها تأتي استباقاً لنهاية داعش المحتمة، ولتفادي أي تداعيات سلبية للإنتصار على الوضع السعودي (أمنياً وسياسياً).

تلتها زيارة رئيس الأركان السعودي الشهر الماضي، وسبقها زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الى الرياض، وبعدها زيارة وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي، ثم زارها مقتدى الصدر، وبعدها جاءت زيارة وزير النفط العراقي للرياض، ثم زار مقتدى الصدر الإمارات، وهكذا دواليك.

في كل هذه الزيارات لم تكن هناك سوى زيارة مقتدى التي جاءت بالإثارة وسببت الاعتراض واللغط، لدى الجانبين العراقي والسعودي. لماذا؟

لأن الزيارات الأخرى إنما هي زيارات مسؤولين لدولة، في حين أن مقتدى الصدر رئيس حزب سياسي او تيار.

ولأن توقيت زيارة مقتدى (على الأقل بالنسبة للشيعة في السعودية) جاء ليغطي على المذابح والدمار الذي كانت تقوم به الحكومة السعودية في العوامية.

وأيضاً، لأن مقتدى الصدر ـ الباحث والداعي لخط او محور ثالث ـ غيّر من مشيته منذ مدة غير قصيرة، وكانت زيارته للرياض التجلّي الأبرز لها، وهي تخالف شعاراته ودعواته.

وأخيراً، لأن مقتدى الصدر بشخصيته وبتياره يمثل فرصة للسعودية لتخريب العراق مجدداً. بحيث يمكن القول ان الزيارة لم تُحدث اختراقاً في الموقف السعودي، بل ـ بحق ـ كان اختراقاً سعودياً للوضع العراقي برمته.

كيف تفكر السعودية وماذا تريد؟

لا شك أن الظاهر في السياسة السعودية أنها تراجعت وقبلت بالهزيمة السياسية كاملة في العراق، والى حدّ كبير في سوريا كما في لبنان. وتغيير موقفها بعد الهزيمة لها ولدواعشها في العراق، قد يلقي الضوء على ما تريده الرياض وما تخطط له مستقبلاً.

السعودية كانت تريد تغييرا راديكالياً في العراق. باختصار كانت تريد اسقاط الحكم القائم، ولا يهمها ان كان يمثل الأكثرية ام الأقلية، ولهذا حاربته الى النهاية بكل ما لديها من أسلحة، وحاصرته سياسيا وسعت الى تدميره اقتصادياً من خلال تدمير سعر النفط وتهديد الشركات النفطية الغربية بالذات من الاستثمار في نفطه (مخزون العراق النفطي يوازي ما لدى السعودية نفسها).

هذا الحلم السعودي سقط.

سقط في الإنتخابات تحت راية علاوي، وسقط في المعارك تحت راية الزرقاوي ثم ابو بكر البغدادي.

الدولة العراقية اليوم هي أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى منذ الإطاحة بصدام ونظامه. صار لدى العراق جيشان: رسمي وشعبي، وصارت السلطة المركزية اليوم تستشعر قوتها امام السعودية وغيرها، بعد الإنتصار على داعش، ما يعني ان مرحلة جديدة قد دخلها العراق ـ وان كانت قابلة للإنتكاس ايضاً، فلا شيء مضمون في العراق.

الحكومة السعودية من جانبها، خشيت من ارتدادات الهزيمة، وسعت منذ عام أو أكثر قليلاً، الى مدّ الجسور مع بغداد، متيقّنة من هزيمة داعش، ومحاولة امتصاص ما ستسفسر عن انتصارات بغداد. يومها بعثت الرياض بسفير لها ـ ولأول مرة منذ 1990 ـ الى بغداد وهو ثامر السبهان (وهو الشخص الذي استقبل مقتدى الصدر في المطار). كانت الرياض مستعجلة في مواصلة سياستها السابقة ولكن هذه المرة من داخل بغداد نفسها.

شرع السبهان باطلاق صواريخه الإعلامية بالتصريحات ضد ايران بشكل متكرر، ووصم اكبر قوة سياسية برلمانية بأنها عميلة لإيران، وتدخّل في الشأن الداخلي العراقي: مرة بالحديث عن الشيعة والسنة، ومرة بدعم الأكراد، ومرات كثيرة وجه شتائمه للحشد الشعبي الذي أقره البرلمان وصار جزءً من القوات العراقية المسلحة.

كثرت الشكاوى من السياسيين، واستدعي اكثر من مرة لوزارة الخارجية العراقية التي طلبت منه ان يكف عن ذلك، ولكن لا فائدة؛ فما كان من بغداد الا ان طلبت رحيله، فرحل مرغماً، وشنت الرياض ـ كما السبهان نفسه في حسابه على تويتر ـ هجمة على من أسمتهم بـ (عملاء ايران) في بغداد، وزادت ان رفعت مقام سفيرها المطرود الى رتبة وزير دولة في وزارة الخارجية ومسؤولاً عن ملف العراق وسوريا ولبنان والخليج وغيرها!

ما بعد نهاية داعش في العراق مخيفة ومقلقة للرياض، فهناك خوف امني ان ينتقل الحشد الشعبي الى الحدود السعودية، او ان تؤدي هجرة الدواعش الى الاردن والسعودية عبر الحدود الطويلة للأخيرة مع العراق. لا بد من التنسيق بين الدول الثلاث: السعودية والعراق والأردن، وهو ما اعلنه الجبير في الأردن.

ثم هناك استحقاقات سياسية لمرحلة ما بعد داعش، وهناك استعداد للإنتخابات، وقد يتحالف مؤيدو الحشد الشعبي مع نوري المالكي الذي يرأس حزب الدعوة (الحاكم) وقد يعود الى الحكم.

السعودية اكتشفت بالتجربة انها لا تستطيع ان تغير خارطة الانتخابات في العراق، ووجدت انه لا يمكن لها ان تنجح من خلال لملمة مؤيديها فينجح مرشحوها (مرشحو المحور الامريكي كله بما فيها تركيا والاردن). وكانت هناك تجربة سابقة، وهي تجربة علاوي.

الان الأكراد يعملون منفردين، والسنة العرب عددهم قليل 15-20% من السكان، والمزاج السني العربي كما هو المزاج العراقي بمجمله ضد السعودية وكاره لها ولسياساتها وعنفها وتكفيرييها.

لا حل اذن ـ لمواجهة ايران ـ الا بايجاد اصطفاف جديد يشق ـ عمودياً ـ المكونات السياسية جميعاً، ويتصدى للمالكي ومؤيدي الحشد.

ليس هناك أفضل من مقتدى الصدر، وتتوقع الرياض ان يكون في حلفها عمار الحكيم، وآخرون اقل اهمية، كعلاوي وغيره.

هذه هي حكاية السعودية: شق الصف الشيعي، مثلما شقت الصف السني، وافتعال الاضطراب الداخلي بحجة المواجهة مع ايران، الهدف الذي لم يغب عن البال السعودي أبداً!

السفير السابق، ثامر السبهان، مهندس زيارة مقتدى، غرّد أثناء الزيارة، بلغة لا تمارسها السعودية الداعشية لا في الداخل ولا في الخارج كالعراق؛ حيث أدان التشدد السني والشيعي، وأكد على لغة الاعتدال والتسامح والحوار! ثم وضع تغريدة أخرى تفيد بعكس ما قاله في الأولى، حيث ميّز بين ما أسماه: المذهب الشيعي الأصيل، ومذهب الخميني المتطرف الجديد. وبعد برهة قصيرة جاءته الأوامر فحذفها، بسبب ما أحدثته التغريدة الثانية من غضب عراقي.

فعلى الفور ظهر هاشتاق عراقي بعنوان: (اسمع يا سبهان)، صب العراقيون فيه جام غضبهم على تغريدتيه الاثنتين، وقالوا ان العراقيين يعرفون من وقف معهم ضد داعش، ومن استعد لتهنئتها بالسيطرة على بغداد. وقال احمد الذواق: (اسمع يا سبهان: لن يكون هنالك صدام جديد لكم حتى يسهل عليكم استحماره لخوض حروب بالنيابة عنكم). وآخر قال: (لن نكون بوابة شرقية مرة أخرى. ان كان فيكم رجال فتلك طهران حاربوها ان كنتم قادرين). وثالث خاطب السبهان بانه (بعد ان تم طردك كسفير في العراق، تريد الآن بث سمومك علينا). ووجهت عراقية في المنفى نقداً حاداً لمقتدى، قالت فيه: (رُفع القلمُ عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن مقتدى حتى يعقل).

الاعلام السعودي كشف عن الأهداف الكامنة وراء زيارة مقتدى، وحسب العقيد ابراهيم آل مرعي فإنها تُختزل في: (مواجهة ايران، وحماية الأمن القومي السعودي). هذا وقد رحب اعلاميو النظام بزيارة مقتدى، على الأقل في الصحافة الخارجية كالشرق الأوسط والحياة؛ وقال عبدالرحمن الراشد: (يحتاج العراقيون ان يسمع العالم انهم سيحاربون الهيمنة الإيرانية، وسيطردون الحرس الثوري من بلادهم)!

وكتب يوسف الديني في الصحيفة نفسها ان (مقتدى الصدر مرّ من هنا)، اي بالرياض، وأبدى تفاؤلاً بعودة الدفء في العلاقات العراقية السعودية. وبالنسبة لمقتدى نفسه، فإنه بنظر تركي الحمد (رجلٌ يعيد للتشيّع عروبته.. رجلٌ داس على ورقة الطائفية، ويستحق كل احترام).

المستاؤون من الزيارة أصدروا بياناً وقعه اربعة وخمسون ناشطاً واعلامياً وسياسياً، من المواطنين والعرب الآخرين، نددوا فيها بالزيارة وبتوقيتها. ومؤيدو الزيارة قالوا أنها تخفف من الأزمة الطائفية، وهو رأي الاعلامية ايمان الحمود. اما الاكاديمية مضاوي الرشيد فوضعت الزيارة في اطارها السياسي الصحيح، وقالت ان لها علاقة بالتحضير للانتخابات العراقية في ٢٠١٨، وسألت: (ما قيمة الفاتورة التي ستدفعها السعودية مقابل حلفها مع مقتدى؟).

السؤال يمكن ان يكون بصورة معاكسة: ما هو الثمن الذي سيدفعه مقتدى في تحالفه مع السعودية؟

وماذا لدى السعودية لتعطيه لمقتدى، فلا هو بحاجة الى مال، ولا وقوف السعودية معه يخدمه انتخابياً، وقد يفكك قاعدته الشعبية، ويقلص عدد المقاعد التي سيحصل عليها تياره.

السعودية نَفَسُها قصير في العراق وفي غيره. وانفتاحها عليه هو انفتاح مناسبات، وليس ضمن استراتيجية بعيدة المدى.

وقد حدث ان انفتحت على المعارضة العراقية بداية التسعينيات الميلادية، عقب احتلال صدام للكويت، ثم طلقتها!

وعادت فانفتحت على ذات السياسيين الذين صاروا حاكمين الآن، بعد سقوط نظام صدام، ثم ما لبث ان عادتهم وواجهتهم ودعت الى اسقاطهم.

والآن ها هي تعيد الكرة مرة ثالثة، فهل تصمد في المعركة؟!

كذلك بالنسبة لمقتدى، فهو سياسي زئبقي، سريع التغير في افكاره وآرائه، ولا يوجد ضوابط لتحولاته السياسية من اقصى اليسار الى اقصى اليمين. لم يصمد تحالفه مع أي أحد، ولا نظن ان تحالفه هذا مع السعودية ـ ان اعتبرناه تحالفاً ـ سيصمد أيضاً، وقد ينقلب الى موقف عكسي بين ليلة وضحاها. وستكون الرياض محظوظة ان استمرت العلاقة معه حميمية الى الانتخابات القادمة!

الصفحة السابقة