دولة الاجتياح

فشلت كل برامج الاندماج الوطني، لأن من صاغها لم يتحرر بعد من ثقافة ما قبل الدولة، أي الفئوية بأشكالها كافة. حين تنبّه أهل الحكم بأن تفكك الكيان يفغر فاهه خصوصاً بعد أزمة الخليج الثانية، حيث مظاهر الاحتجاج تعدّدت وتنوعت، أوكل أمر تعميم الثقافة الوطنية الى غير أهلها، اختصاصاً وانتماءً. فلا اللجنة التي اشتغلت على صوغ منهج الثقافة الوطنية قد وعت ماذا تعني الثقافة ولا ماذا تعني الوطنية.. فماذا فعلت؟

أعاد أعضاؤها إنتاج ثقافة ما قبل الدولة، أي الثقافة الدينية (المذهبية) التي تنطوي على تكفير الآخر، وتخفيضه عقدياً واجتماعياً، والثقافة التاريخية التي تضع الأقلية الغالبة عسكرياً في مرتبة أولى، بما ينطوي على تفويض تام لها بالحكم واحتكاره، ومن فوقها آل سعود الذين يرون في أنفسهم «السلالة المختارة» لحكم البلاد والعباد في الجزيرة العربية..

سلوك أهل الحكم لم يتبدّل في أي فصل من فصول تاريخ الدولة السعودية لا قبل نشأتها ولا بعدها، أي بمعنى لا في وقت تجريد الحملات ضد المناطق والمكوّنات السكانية في أرجاء الجزيرة العربية ولا بعد إعلان قيام المملكة السعودية عام 1932. تبعاً لذلك، فإن الشعور بالتفوّق لا يستند على معايير علمية وإبداعية وحتى عنصرّية، أي كون هذا العنصر البشري لديه خصائص تجعله في مرتبة أعلى من غيره من العناصر البشرية، وإنما هي القوّة وحدها العنصر الذي يلوذ به أهل الحكم، لتؤكد حقيقة واحدة أن هذه القوة منفردة مصدر مشروعية النظام لا سواه.

وعليه، فإن العوامل الأخرى: الحق التاريخي، وتطبيق الشريعة وفق المذهب السلفي الوهابي، الانجاز الاقتصادي، الخصائص الكاريزمية للملك أو لأسرته، كلها عوامل ثانوية وتجميلية (cosmetic).

اليوم، وبصرف النظر عن أي شيء وملابسات ما يجري في بلدة العوامية بالمنطقة الشرقية، فإن الطريقة التي أدارت فيها السلطات السعودية تبعث ألف سؤال وسؤال حول طبيعة المهمة التي جاءت قوات المهمات الخاصة أو غيرها من القوات التابعة للداخلية أو الحرس الوطني أو حتى لوزارة الدفاع والتي اجتاحت البلدة بطريقة توحي وكأنها تخوض حرباً ضد دولة أخرى.

فهل الدمار الكبير الذي شهدنا صوره كان لمجرد أن حيّاً سكنياً يدعى «المسوّرة» يراد إزالته وبناء مجمعات سكنيّة حديثة مكانه. هل بهذه الآلية يتم تطوير الأحياء والبلدات والمدن؟ وما سر عبارات «الله أكبر» والتهديد والوعيد للأهالي، فهل هي جزء من مشروع التطوير أيضاً؟

دعكم من ذلك كله، ولنضع النقاط على الحروف: إذا كان هناك مطلوبون مهما كانت اتهاماتهم، وحتى الآن لا أدلة دامغة ومقنعة بضلوع الكثير منهم في جرائم إرهاب أو قتل جنود، بل هي على خلفية المشاركة في مظاهرات 2011 وما بعدها حملوا فيها شعارات مطلبية وفي أقصاها ندّدوا بآل سعود بالكلام..فهل العقاب يكون باجتياح البلدة ورمي القذائف الصاروخية على الاحياء السكنية، وإطلاق الرصاص العشوائي، وقتل الناس في الطرقات، وتدمير الممتلكات العامة، وإحراق البيوت، ثم تهجير السكان وتشريدهم في كل مكان، ومنعهم من العودة الى بيوتهم، بل وسرقة هذه البيوت كما تؤكد مقاطع الفيديو المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي.

أما المطلوبون الذين وضعوا على لوائح المطلوبين من قبل وزارة الداخلية، وهي لوائح فيها ما فيها من الكيدية والانتقامية، فقد لاحقتهم قوات الأمن داخل بيوتهم وأحرقت منازل بعضهم، وسقط في تلك المداهمات أشخاص لا صلة لهم بالحادثة، وإنما صادف وجودهم في الشارع أو الحي الذي تعرّض للمداهمات..

طبعاً كل ذلك كان يجري في السنوات الماضية، ولا أحد ينبس ببنت شفة، ولا حديث سوى عن رجل أمن يسقط هناك في حوادث تبادل اطلاق رصاص مع أشخاص يشتبه بضلوعهم في قضايا مخدرات.

ومع ذلك، فإن وجود أشخاص استخدموا السلاح ضد رجال أمن لا يبرر مطلقاً اللجوء الى سياسة العقاب الجماعي ضد بلدة بأكمله، فتهدم منازلها بالقذائف، وتحرق البيوت على ساكنيها، وتقتل كل من يمشي في شوارع البلدة، وتفرض حصاراً مطبقاً عليها فتمنع الغذاء والهواء والماء والكهرباء والدواء عنها..هل هذا تصرّف دولة مسؤولة أم إن تراث الاجتياح لا يزال حيّاً وموجّهاً..وهذا الواقع فعلياً.

يبقى أننا أمام نموذج في التعاطي يبنى عليه في فهم أداء أهل الحكم وينسحب على بقية المناطق. ومن سوء تفكيرهم أنهم يرون في هذا الأداء مع بلدة العوامية درساً لغيرها سواء في المنطقة الشرقية أو في مناطق أخرى.

ولابد من التوقّف عند الخطاب المصاحب للعملية الأمنية العسكرية ضد بلدة العوامية، وهو خطاب يفتقر الى الحد الأدنى من المسؤولية والشعور الوطني، بل هو خطاب ينضح طائفية، ويحرّض على الكراهية وليس ما يشي بقراءة متوازنة لمشكلة تتطلب فهماً لأبعادها كافة، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأمنية، والكف عن الحلول الأمنية التي ما جلبت الا الدمار والخيبة والمزيد من التمزّق.

مؤسف القول بأن هناك من لا يريد فهم المشكلات التي يعاني منها الكثير من السكّان المحليين، ولا أقول المواطنين لأن هذا البلد لم يصل بعد الى مستوى الدول الوطنية، وليس هناك قانون مواطنة حقيقي. الاغراق في الحديث عن الوطنية في وسائل الاعلام والصحافة لا يصنع وطناً ولا مواطنين، ولكنّها طريقة التعبير عنها، وترجمتها في قرارات، وحقوق وواجبات..دون ذلك، فإن الوصف الدقيق للمملكة السعودية هي دولة الاجتياح.

الصفحة السابقة