الأمراء الأحرار: طلال، بدر، عبدالمحسن، فواز

«الأمراء الأحرار» وتجربة النضال الوطني

القسم الثاني

سعدالشريف

جبهة التحرير الوطني (1958 – 1975)

مثّلت الاضرابات العمالية في الخمسينيات الميلادية رافعة نموذجية في تنضيح مشاريع حزبية. وقد مرّت الأخيرة بثلاثة أطوار: الإضرابات العمالية، السجن، المنفى.

 
الامراء الاحرار يصلون القاهرة ويلتقون عبدالناصر

عملياً، تشكّلت النواة الأولى لجبهة الاصلاح الوطني بصورة سرية خلال إضراب مجموعة من العمال في شركة أرامكو عام 1953، وانضم اليها أفراد من الجيش وموظفون ممن حصلوا على مناصب حساسة في ارامكو. وبالتالي، زرعت «جبهة الاصلاح الوطني» أولى بذروها في حقل الاضرابات العمالية التي شهدتها المنطقة الشرقية عام 1953، ورعاها ضباط، وعمال من شركة أرامكو، وموظفون عامون، وأخذت شكلها الحزبي شبه المكتمل في عام 1958. وتوافق أعضاء الجبهة على أجندة سياسية موحّدة، في بعضها صدى لأجندات حزبية عربية وأممية، وفي بعضها الآخر تلبية لمطالب محلية محضة. فقد أوجزت الجبهة أهدافها على النحو التالي:

1 ـ تحرير البلاد من الهيمنة الامبريالية والتسلط الاقتصادي لأرامكو والشركات النفطية الغربية.

2 ـ اعتماد دستور يكفل حق الانتخاب البرلماني، ويضمن حرية النشر، والتجمع، وترخيص الاحزاب والنقابات، وحرية التظاهر والاضراب.

 
عبدالعزيز بن معمر مشعل

3 ـ تطوير الصناعة الوطنية، وتوفير البذور والاسمدة والآلات الزراعية للفلاحين بأسعار مخفّضة.

4 ـ إلغاء الرق

5 ـ مراجعة الإتفاقيات المعقودة مع شركات النفط وإجراء التعديلات الضرورية عليها بشكل يضمن حق استثمار ثروات البلاد على نحو يكفل تقدمة الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي.

6 ـ مكافحة الأمية، وتشجيع تأسيس مدارس البنات وتوسيع التعليم العالي والمهني(1).

غلب على «جبهة الاصلاح الوطني» منذ نشأتها المبكّرة الطابع الشيوعي في البنية الحزبية، والتكوين الايديولوجي، وأيضاً في الأهداف، حتى عرفت شعبياً بـ «تنظيم الشيوعيين». ولا غرابة في ذلك، فقيادته تفصح بوضوح عن تماهي الجبهة في شبكة شيوعية عالمية. الأمين العام للتنظيم محمد عبد الله (وإسمه الحقيقي اسحق الشيخ يعقوب) رسم توجّه المنظمة في كتابه «قضية الشعب قضية الحزب» الصادر في المنفى، وكتب ما نصّه:

"كوننا فصيلاً من الحركة الشيوعية العالمية التي يتقدمها الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفياتي، تحتم علينا أن ندرك مسؤوليتنا التاريخية والأممية ليس تجاه الطبقة العاملة في بلادنا وإنما تجاه الطبقة العاملة العالمية بأسرها، وتجاه مناضلي الطليعة لهذا الكون"(2).

وقد ضمّت الجبهة مثقفين، وعمال، وصناعيين، وأصحاب الشهادات والتخصصات المستقبلية، والمخترعين الصغار وما يعرفوا بذوي الياقات البيضاء والتي يصطلح عليها في القاموس الاشتراكي «البرجوازية الصغيرة»، فجاءت المطالب بالغالب ذات طابع اقتصادي.

 
صلاح نصر رئيس جهاز الاستخبارات

في العام 1962م وقع حدثان مفصليان تركا تأثيراتهما على مسار الحركة القومية واليسارية وهما:

1 ـ انشقاق الأمراء الأحرار (طلال، بدر، فواز، عبد المحسن)، وخروجهم الى المنفى الاختياري بين بيروت والقاهرة.

2 ـ قيام الثورة اليمنية، والذي فجّر الصراع بين عبد الناصر وآل سعود على وقع انقسام الداخل اليمني بين مؤّيد للثورة ومعارض لها، أي بين الموقف الناصري المؤيد للنظام الجمهوري الثوري، والموقف السعودي المؤيد للنظام الملكي.

من الناحية العملية، مرّت الجبهة بمرحلتين:

الأولى، وهي المرحلة الفكرية القائمة على العمل السري والالتزام بالمبادئ الماركسية اللينينية وتبدأ من 1953 ـ 1960.

الثانية، مرحلة العمل السياسي، وتبدأ منذ عام 1961 وما بعدها. وارتبطت مرحلة العمل السياسي مع ظاهرة «الامراء الأحرار»، برغم عدم التجانس الايديولوجي بينهما، ولكنهما اتفقا على مصالح مشتركة مهّدت لتوحيد التنظيمين في جبهة واحدة حملت إسم «جبهة التحرر الوطني العربية».

وقد أنشئت الجبهة عندما ترك الأمراء السعوديون الرياض الى بيروت، بعد أن بذلوا جهوداً لدى الملك سعود الذي كان يحمل أفكاراً رجعية، وسايرهم وسمح لأخيه الأمير طلال أن يترأس وزارة جديدة سميت وزارة الشباب، وتشكلت لجنة لوضع الدستور المؤلّف من 220 مادة من أبرزها الاعتراف بعروبة البلاد، واستقلال القضاء، واصدار القوانين المدنية والقضائية..

لم يعجب ذلك الأمير فيصل الذي كان يطمع بالملك كما لم يرض عنه رجال الدين، وكذلك شركة أرامكو والشركات الأميركية والاوروبية عموماً.. فتحالف فيصل مع رجال الدين وارامكو ضد الدستور ومن وراءه، وجرى التأكيد على أن (دستورنا القرآن) وهي عبارة ظلّ فيصل يكررها طيلة عهده.

 
اسحق الشيخ يعقوب

لم تستمر حكومة الشباب سوى 3 شهر، ثم أقيلت وألّف فيصل حكومة جديدة فأبطل كل ما صدر عن الحكومة السابقة، وأعيدت للعائلة المالكة كل امتيازاتها، المالية منها على وجه الخصوص، بما يمنحها سلطة التصرّف بالثروة الوطنية وواردات الدولة..

فور إعفائهم من مناصبهم، قرّر الأمراء (طلال، بدر، فواز، عبد المحسن) مغادرة البلاد، وذهبوا للعيش كلاجئين في لبنان، فلاحقهم فيصل الى بيروت وفرض ضغوطات على السلطات اللبنانية لجهة طردهم من لبنان، بعد إسقاط الجنسية السعودية عنهم، وألغى جوازات سفرهم ليصبح وضعهم غير قانوني في أي بلد يرحلون اليه.

في 15 آب (أغسطس) 1962 عقد الأمير طلال مؤتمراً صحفياً في في فندق السان جورج وسط العاصمة، بيروت، هاجم فيه النظام السعودي، وتحاشى ذكر الملك.

كان طلال هو المتحدث باسم الامراء الأحرار، وأثار جملة نقاط من أبرزها:

ـ ان الزمن قد تخطانا ولن يدوم ملك آل سعود، وان الباقي هو الشعب والحكّام زائلون، وأنهم ـ أي الأمراء ـ من هذا الشعب، اذا كان هناك من يختلف معهم على كونهم أمراء فلن يختلف معهم بكونهم مواطنين.

ـ كونهم أمراء لا خيار لهم، فقد ولدوا في هذه الدنيا وتحدّد تلقائياً كونهم أمراء.

ـ أنهم طيلة اشتراكهم في الحكم لم يظلموا أحداً، بل كانوا معارضين وقاموا بمحاولات لتغيير الوضع ولم يتمكنوا، ولذلك تنازلوا عن الحكم وخرجوا على الوضع كي لا يتحملوا مسؤوليته.

ـ ان الوضع القائم ليس مرشّحاً للبقاء طويلاً، وأراد الأمراء الاحتفاظ بخط رجعة قبل أن يجرف التيار الثوري والمد الشعبي الوضع.. هذا على أسوأ الاحتمالات.

ـ إن لكم ظاهر صدقنا والنوايا لا يحكم عليها الا الله.

خلال إقامة الأمراء في بيروت، جرت اتصالات بينهم وبين عدد من الأحزاب اليسارية الناشطة في لبنان، فالتقى الأمير طلال مع قيادة الحزب الشيوعي اللبناني ومنهم جورج حنا، ولعل ذلك ما ساهم في تخفيف حدّة النظرة إزاء الشيوعيين في المملكة السعودية، برغم من الموقف المتشدّد إزاء الشيوعية في تلك الفترة بعد خطة ايزنهاور والتي وافق عليها الملك سعود والتي تتضمن مواجهة الشيوعية. فقد طلب ايزنهاور من الملك سعود التأثير على سورية ومصر كي تبتعدا عن طريق الشيوعية، وكان ايزنهاور وحاشيته يتمنون أن تكون زعامة العالم العربي للملك سعود بدلاً من جمال عبد الناصر(3).

في النتائج، قبل الأمراء الأربعة في البداية التعاون مع الحزب الشيوعي السعودي ثم الإنضواء في جبهة واحدة تضم أعضاء آخرين بمن فيهم الشيوعيون السعوديون المتواجدون في بيروت حينذاك مثل عبد العزيز أبو اسنيد، واسحق الشيخ يعقوب، ومحمد السعيد. بطبيعة الحال، لم تدم الاتصالات طويلاً، بل كان قرار عودة الامراء الى الديار سبباً كافياً لقطع الاتصالات مع كل أحزاب المعارضة السعودية في الخارج بمن فيهم الحزب الشيوعي.

من نافلة القول، أن الملك عبد العزيز قرر فور اعلانه قيام المملكة السعودية في 1932 قطع العلاقة مع الاتحاد السوفييتي ووصمها بالدولة الملحدة المعادية للإسلام، برغم من اعتراف الاتحاد به في العام 1924.

 
الشيخ عبدالكريم الحمود

وبعد توليه خلفاً لوالده، أصدر الملك سعود أمراً بحظر النشاطات السياسية والحزبية بأنواعها كافة، وفور توليه الحكم حظر أية نشاطات شيوعية في المملكة، كما رفض التعاون مع الدول الاشتراكية وخاصة الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، والتزم الملك فيصل من بعده موقفاً أكثر تشدّداً من الشيوعية، وعبّر عن ذلك في أكثر من مناسبة. وتبنى فيصل منذ اعتلائه سدة الحكم سياسة قمعية ضد الناشطين من الأحزاب اليسارية والبعثية، وشنّت السلطات السعودية حملة ملاحقات في العام 1964 لاعتقال المنتسبين للأحزاب اليسارية في المملكة. وفي مقابلة نشرت في الأول من سبتمبر سنة 1964، سأل مراسل جريدة (النهار) البيروتية الملك فيصل عن حقيقة الاعتقالات التي جرت حينذاك في المملكة فأجاب: «إنهم حفنة من الأشخاص الذين ثبت تعاونهم مع الشيوعيين، وقد تمادوا إلى حد أنهم حاولوا إنشاء خلايا شيوعية»(4).

وعاد الملك فيصل وأكّد في مايو 1966 الموقف المتشدّد من الشيوعية بقوله: «إن السعودية لن تتساهل بأي مبدأ شيوعي يتسرب الى السعودية ولا بأي شعارات مخالفة للشريعة الاسلامية..وأن الشيوعية لم تدخل أي قطر او بلد الا بددته ولهذا فنحن ضدها دائماً».

انعكس الموقف الرسمي المتشدّد من الأحزاب الشيوعية، على الصحافة المقرّبة من السلطة، ولا سيما جريدة (الرياض) التي كان يرأس تحريرها تركي السديري المقرّب من العائلة المالكة. فقد كتبت الجريدة مقالة بعنوان (التقدّيمة المظلومة) ربطت فيه بين فلسفة الشيوعية مناهضة الإسلام لإثبات التناقض بينهما وأن اللقاء بين الاسلام والماركسية غير ممكن مطلقاً، بل توعّدت بإنزال الهزيمة بها «وألبسوا الماركسية ما شئتم من ثياب فلن يغير ذلك من واقعها وسنهزم الشيوعية ويندحر مروجوها».

وبالطريقة ذاتها، شنت جريدة (عكاظ) هجوماً مماثلاً على الشيوعية: (سحب الدخان الكثيف تنفثها عناصر الاشتراكية الملحدة، لا تؤمن لا بدين أو وطن، بانيها اليهودي ماركس، ومعلمها السفاح لينين، ومنفّذ خططها الطاغية ستالين). وأشارت الاذاعة السعودية في أحد تعليقاتها إن دعوة ماركس التي ترى الأديان خرافة إبتكرها أصحاب السلطة الروحية، السلطة الزمنية لتخدير الشعوب في دعوة تحررية تقدمية تحارب الاستعمار(5)..

عودة الى تصريحات الأمير طلال في بيروت ضد أسرته الحاكمة، فقد أثارت قلقاً لدى الحكومة اللبنانية، التي نظرت الى وجود أمراء معارضين على أراضيها بمثابة احتضان، وقد يؤدي الى تحويل لبنان الى منصة لمعارضة النظام السعودي وربما يتسبب في توتير العلاقات مع الحكومة السعوديه، فبدأت السلطات اللبنانية بالتضييق على الأمراء، فقام الأمير طلال بالإتصال بالسفارة المصرية في بيروت طالباً السماح له ولأخوته بالانتقال الى مصر. وبعد اتصالات مع القاهرة، أبلغت السفارة الأمير طلال بأنه وإخوته مرحّب بهم في مصر، وأن ثمة دعوة مقدّمة لهم من الرئيس عبد الناصر لزيارة مصر واللقاء به.

التقى الأمراء بالرئيس عبد الناصر، ووعدهم بالحصول على الجنسية والجوازات المصريه، ولكن الوعد تأخر كثيراً، وقد فسّر على أنه متعمَّد بهدف استبقاء الامراء في مصر وتوظيفهم في المعركة مع آل سعود، فيما كان تفسير السلطات المصرية بأن مجرد منح الأمراء جوازات سفر لن يحل المشكلة، لأن ليس هناك من دولة سوف تسمح لهم بدخول أراضيها.

وفي حديث متلفز للأمير طلال، أعرب عن امتنانه للحفاوة التي حظي بها هو وإخوته والاستقبال المهيب لهم في مطار القاهرة. ومنذاك، أطلق عليهم إسم (تنظيم الأمراء الأحرار)، بعد أن كانوا يعرفون بـ (الأمراء الدستوريين).

في نهاية عام 1962 تشكلت في القاهرة ما عرف بـ (جبهة التحرير الوطني العربيه) شارك فيها الأمراء الأربعة مع أعضاء في «جبهة الاصلاح الوطني» و»جبهة التحرر الوطني» وآخرون، ووفّرت السلطات المصرية منصة إعلامية للأمير طلال حيث فتحت إذاعة القاهرة له ولشركائه للحديث يومياً عن الاوضاع في المملكة السعودية، ومعارضة آل سعود استناداً على رؤية الجبهة.

 
حكومة الشباب 1962

واتفق الأمراء على أن تضمّ «جبهة التحرير الوطني العربية» كافة الاطياف الحزبية والايديولوجية بمن فيها الشيوعيون، ولكن لم ينتسب الى هذه الجبهة من الأحزاب العقائدية عدا الشيوعيين، فقد مثّلهم واحد فقط(6).

جاء في الميثاق الوطني لـ «جبهة التحرر الوطني العربية»: يترك للشعب حرية اختيار نوع نظام الحكم الذي يقرر كما شدّد في مواده في الباب الأول على حرية الفكر والنشر والصحافة، وحرية الاجتماع، وتشكيل الجمعيات والنقابات، واقرار مبدأ التنظيمات السياسية، على أن يترك أمر تفصيلاتها لممثلي الشعب في البرلمان، كما كفل مبدأ حق الاضراب والتظاهر، واعتماد نظام اللامركزية الادارية..

وتعد القوى الفاعلة في الجبهة:

ـ الامير طلال وإخوته، وقد تكفّلوا بتقديم الدعم المالي للجبهة.

ـ الشيخ ابراهيم أبو طقيقة: يمثّل عرب شمال الحجاز، بتكوينهم القبلي، وشكّل هؤلاء قوة عسكرية مزوّدة بالأسلحة في غرب الجزيرة. وابو طقيقة عضو في حزب البعث، وكان على اتصال بقبائل الأشراف المحيطة بمكة والمدينة.

ـ الشيخ عبد الكريم حمود: نفوذ روحي واجتماعي المنطقة الشرقية والشيعة..

ـ عبد العزيز أبو اسنيد: رئيس رابطة ابناء الجزيرة العربية، ولهذه الرابطة قيادات وخلايا في أرجاء متفرقة من المملكة..

ـ عبد الله الطريقي: أحد أقطاب صناعة البترول، ولديه ميول قومية ناصرية.

بعد استكمال بناء التنظيم، ذهب هؤلاء الى عبد الناصر للحصول على المساندة، وبالفعل تم اللقاء في قصر القبة. وبعد مفاوضات طويلة، إستقرّ الرأي على تشكيل جيش تحرير عربي من قبائل الحجاز يقوم بالسيطرة على الحجاز، ولمّا كانت القبائل تعيش على جانبي البحر الأحمر، تمّ تكليف الشيخ ابراهيم ابو طقيقة بتأليف هذا الجيش وأخذ كتاباً خطيّاً من مكتب الرئيس لتسهيل المهمة.

وكان الرئيس عبد الناصر قد دعا لتوحيد المنظمات السياسية العاملة خارج جزيرة العرب لتوحيد صفوفها وانتخاب ممثلين عنها في القاهرة، وذلك بواسطة المناضل البحريني عبد الرحمن الباكر مؤلف كتاب (من البحرين ال المنفى)، وتقرّر أن ينتخب عن جزيرة العرب (الحجاز ونجد)، أربعة ممثلين، وعن الخليج ممثلان إثنان. وهكذا اجتمع ممثلو المنظمات في فندق (الناشيونال) في القاهرة بمختلف اتجاهاتها الفكرية، والسياسية، والحزبية وأجري الإقتراع فانتخب عبد الله الطريقي، والدكتور حسن ناصيف، وصالح الشافات، وضحيان عبد العزيز عن جزيرة العرب، وفيصل بن علي، وعبد الرحمن الباكر عن الخليج، ورفعت نتائج الانتخابات الى رئاسة الجمهورية.

 
المرحوم الشيخ سالم ابو دميك شيخ بني عطية

وفي اليوم التالي، تدخّل سامي شرف سكرتير الرئيس برفض المرشحين لأن إسم المناضل ناصر السعيد لم يرد ضمن المنتخبين، فيما أبدى المجتمعون إمتعاضاً من تدخّل سامي شرف، وأنه ليس وصياً عليهم، وأنهم يعرفون رجال الجزيرة ويعرفون أين يضعون ثقتهم..وبمن يثق الشعب(7)..

الجدير بالإشارة، أن المناضل ناصر السعيد كان يحظى برعاية مصرية كاملة هو و(اتحاد شعب الجزيرة) الذي يرأسه، ونجح في افتتاح عدد من المكاتب له في القاهرة، والكويت، وبيروت، والجزائر، وأخيراً في اليمن..وفتحت له ابواب صوت القاهرة التي كان يبث منها برنامج أعداء الله، ثم انتقل الى اليمن، وكان يبث برنامج أولياء الشيطان..

كانت لدى التنظيمات الأخرى هواجس حول علاقاته تارة مع النظام المصري، وأخرى مع أرامكو نفسها التي لم يقبل بفكرة تأميمها. كما أن ناصر السعيد هاجم أكثر المعارضين السعوديين وحتى الأمراء المعارضين وبشكل عنيف، وكان يكتب في مجلة اللواء الاعداد في الفترة ما بين 1961 ـ1963.

كان صلاح نصر وسامي شرف يصرّان على إدخال اسم ناصر السعيد ضمن اللجنة القيادية للحركة التحررية في الجزيرة العربية..

وحين لم ينجح ناصر السعيد في الانتخابات بدأت المخابرات المصرية تضايق اللجنة ما اضطرها الى الانتقال الى بيروت.

في واقع الأمر، هناك أكثر من سبب دفع أعضاء الجبهة لمراجعة قرار بقائهم في مصر، لا سيما الاتفاق الذي تمّ بين ابراهيم أبو طقيقة مع الرئيس عبد الناصر على تسليح عشائر الحجاز، حيث وقف سامي شرف وصلاح نصر في طريق هذا المشروع، حيث طلبا من أبو طقيقة تجميده وعدم إعطاء الأسلحة لعناصره.

وينقل الكاتب عدنان العطار عن أحد قادة الجبهة، بأن هذه الحادثة تركت في مخيلة الشيخ ابرهيم أحداث ثورة ابن رفادة وكيف سطى الانجليز على الثورة، التي قتل فيها عدد من أفراد عشيرته، وشعر أن المأساة سوف تتكرر فاعتذر، وعاد الى لبنان يرافقه الشيخ سالم ابو دميك شيخ قبيلة بني عطية وتركا رسالة الى الرئيس عبد الناصر توضّح شعورهما وصعوبة العمل، وأن الطريقة المتبعة لا يمكن أن تكون سليمة، وستؤدي بالقوى التحررية الى الضياع وسفك الدماء دون فائدة.

وفي بيروت، عاد نشاط الجبهة من جديد وسافر أعضاؤها الى العراق بعد انقلاب 8 شباط فاستقبلهم قادتها وعقدوا مؤتمراً صحافياً في 5 آذار (مارس) اشترك فيه:

ـ الأمير فواز

ـ الشيخ ابراهيم ابو طقيقة

ـ محمد أحمد آل ابراهيم

ـ السيد سعيد الخلف.

 
المناضل علي العوامي

ولكن قيادة حزب البعث طلبت من المجموعة التريّث ريثما ينهي الحكم الجديد مشاكله، لأن الانقلاب لم يمض عليها سوى أسابيع، ويعمل قادته مع حزب البعث في سوريه لاستكمال التنسيق المشترك واسقاط الحكم هناك.. وعاد الوفد الى بيروت للإنتظار.

بعد عودة طلال وفوّاز من العراق الى بيروت شعر الأمراء أن النضال ينطوي على تحدّيات جمة لا قبل لهم بها، وأن الخلاف ضمن المكتب السياسي كبير (المؤلف من ثمانية أعضاء ليس من بينهم الأمراء وهو المعني باتخاذ القرارات).

وذات يوم فاجأ الأمراء الأربعة المكتب السياسي بكتاب طالبين فيه فصل العناصر الشيوعية من الجبهة أو إخراجهم وبدون نقاش، برغم من أن قادة الجبهة عارضوا انضمام شيوعيين إليها، ولكن الأمراء ممثلين بطلال هم من أصرّوا على ادخال هذه العناصر، باعتبارهم عناصر وطنية ولا يحق لأحد أن يمنع هؤلاء من خدمة وطنهم.

زاد الخلاف قضية ابقاء ممثلين عن الشيوعيين في المكتب السياسي أو طردهم، لذلك ترك الأمراء الجبهة وأصدرت الأخيرة بياناً بذلك. وانتقلت الجبهة من العلنية الى السرية، فيما ترك آخرن الجبهة بعد أن انخفض الدعم المالي بخروج الأمراء.

قدّم الأمراء استقالتهم جماعياً..

في الحدث اليمني ثمة ما يجب قوله عن دور الأمراء الأربعة. فمع اندلاع الحرب في اليمن 1962، انخرط الأمراء في الحرب بطريقة غير مباشرة، إذ قاموا بشن حملة ضد التدخل السعودي في اليمن، وطالبوا بطرد البريطانيين من حامية عدن، إذ كان عبد الناصر يدعم عبد الله السلاّل في اليمن، بينما آل سعود يدعمون الملك اليمني محمد البدر.

على أية حال، فبعد اندماج الامراء مع جبهة التحرير العربية والتي عرفت باسم جبهة التحرير الوطني العربية، انتخب طلال أميناً عاماً لها، على أساس ميثاق وطني موحد. ولكن لم يدم عمر الجبهة سوى سنة واحدة، وكانت الخلافات تنخر في جسدها منذ البداية.. فما جمعته السياسة فرّقته الايديولوجيا ثم السياسة. فالقبول الأولي لدى الأمراء بالانضواء مع تنظيم يضمّ شيوعيين على قاعدة أن التنظيم يجب أن يكون مأوى لكل الأطياف، ما لبث أن تبدّل لاحقاً، ووجد في السياسة ما يبرره، حين قرر «الأمراء الأحرار» التفكير في العودة الى الديار. بعد انسحابهم عادت الجبهة لإسمها القديم «جبهة التحرير الوطني»، فيما غادر بقية الأعضاء لتبدأ كل مجموعة تؤسس تنظيمها وفق نزوعها الايديولوجي.

برزت في تلك المرحلة شخصيات يسارية فاعلة ومؤثرة في الحراك الحزبي والنضالي الشعبي مثل عبد العزيز أبو سنيد، وعبد العزيز بن معمر، واسحاق الشيخ يعقوب، ومحمد السعيد، علي العوامي، الشيخ عبد الكريم حمود وآخرين، حيث ارتبط بعضهم بتنظيمات شيوعية أخرى عربية في المنفى مثل الحزب الشيوعي اللبناني، حيث شكّل ملتقى للأحزاب الشيوعية العربية، وكانت تنظم اللقاءت بينها بدءاً من عام 1963 لمناقشة شؤون العمل الحزبي والسياسي في المنطقة العربية.

ترافق مع الحدث الثوري اليمني وما أعقبه من مصادمات سعودية مصرية على الأرض اليمنية، حوادث داخلية تسببت في تصديع الاستقرار السياسي، ومن بينها هروب الطيارين السعوديين الى مصر بطائرات تحمل شحنة من الأسلحة لقمع الثورة اليمنية، وأسماء الطيارين هم: رشاد ششة، وأحمد حسين، ومحمد أزميري، ومحمد عبد الوهاب، ومحمد الزهراني، وأحمد موسى عواد، وعبداللطيف الغنوري. وفي رد فعل على هذه الحادثة، شنّت السلطات السعودية حملة اعتقالات واسعة في صفوف العسكريين والمشتبه بانتمائهم لأحزاب يسارية أو قومية ناصرية.

تم ربط هروب الطيارين العسكريين الى مصر بالخطابات التحريضية التي كان يلقيها الامير طلال عبر إذاعة (صوت العرب) من القاهرة. وقد شكّل الطيارون الحربيون المنشّقون تنظيماً سياسياً باسم «جبهة تحرير شبه الجزيرة العربية»، وانضم اليهم آخرون: سعد الخلف ومحمد آل ابراهيم، وأصبحت جزءاً من (جبهة التحرير الوطني العربي). ولكن الجبهة لم تدم أكثر من سنة ونصف بسبب التناقضات في المصالح والميول الايديولوجية بين أعضائها، وتأكد ذلك مع الخلاف الذي طرأ لاحقاً بين الأمراء الأربعة مع السلطات المصرية.

 
عبدالله الطريقي، أول وزير نفط سعودي

فقد أراد طلال مساعدة الرئيس عبد الناصر له للدخول الى السعودية عن طريق اليمن. ولكن التجاذب المصري السعودي في اليمن سلك مساراً آخر، حيث شرع المناضل ناصر السعيد في توجيه خطابات عبر إذاعة صنعاء يدعو فيها الى تصفية أمراء آل سعود قاطبة. فهم الأمراء الأحرار تلك الخطابات على نحو سلبي، وأن ناصر السعيد لم يكن يحرّض على الأمراء من تلقاء نفسه، برغم خصومته معهم، ولكن عدّوا ذلك من تدبير الأجهزة الأمنية المصرية ولاسيما من مدير مكتب الرئيس سامي شرف ورئيس الاستخبارات المصرية صلاح نصر.

في النتائج، تدهورت علاقات الأمراء الأحرار بالرئيس عبد الناصر، على خلفية الدعوة تلك، وقرّروا تجميد نشاطهم السياسي في الخارج، وانسحبوا من الجبهة عام 1963. أبلغ الامير طلال رفاقه في الجبهة بأنه في حال عودته الى الديار سوف يتكتم على أسرار الجبهة على مستوى النشاطات والأشخاص، برغم من إقراره بأن تعهده هذا لا ينسحب على بقية إخوانه. وفي فبراير 1964 عاد طلال الى الرياض بعد أن كان إخوانه الآخرون قد وصلوا اليها قبل شهر من ذلك التاريخ. وبذلك انفرط عقد الأمراء الأحرار، ولم يسمع عن نشاط سياسي لهم بعد ذلك، باستثناء الأمير طلال الذي ظهر في الألفية الثالثة وعبّر عن مواقف ذات طابع اصلاحي منخفض المستوى.

فور انشقاق الجبهة وعودة الأمراء الى الديار، قرر أعضاؤها تغيير أماكن تواجدهم وطريقة عملهم، فسافر كثير من أعضاء الجبهة الى العراق، ودخلوا مرحلة العمل السري مجدّداً.

كان بعض قيادات الجبهة قد استعجلوا دعم نظام البعث العراقي في مرحلة مبكرة من وصوله الى السلطة، ولم يكن الوقت مناسباً لتحقيق الدعم بمستوى رغبتهم، كون حزب البعث كان حديث عهد بالسلطة، ولذلك عادوا مجدداً الى لبنان وأمضوا بعض الوقت مع مستوى من الفعالية المنخفضة، قبل أن يعود قسم منهم بعد حرب 1967 الى العراق مجدداً.

منعطفات الاحتجاج السياسي

بعد أن كانت البلاد مسرحاً لحركة احتجاجات عمالية في الخمسينيات، اكتسب عقد الستينيات طابعاً تنظيمياً وسياسياً، وبدأت مجاميع صغيرة من الشباب الثوريين الخروج الطوعي الى المنفى لتنظيم صفوفهم في أطر حزبية، وتشكيل خلايا عمل لها امتدادات في الداخل. ومن المفارقات أنه في الشهر الذي يعلن فيه عن تشكيل جبهة التحرير الوطني العربية في ديسمبر 1962 تقوم فيه السلطات السعودية باعتقل 40 من الضباط الشباب الذين خططوا للقيام بانقلاب، وفي فبراير 1963 تمّ القاء القبض على مجموعة جديدة تخطط لتشكيل تنظيم حزبي. وفي واقع الأمر، شهدت المملكة اضرابات عمالية متسلسلة في الفترة ما بين 1962 ـ 1966.

ففي عام 1962 أضرب عمال المطابع المصريين في جدة عن العمل احتجاجاً على الحملة الاعلامية السعودية على مصر. وفي العام التالي، 1963، أضرب مواطنون في المنطقة الشرقية يعملون لدى أحد المقاولين، وفي العام نفسه نظّم إضراب في معمل للإسمنت، وأضرب عمال النفط في المنطقة المحايدة (الواقعة بين الكويت السعودية) مطالبين بتقليص ساعات العمل الاسبوعي من 48 الى 40 ساعة. وفي عام 1964 قاطع عمّال أرامكو مطاعم الشركة ونظموا مظاهرة احتجاجية ضد سياساتها.

وبرغم من صدور مرسوم عام 1965 يحظر كل أشكال التنظيم الحزبي والنقابي، فقد خرج المئات من عمال الشركة في العام 1966 فيما يشبه العمل الاحتجاجي المنظّم، وتقدّموا بعريضة الى مكتب الشكاوي التابع لمجلس الوزراء تتضمن مطالب اقتصادية.

وكانت السلطات السعودية تعلن بين الحين والآخر عن اعتقال افراد بتهمة القيام (بنشاطات هدّامة) أو (الانتماء الى منظمات سرية معادية). وقد أعلن الملك فيصل من مكة في ذي الحجة سنة 1384/ 1964 عن دعوة الى التضامن الاسلامي للوقوف في وجه ما وصفها (التيارات الهدّامة التي بدأت تدب في المجتمع الاسلامي، من شيوعية ماركسية وقومية علمانية)(8).

 
اللواء محمد الجعويني قائد الانقلاب، الثالث الى اليسار،
 صورة اثناء مشاركته في حرب فلسطين 1948

وفي ديسمبر 1965، أعلنت وزارة الداخلية عن اعتقال 65 شخصاً بتهمة القيام بـ (نشاطات هدّامة) ووجهت لـ 34 شخصاً تهمة (الانتماء الى منظمة سريّة انحرفت عن الصراط المستقيم، وترمي الى الإخلال بأمن البلاد)، وسجل المتهمون إقراراً أعلنوا فيه أنهم مذنبون وطلبوا العفو، فأطلق الملك سراحهم، ولكن حظر عليهم مزاولة وظائف حكومية، وأبعد الأجانب منهم، وكانت هناك مجموعة ثانية تتألف من 31 شخصاً اتهموا بـ (الشيوعية) واتباع (المبادىء الهدامة) وحكم على 19 منهم بالحبس لمدد تتراوح بين 5 و15 سنة

في 9 يناير 1967 أعلن عن إلقاء القبض على (مخبرين مدربين) واتهموا بتنظيم تفجيرات في مؤسسات حكومية عديدة منها وزارة الدفاع، ومبنى بعثة التدريب العسكري الاميركية (USMTM)، وقصور الأمراء، والقاعدة العسكرية القريبة من حدود اليمن، وزعم إن المخربين ليسوا من المواطنين السعوديين، بل إنهم متسللون من جمهورية اليمن. وفي مارس أعدم 17 منهم علناً في الرياض (بقطع رؤوسهم) وطرد ما يزيد على 600 يمنياً الى خارج الحدود.

إبان حرب حزيران 1967، خرجت مظاهرات معادية لإسرائيل وأمريكا في عدّة مدن في المنطقة الشرقية، من بينها رأس تنورة، والظهران، والقطيف والخبر، والدمام، وهاجم المتظاهرون في الظهران وخاصة طلاب جامعة البترول والمعادن منشأة شركة أرامكو والقاعدة الجوية الأمريكية والقنصلية الأمريكية، وجرت اثرها حملة اعتقالات واسعة، وخضع السجناء لوجبات تعذيب شديدة القسوة أدت الى وفاة عدد منهم داخل السجن. في الوقت نفسه، قامت السلطات السعودية بطرد مئات الفلسطينيين بتهمة التحريض. وفي أواخر حزيران/يونيو 1967 نظّم العمّال في أرامكو إضراباً جزئياً استمر بضعة أيام.

كان العام 1968 هادئاً نسبياً، فقد تسبّبت نكسة حزيران في إشاعة الاحباط في الشارع العربي عموماً، وتسببت في زلزلة عنيفة في القواعد الحزبية وعلى مستوى الاحزاب عموماً، حيث شهدت بعض الاحزاب القومية الى انشقاقات كبيرة مثل حركة القوميين العرب، ولم تسلم الاحزاب اليسارية والشيوعية والبعثية من ارتدادات النكسة.

لقد عبّر الملك فيصل في رسالة الى الرئيس الاميركي نيلسون عن فرحته بهزيمة عبد الناصر في الحرب، وبدأ يتصرف في الداخل على أساس نتائج الحرب، فشن حملة تهويل أمنية في صفوف العمال والعسكريين والمثقفين. اجتمع الاحباط والتهويل الأمني، فأنجب عزوفاً وإن مؤقتاً عن العمل الاحتجاجي، وشعر فيصل بأنه حقق انتصاراً على عبد الناصر وعلى تياره في البلاد العربية، وانشغل عبد الناصر بلملمة آثار النكسة، وكان يدرك تماماً الشماتة التي كانت يعيشها النظام السعودي. من آثار النكسة، سحب القوات المصرية من اليمن، والتخلي التام عن المعارضة السعودية التي كانت تحظى بالدعم المالي واللوجستي من حكومة عبد الناصر..

ولكن تلك التدابير القمعية وسياسة تكميم الأفواه لم تضع حداً نهائياً لنشاطات احتجاجية بأشكال مختلفة.

الانقلاب العسكري الفاشل 1969

في 5 إبريل عام 1969 كانت السعودية على موعد مع انقلاب عسكري كبير، لولا تدخّل المخابرات المركزية الاميركية التي كشفت المخطط الذي أعدّته مجموعة من الضباط في سلاح الجو السعودي.

أسباب الإنقلاب كما رصدها العطّار:

 
الشيخ ابراهيم ابو طقيقة، شيخ الحويطات بتبوك

ـ عدم اشتراك السعودية في حرب الصهاينة عام 1967، حيث كان الضباط السعوديون يتساءلون: ماذا يصنعون بالأسلحة التي بحوزتهم، والطائرات الجاثمة على الأرض، والاسلحة التي يأكلها الصدأ، وإخوان لهم يقتلون، وهم يصارعون العدو الصهيوني..فثارت دماء العروبة في عروقهم، وزادت نزعة الانتقام لديهم منذ أن وقفوا على حدود اليمن عام 1963 وحاربوا وقتلوا إخوانهم في مصر المناضلة واليمن الجريحة..

ـ ارتماء النظام السعودي في احضان أمريكا المؤيدة لإسرائيل.

ـ تحكّم الشركات البترولية بمصير السعودية.

بدأ الانقلاب في سلاح الطيران، الذي تلقى أكثر عناصره تعليمه في مصر.. وكان قسم من هؤلاء الضباط الأحرار قد هرب في عامي 62 و63 الى مصر كي لا يقاتل إخوته العرب، وبدأ التنسيق في القاعدتين الرئيستين للطيران الحربي في الرياض وجدة.. وتواصل هؤلاء الضباط بالمنظمات السياسية في مصر وسوريا وخاصة حزب البعث الحاكم في سوريا والعراق، وتلقوا منه التأييد الكامل.

معظم العسكريين السعوديين المشاركين في الانقلاب هم من سلاح الطيران، من ضمنهم مدير إدارة الاكاديمية العسكرية الجوية في الظهران، ومناصرين في الرياض والقواعد العسكرية الأخرى، وكانت الخطة تقضي بالهجوم على الملك والامراء النافذين، ثم اعلان قيام جمهورية الجزيرة العربية.

ما كان يقلق الملك فيصل في الانقلاب اكتشافه أن طياره الخاص مع داود الرميحي، وهو ضابط في قاعدة الظهران العكسرية، ويوسف الطويل من جدة كانوا وراء مخطط لاغتياله في أول رحلة جوية له.

إجتمع الضباط في جدة، في منزل أحدهم وكان قائد القاعدة، وقد أعدّ الترتيبات الكاملة وحملها في محفظته. وفي نهاية الاجتماع خرج الضابط يحمل محفظته بيده فواجهه أحد رجال المخابرات المزروعين في القاعدة فوجده مرتبكاً فحاول القبض عليه، وتفتيشه ولكنه خاف فدفع للحارس 50 ريالاً فظنّه مهرّباً للحشيش فأخبر عنه، ولما فتش عثروا على أسماء الضباط المنظّمين للإنقلاب في سلاح الطيران، وكان هؤلاء يشغلون اكثر من 95 في المائة من قادة الطائرات.

في القوات البريّة كان اللواء محمد الجعويني قائد الثورة والمسؤول عن تنظيمها ويساعده سعود بن معمر، وكان ملحقاً عسكرياً في الصين..

ولكن أجهض التحرك، وألقي القبض على 28 مقدّماً و30 مساعداً برتبة رائد، إضافة إلى أكثر من مائتي ضابط، كون القائد صالح الغانم كان مساعداً لمدير الكلية الحربية في الرياض، وله أعوان كثر من الضباط الذين تدرّبوا على يديه.

اصدر الملك سعود قرارا بإعدام عدد من الضباط ودفنهم أحياءً، فيما بقي مصير الآخرين مجهولاً.. وهرب من نجا بنفسه الى أقطار عربية (مصر، العراق، سوريا، لبنان، اليمن).

 
المناضل عبدالعزيز السنيد

في المحصلة، وضع ثلاثمائة ضابط وجندي على متن طائرات عسكرية أميركية، ثم أقلعت بهم نحو صحراء الربع الخالي وألقي بهم جميعاً وقضوا نحبهم، حسبما يقول معارضون.

كرد فعل وقائي، تمّ توقيف مئات الضباط عن العمل، كما شلّت حركة الطيران العسكري لأسابيع، وحتى بعد عودة حركة الطيران، بقيت الطائرات العسكرية بدون ذخيرة لفترة طويلة. وكان يسمح للطائرات الحربية بالتحليق الى مسافات قصيرة. واعتقل عدد من العاملين في أرامكو، وموظفي المصارف الذي لهم علاقة بتلك المحاولة، وأعدم العشرات، وتجاوز عدد المعتقلين على خلفية المحاولة الانقلابية الألفين معتقلاً. وكانت أخبار الاعتقالات والاعدامات تروج في الصحافة العربية والمعارضة السعودية في الخارج. ونشرت أنباء عن محاولات انقلابية أخرى في سبتمبر ونوفمبر من العام 1969، وكذلك في مايو ويوليو عام 1970، الا أن لا تفاصيل عن تلك المحاولات.

واللافت، أن المؤسسة العسكرية التي كانت أداة التغيير الرئيسة حتى نهاية ستينيات القرن الماضي، شهدت تغييرات جوهرية أدّت الى تقليص نفوذها السياسي إلى الحد الأقصى، الى القدر الذي لم يعد التعويل عليها في أي مواجهة أية تهديدات خارجية، إذ لم تشهد القوات السعودية حركة تطوير وتحديث جدية الا بعد اعلان بريطانيا انسحابها من الخليج ووفاة عبد الناصر، فيما كانت بعثة التدريب العسكري الاميركية مسؤولة عن إدارة ملف التسليح والانتشار العسكري في أرجاء المملكة، وهي من يضع خطط التطوير والتحديث. وقد اتخذ قرار منذاك بتغيير هوية سلاح الجو وتطعيمه بالأمراء وإخراج كل العناصر التي يمكن أن تشكل خطراً على النظام السعودي.

ويمكن هنا سرد حوادث هروب الطيارين السعوديين للخارج من بينها:

ـ في 2 أكتوبر 1962 هروب طائرة C-123 Provider سعودية محمّلة بالأسلحة الأمريكية وقد أرسلها الأمير حسن لدعم الحكم الملكي في اليمن إلا أن الطائرة هبطت في مصر.وقد أعطي الطياران اللجوء السياسي في مصر.

ـ في 3 أكتوبر 1963 هربت طائرة تدريب سعودية الى مصر وقد أعطي اللجوء السياسي للطيارين (علي الزهري- عبد الوهاب).

 
المناضل المُختطف ناصر السعيد خطيباً

- في 8 أكتوبر 1963 هربت طائرتان سعوديتان الى مصر.

- في 11 نوفمبر 1990 طائرة F-15C Eagle سعودية هربت الى السودان.

في إطار سياسة تحصين سلاح الجو السعودي، تمّ استبعاد الحجازيين، وذوي الميول القومية واليسارية بل ومن المراكز العسكرية الحساسية والحيوية، وإدخال الأمراء وأبناء القبائل المتحالفة مع آل سعود. في الوقت نفسه، جرت الاستعانة بقوات أميركية وباكستانية للتعويض عن النقص الفادح في عديد القوات السعودية.

درس في العلاقة بين المعارضة والسلطة

في 31 أكتوبر 1962 تشكّلت وزارة جديدة برئاسة ولي العهد فيصل بن عبد العزيز، تولى فيها فهد وزارة الداخلية، ومساعد بن عبد الرحمن عم فيصل وزير المالية، واحتفظ فيصل بوزارة الخارجية بالإضافة الى رئاسة الوزراء، وعيّن عمر السقاف وزير دولة للشؤون الخارجية. وأعفى فيصل المعارض اليساري عبد العزيز بن معمر الذي كان مستشاراً في الديوان الملكي، ثم سفيراً للمملكة في سويسرا، وكانت طريقة اعفائه مهينة بحيث طلب منه اخلاء السكن الخاص بالسفير، واضطر الى الانتقال الى فندق هو وعائلته(9).

عرض السفير المصري على إبن معمر الإقامة في مصر بدلاً من العودة الى المملكة وتعريض حياته للخطر، ولكنّه أصرّ على العودة وبعد فترة وجيزة أعتقل بتهمة التحريض على الملك فيصل، ونقل الى سجن العبيد بالأحساء، حيث خضع لتعذيب شديد القسوة. وحين زارت زوجته الملك فيصل طلباً للعفو عنه بعد تولّيه العرش كان ردّه عليها خشناً وجافاً: «إنسي أن لك زوجاً إسمه عبد العزيز بن معمر»(10).

بقي إبن معمر في السجن 12 عاماً، في الفترة ما بين 1963 ـ 1975، أي حتى مقتل فيصل. وخرج من السجن منهكاً، ضعيف البصر، هزيل البنية حتى وفاته سنة 1985.

وبالنسبة للأمراء الأربعة، فبعد عودتهم في يناير ـ فبراير 1964 الى الديار، جمّدوا نشاطهم السياسي بصورة نهائية. وفيما أقصي طلال عن السلطة تماماً، أعيد إدماج بقية الأمراء في السلطة في عهد الملك فيصل. تولى الأمير بدر (ت2013) منصب نائب رئيس الحرس الوطني سنة 1968. وعبد المحسن (ت 1985) تولى إمارة المدينة المنورة سنة 1965، وكان فواز (ت 2008) نائباً لأمير مكة المكرمة في 1969 ثمّ أميراً عليها 1970.

أما الاحزاب اليسارية والبعثية السعودية فقد شهدت انشقاقات حادّة، فيما عادت كوادرها للسعودية بموجب العفو الملكي الذي صدر بعد اغتيال الملك فيصل وتولي الملك خالد الحكم، وعاد في ذلك العام الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي السعودي اسحاق الشيخ يعقوب، وانصرف للكتابة في الصحف اليومية، وتخلي بصورة نهائية عن العمل الحزبي، برغم من أن الحزب الشيوعي السعودي بدأ سيرته الثانية في ذلك العام.


الهوامش

(1) للتوسّع: الكسي فاسييليف، الملك فيصل: شخصيته وعصره وإيمانه، دار الساقي، بيروت 2012

(2) نايف الهنداس، من الذاكرة التاريخية: الحزب الشيوعي السعودي، المنشور، المنتدى الاشتراكي، نشرة الكترونية ماركسية ثورية، 8 نيسان 2014،

http://al-manshour.org/node/5124

(3) الكسي فاسيلييف، الملك فيصل: شخصيته وعصره وايمانه، مصدر سابق.

(4)عادل مالك، لقاء مع الملك فيصل قبل نصف قرن...عن اليمن، صحيفة (الحياة)، 4 إبريل 2015

(5) د. مفيد الزيدي، موسوعة المملكة العربية السعودية الحديث والمعاصر، دار اسامة للنشر والتوزيع، عمّان ـ الاردن، 2004

(6)عدنان العطار، الحركات التحررية في نجد والحجاز، ص 140 ـ 141

(7) العطار، المصدر السابق، ص130-131

(8) المملكة العربية السعودية بعد الملك عبد العزيز، الفصل الثاني عهد الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود (1964 ـ1975).

http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Atrikia51/AfterAziz/sec02.doc_cvt.htm

(9) علي العوامي، الحركة الوطنية السعودية 1953 ـ 1973، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2012، الجزء الثاني ص 37

(10) العوامي، هوامش ج2 ص 41.

الصفحة السابقة