الدولة المتفلّته

حين وُضِعَت نظرياتُ الدولة، كان في صدارة الهواجس التي تراود المنظّرين السياسيين هي الضوابط القيمية والقانونية للعلاقة بين المجتمع والسلطة، للحؤول دون افتئات أحد الطرفين على الآخر، أي بأن تكون للسلطة هيمنة تمنحها قدرة ضبط العلاقات بين المكّونات السكانية، وتكون للمجتمع حقوق منصوص عليها في القانون، تحول دون تغوّل السلطة.

إن ظواهر «النازية»، و»الفاشية»، و»الشوفينية» و»الإمبريالية» وغيرها في عصرنا الحديث ليست أول ولا آخر الظواهر الدالّة على توحّش السلطة، فقد شهد العالم أشكالاً متعدّدة من النزوع الدموي لحكومات فتكت بالبشر بدوافع إيديولوجية، وأخرى فئوية، وثالثة شخصية، ورابعة مادية، والقائمة مفتوحة..

إن نزوع السلطة الى التفلّت من كل قيد، راسخ في كل الدول على اختلاف أنواعها، ولكن ما يحول دون طغيان نزوع ما في بلد وتوحشّه في بلد آخر هو غياب «الكوابح» القانونية، والمؤسسية، والأخلاقية، والإيديولوجية.

في المملكة السعودية، تتحرر السلطة من أي قيد قانوني، أو مؤسسي، أو أخلاقي، أو حتى إيديولوجي، بل على العكس لقد وفّرت الإيديولوجيا الوهابية مسوغات لتوحّش السلطة واحتكارها المطلق. وكان النظام الأساسي للحكم الصادر في مارس 1992 عوناً للسلطة كيما تجعل من احتكار القرار السياسي والتفرّد بالشأن العام عملاً مشروعاً. وفي غياب مؤسسات أهلية تمكّنها من ممارسة عمل مجموعات الضغط للحيلولة دون تراكم السلطة لدى شخص أو فئة محدودة، أصبح رأس الدولة ومن يختاره من أهله وحلفائه هم وحدهم الفاعلين السياسيين، ومن بيدهم مصير البلاد والعباد.

فمن بين العشرين المليون نسمة، كتقدير متوسط لإجمالي عدد السكان في المملكة السعودية، ينتقي الملك وولي عهده نواة من الأشخاص، وتعهد اليها بمهمة تنفيذ إرادة الملك وإبنه في إدارة شؤون البلاد، على طريقة مستشار الديوان الملكي سعود القحطاني والوزير المفوّض ثامر السبهان، وعادل الجبير، وزير الخارجية بالإسم، وجوقة من الإعلاميين المبتذلين. هذه النواة الواجهة للملك ولولي عهده، تحاول أن تتمدد في المجال العام، وتتواصل مع المجتمع عبر وسائل الاعلام والاعلام الافتراضي، في تطبيق دقيق للنظام الملكي.

ومن أدق خصائص معادلة الحكم هذه، أي التي ترهن الدولة لنواة من الفاعلين السياسيين المختارين بعناية فائقة بحسب الولاء للملك وإبنه، أنها تعكس عدم ثقة السلطة بالمجتمع، ولا تثق بقدرته على المشاركة في حل مشكلات الدولة، أو المساهمة في تعزيز قواعد السلطة السياسية.

ولأنها كذلك، فإن الملك وولي عهده وفريق العاملين معهما يخشون من المؤسسات الأهلية ويعتبرونها مؤسسات خارجة عن سلطانهم، وبؤراً للسخط على أداء السلطة، وقد تتحوّل الى مراكز تجمّع المعارضين الذين قد ينقضّون على قصور الحكم. فكان الحل من وجهة نظر الملك وولي عهده وفريقهما هو وضع كل المؤسسات شبه المستقلة تحت أجنحة السلطة وتحويلها الى هيئات رسمية، كما جرى مع النوادي الأدبية والرياضية وبعض الصحف التي بدأت مستقلة وانتهت إما الى الإغلاق التام وإلى الأبد، أو الإنضواء تحت مظلة الدولة.

وفي تطوّر جديد، يعكس تطوّر تقنية الاحتكار، وفي الوقت نفسه عدم الثقة بالمجتمع، جرى استحداث مؤسسات ظاهرها أهلي وباطنها رسمي بامتياز، مثل الجمعية الوطنية لحقوق الانسان وأضرابها المرتبطة مباشرة بالملك، بحسب الأمر الملكي الصادر بهذا الخصوص.

فالدولة التسلّطية تستعيض عن المبدأ التعددي بالتنظيم الأحادي الشمولي، القائم على أساس تمزيق الأطر المؤسسية ابتداءً من الأسرة وصولاً الى النقابة، والحزب، وحتى المصانع والمتاجر غير المختومة بدمغة «الولاء» للملك.

في السنوات الأخيرة، ومع تزايد القلق على مصير الكيان، بدت نزعة احتكار السلطة أشد ضراوة، وهناك من حاول إخفاء حقيقة التحوّل في السياسة الخارجية من النيابة الى المباشرة، لأن السر المكنون في هذا التحوّل يكمن في فارق القلق لا فارق القوة كما يريده فريق الفاعلين السياسيين الذين يعملون في بلاط الملك وولي عهده..على العكس، في زمن الإستقرار والثقة بالذات لم تكن المملكة السعودية في حاجة الى المباشرة في الخطاب، والمواقف، واللهجة..

اليوم، بات القلق محرّكاً فعالاً لقرارات غير متوازنة، مثل قرار الحرب على اليمن، والأزمة مع قطر، والتوترات المعلنة والمستترة مع ايران وتركيا وسلطنة عمان ومصر وباكستان..قرارات لم تصدر عبر مؤسسات دستورية، وإنما كان المزاج الخاص للملك وولي عهده مسؤولآً مسؤولية مباشرة عن صدورها، ويعكس مستوى الهبوط الذي بلغه صنع القرار في المملكة، بما يجعلها رهينة خاصية شخصية في المزاج، والطريقة، والمصلحة.

قد يكون الخطاب الأعلامي السعودي أبرز تطبيقات النزوع السلطوي المتفلت. الشواهد على ذلك جمّة، ولكن لنطالع ما بدا عليه هذا الخطاب في أزمتين محلية وأخرى خليجية. فقد بدا الخطاب الإعلامي السعودي «قاعيّاً» في التعاطي مع قضايا الداخل (العواميّة مثالاً) ثم في الأزمة مع قطر..وهذا لا ينم سوى عن تيه سياسي تام، إذ باتت الإنفعالية والغرائزية وسطوة اللحظة سمات الخطاب الاعلامي.

طالب بعض الاعلاميين المتحرّرين نسبياً ولي العهد محمد بن سلمان بالتدخل لوقف ما أسموه «المهزلة الاعلامية» ووضع حد «للإسفاف والبذاءة والسخافة» التي سادت لغة الصحافة وجمهور السلطة.

طلب صحيح، ولكن من الشخص الخطأ، فالرجل نفسه كان شريكاً إن لم يكن مهندساً للغة الهابطة، وقد كشف عن طرف منها باستخدامه لغة شوارعية حين سئل عن حملات الانتقادات التي تتعرض لها حكومته في مصر فقال: «أتقصد الإعلام الاخونجي»، في وقت بات الإخوان خارج السلطة، دع عنك لفظة «الإخونجي» التي لا تليق بمن هو في مقام ولي العهد.

خلاصة ما سبق، إننا أمام نموذج دولة تتحرر من الضوابط كافة، وتتصرف عبر نواة من الصبية الذين أصبحوا بمستوى قاع الشارع الذي يخاطبونه، بما أفقد المجتمع ثقته في الدولة، بعد أن كانت السلطة هي الفاقدة للثقة في المجتمع، وإن عدم الثقة المتبادل ينذر بعاقبة سوء على مصير الكيان.

الصفحة السابقة