الدولة الدينيوية

منذ زمن المؤسس الأول، كانت أزمة الدولة مرتبطة بتأسيس هيمنة التقنية على الايديولوجيا، بحيث يمكن للدولة أن تأخذ ذاتية خاصة، لأن وجودها المادي يملي عليها السير في خط تقني تطوّري يتصف أحياناً بالخطر الدائم على القاعدة الايديولوجية التي يرتكز عليها بناء الدولة.

إن التأسيس الايديولوجي للدولة لم يحسم ماهيتها العامة وإن بدا الأمر غير ذلك في الظاهر، إذ لم تكن هذه الماهية قابلة للفصل عن التطور التقني للدولة، الذي يحكم انجازها وتصورات رعيتها حول الوجود، فهذا التطوّر لا يفرض سمات نوعية للخط الانساني التي أبقت الدولة نفسها فيه، بل هو يسير الى لحظة نهائية تكون فيها المواجهة الحاسمة بين ايديولوجيا الدولة ومسارها التقني، وهذا يمثل خط الازمة المستمر..

ان احتدام الصراع بين حلقتي الايديولوجيا والحداثة التقانية كمبرر وجود واستمرار للدولة، كان يخبر على الدوام بأن ثمة حاجة قائمة لانتصار التعقيل على الايديولوجيا باعتبارها المايكروب الذي قد يتطلب وجوده في جسد الدولة في فترة ما من أجل إنجاز مهام محددة، فيما يصبح التخلص منه في فترة لاحقة ضرورياً حفاظاً على سلامة الجسد واستقامته.

لقد أولت الدولة السعودية عناية فائقة بشكلها الايديولوجي الفاقع وفي الوقت نفسه شدّدت على الارتماء في أحضان الحداثة بمعناها التقني المحض، وهذا التوفيق بصورته الظاهرية قد يكون أمراً لاغنى عنه خصوصاً إذا ما أريد من الايديولوجيا أن تكون مطوّعة بدرجة كافية تقنياً، بالرغم من النداءات المحذّرة من خلط الالهي بالشيطاني في مكوّنات الدولة.

حسم الدولة لخلطة متصالحة في مكوّناتها كان محاولة لتهيئة التعايش بين الايديولوجيا الدينية والشروط التقنية لعمل ماكينة الدولة ومؤسساتها ذات الطبيعة الدنيوية المحضة، الا أن ما حصل كان تشويّهاً عملياً بين المنزعين الايديولوجي والتقني داخل الدولة. فقد اجترحت مؤسسة الحكم دروباً وعرة في توجيه الدولة دينياً عن طريق فبركة روابط بين الاصالة والحداثة بالمعنى التقني، بحيث جعلت الدولة مخلوقاً هجيناً أو مسخاً بدون ماهية واضحة.

وفيما تزداد الاستقطابات الداخلية نحو اعادة الدولة الى سيرورة محددة دينية أو حداثية فإن الازمة تتفاقم بصورة دائمة، بعد أن فشلت المهمة التوفيقية في تحقيق نتائج حاسمة ومرضية للاطراف كافة. إن اضفاء الصفة الدينية على الدولة كما أجراه المؤسسين الأوائل لم ينجيها من تهمة الدنيوية، تماماً كما أن اضفاء الصفة الحداثية عليها كما أجراه المتأخرون لم ينقذها من تهمة الرجعية، فقد بقيت الدولة في منظور فريقي الدين والحداثة منقوصة وقاصرة عن الحصول على شهادة تزكية دينية وحداثية.

إن مشكلة الدولة الحقيقة لا تنحصر في كونها دينية أو حداثية بالمعنى التقني بل في توفير شروط الانتقال الى مرحلة تتطلب قوانين عمل وبقاء مختلفة، وهذا لا يعني الاضرار بالقيم الدينية أو الدنيوية بقدر ما هو الانتقاص من هذه القيم في عملية تكييف مشوّهة لبناء دولة كان يفترض أن ترى في التقدّم قيمة جوهرية لا بد من الايمان بها وأخذها بنظر الاعتبار.

إن تحويل القيم الدينية أو الدنيوية الحداثية الى مجرد تحصينات مؤقتة للدولة لمجابهة شروط التقدم والاصلاح لم يؤد في نهاية المطاف سوى الى انحلال هذه الشروط، لأن الدول تخلق أحياناً من تلك القيم حزمة ذرائع وكوابح أمام مرحلة لا تنوي الانتقال اليها أو القبول بشروطها. بكلمات أخرى، إن تشغيل القيم الدينية والدنيوية الحداثية بصورة صحيحة هو الذي يجعل من شروط تقدم الدول ممكن التحقيق، ولكن حين تصبح القيم عقبات في طريق التقدّم، تكون إزالة الزيف الملقى على هذه القيم شرطاً لتحريك عجلة الدولة نحو الامام.

ولعل بالامكان ربط ميل الدولة الى تطويع القيم الدينية والدنيوية لخدمة بأغراض السلطة ذاتها، حيث تتغير العلاقة بالقيم طالما بقيت السياسة الموجّه الحقيقي والوحيد. وحينئذ يصبح الحديث عن قيم مجرّدة حديثاً طوباوياً، لأن الدولة وضعت لنفسها منهجاً خاصاً في التعاطي مع القيم، ولها وحدها حق الاقتناء أو النبذ..

إن وجود الدولة واستمرارها لا يمكن تبريرهما بمقدار قدرة القائمين عليها في البقاء على قيد الحياة فترة أطول، وإنما تظل إمكانية الدولة على تطوير بناها بحسب الزمان الذي تحيا فيه شرطاً ضرورياً ومصيرياً.. فالصمود لفترات طويلة لا يعكس ظاهرة صحية بالضرورة، تماماً كما هو حال أغلب الدول الشرق أوسطية، فقد تبددت أسطورة الدولة العراقية الرائدة في معركة بغداد في الثامن من ابريل تاركة خلفها طيفا من الاسئلة حول الهزيمة الخاطفة لجيش فرّ من لحظة المواجهة..

لقد أحلّت الدولة التضحية بالتقدم، ولكنها في الوقت نفسه لم تنتصر لصالح الايديولوجيا الدينية أو الحداثة المبتورة، بل ظلت وفيّة لطريقة الاختباء وراء سواتر دينية وحداثية.. وهنا يكمن سر الدمار الذي لحق بخط سير الدولة نحو التغيير والاصلاح.

لم تواجه الدولة السعودية أزمة هوية وماهية كما هي عليها الآن، حيث يناضل كثير من القوى الاجتماعية والسياسية من أجل إعادة تركيب الدولة إما على أسس جديدة وتحديداً حديثة، أو إعادتها الى أسسها القديمة التي مثّلت شروط انجازها الأول، أي كونها دولة حاملة لرسالة دينية تبتغي توفير بيئة مناسبة لمزاولة وتطبيق الشريعة. وقد كان الاعتقاد بأن تقاسم المهام قد يخفف من غلواء النقد المتصاعد ضد الطبيعة الفقيرة لخطاب الدولة، على أن صياغة خطاب ديني حداثي لم يحقق اكثر من زراعة توترات مستقبلية، وبحكم الضرورة التقنية فإن هذا الخطاب من شأنه أن يعزز النزوع نحو التجديد، وليس العودة الى شروط الزمن الغابر، إذ أن فرص نجاح نموذج الدولة الدينيوية ضئيلة للغاية.

الصفحة السابقة