صناعة ستالين جديد: محمد بن سلمان

عمرالمالكي

يخشى كثيرون من ان الحملة القمعية المترافقة لاحتكار السلطة في السعودية، والتي يستُخدم فيها الأعلام الحديث بكافة أشكاله، مترافقاً مع سيطرة شبه شاملة على فضاء الحريات العامة، واعتقال كل أصحاب الرأي والنقد.. يخشى هؤلاء من أن البلاد تصنع طاغيتها بشكل لم يحدث لا في المضمون ولا في الشكل في تاريخ البلاد.

 
عبدالله لم يكمل الشوط فيستحوذ على السلطة فعيّن مقرن ولياً للعهد أطاح به سلمان لاحقاً

أوضح أمثلة الطغيان السلماني، هو أنه هو وابنه لم يوفرا أحداً من الاعتقالات وإخماد الصوت، فضلاً عن الإعدامات التي لم يسبق ان شهدت مثلها المملكة في تاريخها، لا من حيث التنفيذ ولا من حيث العدد، كما لا تشهد مدد سجن للناشطين بالطول مثلما شهده عهد سلمان وابنه. فأقل شيء لديهما: سبع سنوات سجن لتغريدة، وأعلاها بين خمس وعشرين سنة الى ثلاثين سنة، لمعتقلين طالبوا بالإصلاحات، وأعمار هؤلاء الضحايا تفوق احيانا الثمانين عاماً، كالمحامي سليمان الرشودي. وفوق ذلك هناك المنع من السفر لمدة طويلة بعد قضاء مدة السجن.

هذا ونحن لا نتحدث عما يجري في السجون، ولا عن التهديدات للعوائل، ولا التعذيب والقتل وتوسع المنع من السفر.

لم يوفر ابن سلمان شريحة اجتماعية، ولا منطقة ولا حقوقيين، ولا اصلاحيين، ولا ناقدين، ولا دعاة دين، ولا موالين حتى للنظام إلا وضربهم بعصاً غليظة. حتى القضاة الخاصين بوزارة الداخلية الذين أصدروا أحكام الإعدام، واحكام السجون طويلة المدى، سجن نحو ثمانية منهم في حملات النظام الأمنية مؤخراً، في معركة احتكار السلطة بقضّها وقضيضها.

اكثر من بلدة تمّ تهديمها على رؤوس سكانها في غرب المملكة (مقنعة مثلاً).

ومدنٌ أخرى تم تدميرها في شرقها بالدبابات (العوامية) لقمع تمرد محدود فيها.

اذن نحن أمام ملك وابنه متغوّلان، يريدان احتكار السلطة وتحويل مسار وراثة العرش، وليس لديهما مانع من استخدام أقصى حدود العنف والدموية.

السؤال: لقد مضى على العهد السلماني نحو ثلاث سنوات، فإلى أي حدّ نجح محمد بن سلمان في مشروعه؟

التغيير السريع
 
سلمان وابنه: الشاب الذي لا وقت لديه للإنتظار والتدبّر في القرارات!

ليس صحيحا القول بأن محمد بن سلمان كان فاشلا بالمطلق. فالمسألة تتعلّق بالموضوعات والخيارات، ومواجهة التداعيات.

خلال السنوات الثلاث رأينا استعجالاً في القرارات والأوامر باتجاه التغيير (بغض النظر عن كنهه).

ربما كان ذلك مدفوعاً بالخشية من وفاة الملك سلمان دون أن يُنجز تحويل السلطات كاملة الى ابنه؛ وهو الأمر الذي وقع فيه الملك عبدالله، الذي تباطأ في تحويل السلطة الى ابنه متعب، فكانت النتيجة اعتماده تلفيقات، جرى بموجبها تعيين مقرن ولياً لولي العهد سلمان، ثم اطيح به بعد موت الملك، والنتيجة تمّ تدمير كامل جناح الملك عبدالله، واعتقال عدد من ابنائه، والقضاء على مستقبلهم السياسي، ونهب ثرواتهم باسم مكافحة الفساد.

الملك سلمان ورث من الملك عبدالله خطّة طريق جاهزة، لم يبقَ من اتمام تطبيقها الا الشيء القليل، فاتخذ اجراءات سريعة قبل أن يدهمه الموت، فيكون مصير ابنائه في رحم الغيب أيضاً لمن يأتي بعده.

ولربما ايضاً كانت السرعة في اتخاذ القرارات، تعود الى الخشية من انهيار الدولة، أو على الأقل انهيار نفوذها الإقليمي. لذا لم يكن هناك تدبّر ودراسة وتمعّن في الخطوات السياسية السعودية، وأوضح مثال على ذلك الأوامر المتسرّعة بشنّ الحرب على اليمن، والتي استدعت أيضاً مواجهات مفتوحة مع أكثر من دولة، وتشكيل تحالفات (واتساب) لا قيمة لها على الإطلاق، اللهم الا دفع تكاليف مالية لشراء ولاءات دول. ومثله فتح أزمة مع قطر، واخيرا مع لبنان، وكلها جاءت بناء على قرارات عشوائية متخبطة بلا دراسة لا في التوقيت ولا في الأدوات ولا في تمعن النتائج الكارثية او السلبية.

وسرعة اتخاذ القرارات وجدناها في الجوانب الاقتصادية، وتحويل اقتصاد الدولة بشكل سريع من اقتصاد ريعي الى اقتصاد ضرائبي يدفع المواطنون أثمانه، من رواتبهم ابتداءً، ومن مدخراتهم تالياً. ما اكثر الضرائب على السلع والخدمات، وآخرها ضريبة القيمة المضافة، لكن هل تحل هذه ازمة الاقتصاد؟.

 
رؤية ابن سلمان عمياء.. مجرد وعود وحبر على ورق حتى الآن ولا أفق لنجاحها

خطط ابن سلمان الإقتصادية ـ جميعاً دون استثناء ـ لم تتح لها دراسة واعية، وانما هي كلها لا علاقة لها ببناء اقتصاد صحيح، ولا بتدبر نتائجها. من يطلع على تفاصيل (رؤية 2030) سيكتشف كم هي أحلام وأوهام يصعب تحقيق معشارها، وليس تحقيقها كلها! من يقرأ تفاصيل أحلام (مشروع البحر ومشروع نيوم، وغيرهما) يدرك بسهولة أن ما يقدمه ابن سلمان لا علاقة له بالواقع. وفي احيان أخرى يدرك حجم المغامرة، مثل مشروع بيع أرامكو النفطية. اما اقصى الوهم فهو زعم محمد بن سلمان بأن البلاد ستستغني عن النفط في عام 2018! من خلال اعتمادها على الاستثمارات فقط!

سرعة التغييرات الاقتصادية وزيادة الضرائب، حذرت منها مؤسسات مالية دولية بأنها قد تسبب اضطرابات سياسية؛ وزيادة في الجريمة، وعدم استقرار اجتماعي؛ وقد تقضي سياسة التقشف على النمو الاقتصادي، وتزيد من البطالة، وهو ما حدث بالفعل. بل حدث ما هو اكثر وأسوأ منه.

البعض يعزو سرعة التغيير في السعودية ـ في مجالاته المختلفة ـ بأن الأمير الشاب محمد بن سلمان لا يريد الإنتظار، لكننا نعلم ان القرار ـ كما يفترض ـ هو بيد أبيه الملك، الذي دفع بابنه الى الواجهة، وقد أعطاه الصلاحيات، وجلس هو على الكرسي الخلفي يتفرّج ويعمل كما لو كان مستشاراً، وفي هذا إبعاد لنفسه عن الكلام واللغط بحقه في حال فشلت خطط ابنه، فالإبن هو من سيتحملها، وفي نفس الوقت فإنه بعمله هذا، يعطي ابنه الفرصة الكافية ليمارس المُلك كأن أباه ليس حياً، فيفوز بالمجد وحده، ويعمّد موقفه كملك قادم يمكن الوثوق به.

وتيرة التغييرات على الصعيدين الاجتماعي والإقتصادي، ستجعلان السعودية بلداً مختلفاً في ظرف زمني قصير قد لا يزيد عن العامين، وربما أقل من ذلك حتى. وبسبب اتخاذ القرارات السياسية الحادة والعنيفة، والحروب التي شنتها الرياض، ستكون السعودية غريبة ـ وهي كذلك الآن ـ على اولئك الذين يشهدون كيف تحولت المملكة الى بلد معتدي ودموي يصدر الحروب والإرهاب والتطرف ويعادي الأقربين كما الأبعدين.

 
تصفية الخصوم: أسقط ابن نايف فاستسهل اسقاط البقية!
أزمة الارتباطات الخارجية

دائرتان عمل الملك سلمان وابنه عليهما منذ مجيئهما الى الحكم والامساك به.

دائرة داخلية، وتشمل: تصفية مراكز القوى داخل العائلة المالكة؛ وإضعاف المؤسسة الدينية على المستوى الاجتماعي؛ وانتهاج سياسة اقتصادية مختلفة؛ ولبرلة الحياة الاجتماعية والتي محورها المرأة السعودية وحقوقها.

في كل هذه القضايا ـ وهي الأهم بالنسبة لأمير شاب يريد الوصول الى السلطة، أو لملك يريد توريث العرش لابنه ـ يمكن القول أن هناك نجاحاً في السيطرة على مفاصل السلطة والحكم، وضرب العائلة المالكة واخضاعها لسلطان محمد بن سلمان.

لم يعد هناك من قوى منافسة على العرش بعد اليوم. هذا يمثل نجاحاً، وان كانت اكثرية العائلة المالكة منزعجة مما جرى.

أيضاً، فإن ضرب المؤسسة الدينية، وتهميشها، وشبه الغاء هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم ضرب التيار الصحوي تحت زعم العمالة لقطر، كل هذا تمّ بالفعل وهو يعدّ نجاحاً، بغض النظر عن المرارة لدى الوسط السلفي النجدي خاصة.

ومثل ذلك، فرض سياسة اقتصادية تقشفية وضرائبية، أزعجت معظم المواطنين ولازالت.. فقد فرض الأمير محمد بن سلمان ما يريد، بغض النظر عن طبيعة تلك السياسة وتفاصيلها. لقد أحدث التغيير وكفى!

في ميدان الحياة الاجتماعية جرى تغيير هائل، عماده هيئة الترفيه ونشاطاتها، وأقرّ حق المرأة في قيادة السيارة خلال أشهر قادمة. هذا سيحدث تحولاً اجتماعياً غير مسبوق في تاريخها، وهذا الفعل له مؤيدوه الكثر داخل المملكة، بل يمكن القول أن هناك أكثرية تميل اليه وتؤيده.

 
متعب.. أنتم السابقون ونحن اللاحقون!

زد على ذلك فإن مكافحة الفساد ووضع المفسدين في السجون، برغم ان العملية انتقائية، وأنها جاءت في ظروف اقتصادية صعبة للمواطن والدولة، وبرغم أن ابن سلمان وأبيه ليسا بعيدين عن الفساد أن لم يكونا من أكبر رؤوسه، وايضا برغم الابعاد السياسية لشعار مكافحة الفساد.. فإن المكافحة هذه غير مسبوقة ونالت من الرضا والإعجاب حداً جماهيرياً بعيداً.

اذن ضمن الدائرة الداخلية المحلية، هناك نجاح كبير لمحمد بن سلمان وأبيه، فقد حققا ما أراداه، وأمسكا بالسلطة بكل اطرافها، ويكفينا ان نلقي نظرة على مناصب محمد بن سلمان، لنعرف حجم السلطة غير المسبوقة التي بيديه.

الدائرة الخارجية: كان يمكن أن يتعدّل ميزان الرضا والسخط الشعبيين على السياسات (السلمانية) لولا أن العهد السلماني شهد أيضاً سياسات خارجية مندفعة متهورة مكلفة اقتصادياً ارتدت على حياة المواطنين اليومية. ونقصد هنا تحديداً: حروب النظام السلماني الخارجية في اليمن وسوريا وقيامه بدور الرائد في الثورات المضادة في مصر والبحرين، فضلا عن التخريب المتعمد للوضع في العراق وسوريا. هذه المعارك التي خاضتها السعودية، كانت في معظمها غير مدروسة، وغير ناجحة. بل هي فاشلة فشلاً ذريعاً.

نعم.. فإن الدور السعودي في البحرين ومصر وسوريا والعراق سابق على العهد السلماني، وقام به الملك عبدالله.

الملك سلمان افتتح عهده بحرب اليمن، وواصل حرب سوريا والعراق، وأشعل أزمة قطر التي كادت ان تصل الى الحرب المباشرة، ثم اخيراً اشعل معركة مع لبنان بإقالة الحريري واحتجازه.

لماذا قام سلمان بهذه السياسات، طالما ان لديه معركة داخلية لتوريث ابنه الحكم؟

اذا كان الوضع الاقتصادي سيئاً بفعل الفساد، ودفع تكاليف الثورات المضادة، والتخريب في سوريا والعراق، لماذا يعمد سلمان وابنه لاشعال حروب وتأسيس تحالفات عشرية وغير عشرية مكلفة، في حين كان ينبغي له ان يركز على بناء الوضع الداخلي ثم يتجه الى الخارج، لماذا يشعل مواجهتين مكلفتين داخلياً وخارجياً؟

 
اعتقال الوليد بن طلال ومصادرة امواله وانضاب قوته وقتل طموحه السياسي!

اذا كانت القرارات الداخلية ناجحة في كثير منها، فإن حروب سلمان وتدخلاته كانت كلها فاشلة: في اليمن وقطر ولبنان وكردستان العراق وايران. ولهذا الفشل ارتدادات سياسية واقتصادية وأمنية.

وعموماً فإن دوافع الفعل الخارجي السلماني من حروب ومعارك محددة أهمها اثنان:

الاول ـ ان المملكة حين استلمها سلمان لازالت في وضع نزف سياسي في نفوذها، فكأن النخبة النجدية أرادت القول بأنه لن ينجح ايقاف هذا النزف الا بسياسات (حازمة) تصل حدّ الحرب. ظنّ هؤلاء ان سبب خسارة السعودية لنفوذها انها لم تفعّل أوراقها السياسية والأمنية والاقتصادية، وتتخذ سياسات حازمة تجاه خصومها، وكذلك تجاه حلفائها. هذه المقاربة السعودية قادت الرياض مباشرة الى حرب اليمن، ولهذا سميت (عاصفة الحزم)، وسمي الملك بـ (ملك الحزم)، وكانت كارثة لليمن، وهزيمة للسعودية، بانت معالمها مبكراً. وحين استعجلت السعودية نصرا على قطر، خسرتها بعد اسبوعين، وظنّت انها بحزمها مع قطر إنما تؤدّب الكويت وسلطنة عمان، فلم يحدث ذلك، وبالتالي هي على أبواب تفكيك مجلس التعاون الخليجي الذي يعدّ أداتها الأساسية في السيطرة وفي قوتها الاقليمية.

الثاني ـ ويتعلق بدور المملكة كجزء من حلف امريكي في المنطقة، لديها وظائف محددة فيه، وهذا فرض عليها الاندماج في سياسات عداء خارجية، بعضها على الأقل استمرار لما سبق، وبعضها الجديد له علاقة بالثمن الواجب ان يدفعه سلمان وابنه نظير قبول واشنطن بابن سلمان ملكا، وبأن تخفف الضغط على الرياض كراعية للإرهاب (قانون جاستا). الثمن هو: علاقة مع اسرائيل؛ ومئات المليارات يتم دفعها كما حدث لترامب في زيارته للرياض، وتعديل في سياسات الرياض الداخلية بحيث تخفف من بؤرة التطرف والتكفير. وعليه، فإن بعض سياسات المملكة الخارجية في العهد السلماني، مطلوبة امريكيا واسرائيلياً، بما فيها التصعيد ضد ايران.

ومهما يكن من أمر، فإن السياسة الخارجية السعودية غارقة في الخسائر والفشل، ولا يختلف العهد السلماني عن سابقه إلا في الحجم، خاصة فيما يتعلق بحرب اليمن.

 
قبل رأس المفتي، واحتكر السلطة الدينية بدلا منه!

كان هناك من ينظّر لحقيقة حاجة المملكة لتهدئة صراعاتها الخارجية خاصة مع ايران، وايقاف عدوانها على اليمن، وأن تتخفّف من تدخلاتها في العراق وسوريا ومصر، كوسيلة مهمة لإنجاح رؤية ابن سلمان الاقتصادية، فالرؤية بحاجة الى امكانيات مادية والى بيئة ومناخ ملائم، وعدم الاستقرار لا يسمح لها بالنجاح. لكن الرياض عكست الآية، وأشعلت التوتر أكثر حتى في محيطها الخليجي. اخيراً قيل بأن الرياض قد غيّرت موقفها وتخففت من تدخلاتها في سوريا والعراق، لكن الحقيقة الصلعاء هي: الرياض خسرت المعركة تماماً في هذين البلدين، ولم تعد بيدها أية اوراق تلعبها، وليس لها أية مكاسب فيهما.

أزمتا الخيارات والتداعيات

لكل قرار اتخذه محمد بن سلمان وأبوه الملك تداعيات، ومتواليات.

القرارات أشبه ما تكون بخيارات، وكل خيار سياسي جرّ معه قرارات أخرى، بالنظر الى تداعياته.

بقدر كبير من القناعة، يمكن القول بأن مجمل القرارات التي اتخذها الملك وابنه منذ وصولهما للسلطة، كانت مترابطة إجبارياً، يستوي في ذلك الترابط بين السياسة والاقتصاد، وبين الحرب والسياسة والاقتصاد والاجتماع.

حرب اليمن مثلاً، لا بدّ ان تؤدي الى تفاقم الأزمة الإقتصادية، التي هي الأخرى لها انعكاسات اجتماعية.

وحرب اليمن مثلاً، غذّت الخلافات داخل العائلة المالكة ـ ليس في بدايتها ـ وإنما بعد أن بان فشلها، وأرادت اطراف داخل اجنحة العائلة المالكة استخدامها ضد ابن سلمان، في عملية الصراع على السلطة.

وكانت هناك نظرية القفز الى الأمام، والحرص على تحقيق منجز يغطي أو يبرر حرب اليمن، فكانت الأزمة مع قطر محثوثة بذلك الوهم. ومحثوثة ايضاً بالرغبة في إيجاد حدث يغطي على عملية اقالة ولي العهد محمد بن نايف. وإقالة ابن نايف سببت شرخاً في بنيان العائلة المالكة والأجهزة الأمنية، وامتعاضاً داخل الاسرة والمؤسسة الدينية.

والخشية من جاستا وترامب، استدعى اثقال كاهل الدولة برشوة غير مسبوقة في التاريخ تصل الى 480 مليار دولار. وهذا استدعى ايضاً استمرار العمل بوتيرة متسارعة لاستحصال المبالغ من الضرائب. وللتنفيس على المواطنين المستائين، كان لا بد من اشغالهم بهيئة الترفيه وبرامجها. وهيئة الترفيه ما كان لها ان تنجح او حتى تبدأ قبل الاطاحة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الاطاحة التي أدت الى توتر في العلاقة بين التيار السلفي وآل سعود.

 
احتجاز الحريري سبب كارثة للنفوذ السعودي بلبنان

وأيضاً من أجل استكمال حلقة السيطرة على السلطة من قبل ابن سلمان، كانت اقالة متعب وزير الحرس واعتقاله، وهذا أدى الى ضرب القبائل الأكبر والأقوى المناصرة للحكم (مطير وعتيبة). وما كان هذا التغيير المتسارع يأتي بدون رضا ترامب، وثمن ارضائه ليغطي السياسات السعودية هو استحلابها ماليا اكثر، وتطويعها لاستعلان علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وهكذا.

لكن وبشكل مجمل، فإن قرارات ابن سلمان ـ الداخلية التي نجح في الكثير منها، والخارجية التي فشل فيها كلها تقريبا، كان لها تداعيات سلبية، نشكّ أنه وأبوه كانا على وعي دقيق بها، او اخذاها بالحسبان. لنأخذ بعض الأمثلة:

هناك حديث واضح، عن تحوّل جوهري في أيديولوجية الدولة المذهبية السلفية، هذه الأيديولوجية التي سوّغت توسّع ال سعود واحتلال المناطق الأخرى بقوى نجد القبلية والحضرية، ما أفضى الى قيام الدولة السعودية. مؤشرات ذلك اضعاف واعتقال رجال من المؤسسة الدينية او المحسوبين على التيار السلفي؛ ومشاريع محمد بن سلمان الاستثمارية في السياحة تنبيء عن ذلك، والنقاشات على الصفحات المحلية بشأن العلمانية والليبرالية وضرورتهما ـ وان بصورة مبتورة ـ تعطي هذا الانطباع؛ كما ان تحريض تلك الصحافة على التيار السلفي والمشايخ واضحٌ لا لبس فيه؛ فضلاً عن أن لبرلة المجتمع بما في ذلك قيادة المرأة للسيارة والسفر بدون محرم والغاء نظام الولاية (الوصاية/ وليس القوامة) بما يغير الصورة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، كان أكبر من طاقة المشايخ الوهابيين على التحمّل مهما كان ولاؤهم، حتى ان الشيخ الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، رفض ان يعطي رأيا في الموضوع رغم الإلحاح عليه بذلك.

ماذا يعني التحوّل عن أيديولوجية الدولة الوهابية؟ انه يعني تمزّقاً في النسيج النجدي الحاضن للسلطة ابتداءً. وهو يعني اضعافاً لشرعية الحكم، دون أن يتوفر البديل للنظام؛ فلا هو نظام ديمقراطي، ولا هو يعد حتى ببعض الاصلاحات السياسية وليس في نيته فعل ذلك. وإيجاد مصدر آخر للشرعية يعوض النقص فيها، يحتاج الى وقت غير قصير، خاصة وأن النظام السلماني يعاني نزفاً في هذه الشرعية بسبب الأزمة الإقتصادية التي جلبت عليه نقمة الأكثرية الشعبية، وهو اليوم في حال تقشف، ولا يستطيع ان يقدم منجزاً يبقي (شرعية الانجاز) على حالها، فضلاً عن أن يطورها لتعوّض الناقص منها.

 
العدوان السعودي على اليمن: نزف انساني، وخسارة سعودية محققة

نقصان الشرعية ونزفها، ستكون له ارتدادات على الاستقرار، أهمها: نمو داعش في حاضنة النظام، وضمن مدرسته الفكرية المفرخة لفكر داعش المتطرف. فضلاً عن ازدياد المعارضة المطالبة بإزالة النظام أو إصلاحه. وقد يتطور الأمر الى الأسوأ في حال فشلت المشاريع الاقتصادية، حيث من الواضح نفاذ صبر المواطنين من الأزمة الاقتصادية.

فوق هذا، فإن مكانة المملكة في العالم الاسلامي المبنية على أساس احتضانها الأماكن المقدسة، ستتراجع كبيراً، كما ستتراجع السياسة الخارجية السعودية التي تعتمد في كثير من جوانبها على النفوذ الفكري الوهابي، حيث لا أحد من المسلمين يتصور ان تكون السعودية دولة مثل باقي الدول، كالإمارات او قطر او البحرين او غيرها.

الانتقال من نظام اقتصادي قائم على (الريع) تكون فيه الدولة صاحبة تقديمات واعطيات وخدمات، تفادياً لمنحه (حقوقاً سياسية).. الى نظام ضرائبي صارم ومتسارع، ليس فقط يقضي على الريع، بل يزيد مطالباً المواطن بضرائب متعددة لا نهاية لها، وأثماناً باهضة على خدمات الدولة.. هذا كله له تداعيات واضحة على الأمن الاجتماعي. فحتى الآن زادت نسبة البطالة، وأغلقت الشركات، وهربت الأموال الى الخارج، خاصة بعد الضربات الأخيرة التي وجهها محمد بن سلمان لأصحاب رؤوس الأموال ـ الحلفاء للنظام سابقاً.

واضحٌ جداً، أيضاً، انه منذ أكثر من عام، تصاعدت الجريمة بشتى أشكالها، انعكاسا لواقع اقتصادي متدهور. والنظام هنا، حين اتخذ قراراته الاقتصادية، كان جلّ همّه تخفيض نفقات الدولة والغاء المشاريع الحكومية، من اجل توفير أموال لحروبه ولإرضاء أسياده الأمريكيين تسهّل الفرار من تداعيات (جاستا)، وتقبل بتتويج ابن سلمان ملكاً؛ لكن هذا لا يكفي لتعويض تراجع اسعار النفط، فكان لا بد من الضرائب، دون ان يدور بخلد الأمير وأبيه بأن المواطن لا يستطيع تحمّل نظام سياسي وأمني صارم، اضافة الى وضع اقتصادي غير مريح؛ وان التحول الى الضرائب يفترض ان يترافق معه انفتاحاً سياسياً (مقابلا). فالضرائب ثمنها سياسي (بعض الحريات والحقوق السياسية على الأقل). لكن ابن سلمان لا يريد ان يدفع ثمناً، متعللا بأن الأزمة الاقتصادية مؤقتة، وان الضغط على الرواتب والعلاوات محدود، وان الرؤية الاقتصادية التي وضعها ستكون فاعلة في وقت قريب.

 
معركة مع قطر.. وخسارة أخرى للسعودية

لكن هذا ليس صحيحاً. إذ لم تكن الاجراءات الاقتصادية التي اتخذها ابن سلمان مؤقتة أو تتعلق بوقت او محدودة بزمن، بل هي حزمة تؤكد تحولا عميقاً وجوهريا ومستمرا في السياسة الاقتصادية للدولة. وبالتالي لن يتغير الحال في المستقبل القريب، ولا البعيد في النهج الاقتصادي للدولة.

من المؤكد ان مشاريع التحول الاقتصادي محفوف نجاحها بالشكوك، وسلوك ابن سلمان الشخصي في ادارة الاقتصاد لا يشي بحلول للأزمات الحادة التي تبحث عن حلول فورية. وعليه يمكن التوقع بأن الوضع الاقتصادي في السعودية سيكون عامل اضطراب سياسي وأمني في المرحلة القادمة، بل قد يكون المحرك الأساس لذلك الإضطراب المتوقع. هذا لم يعره ابن سلمان اهتماما كافياً، ان اهتم به أصلاً.

في موضوع السياسة الخارجية، تبدو الصورة اكثر وضوحاً. فتداعيات العدوان السعودي على اليمن اكثر من ان تحصى. العسكرية والأمنية والإقتصادية والنفسية، فضلاً عن آثارها على سمعة السعودية في محيط العالم العربي وفي العالم أجمع، كدولة معتدية لا تحترم الانسان، وترتكب ابشع الجرائم. التداعيات الأخطر لهذه الأزمة، ليس فقط خسارة النفوذ في اليمن بشكل كبير، بعد ان كان مزرعة للسعودية لا ينافسها فيها أحد. فالجراح التي سببتها الأزمة، ستكون لها آثار على العلاقة بين البلدين لعقود قادمة. والاختراقات اليمنية للأراضي السعودية قد تنذر بما هو أخطر. فقد تسقط مدن سعودية كبرى، وقد تُضرب مدن في نطاق الرد بالمثل (حرب المدن بالصواريخ والطائرات) بما يكون له آثار كارثية على مصير الحرب وعلى الوضع الداخلي برمته. وقد تتصاعد الأزمة وتصل الصواريخ الى المنشآت النفطية السعودية، فتشعل ازمة دولية من جهة ارتفاع أسعار النفط، ومثله قد يحدث في حال التعرض للسفن النفطية السعودية في البحر الأحمر.

في كل الأحوال فإن حرب اليمن خاسرة بكل المقاييس، ولكن الحمق والرعونة وحدهما هما الدافعان الأساسيان للاستمرار فيها.

السعودية التي حاربت العراق وسوريا بشباب من دواعشها وقواعدها وبفكر وهابي متطرف، خسرت حربها في البلدين، وقد ترتد عليها حيث حذر موالون علناً من ان هذه الفترة هي فترة الانتعاش الداعشي الداخلي.

 
ترامب غطّى السياسات السلمانية واستلم الثمن ولازال (يحلب البقرة السعودية)!

فتح المعركة السياسية باستمرار على ايران والتصعيد السياسي معها، لم يكسب الرياض شيئاً البتة، بل زاد من سرعة الانهيارات الإقليمية وتضاؤل النفوذ السعودي.

وفتح معركة مع قطر اياً كانت الأسباب، أضعف السعودية في بيتها الخليجي؛ واصرارها على على الاستمرار فيها لا يخدم سوى المنافسين الاقليميين: تركيا وايران.

إقالة الحريري مؤخراً واحتجازه بالصلافة التي شهدناها وغير المسبوقة في العرف الدبلوماسي وفي علاقات البلدين، جاء بنتائج عكسية، فقد اضعفت الرياض نفسها، وفضحت تصرفاتها وعنجهيتها، ووحدت اللبنانيين ضدها، واضعفت حلفاءها (14 آذار)، وأسقطت بنفسها أقوى حلفائها، وفي النهاية كان الرابح من أرادت قمعه، وهو حزب الله، الذي خرج منتصراً في اللحظة التي تم الاعلان فيها عن الاستقالة من قناة العربية. حتى لو تراجعت الرياض، فإن الجرح عميق، والخسائر باهضة الثمن. وانكشاف تحالفها مع اسرائيل واحدٌ منها، خاصة مع دعوتها لتل ابيب بان تشن حرباً على لبنان واستعدادها لتمويلها.

هذا شيء من جردة الخسائر على الصعيد الخارجي وتداعيات السلوك السياسي السعودي في العهد السلماني. ما يجعلنا نميل الى القول بأن الرياض في عهد سلمان وابنه يقومان بمغامرات غير محسوبة على الصعيد الخارجي، لا علاقة لها بقراءة ولا بدراسة. وحتى المغامرات الداخلية، فإن ما ينجحها ليس صحة السياسات، بقدر ما هنالك عجز شعبي وضعف في مراكز القوى التي يمكن لها ان تقاوم سلمان وابنه فتوقفهما عن المغامرة (خذ مثلاً بيع ارامكو، وهو امرٌ لا يقبل به معظم الاقتصاديين المحليين والمواطنين، لكن احداً لا يستطيع ان يواجه ابن سلمان، وبالتالي فإن امضاء قراراته وتطبيقها لا يكشف عن صحة لها، بقدر ما يكشف عن ضعف في مواجهتها).

الصفحة السابقة