لبنان: هزيمة سعودية بالتقسيط

أزمة الحريري تعصف بعنجهية محمد بن سلمان

يحي مفتي

ليس من الواضح بعد ما اذا كان التراجع النسبي السعودي في معركته المفتعلة مع لبنان، سيكون بداية مرحلة من التعقل واعادة الحسابات في الملفات الاخرى العالقة، والتي فجر فيها النظام السعودي سلسلة من الازمات في المنطقة، بدءا من الحرب الظالمة على اليمن، الى حصار قطر، والحرب المجهضة على لبنان، وكلها تحت عنوان العداء لايران.

المؤكد ان عاصفة محمد بن سلمان، لم تكن عاصفة حزم، بل مجرد زوبعة في فنجان، وان هيجان موجه تحطم على الصخرة اللبنانية، وعاصفته عصفت بمصداقيته أولا، وبركائز قوته ونفوذه في لبنان ثانيا، ووضعت ادواته او «حلفاءه» في حالة من الحرج والضعف لا يحسدون عليها.

صحيح ان ما تم التوصل اليه وقبوله خروج رئيس وزراء لبنان سعد الحريري الى فرنسا كمرحلة اولى، هو بمثابة هزيمة تتجرع السعودية كأسها في جرعات متدرجة، لتكون هزيمة بالتقسيط لمشروعها في لبنان، الا انها لا تخفي معالم الفشل والتراجع، والاعتراف به، وهو ما يمكن تلمسه بالعناوين التالية:

  • الفشل في تحويل الازمة الى صراع لبناني داخلي.
  • اللبنانيون والعالم كله تعامل مع استقالة الحريري باعتبارها تدخلا سعوديا سافرا في الشأن اللبناني.
  • تفاقم الصراع اللبناني السعودي بشكل علني، والتهديد برفعه الى الهيئات الدولية.
  • انتقال الازمة سريعا الى ازمة سعودية داخلية، ومع المجتمع الدولي ثانيا.
معركة خاسرة
 
سي ان ان مندهشة: اختفاء رئيس وزراء في الرياض!

منذ البداية، رأى المراقبون ان المعركة السعودية ضد لبنان لا افق لها، وهي اشبه بمغامرة غير محسوبة، ومتسرعة، حيث ان التدخل السعودي السافر في الشأن اللبناني الداخلي، تحول سريعا الى حبل التف حول عنقها.. وفي حين كانت الرياض تأمل ان تدفع لبنان الى ازمة سياسية ودستورية خانقة، تجبره على طلب النجدة منها او من واشنطن.. وجدت نفسها سريعا عرضة للنقد والتهديد باتخاذ اجراءات عقابية على المستوى الدولي، عطفا على عزلتها التامة على الصعيدين العربي والاقليمي.. بحيث ظهرت مرة اخرى مع دولة الكيان الصهيوني وحدهما في خندق العداء للمقاومة ومحاولة تخريب الساحة اللبنانية.

لبنان الاصغر بين شقيقاته العربيات، لم يكتف بإفشال المخطط السعودي في مهده، بل تحول الى الهجوم، وبات على الرياض ان تبرر وتفسر وتجد المخرج لأزمة من صنع يديها.

المؤشرات المتوفرة حتى الساعة تؤكد فشل الخطة التي تبناها الامير محمد بن سلمان لاستخدام الساحة اللبنانية ورقة في حربه البهلوانية ضد ايران. وربما كان السؤال الاهم في هذه المرحلة يتعلق بأسباب الفشل في الشق اللبناني من استراتيجية ولي العهد السعودي، وعما اذا كانت هذه المعركة ستكون محطة فاصلة في اجهاض كامل استراتيجتيه الاقليمية، تمهيدا للانطواء على الداخل، وتركيز جهوده على مهمته الاساسية في تنظيف طريقه من الامراء والطامحين ومصادر الخطر على توليه سدة الحكم في مرحلة قريبة؟

أهداف الهجمة السعودية

بعد مقدمات متسارعة لم تثر اهتمام المراقبين كثيرا، تمثلت بمجموعة من المناورات السياسية، والزيارات والتغريدات التي اجراها وزير شؤون الخليج ثامر السبهان، خرجت تصريحات تهدد اللبنانيين بالويل والثبور، وتطالبهم بالتحرك ضد رئاسة الجمهورية والحكومة بذريعة المواجهة مع حزب الله والمقاومة.

السبهان استدعى عددا من السياسيين اللبنانيين واجرى اتصالات ميدانية مع عدد اخر، وكان واضحا ان رئاسة الحكومة اللبنانية ـ التي يتولاها سعد الحريري زعيم تيار المستقبل الذي تعده السعودية ذراعها السياسية والامنية في لبنان ـ لا يساير هذه الدعوة التصعيدية السعودية.

وعلى العكس من ذلك فقد تعمد الحريري ان يصدر تصريحات متتالية، وان يستغل اي مناسبة للخروج امام الكاميرات، ليؤكد:

1- الانسجام الداخلي على مستوى الحكومة والعلاقة مع الاطراف اللبنانيين، ومن بينهم حزب الله، وخصوصا حالة التوافق مع رئاسة الجمهورية التي لم تعكرها اي شائبة منذ ان تسلما مهماتهما الرئاسية، اثر ما سمي صفقة التسوية التي امنت انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية، وسعد الحريري رئيسا للحكومة.

2- تصرف رئيس الحكومة على اساس ان حكومته باقية حتى الانتخابات المقبلة في مايو 2018، مشددا ومتباهيا بالانجازات التي حققتها على مستوى الداخل اللبناني، سياسيا واقتصاديا، وعلى مستوى تأمين حماية لبنان من العواصف الامنية التي تعصف بالمنطقة.

ومن الطبيعي ان هذه الصورة، التي يعرفها اللبنانيون والمتابعون للشأن اللبناني، لا تنسجم مع التسخين المفاجئ والمتسارع الذي اراده السبهان بأوامر مستعجلة من ولي مره، وهي بالتأكيد لا تتوافق ايضا مع العلاقات الهادئة والطبيعية بين لبنان والسعودية.. التي شهدت بعض المناوشات في الاشهر السابقة، على خلفية الرغبة السعودية في تجيير موقف لبنان لصالحها، في معركتها الاقليمية الرئيسية، ومعاركها المتنقلة بين الدول العربية.

وعلى الرغم من كل هذه المقدمات، ظل الهجوم السعودي الاخير بمثابة مفاجأة، ان من حيث قوته او اهدافه المعلنة.

وظهر ان النظام السعودي يريد الاستفادة من فرصة تحالفه مع الادارة الاميركية، والضوء الاخضر المعطى له باستعادة ما يسميه التوازن في ميزان القوى الاقليمي، المائل بقوة للنفوذ الايراني في المنطقة.

اختار محمد بن سلمان لبنان باعتباره الحلقة الاضعف بين دول المنطقة، والمكان الذي لا يزال للسعودية فيه قدر من مراكز القوة والتأثير، نسبة الى ما يعانيه البلد من انقسامات تسهل للاعب الاجنبي ان يستفيد من التناقضات بين قواه السياسية ومكوناته المذهبية.

أين أخطأ النظام السعودي

لكن حسابات الحقل لم تتوافق مع حسابات البيدر، بحسب المثل الشعبي اللبناني، ويبدو ان المخطط السعودي استعجل في اتخاذ القرار، وتجاهل:

  • الواقع الدستوري وقوانين اللعبة السياسية في لبنان.
  • موازين القوى الحالية، والتوازن الحساس بين المكونات اللبنانية.
  • ضعف العامل الاسرائيلي كعنصر تهديد للداخل اللبناني.
  • توسيع مروحة الاهداف السعودية، وحلم ابن سلمان بتحويل لبنان الى ميدان لتصفية الحساب مع المقاومة، واستغلالها لتحسين شروط معركته في اليمن.
 
الحريري: أنقذه عون ونصر الله من ابن سلمان!

الخطة السعودية تمثلت باشعال الداخل اللبناني بالصراع على خلفية الموقف من المقاومة، واستعادة الشعارات القديمة التي استخدمت لهذه الغاية في العام 2005 وما تلاه.

وبحسب ما كشفته مصادر الرئاسة اللبنانية، فإن المخطط السعودي كان يقضي بتفجير البؤر الامنية، وتحريك الخلايا الوهابية الارهابية النائمة، سواء في بعض المدن اللبنانية ذات الطابع المذهبي المعروف، او في مخيمات اللاجئين السوريين، والفلسطينيين في لبنان. واعلن المستشار الاعلامي والسياسي للرئيس ميشال عون، ان الرئاسة تلقت تحذيرا مباشرا من ان قرارا دوليا اتخذ على اعلى المستويات لتغيير الوضع في لبنان، وانهاء وجود المقاومة، ووضعه تحت النفوذ السعودي الاسرائيلي، في الصراع الاقليمي الكبير.

هذا القرار يعني حربا شاملة علىى لبنان، لا تستثني التهويل بوقف التمويل وطرد العمالة اللبنانية في الخليج، واثارة الاضطرابات الداخلية، وصولا الى غزو اسرائيلي اميركي واسع، من خلال التحالف الدولي بحجة الحرب على الارهاب.

وقد اعتمدت الخطة السعودية تكتيكات متدرجة، تستهدف الاطاحة بزعامة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الذي اعتبرته ضعيفا وغير قادر على المواجهة.. ومحاصرة الرئاسة اللبنانية، وتصنيف الرئيس ميشال عون في خانة الاعداء المباشرين للسعودية.. والتعامل مع حزب الله باعتباره قوة ايرانية تحتل لبنان وتهيمن على قراره.

وبالتالي كان رهان الرياض على ردة فعل عنيفة من جانب القوى المستهدفة، تساعدها في رسم خطوط التماس الجديدة في لبنان، وتحريض الشارع السنّي والماروني ضد الشيعة.

إستراتيجية المواجهة اللبنانية

ان اهم عنصر في مصادر القوة للمقاومة هو المبدأ التالي: ابطال التفوق في السلاح الذي يمتلكه العدو، واستغلال مصادر القوة الذاتية.

وتطبيقا لهذا المبدأ، بنت الدولة اللبنانية اسراتيجيتها للمواجهة على القوة السياسية، وعدم الذهاب مع الدعوة السعودية للتصعيد العسكري والاستفزاز الاعلامي، واستخدام موارد الدولة اللبنانية وعلاقاتها الدولية بطريقة مبدعة.

ومنذ اللحظات الاولى لاعلان الحرب السعودية على لبنان، كانت اهداف وتكتيكات النظام السعودي مفضوحة امام صاحب القرار اللبناني.. فسارع الامين العام لحزب الله الى الظهور بعد اقل من اربع وعشرين ساعة على اعلان استقالة الحريري من الرياض. قال السيد حسن نصر الله إن استقالة رئيس الوزراء قرار أملته السعودية، ودعا إلى الهدوء والحفاظ على أمن لبنان واستقراره. وكشف أنه لم يكن هناك سبب داخلي يدفع الحريري لتقديم استقالته، وأنه يجب البحث عن سبب الاستقالة في السعودية، رافضا اي حديث عن مضمون الاستقالة التي اعتبرها املاء سعوديا يمكن الحديث فيه في اطار العلاقات معها مباشرة.

وفي اليوم التالي عقد اجتماع عاجل بين رئيسي الجمهورية ومجلس النواب، اكدا فيه رفض الاستقالة من حيث الشكل، وطالبا بعودة الحريري الى بيروت، ليُبنى على الشيء مقتضاه.

وعلى الصعيد الامني سارعت السلطات اللبنانية الى نفي الرواية السعودية عن وجود تهديد لحياة الرئيس الحريري، وهو ما روجته قناة العربية نقلا عن احد الاجهزة الامنية اللبنانية. الا ان الصدمة الاولى كانت بتكذيب هذه الرواية على لسان وزير الداخلية نهاد المشنوق، احد ابرز قادة تيار المستقبل.

وعلى وجه السرعة التقى مدير الامن العام اللبناني موفدا من رئاسة الجمهورية الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الاردن لضمان الهدوء في المخيمات الفلسطينية، وعدم الانجرار للمخطط السعودي.

وعلى الارض انتشرت الاجهزة الامنية اللبنانية في مناطق البؤر الامنية المشبوهة، واحبطت تحركات محدودة لبعض المجموعات في طرابلس والبقاع الغربي.

وبدل ان تكون المعركة أمنية ـ كما ارادها ثامر السبهان وولي امره، تحولت الى معركة سياسية، كان من المؤكد ان يعجز فيها النظام السعودي المتعجرف عن مواجهة القدرات السياسية المدربة، التي قادها بحكنة ومهارة قائد عنيد ومبدئي من طراز العماد ميشال عون.

وفي الواقع فإن ثلاثة رجال لعبوا دورا في تثبيت التفوق اللبناني والانتصار على المؤامرة السعودية: الرئيس ميشال عون، والسيد حسن نصر الله، وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان.

 
السبهان والضحيّة: صداقات السعودية عابرة ومكلفة!
كيف ساهمت السعودية

في افشال مخططها بنفسها؟

الواقع ان ابرز الاسلحة التي واجه بها لبنان المؤامرة السعودية، هو الوحدة الوطنية، ووحدة الموقف التي تجلت في الالتفاف حول رئاسة الجمهورية، وشعارها ان الاولوية هي لعودة الحريري الى لبنان، واعتباره محتجزا رغم ارادته في الرياض، وعدم الاعتداد بما صدر عنه تحت التهديد.

وتمكن الرئيس عون من حشد الاغلبية الساحقة من اللبنانيين خلف هذا الموقف، الذي سرعان ما تحول الى موقف دولي توالت على تأييده والتمسك به دول عربية وازنة مثل مصر والجزائر والكويت، وكذلك دول غربية: بدءا من فرنسا وبريطانيا والمانيا والاتحاد الاوروبي كهيئة اقليمية دولية، وانتهاء بالموقف الاميركي الذي بدا محرجا ومربكا، وغير قادر على مجاراة الصلف السعودي.

الا ان القشة التي قصمت ظهر البعير، تمثلت بموقف تيار المستقبل ذاته، الذي شعر بالاهانة العميقة والتهميش جراء السياسة السعودية. وهو اذ رأى ان اغتيال سعد الحريري سياسيا بهذه الطريقة المذلة، بداية لاسقاط دوره كممثل للسنة في لبنان، تعززت لديه هذه المخاوف من خلال مواقف علنية بادرت اليها السلطات السعودية:

الأول ـ اعلان تبنيها لزعيم حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، بديلا لوليد جنبلاط لقيادة تحالف 14 آذار، الذراع السعودية في لبنان.

الثاني ـ الكشف عن تحريض سمير جعجع على سعد الحريري وتنسيق مؤامرة الاطاحة به مع السلطات السعودية.

الثالث ـ مجاهرة السعودية برغبتها في تنصيب بهاء الحريري مكان اخيه سعد على رأس تيار المستقبل.

الرابع ـ زج الطائفة السنية في حرب دموية في لبنان، تحت شعارات غير لبنانية، وضمن مخطط اقليمي ترعاه واشنطن وتل ابيب.

لا يحتاج السنة في لبنان ـ وتيار المستقبل خصوصا ـ الى من يعرّفهم بسمير جعجع، فهو المدان بقتل رئيس وزراء لبنان الاسبق رشيد كرامي، وهم يدركون انعدام الثقة بينه وبين سعد الحريري منذ مدة طويلة؛ فبادروا الى الالتفاف حول موقف رئيس الجمهورية الداعي الى الافراج عن رئيس الحكومة اولا. وتولت دار الفتوى التهدئة في الشارع وتوحيد الموقف، واخماد بعض الاصوات المتطرفة والانتهازية، التي حاولت الاصطياد في الماء العكر، فرفضت استقبال شخصيات مثل أشرف ريفي وأحمد فتفت، من الداعين الى قبول الاستقالة وعزل سعد الحريري.

كل ذلك ما كان ليتم لولا السياسة الرعناء لولي العهد السعودي، الذي يتعامل مع الاخرين بالريموت كونترول، وباعتبارهم رعايا عليهم واجب الطاعة.

هل هزمت السعودية في لبنان؟

لا شك ان الموقف اللبناني حقق انتصارا في هذه الجولة من المواجهة، واستطاع وضع النظام السعودي في مواجهة موقف دولي جامع تتصدره فرنسا، لتأمين خروج سعد الحريري من الرياض، تمهيدا لاعادة ترميم زعامته الداخلية.

وهذه الخطوة تمثل تراجعا سعوديا لا شك فيه. اذ ان قبول الرياض بالهزيمة المتدرجة، والتراجع عن مخططها لتخريب لبنان، وتحويله من دولة مستقرة الى ساحة للمواجهة الاقليمية، ما كان ليحصل لولا الموقف اللبناني المتماسك، والضغط الدولي الجدي، من خلال التهديد بنقل الملف الى مجلس الامن والمحاكم الدولية.

والوصول الى هذه النتيجة تحققت بفعل نجاح لبنان في سد الثغرات الامنية، ومنع السعودية من استخدام اذرعها التخريبية الارهابية، واسقاط المنحى المذهبي للازمة، وتحويلها الى قضية وطنية جامعة، وخوض معركة سياسية ظهر فيها التفوق اللبناني بوضوح.

ماذا بعد؟

الانظار كلها تتوجه الان لمعرفة ما اذا كانت السعودية ستقبل بنصف هزيمة وتتراجع الى مواقعها السابقة، وهو ما يعني تخليها عن اوهام الهيمنة واستتباع الاخرين لسياساتها الاقليمية الانتحارية، ام انها ستواصل العبث بالاوضاع اللبنانية بأساليب اخرى؟.

لم يعد امام السعودية الا احد هذين الخيارين: اما القبول بالهزيمة «المقسّطة» والعودة الى استراتيجية السبهان والجبير في الشتم والتوتير الاعلامي والاستفزاز، تمهيدا لفترة مقبلة اكثر ملاءمة، لا تبدو معالمها في الافق حتى الان؛ او الانكفاء التام والخروج من لبنان، والتسليم بعجزها كما فعلت في سوريا، بعد خسارتها كل اوراقها.

صحيح ان النظام السعودي عودنا على صعوبة التكهن بسياساته التي لا تخضع للمنطق، الا ان الثابت ان خياراته باتت محدودة، وضعيفة اجمالا.

الصفحة السابقة