السبهان غراب البين


كانت إيران عبر ولايتي وفريق خارجيتها أول من بادر للرد على استقالة

الحريري لأنها كانت رسالة سعودية الى طهران على عرضها


محمد شمس

ثامر السبهان، وزير الدولة لشؤون الخليج العربي، يفتقر للحد الأدنى من الدبلوماسية، وقد أوكلت إليه مهمة «المبارزة» في شكلها الصبياني، فهو يتقنها، وقد لا يتقن غيرها..

جرّب حظه في العراق ولم يختم مشاغباته الا بطرده من بغداد دون رجعة، ولم يعمل أحد في الرياض على تصحيح الخلل، وكأن سلمان وإبنه ومن حولهما راضون عن أدائه. ليس في ما قام به ثامر السبهان بطولة، حتى يكافىء بتصعيده الى مرتبة وزير، ويكون مسؤولاً عن ملف بالغ الحساسية، وهو ملف شؤون الخليج العربي.

قرر الدخول في الملفات الشائكة، التي تفوق قدرته ومعرفته وحصيلته العلمية، وخبرته السياسية. أرادت الرياض مزاحمة طهران في مناطق نفوذ الأخيرة، عبر فانتازيا سياسية رثّة، فدخل الى لبنان بنفس القدر من قلّة الأدب، ولم يحترم لا خصوصية البلد ولا تركيبته السياسية والطائفية، ونظامه التوافقي، فقرر أن يضفي صبغته السعودية على لبنان، والذي بدا وكأنه يجهله تماماً. حمل معه جملاَ معلّبة وصار يردّدها أن لبنان لا يدار بمؤسساته الشرعية، في لمز واضح لحزب الله على وجه التحديد. ثم ما لبث أن صعّد لهجته ضد محور إيران، وقال من قلب بيروت بأنه جاء لموازنة النفوذ الإيراني.

استغرب السبهان صمت حكومة لبنان وشعبها عن حزب الله الذي ردّ على التصعيد السعودي ضده، وأراد إخراجه من الحكومة، بل واتّهم حلفاء بلاده بالجبن لأنهم أحجموا عن السير في خيار السعودية بالدخول في مواجهة مباشرة مع حزب الله على الساحة في لبنان. وتنقل مصادر عن قائد القوات اللبنانية سمير جعجع قوله للجانب السعودي: «أننا شعبنا موت وما بدنا نموت أكتر»، فيما لا يزال السبهان مصرّاً على إعادة عقارب الساعة الى الوراء، أي الى مرحلة الحرب الأهلية في لبنان، وكأن التاريخ بدأ منذ اللحظة التي تولّى هو ورئيسه محمد بن سلمان مقاليد السلطة وأصبحوا في غفلة من التاريخ صنّاع القرار في هذا البلد.

هدّد السبهان بإشعال الحرب في لبنان بدعوى «إلجام حزب الميليشيا الارهابي» أي حزب الله «ومعاقبته هو ومن يعمل معه سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، والعمل الجاد على تقليمه داخلياً وخارجياً، ومواجهته بالقوة». لغة لا يمكن أن تصدر الا من معتوه، لا يفقه أبجديات العمل السياسي والدبلوماسي.

أزبد السبهان وأرعد وتوعّد باجتثاث حزب الله، ومحاسبته، ويضع ذلك كله تحت عنوان الحزم»نحن في زمن الحزم». وفي 8 أكتوبر الماضي طالب السبهان بتشكيل تحالف دولي لمواجهة حزب الله.

السبهان الذي بدا «صبيانياً» في تغريداته ضد حزب الله، تقمص دور الدبلوماسي الباحث عن التعايش مع الآخر في تغريدة له في 3 نوفمبر حول دعوة البطرك بشارة الراعي والتي قال بأنها تؤكد نهج بلاده «للتقارب والتعايش السلمي والانفتاح على جميع مكونات الشعوب العربية».

السبهان وقبل أن يتبرّع أحد من حلفاء آل سعود في لبنان بعزل تصريحاته عن الموقف الرسمي، قال بأن ما يصدر عنه ليس رأياً شخصياً بل هو الموقف السائد في المملكة.

في آواخر أكتوبر زار الحريري الرياض بعد تلقيه دعوة فورية (حتى لايقال استدعاء)، بعد الموقف التصعيدي للسبهان بمطالبته إخراج حزب الله من الحكومة. التقى الحريري ولي العهد محمد بن سلمان وثامر السبهان كلاً على حدة. صحيفة (الاخبار) اللبنانية نقلت عن مصادر في تيار المستقبل الذي يرأسه الحريري أن «هناك قراراً سعودياً واضحاً بالمواجهة مع حزب الله»، وأن «الحريري سيعود من السعودية باتفاق مع السعوديين على وجهة المرحلة المقبلة». وقالت المصادر إن «رئيس الحكومة سيضع المسؤولين السعوديين في أجواء التسوية اللبنانية، وسيشرح صعوبة مواجهة حزب الله عمليّاً»، وأن «بالإمكان العرقلة ورفع لهجة الخطاب، وإفشال توجهات حزب الله والتيار الوطني الحر الداعية إلى فرض فتح علاقة مع سوريا، لكن ينبغي عدم شلّ المؤسسات، مع الإشارة إلى فشل تجربة شنّ حرب مفتوحة على حزب الله قبل عشر سنوات».

الحريري حاول أن يعزل تغريدات السبهان، بالتأكيد على أجواء التوافق ولكن دون جدوى، فقد غلبت مقاربة السبهان الذي فرضها على خطاب استقالة الحريري، ثم تلاها بتغريدات تهويلية بأن ما بعد الاستقالة ليس كما قبلها، وخيّر اللبنانيين بين السلم أو الارهاب.

بعد استقالة الحريري، أصبح السبهان مسؤولاً بصورة مباشرة عن إدارة الملف اللبناني، وصار كمن يحرّك الصحون في لعبة السيرك فيتنقل من قناة الى أخرى يحرّض هنا ويشتم هناك، ويتوعد هناك ويزبد هناك، ومعه مجموعة من داخل فريق تيار المستقبل مثل مصطفى علوش، ومعين مرعبي، وخالد الضاهر.. والهدف منها تهويل متواصل على إيران وحزب الله داخلياً بهدف زعزعة الاستقرار والأمن. ولكن الرد جاء من رئيس الجمهورية ميشال عون بأن الامن في لبنان «خط أحمر» وهي رسالة واضحة ومباشرة للسبهان: لا تلعب بهذه الورقة.

خلفيات استقالة الحريري

لماذا استقال الحريري بصورة مفاجئة بل وصادمة لرئيس الجمهورية اللبنانية، ولرئيس مجلس النواب، ولوزراء حكومته، ولتياره، وحلفائه وخصومه؟

كان قبل يوم من عودته الثانية الى الرياض في كامل أناقته، وحماسته، وتفاؤله. لم يكن ثمة ما يشير لا إلى متغيّر دراماتيكي في الوضع اللبناني، ولا في أمنه الشخصي، ولا حتى في علاقاته مع الرياض. وقبل ساعات من سفره الثاني الى الرياض في 3 نوفمبر كان الاجتماع في بيت الوسط بحضور وزراء من أطياف سياسية متعددة من فريقي 8 و14 آذار المعنيين بالقانون الانتخابي )ومن بينهم وزير حزب الله محمد فنيش) يسير بسلاسة.

وفي اليوم التالي حدثت المفاجأة، أي إعلان الاستقالة من رئاسة الحكومة. فماذا جرى في بيروت قبل سفر الحريري الى السعودية؟

نتوقف عند رواية وكالة أنباء (فارس) الايرانية في 5 نوفمبر الجاري، حيث ذكرت عن مصدر مطلع لم تسمّه فحوى المحادثات التي جرت بين مستشار قائد الثورة الاسلامية في الشؤون الدولية علي أكبر ولايتي ورئيس الوزراء اللبناني المستقيل سعد الحريري قبل ساعات من سفره الثاني الى السعودية.

الوكالة ذكرت ما نصّه: «أن رئيس الوزراء اللبناني المستقيل كان في زيارة الى السعودية وعاد الى بيروت لسماع موقف طهران ومن ثم رجع الى الرياض ثانية ومن هناك اعلن استقالته عبر وسائل الاعلام العربية بعد رفض ايران لطلب سعودي جاء على لسان الحريري».

وأضاف المصدر: “أن الحريري طرح في اللقاء طلب السعوديين من ولايتي بأن تمتنع ايران عن دعم الشعب اليمني وأن تحسّن علاقاتها مع الدول الاعضاء في مجلس التعاون..». وكان رد ولايتي «على السعوديين وقف قصف الشعب اليمني وانهاء الحصار الاقتصادي والدوائي لليمن لتمهيد سبيل الحوار مع الشعب اليمني». وختم المصدر: «أن طلب الحريري والسعوديين هو أن تتخلى إيران عن الحق في قضية اليمن، ولكن بما ان السعوديين يئسوا من ذلك فقد استدعوا سعد الحريري الى الرياض ليعلن استقالته من خارج ارض لبنان».

انتهت رواية الوكالة نقلاً عن مصدر مطلّع، وقد نفت السفارة الايرانية في بيروت هذه الرواية في 6 نوفمبر الجاري. ويبقى السؤال، لماذا استقال الحريري؟

في التحليل العام: بين زيارتي الحريري الى السعودية في 31 و 3 تشرين الثاني، يكمن السر في استقالة الحريري. في الأولى، عاد الأخير متفاؤلاً، مرتاحاً، مفعماً بالحماسة والحيوية، ويبشّر بأجواء إيجابية. وعليه، لم يكن الحريري في وارد الاستقالة، وكل تصريحاته السابقة وما نقله عنه المقربون منه ووزراء حكومته.

ما يلفت في الزيارة الأولى، أن اللبنانيين، خصوصاً خصوم السعودية، باتوا أمام خطين أو بالأحرى خيارين متوازيين. فقد وضعت الرياض طهران وحلفائها أمام ثنائية الأشرار والأخيار. فكان ثامر السبهان وتغردياته التحريضية والاستفزازية يمثل الأشرار فيما الاجواء الإيجابية التي أشاعها الحريري في بيروت بعد عودته من الرياض في الزيارة الأولى تمثل الوجه الآخر.

وصل ولايتي الى بيروت في 3 تشرين وكان مقرّراً أن يلقي كلمة في مؤتمر (الوعد الحق)، والذي نظّمه الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة، لكنه جاء بعد نهايته، وكان بإمكانه إلغاء الزيارة فيما لو كانت مخصصة فقط للمشاركة في المؤتمر، ولكن مهمة الزيارة مختلفة. قيل بأن ولايتي جاء لإصلاح الخطأ الذي ارتكبه الرئيس الإيراني حسن روحاني في كلمته المتلفزة التي نشرتها وكالات الأنباء في 23 أكتوبر الماضي بقوله ما نصّه: «مكانة الامة الايرانية في المنطقة اليوم أكبر من أي وقت مضى». وتساءل: «أين من الممكن، في العراق وسوريا ولبنان وشمال افريقيا والخليج الفارسي، اتخاذ قرار حاسم من دون أخذ الموقف الايراني في الاعتبار؟»

لقد تم استغلال تلك المواقف لتأكيد مخاوف المحور الذي تقوده السعودية، بأن ايران تسعى لبسط نفوذها في المنطقة. فجاء ولايتي للتخفيف من وطأة التصريحات تلك، وأبلغ رئيس الحكومة اللبنانية بأن إيران تقف الى جانبه، ومع وجود الإنسجام داخل الحكومة اللبنانية فإن ايران سوف تقف معها.

في رواية أخرى، أن ولايتي نقل عرضاً إيرانياً بتسوية ملفات المنطقة للسعودية عبر الحريري، وهو عرض تمّ إطلاع أمين عام حزب الله حسن نصر الله عليه.

وعليه، فإن زيارة الحريري الثانية في 3 تشرين الثاني الى السعودية وما دار فيها أو ما نقله الحريري الى إبن سلمان عن الجانب الإيراني هي السبب الحقيقي وراء الاستقالة.

لئن اتفقنا على أن لا أسباب لبنانية وراء استقالة الحريري من رئاسة الحكومة، كما تخبر عن ذلك تصريحات فريقي 8 و14 آذار، نكون حينئذ أمام فرضيتين:

الاولى: أن الاستقالة هي لأسباب داخلية سعودية تتعلق بما حصل في اليوم ذاته من حملة واسعة النطاق ضد الفساد وشملت أمراء، ووزراء، ونوابهم وتجّار، وقادة عسكريين...وأن هناك قضايا محفوظة في القضاء السعودي ضد سعد الحريري وشركة (سعودي أوجيه)، وإن استقالته شرطية لرفع الحصانة عنه، والتعامل معه بوصفه مواطناً سعودياً وليس بصفته الرسمية كرئيس حكومة لبنان.

الثانية: أن استقالته جاءت في سياق صراع سعودي إيراني، وهي بمعنى ما رد سعودي على العرض الايراني، الذي وجدته الرياض مجحفاً ودون ما تريده من طهران.

وبعد رسالة ولايتي الى الرياض، حسمت الأخيرة قرارها بتنفيذ خطة السبهان، وكان أول بند فيها استقالة الحريري من رئاسة الحكومة، بهدف عزل حزب الله وتحريض اللبنانيين ضده.

بطبيعة الحال، ومن حيث المبدأ، ليس هناك ما يمنع أن تكون استقالة الحريري رسالة سعودية لإيران وأن يكون هو ذاته متورطاً في دورة الفساد المالي المحلية، وعليه يصبح مطلوباً للقضاء. وفي كل الأحوال، فإن ورقة الحريري تفقد مفعولها السياسي (اللبناني بدرجة أسياسية) في اللحظة التي يعلن فيها استقالته. وكأنما السعودي أراد بعد أن أكمل الحريري دور نقل الرسالة الايرانية الى موطنه الثاني أن يقول بأن الحريري اللبناني انتهى وبات عليه أن يدفع ثمن مواطنيته السعودية. بطبيعة الحال، لا يبدو أن الحريري هو مطلوب في تلك الحملة، وبالتالي فإن فرضية الجمع بين الرسالة والضحية غير واردة.

في الشكل، إعلان قناة (العربية) نبأ استقالة الحريري، ثم تلاوة البيان عبر القناة نفسها، ومن السعودية يتعارض كلياً مع شعارات السعودية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، واحترام مبادىء «ثورة الأرز» في الحرية، والسيادة، والاستقلال. وعليه، وفي الشكل، فإن السعودية تعمّدت ان توصل رسالة واضحة من الرياض الى طهران بأنها ترفض العرض الايراني عبر الحريري. ولو كانت الاستقالة لبنانية السبب، لسمحت للحريري بالعودة الى لبنان واتباع الخطوات المرعية الإجراء في الاستقالة.

في المضمون، فإن بيان الاستقالة هو نص سعودي بامتياز، وهذا أمر لم يعد خافياً وخارج النقاش، وأن التغريدات التي كتبها السبهان ضد حزب الله وايران تحوّلت نصّاً أو روحاً في بيان الاستقالة.

في الردود، كانت إيران، ربما قبل حتى لبنان، عبر أولاً ولايتي نفسه من بيروت بعد أقل من ساعة على اعلان الاستقالة، وتالياً من مستشار وزير الخارجية شيخ الاسلام، والناطق باسم الخارجية باهرام والخارجية الايرانية نفسها تجمع على أن استقالة الحريري قرار سعودي. بل إن الرد الإيراني نفسه ينبى عن أن رسالة الاستقالة موجّهة لإيران وليس للبنان، ولذلك تمّ الرد عليها ايرانياً منذ البداية.

في النتائج، فإن بيان استقالة الحريري كان سعودياً بالمطلق: نصاً، ومضموناً، ومكاناً، وزماناً، ومآلاً. وبكلمة: هي رسالة الرياض الى طهران على لسان الحريري. وعليه، لا أسباب لبنانية على الإطلاق وراء الاستقالة، بل هي مندرجة بالكامل في لعبة المحاور التي يحاول الحريري وفريقه الآذري النأي عنها، في الظاهر على الأقل.

الصفحة السابقة