من هو الحاكم المنفذ؟ ومن هو الحاكم المخطط؟ ومن ثمّ من هو الحاكم الفعلي؟

الأب أم الإبن؟

من يصنع القرار في السعودية؟

محمد بن سلمان يتولى كل المناصب التي تخوّله احتكار صناعة القرار لأحد من قبل

يحي مفتي

من يقود المملكة السعودية سلمان أم نجله محمد؟ وعليه، من هو صانع القرار في المملكة، في ظل متغيّرات كبرى ودراماتيكية تشهدها تطاول الثوابت، وتغيّر في خارطة العلاقات الداخلية والخارجية..هل نحن أمام سيناريو مختلف تماماً عن السابق في طريقة إدارة الدولة، وفي صنع القرار بعيداً عن مجلس العائلة والحسابات الدينية والقبلية والاقليمية والدولية؟

تاريخياً، قامت المملكة السعودية على عنصري: الشيخ والأمير، بناء على التحالف التاريخي في منتصف القرن الثامن عشر.

وفي التجربة السعودية الأولى في الفترة ما بين 1744 ـ 1818 كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يمسك بقراري الحرب والسلم، بل وبشؤون السلطة بصورة شبه كاملة بالتوافق مع الشيخ محمد بن سعود. فهو يرسل الجند، ويقسّم الغنائم، ويعيّن الولاة، ويوزّع المناصب..الخ.

خاض إبن عبد الوهاب ثلاثمائة غزوة في غضون عشرين عاماً، بمعدل خمس عشرة غزوة في كل عام، الغالبية منها جرت في منطقة نجد.

انتهت الدولة السعودية الأولى على يد الجيش العثماني بقيادة ابراهيم باشا إبن محمد علي باشا.

في الدولة السعودية الثانية، التي بدت واهنة منذ نشأتها، برغم من تحذير بعض مشايخ الوهابية من خطر انفكاك العلاقة بين أهل الحكم وأهل الدين، «وأن أهل الاسلام ما صالوا على من عاداهم الا بسيف النبوة، وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ما قامت الا بهذا الدين»، كما قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

في الدولة السعودية الثالثة التي نشأت على يد الملك عبد العزيز، بدعم من بريطانيا وتمويل من حاكم الكويت حينذاك مبارك الصباح الذي جهّز أول غزوة على الرياض في العام 1902، تنبّه عبد العزيز الى قوة القبائل، فشكّل من أبنائها قوة عسكرية وجيش عقائدي هم «إخوان من طاع الله»، فغزا به المناطق فاحتل الاحساء والقطيف في العام 1912، ثم توالت الغزوات في أرجاء متفرقة من الجزيرة العربية وصولاً الى احتلال الحجاز في 1924 ـ 1926.

كان عبد العزيز صانع القرار الوحيد، مستعيناً برجال الدين الذين كانوا غب الطلب، وعوناً له في مواجهة خصومه، وآخرهم جيشه العقائدي الذي قاتله بعد أن استنفذ كل محاولات اقناع قادته بالقبول بالدولة وفق حدودها التي رسمها الضابط الانجليزي برسي كوكس، ولما فشلت المحاولات دخل في مواجهة مسلّحة في العام 1929 في معركة السبله التي أدّت الى تقويض الإخوان واعتقال أو مقتل قادته.

بعد اعلان المملكة السعودية في سبتمبر 1932، لم تكن هناك بنية وزارية متكاملة، باستثناء مكتب للشؤون المالية الذي تولاه عبد الله السلمان ممثلاً عن عبد العزيز ومكتب الشؤون الخارجية وتولاه نجله فيصل، بصفته أيضاً ممثلاً عن أبيه. وكانت شؤون الدولة تدار من قصر عبد العزيز نفسه، يعاونه أبناؤه وأقرباؤه وحلفاؤه القبليون.

بعد موت عبد العزيز في 9 نوفمبر 1953، وتولي إبنه سعود العرش، أراد السير على خطى والده في طريقة إدارة الدولة، فاستقلّ بصنع القرار، وعيّن أبناءه في المراكز العليا، الأمر الذي أفضى الى تفجّر صراع الأجنحة، فمال آل فهد أو السديريون السبعة الى جانب فيصل، ومعه عبد الله وأجنحة أخرى الى جانب كبار العلماء، وشهدت السعودية في الفترة ما بين 1954 ـ 1964 عقداً من التجاذب الداخلي المتحوّر حول «صنع القرار» ومتوالياته، ومن له الحق المشاركة فيه. كان سعود وفيصل يتنازعان الصلاحيات، فتارة ينفرد سعود بكامل الصلاحيات، وكرّة أخرى تنتزع منه لصالح فيصل فيصبح سعود ملكاً لا يحكم، الى أن تنازل عن منصبه بعد أن تآزرت أغلب أجنحة الحكم ومعها رجال الدين على مواجهته والاطاحة به.

في عهد فيصل (حكم 1964 ـ 1975)، وبرغم أنه كافأ كل الذين ساندوه بأن وزّع المناصب عليهم، فأصبح فهد وزيراً للداخلية، والأمير نايف نائباً، وسلطان وزيراً للدفاع، وسلمان أميراً للرياض، وبقاء عبد الله رئيساً للحرس الوطني الذي تولاه في عهد سعود في 1963، الا أن فيصل كان يدير السياسة الخارجية دون الرجوع لأخوته، ولربما خبرته الطويلة وهبته ثقة إخوته.

بعد اغتيال فيصل سنة 1975، تولى خالد حتى عام 1982 وكان ضعيفاً، في ظل سيطرة الجناح السديري على مفاصل السلطة، فكان فهد الملك الفعلي الذي أدارة شؤون البلاد الداخلية والخارجية. وفي الظل، كان هناك مجلس العائلة الذي يشرف عليه في السنوات الأولى الأخ الأكبر للملك خالد، الأمير محمد المعروف بـ «أبو شريّن»، فكان مسؤولاً عن حل النزاعات داخل العائلة، والفصل في الخصومات بين الأمراء.

قد تكون فترة الملك خالد الفترة الاستثنائية التي عاشتها العائلة المالكة لناحية مشاركة عدد كبير من الأمراء في صنع القرار، وذلك عائد الى ضعف شخصية الملك خالد، فكان مجلس العائلة ينعم بمشاركة واسعة من الأمراء من مختلف الأجنحة، وكان هناك مشاركون حتى من خارج العائلة وإن لم يحضروا بأشخاصهم اجتماعات مجلس العائلة وخصوصاً في ملفات النفط التي كان يتولاها أحمد زكي يماني، وتالياً هشام ناظر، إلى جانب شخصيات أخرى مثل علي الشاعر، ومحمد أبا الخيل، ومحمد عبده يماني، وغازي القصيبي..الخ.

في عهد الملك فهد، هيمن الجناح السديري على مفاصل السلطة، وأصبحت المواقع السيادية بيد هذا الجناح ولا سيما الدفاع والداخلية. كان فهد ميّالاً نحو احتكار عملية صنع القرار، وكان ذلك يثير حفيظة ولي العهد آنذاك عبد الله. وكان متداولاَ في الأوساط القريبة من الأمراء أنباء الخلافات بين الملك وولي العهد حول الصلاحيات وآلية صنع القرار.

كان فهد هو رئيس مجلس العائلة، ولوجود أشقائه في مناصب رئيسية تمكّن من تركيز جزء كبير من السلطة في يده. وخلال عهده الأطول في تاريخ الحكم السعودي الممتد من 1982 ـ 2005 كان فهد يمثل الرجل القوي في المملكة السعودية، وكان يدير ملفات الخارجية ولاسيما العلاقات السعودية الاميركية، وملف النفط، والعلاقات السعودية العربية، وهو من أطلق يد الأمراء لسرقة المال العام، وبناء إمبراطوريات مالية (الوليد بن طلال مثالاً).

ويمكن المجادلة بأن العامل الأميركي في صنع القرار السعودي بدأ يبرز بصورة لافتة في عهد فهد. وقد حاول إقناع الأميركيين بدعم مقترح تعيين نجله عبد العزيز وريثاً على العرش. وفي أزمة الخليج الثانية في أغسطس 1990/1991 كانت الولايات المتحدة عبر وزارة البنتاغون تشرف بصورة مباشرة على شؤون المملكة من مبنى وزارة الدفاع في الرياض.

قرار استقدام القوات الأميركية لقيادة عملية عاصفة الصحراء لتحرير الكويت والدفاع عن أمن المملكة السعودية كان حصرياً من لدن فهد، بترتيب من الامير بندر بن سلطان، السفير الأسبق في واشنطن، وبتنسيق مع القادة العسكريين في البنتاغون والرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش.

نتيجة للحراك الداخلي، تيار الصحوة والعرائض الشعبية المطالبة بالاصلاحات السياسية، أقرّ الملك فهد في مارس 1992 الأنظمة الثلاثة (النظام الأساسي للحكم، نظام مجلس الشورى، ونظام مجلس المناطق). وبموجب بنود النظام الأساسي، أصبح الملك الحاكم المطلق وصانع القرار شبه الوحيد، فهو يعيّن ويعفي الوزراء، وأمراء المناطق، والقضاة، وأعضاء هيئة كبار العلماء، والقادة العسكريين..الخ.

بعد إصابة الملك فهد بجلطة دماغية في 1996، أصبحت صناعة القرار في المملكة ذات طابع جماعي مع أفضلية لولي العهد عبد الله. حينذاك تشكّلت مراكز قوى وازنة داخل الدولة (الدفاع والداخلية بدرجة أساسية)، وكان على عبد الله أن يحسب حسابها في أي قرار يرتبط بالشأن الداخلي. ملفات السياسة الخارجية، والنفط، والعلاقات السعودية الاميركية وغيرها كانت شبه محسومة وتدار بناء على اتفاق مسبق، وليس هناك مايمكن وصفه بتباين في الآراء، فالسياسة الخارجية دائماً كانت موضع اجماع الا ما ندر.

بعد تولي الملك عبد الله مقاليد الحكم في أغسطس 2005، تصرّف بناء على يمنحه النظام الأساسي للحكم من صلاحيات للملك. وفيما بقيت ملفات الخارجية والنفط والعلاقات السعودية الاميركية ثابتة دون تغيير، أصدر سلسلة أوامر ملكية تهدف الى تقليص نفوذ وسلطات الجناح السديري.

استحدث عبد الله (هيئة البيعة) في أكتوبر 2006 للهرب من تعيين نائب ثاني للملك، أي الأمير نايف حينذاك، كما استحدث منصب (ولي ولي العهد) في مارس 2014، للتمهيد لوصول الأمير مقرن بن عبد العزيز لولاية العهد بعد موته وتالياً تسهيل وصول إبنه متعب بن عبد الله، وزير الحرس الوطني سابقاً الى العرش (تحول الحرس الوطني الى وزارة في مايو 2013).

رحيل صقور الجناح السديري (فهد، سلطان، نايف) وإعفاء أحمد بن عبد العزيز من وزارة الداخلية، وبعده عبد الرحمن بن عبد العزيز من منصب نائب وزير الدفاع، وأخيراً وفاة الأمير تركي بن عبد العزيز، قد سهّل مهمة الملك عبد الله.

بقي التنافس محصوراً بين عبد الله وسلمان، وكانا يتقاسمان صنع القرار في البلاد، مع مشاركة قلة من كبار الأمراء، فيما فقدت هيئة البيعة أي دور لها بعد أن تحوّلت الى مجرد «ختم» على قرارات يأخذها الملك عبد الله ومن بعده الملك سلمان.

خلال عقد من الزمن (2005 ـ 2015) أجرى الملك عبد الله تغييرات كبيرة على مستوى السلطة، لناحية تعديل ميزان القوى في الدولة، بتقليص نفوذ السديريين وإبراز جناحه وأجنحة مناصرة له.

في 23 يناير 2015، اعتلى سلمان العرش برحيل سلفه عبد الله، وأصبح صانع القرار بلا منازع. ولم ينتظر الملك الجديد طويلاً، حيث لا أحد يقاسمه القرار، فقام بتغييرات سريعة في جهاز الدولة، وأزاح كل المنافسين المحتملين حينذاك وفي المستقبل.

في عهد سلمان جرت تحوّلات بنيوية ثلاثة: على مستوى العائلة المالكة، وعلى مستوى الشراكة مع المؤسسة الدينية، وعلى مستوى الاقتصاد الوطني: من النفط الى الاستثمار، على مستوى التحالف الداخلي: من القوى التقليدية الى الشباب والمرأة..

والأخطر من ذلك كله، أن قرارات راديكالية ثلاثة أوصلت محمد بن سلمان الى موقع الملك الفعلي: إعفاء مقرن من منصبه كولي عهد في إبريل 2015، واعفاء محمد بن نايف من كل مناصبه (ولي عهد، وزير الداخلية، رئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية) في يونيو 2017، وإعفاء متعب بن عبد الله من منصبه كوزير للحرس الوطني واعتقاله في 4 نوفمبر 2017.

في المشهد الحالي، محمد بن سلمان يتولى كل المناصب التي تخوّله احتكار صناعة القرار: ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، رئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية، رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، رئيس الديوان الملكي ومستشار خاص للملك، رئيس المجلس الأعلى لشركة أرامكو...

مخاطر التفرّد الاحتكاري للسلطة ليست خافية:

ـ على مستوى العائلة المالكة: خصوصاً بين الأمراء الذين يرون أن لهم حقاً في مقاسمة السلطة.

ـ على مستوى المؤسسة الدينية: التي ترى نفسها شريكاً تاريخياً وقسيماً في الدولة التي نشأت بجهودها وهي من أضفت مشروعية دينية عليها.

ـ وعلى مستوى الشعب الذي لن يقبل الارتهان لشاب يمسك بمصير البلاد والعباد ويقود السفينة الى حيث يشاء.

الصفحة السابقة