محمد بن سلمان في لندن

(حقوق الإنسان) في (خبر كان)!

زيارة ابن سلمان الى مصر وبريطانيا، ومن ثمّ الولايات المتحدة الأميركية، فتحت أبواب النقاش
بشأن ملفات وموضوعات عديدة، من بين أهمها: السقوط المدوّي لمزاعم حقوق الإنسان والديمقراطية

يحي مفتي

استقبل ناشطون حقوقيون، ومنظمات مجتمع مدني بريطانية، ولي العهد السعودي، بالتنديد بملف المملكة الحقوقي الأسود. بيانات عديدة نُشرت من منظمات حقوقية كبرى، تندد بالانتهاكات لحقوق الانسان في السعودية، وتطالب الحكومة البريطانية بمناقشتها مع محمد بن سلمان، والضغط عليه لإطلاق سراح معتقلي الرأي.

 

منظمات أخرى، دعت الى مظاهرات واعتصامات، تنديداً بحرب محمد بن سلمان العدوانية على اليمن، والتي لا يريد ان ينهيها. وأيضاً طالبت الحكومة البريطانية بعدم المشاركة في تلك الحرب، عبر تزويد آل سعود بالأسلحة، واتهمتها بأنها شريك في الحرب، وأن خبراءها يوجهونها بشكل مباشر ضد اليمنيين الأبرياء. وهذا ما قاله زعيم حزب العمال في مساءلته لرئيسة الوزراء تيريزا ماي في البرلمان.

الإعلانات المضادة لابن سلمان غطّت شوارع لندن، وهي إعلانات مدفوعة وُجدت على حافلات المواصلات، وفي الأماكن العامة، فضلاً عن ان الصحف البريطانية شارك بعضها في نقد الحكومتين البريطانية والسعودية.

الرياض من جانبها قامت بحملة إعلامية مضادة، مستخدمة الإعلانات مدفوعة الثمن ايضاً. ولكن كان واضحاً ان الفريق الإعلامي السعودي لم يكن بامكانه مجابهة الحملة القائمة. حتى أن مدير تحرير جريدة الجزيرة أشفق على الفريق الإعلامي السعودي الرسمي، متهماً قطر بأنها المدبر الرئيس للحملة المعادية لابن سلمان.

ما يهمنا هنا، هو الفصل بقدر كبير، بين إيمان الشعوب بحقوق الانسان والديمقراطية، وبين الأنظمة التي تستخدم تلك المبادئ للتشنيع بخصومها من الدول والجماعات، وحين يكون الإمتحان بين (المصالح) و(المبادئ) تتراجع المبادئ، ويتم استخدام لغة اعتذارية، وتضليلية لحماية المصالح ومن يقدّمها.

هذا بالضبط كان واضحاً في موقف بريطانيا من كل ملفات حقوق الانسان خاصة في منطقة الخليج واليمن.

فلأول مرّة، يتنادى سياسيون وبرلمانيون للدفاع عن السعودية وملفها الأسود بصفاقة معيبة.

لأول مرة نرى البعض يبرّئ آل سعود من حرب اليمن، ويتهم اليمنيين بأنهم هم من بدأ الحرب على السعودية!

ولأول مرة يصبح هؤلاء المسؤولون البريطانيون أدوات اعلام تدافع عن سجل آل سعود، وتصفه بالنظام الإصلاحي، وان ولي العهد أميرٌ إصلاحيٌّ أيضاً، غير عابئة بالتقارير والبيانات التي تصدرها مؤسسات حقوقية ذات رصيد معتبر حتى لدى البريطانيين أنفسهم.

غني عن التذكير، ان المملكة لم تشهد قمعاً للناشطين الحقوقيين والسياسيين وحتى الأفراد العاديين الذين يكتبون آراءهم بنوايا طيبة في مواقع التواصل الاجتماعي.. لم تشهد قمعاً مثل هذا إلا في عهد الملك سلمان وابنه، بحيث يتضاءل معه قمع الستينيات والسبعينيات الميلادية الماضية، حين كان الملك فيصل حاكماً قامعاً كل خصومه باسم مكافحة الشيوعية، وعلى يد فهد وزير الداخلية (الملك فيما بعد).

 

ولم يحدث في تاريخ المملكة ان جرت فيها وجبة اعدامات بالعشرات مثل الذي جرى في عهد الملك سلمان. ولم تصدر أحكام اعدام متسلسلة ومتسارعة مثل الذي جرى ويجري الآن.

ما تشهده السعودية من حملة قمع، بلغت حداً غير مسبوق في شراسته. وهذا كله غير خاف لا على المنظمات الحقوقية الدولية، ولا على المفوضية السامية لحقوق الانسان، ولا على الدول الحليفة للسعودية، وفي مقدمتها بريطانيا وأمريكا وفرنسا وألمانيا.

ومع هذا، حين جاء ابن سلمان، رأينا دفاعاً مستميتاً عن سجل المهلكة، والحجة هي: ان المملكة تساعد بريطانيا بالمعلومات الاستخباراتية عن الإرهابيين الدواعش والقواعد بما يحمي بريطانيا من الداخل؛ مع ان عددا من التفجيرات او محاولات التفجير في بريطانيا كان لسعوديين ربط مباشر بها. ويقول بعض المسؤولين البريطانيين مدافعين، ان هناك تغير في إيجابي في نهج حقوق الانسان، ويضربون مثلاً بذلك فيما يتعلق بالسماح للمرأة بسواقة السيارة!؛ ويزيدون بأن ملف حقوق الإنسان في السعودية بالرغم من أنه مقلق، إلا ان بريطانيا لديها طريقتها الخاصة في التعاطي معه، غير قائمة على اللوم والتشهير، وانما على المحادثات والنصائح (السريّة)! وهذا نفس الكلام الذي كانوا يقولونه عن البحرين التي يدافعون عن الحكم فيها بكل ما أوتوا من قوة.

اما موضوع اليمن، فيضعون كل اللوم على أنصار الله (الحوثيين)، ويزعمون ان الأخيرين هم الذين بادروا بالحرب ضد مملكة آل سعود. واما الضحايا اليمنيين، فيزعمون بأن مستشاريهم العسكريين يوجهون ويدربون الطيارين السعوديين على (القصف النظيف) بالصواريخ!

وحين يُسألون عن إيقاف بيع الأسلحة للسعودية حتى توقف الحرب، او على الأقل توقف قصف المدنيين كما فعلت ألمانيا. هنا يرد المسؤولون البريطانيون بما يُفهم منه انهم ضد إيقاف الحرب (تماماً مثل الموقف السعودي)، حتى وان قالوا بأن لا حل عسكري لأزمة اليمن، فهذه كليشة خاوية المعنى، حتى الجبير يقولها، ومحمد بن سلمان يقولها. ويضيفون بأن الذي يعطّل الحل السلمي هم (انصار الله/ الحوثيين)، تماماً مثلما يروج آل سعود.

لكن ماذا عن الذخائر، وبالذات القنابل العنقودية، التي هي في معظمها الآن بريطانية، بعد ان توقفت أمريكا عن تزويد الرياض بها؟! يجيبون: لدينا بين ٤٠-٥٠ ألف شخص يعملون في مصانع السلاح، فهل تريدونهم ان يصبحوا عاطلين عن العمل؟!

منطق إنساني تماماً!!

ملخص القول، إن هناك ظروفاً محلية بريطانية، ودولية، فضحت شعارات حقوق الانسان والديمقراطية التي يتم رفعها.

نعم هم يريدون الديمقراطية وحقوق الانسان لأنفسهم ولشعوبهم. ولكن الديمقراطية في بلد مثل السعودية، او حتى ربع ديمقراطية، يعني ان البقرة الحلوب لا يمكن أن تُنهب في وضح النهار، ولا يمكن لابن سلمان ان يقرر بعثرة الأموال دون الرجوع الى البرلمان المنتخب. ترى من مِنَ الدول الغربية يعجبه وجود نظام وقانون في بلد مثل السعودية؟ إذن كيف يمكن حلبها ونهبها؟!

بريطانيا كما معظم دول العالم الغربي، ترى ايران وروسيا والصين وكوريا الشمالية وكوبا دولاً ديكتاتورية، وتجعل من ملف حقوق الانسان والديمقراطية البند الأساس في الاعتراض عليها ومواجهتها. لكنها وحليفاتها الغربيات لا ترى اعوجاج رقبة الجمل السعودي، ولا الاماراتي ولا البحريني ولا غيرهم. هؤلاء الحلفاء لا يستخدم ضدهم سلاح حقوق الانسان والديمقراطية الذي هو مخصص فقط ضد الأعداء والخصوم.

 

وبريطانيا التي اقترب فكاكها من الاتحاد الأوروبي، تعوّل كثيراً على تفعيل علاقاتها التاريخية مع دول الخليج، وغيرها من الدول التي كانت في يوم ما من مستعمراتها، او لها دالّة عليها، وذلك من أجل تسهيل الأوضاع الاقتصادية في بريطانيا ما بعد (البريكست). وعليه فإن بريطانيا التي تريد استخدام علاقاتها التاريخية وموقعها الدولي كعضو دائم في مجلس الأمن، لا يمكنها ـ في معظم الحالات ـ ان تفتح معارك سياسية من اجل حقوق الانسان او الديمقراطية، ونظن انها ستخفف حتى من نقدها للصين، وتركزه على روسيا. فالهدف الأساس هو المكسب الاقتصادي، وليس الشجار السياسي، او الدفاع عن شعوب لا تدافع هي عن نفسها، او تتحاكم الى قيم حقوق الانسان والديمقراطية، وكأن بريطانيا وكيلٌ حصريٌّ لها.

على الصعيد الدولي هنالك تحول أيضاً يدفع بتقليص الاهتمام عالمياً بموضوع حقوق الانسان والديمقراطية. ذلك أننا على أعتاب حرب باردة، ونرى ارهاصاتها واضحة المعالم، بين روسيا والصين وايران من جهة، وبين ذات المعسكر الغربي السابق من جهة اخرى.

في الحرب الباردة تتغيّر الأولويات، فسلاح حقوق الانسان والديمقراطية غربي سيستخدم كما استخدم في الحرب الباردة السابقة. وبديهي انه لن يستخدم ضد الحلفاء كالسعودية ودول الخليج الأخرى. وأما شعوب الخليج فلن يسمع لها احد حين تدعو للحريات والديمقراطية واحترامهما من قبل الحكام حلفاء الغرب.

ومن الأولويات تنشيط العلاقات بين المتحالفين وتهدئة الخصومات البينية، وتدعيم الحصون بحيث لا يكسب الفريق الآخر وينجح في اختراقاته. بمعنى آخر، لا تنازلات في الحرب الباردة، ولا مبادئ يحتكم اليها، وكل شيء يجوز فيها.

وعليه، ان كان التحليل صحيحاً بشأن ارهاصات الحرب الباردة، فإن حرب اليمن، ومهما بلغت حدها في انتهاك الحقوق الإنسانية، فإنها ستستمر، لأن الحل السياسي لا يحقق النصر الذي تريده السعودية (والذي يريده الآن الأمريكيون والبريطانيون).

من حسن الحظ، أو من سوئه، فإن الرئيس ترامب، جاء ولم يكن في أجندته شيء له علاقة بحقوق الانسان، ولم يعد احداً بشأن الديمقراطية وتحقيقها. قال ان غرضه المال، وبناء أمريكا التي تصارع للبقاء في مرتبتها الأولى عالمياً.

وشخص مثل ترامب الذي كان قبل وصوله الى الحكم يهدد آل سعود بقانون جاستا وبمحاسبتهم وابتزازهم، طبّق ما أراده، ولم يتخلّ عن السيف (قانون جاستا). لكنه في المقابل، أبدى لا إبالية بموضوع حقوق الانسان، وهدد بالانسحاب من مجلس حقوق الانسان، كما انسحب من العديد من المنظمات الدولية، ومن الاتفاقات الدولية، بحيث يمكن القول بأن ترامب يقدّم الوصفة المناسبة لخوض حرب باردة جديدة، تبدأ بروسيا، والأهم ان تنتهي في الصين، المنافس الاقتصادي الأخطر.

ومن هنا يمكن القول بأن التبشير بمبادئ حقوق الانسان والديمقراطية من قبل المضطهدين، رغم حُسنه، إلا أن أثره سيكون ضئيلاً، فلا أنظمتنا المتأمركة كالنظام السعودي يريد ان يسمعها، ولا حلفاؤه أيضاً يريدون سماعها، كلٌّ لأسبابه الخاصة.

ونخلص من هذا كله، أن موضوع حقوق الانسان في زيارة محمد بن سلمان لم يكن على الطاولة أصلا.

الذي حدث بالضبط هو أن الحكومة البريطانية وجدت نخبة من المجتمع المدني، ومن أعضاء البرلمان، تعترض على محمد بن سلمان، وتصفه بالسفيه والمغامر، وعدو الإنسانية، وان ملف حقوق الانسان السعودي متضخم، وان ابن سلمان يجب ان يحاكم كمجرم حرب.. فما كان منها ـ بعكس ما يعتقد البعض ـ الا ان حوّلت هذا الغضب على الأمير السعودي الى وسيلة ضغط ضده لابتزازه مالياً، ولتعديل ربما بعض مقارباته، والحجة تقول: انظر يا ولي العهد، نحن كحكومة بريطانية نعاني من الضغط الجماهيري، بسبب تأييدنا لكم. وهذا له ثمن تعرفه يا سمو الأمير!

الصفحة السابقة