تناقضات ابن سلمان كانت حاضرة في لندن

ربحت بريطانيا، وإبن سلمان دفع الأثمان!

عبد الوهاب فقي

اتفق اغلب المراقبين على ان رياح لندن لم تجر بما تشتهيه سفن الامير السعودي الحالم بالسلطة والمجد معا، وعلى وجه السرعة. وظل السؤال الذي سبق الزيارة عالقا الى ما بعدها: ماذا جاء الامير محمد بن سلمان ليفعل في العاصمة البريطانية؟

الاعلام السعودي الذي كان له قصب السبق في الترويج الاعلامي في السنوات الماضية، والذي خاض حروبا شرسة للدفاع عن النظام العائلي، بدا باهتا هذه المرة!! فقد اُسقط َ بيد الصحافيين والكتاب السعوديين، ولم يجدوا ما يكتبونه عن الرحلة غير الميمونة لولي العهد، الى مملكة التاج البريطاني.

حتى ان كبارهم راحوا يرددون ما يكتبه المغردون على تويتر وفايسبوك، في اطار العموميات التي تصلح لهذه الزيارة، والزيارة المقبلة بعد عشرة اعوام، بينما انهمك آخرون في حملة الرد على المعارضين والصحف ومواقع القنوات الرئيسية مثل بي بي سي، للدفاع عن اميرهم ومملكتهم.

فلماذا فشل الهجوم الذي اراده الامير الشاب فتحا لانجازات تاريخية، بعد ان اوعز الى موظفيه بأن يكثروا من تشبيهه بجده عبد العزيز؟ وحثهم على المقارنة بين هذه الزيارة واللقاء التاريخي الذي اجراه الملك المؤسس مع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والذي جمعهما في السابع عشر من شهر فبراير 1945؟

وكم كان محمد بن سلمان يحلم أن يعيد أحد الكتاب البريطانيين القول عنه انه: «رجل وسيم ورائع.. وله وجه صادق جدا ولا يخفي سرا.. ويشتهر بأنه نبيل وسخي، ولا ينحدر إلى مستوى الأعمال الدنيئة».. وهي الكلمات التي وصف بها الكابتن ويليام شكسبير، الممثل السياسي البريطاني في الكويت، مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبدالعزيز آل سعود.

لكن ذلك لم يحصل، وكل الدعاية التي وزعت في شوارع لندن كانت من اعمال شركات ترويج دعائية، حصدت ثمنا لها ملايين الدولارات.

فهل
 
استثمار العلاقات التاريخية ـ تشرشل وابن سعود في المياه المصرية
نجحت الزيارة ام فشلت؟

للاجابة على هذا السؤال بشكل علمي وموضوعي، لا بد من تحديد معايير الفشل والنجاح. وهذا ما يتطلب بداية ان نحدد الجهة التي نقصدها بأنها حققت المكاسب والارباح من الزيارة.

فبالنظر من الزاوية البريطانية، فلا شك ان رئيسة الحكومة البريطانية، أنجزت ما تريده من هذه الزيارة، وأجبرت الامير الشاب على تقديم الولاء للمملكة الام، التي كان لها فضل اقامة كيان ابائه الذي يتطلع لوراثته.

وهذه النقطة كانت تقلق بعض البريطانيين التقليديين، الذي ازعجهم ان يتوجه وريث العرش السعودي، بكل اندفاعته الى الاحضان الاميركية. صحيح انهم سلموا منذ زمن بعيد بالهيمنة الاميركية، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، لادارة شؤون العالم وتزعم المحور الرأسمالي، الا انهم كانوا يعتقدون ان الهيمنة الشكلية للولايات المتحدة، لا تلغي الزعامة المعنوية لبريطانيا، وبقاءها مرجعية ولو على المستوى الاوروبي، عطفا عن ذلك فإن نصيبهم من الثروة في دول المستعمرات ظلت ثابتة عبر الشركات البريطانية، والشركات المتعددة الجنسيات.

لهذا كان مهما للغاية ان يأتي الى لندن، محمد بن سلمان الذي يقبض على ثروة بترولية هائلة، ويفتح الباب لاستثمارات جديدة في السوق السعودية، المتعطشة لكل شيء، والتي لا تزال بكرا في المجالات السياحية والترفيهية والصناعات الخفيفة والطاقة.. فالمستثمرون البريطانيون يترصدون حركة السوق وهم لن يتركوها تذهب الى غيرهم.

واحد ابرز المجالات التي تنتظرها الشركات الأجنبية، هي العودة الى تملك شركة النفط العملاقة ارامكو، التي ينوي محمد بن سلمان خصخصتها، وبيع اسهمها للمستثمرين الاجانب.

ويدور صراع لم يعد خفيا بين ثلاث بورصات للحصول على حق طرح اسهم الشركة العملاقة، وهي بورصات هونغ كونغ ونيويورك ولندن.. وكل منها نسجت شبكتها الخاصة من المستشارين والعملاء الذين يحيطون بولي العهد السعودي ومساعديه الاقتصاديين، لكسب ودهم واستمالتهم الى هذا الطرف او ذاك.

المكاسب البريطانية
 
شكسبير، اول معتمد بريطاني في الرياض، قاتل مع ابن سعود وقتل في جراب ١٩١٥

لنعد الى حسابات الربح والخسارة من هذه الزيارة.. فبحسب ما ورد في البيان الختامي، فإن الجانبين اطلقا ما اسمياه مجلس الشراكة الاستراتيجية ليكون آلية رئيسية لحوار منتظم، لتعزيز كل جوانب العلاقة الثنائية، بما في ذلك المجالات الاقتصادية، والدفاع والأمن، والمساعدات الإنسانية، والمواضيع الإقليمية والدولية.

وقد التزمت السعودية والمملكة المتحدة بشراكة طويلة الأجل لدعم تحقيق رؤية 2030، بحيث تشمل مجموعة من المجالات بما في ذلك: تقييم الفرص والاستثمارات المتبادلة، والتجارة البينية بين البلدين، والمشتريات العامة من القطاع الخاص للمملكة المتحدة في المجالات الأولوية لرؤية 2030، بما في ذلك: التعليم والتدريب والمهارات، والخدمات المالية والاستثمارية، والثقافة والترفيه، وخدمات الرعاية الصحية وعلوم الحياة، والتقنية والطاقة المتجددة، وصناعة الدفاع. ومن المتوقع أن تبلغ هذه الفرص مجتمعة ما يصل إلى 100 مليار دولار على مدى 10 سنوات.

وقد سجلت السعودية في البيان الختامي اعجابها وتفضيلها للخبرة البريطانية في قطاعات التعليم المختلفة، بدءاً من رياض الأطفال والتعليم الابتدائي والثانوي حتى التعليم العالي، والتميز في مهارات التدريب المهني. وقد تم توقيع مذكرة تفاهم بين البلدين ستمكن من تطوير مناهج التعليم وبناء القدرات.

لهذا، عينت المملكة المتحدة السير أنطوني سيلدون ليكون مبعوثا خاصاً للتعليم لدعم رؤية 2030؛ كما أشادت المملكة المتحدة بأهمية الإدراج الناجح لشركة أرامكو السعودية بوصفها جزءاً من خطة السعودية للإصلاح الاقتصادي. وأكدت دعمها لصناعة الخدمات المالية السعودية، وأيدت السعودية بدورها مكانة لندن بوصفها مركزا ماليا عالميا رئيسيا، يتيح مدخلاً مميزاً للمستثمرين والخبرات العالمية في الخدمات المالية والمهنية ذات العلاقة. واتفقت مجموعة لندن لأسواق الأوراق المالية، مع شركة تداول، على برنامج تدابير بناء القدرات والتدريب للمساعدة في تنمية أسواق الأوراق المالية.

ورحبت المملكة المتحدة والمملكة السعودية بعدد كبير من الصفقات التجارية الرئيسية التي تم الاتفاق عليها خلال هذه الزيارة، والمتوقع أن تتجاوز ملياري دولار. كما وقعت الحكومتان عدداً من مذكرات التفاهم، لتعميق أوجه التعاون والشراكة بينهما، وتعزيز قدرات السعودية الدفاعية، من خلال نقل وتوطين التقنية والمشاركة الصناعية بين القطاع الصناعي الدفاعي في البلدين، وتوفير التدريب، وبناء شراكة في مجال البحث والتطوير على المستوى الحكومي والصناعي، وتقديم الاستشارات الفنية.

كما وقَّعت بريطانيا والسعودية خطاب نوايا لوضع اللمسات الأخيرة على محادثات بشأن طلبية لشراء 48 مقاتلة تايفون، التي تصنعها شركة (بي. إيه. إي) سيستمز، والصفقة قيد المناقشة منذ سنوات لكن إبرامها واجه صعوبات.

هذا العرض يؤكد النقاط الاساسية التالية:

 
دعايات سعودية في لندن مدفوعة الثمن

* التزام السعودية برفد الاقتصاد البريطاني بـ 100 مليار دولار.

* صفقات اسلحة مستمرة بحسب معدلها السنوي السابق، بصرف النظر عن حاجة الجيش السعودي لها، وخصوصا ما يتعلق بطائرات تايفون، حيث تم الاعلان عن صفقة لم تذكر قيمتها على وجه الدقة. ويأتي ذلك بعد شهرين من إعلان شركة «بي ايه اي سيستمز» المصنعة للطائرة البريطانية عن خفض حوالي 2000 وظيفة، بسبب تباطؤ الطلب على مقاتلات تايفون.

وكانت قطر قد وقعت صفقة لشراء 24 مقاتلة من ذات الطراز في ديسمبر الماضي بقيمة 8 مليارات دولار. وقال حينها وزير الدفاع البريطاني غافين وليامسون إنه «العقد الأكبر منذ عقد من الزمن على صعيد مبيعات تايفون». وأضاف أن «الصفقة تعكس الثقة بالصناعة العسكرية البريطانية، وتؤمن آلاف الوظائف، وتضخ المليارات في الاقتصاد البريطاني». وقد جاءت الصفقة السعودية لتضاعف المكاسب البريطانية.. بحيث ارتفعت قيمة أسهم الشركة بنسبة 2.17% فور الإعلان عن مذكرة النوايا فقط، بعد ان شهدت تراجعا حادا في الاسابيع الماضية.

* وبحسب مصادر اعلامية بريطانية، فإن سوق الأسهم البريطانية، تعكف على إعداد هيكل جديد للإدراج، سيزيد من جاذبيتها لشركة النفط السعودية العملاقة أرامكو، كي تدرج أسهمها فيها. وبعد الزيارة بدت المصادر البريطانية اكثر تفاؤلا باحتكار بيع أسهم الشركة السعودية.

* واذا كانت هذه المكاسب المادية واضحة للعيان، فإن الجانب البريطاني كان اكثر سعادة بالحصول على امتيازات خاصة، لاعادة هيكلة المملكة السعودية، بما يتناسب مع طموحات الامير محمد بن سلمان واحلامه من جهة، وحاجة الاجيال الجديدة من السعوديين من جهة اخرى.

فلم يكن صدفة او عرضيا التركيز على الدور البريطاني في تقديم الخبرة في مجالين اساسيين، وهما: الترفيه والتعليم. ولا شك ان الخبرة البريطانية معروفة في ميادين السياحة والترفيه واعادة هيكلة الثقافة الشعبية السعودية، الا ان اقتران ذلك باشراف على مناهج التعليم وتوجيهها، فإنه يعطي الفرصة للعقل البريطاني لمواصلة السيطرة على النخب الثقافية والتعليمية السعودية لاجيال اخرى.

المكاسب السعودية

اذا كانت هذه هي ابرز المكاسب التي حققتها بريطانيا من زيارة ولي العهد، وتمكنت فيها من اعادة ربط السعودية بعجلة الاقتصاد البريطاني، وربط الثقافة السعودية بالجامعات والخبرات والتوجيه البريطاني.. فماذا قدمت بريطانيا في المقابل؟ وما هي المكاسب التي تحصلت عليها المملكة السعودية؟

صحيح ان السلطات البريطانية قد افرطت في تقديم مظاهر الحفاوة بالضيف السعودي. والبريطانيون يعرفون اكثر من غيرهم الطبيعة الشخصية لأبناء العائلة المالكة، ومدى حساسيتهم لمظاهر التكريم، حتى لو كانت خادعة، فاستقبل الامير محمد بن سلمان بصفته ملكا! بل باعتباره الحاكم المستقبلي الاوحد لهذه البلاد لعقود طويلة قادمة.. وبالتالي فمن المفيد ان تشبّك معه علاقات شخصية متينة وروابط مع مختلف الدوائر البريطانية.

وهذا ما جرى على الصعيد المعنوي والشكليات ليس الا.. اما على المستوى الدعائي والإعلامي، فالكل يعرف، وفي مقدمهم ولي العهد السعودي ومساعدوه، ان تلك الصور التي علقت على الجدران وفي الشوارع، وتلك الاعلانات الضوئية، هي من النشاطات الترويجية التي تقوم بها شركات متخصصة. وهي انشطة مدفوعة الثمن سعودياً، ويمكن لأي متمول ان يقوم بها، وليس فيها اي معنى سياسي او اجتماعي.. ومن السذاجة ان يتحدث الصحافيون السعوديون عن هذه الظاهرة باعتبارها من علامات التكريم والعلاقات العميقة بين البلدين. وهم يعلمون ان ملايين الدولارات دفعت لشركات الترويح والاعلانات لتنفيذ هذه الحملة.

 
مناهضو الحرب يتظاهرون: ابن سلمان قاتل!

كما ان هذه المظاهر ليست جديدة، ولا هي خاصة وحصرية بالعائلة المالكة السعودية.. فقد سبق ان استقبلت المملكة المتحدة ملوكا وامراء سابقين، بالحفاوة ذاتها، وجرت استقبالات مماثلة لملوك وامراء اخرين من الخليج وغيرهم.

ولكن ماذا كان في المقابل؟

لاول مرة في تاريخ العلاقات بين السعودية وبريطانيا، تترافق زيارة مسؤول سعودي بهذا المستوى من الاحتجاجات، والتحديات والشعارات المعادية.

فقد نظمت امام مبنى رئاسة الوزراء البريطانية في داوننغ ستريت مظاهرة حاشدة، شارك فيها عدد كبير من الناشطين السعوديين والعرب، اضافة الى مئات البريطانيين من منظمات بريطانية معروفة، في معاداة الحروب، وتجارة السلاح، والدفاع عن حقوق الانسان.

واعتقلت الشرطة البريطانية عددا من المحتجين بعد رشقهم بالبيض سيارة ولي العهد السعودي، أثناء خروجه من مقر رئاسة الوزراء البريطانية. وذلك بعد ان كانوا قد استقبلوه بالهتافات والانتقادات والاسئلة عن الجرائم والمجازر التي يرتكبها في داخل السعودية وفي خارجها، وخصوصا في اليمن.

وشددت منظمات حقوقية بريطانية، في مجال مناهضة الحروب والتسلح، على رفضها زيارة محمد بن سلمان، حيث أكدت حملة «أوقفوا الحرب» في مؤتمر صحافي أن السلطات في السعودية وصلت مستوى غير مسبوق في ارتكاب الانتهاكات في اليمن، داعية لوقف تصدير الأسلحة إلى الرياض. وانتقد عضو الحملة ستيف بيل مدّ السجاد الأحمر للأمير السعودي، معتبراً أن هذا الاستقبال دعم لأكبر نظام قمعي في الشرق الأوسط، وتجاهل لحالة حقوق الإنسان في اليمن والبحرين، فضلا عن السعودية نفسها.

بدوره، دعا عضو حزب العمال البريطاني كريس وليامسون، إلى سياسة خارجية أخلاقية، معتبراً أن ما يجري في اليمن منذ عام 2015، كفيل بأن تعيد رئيس الوزراء البريطانية تيريزا ماي حساباتها. بل ان جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال البريطاني المعارض، اعتبر أن بريطانيا تدير الحرب التي تشنها السعودية في اليمن، متهماً رئيسة الوزراء «بالتواطؤ” فيما تقول الأمم المتحدة، إنّه دليل على جرائم حرب في اليمن. وأضاف أن ألمانيا أوقفت مبيعات الأسلحة إلى السعودية، لكن مبيعات الأسلحة البريطانية زادت بشكل حاد، والمستشارون العسكريون البريطانيون يشاركون في الحرب. وهو اتهام خطير، وقد سبق لليمنيين أن أشاروا اليه مرارا.

أما زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار، فنس كابل، فقد دان «احتفاء الحكومة البريطانية المبالغ» فيه بالزيارة السعودية، واستغرب فرش البساط الأحمر لـ»ديكتاتور يترأس نظاماً ثيوقراطياً من القرون الوسطى».

وانتقدت وزيرة الخارجية في حكومة الظل العمالية، إيميلي ثورنبيري، ما اسمته «التذلل» الذي يمارسه السياسيون البريطانيون أمام ولي العهد السعودي، كما انتقدت دور السعودية في اليمن وسورية ولبنان، إضافة إلى القمع الداخلي الذي يمارسه النظام السعودي.

ومن الملاحظ ان ولي العهد السعودي لم يعقد مؤتمرا صحافيا في نهاية زيارته كما هي العادة، بل انه لم يواجه الصحافيين البريطانيين على الإطلاق، باستثناء مقابلة نشرتها صحيفة الديلي تلغراف قالت انها اجرتها مع الامير محمد بن سلمان قبل زيارته لندن.

وعلى الرغم من وجود طاقم صحافي كبير بصحبة الزائر السعودي، فلم يظهر اي منهم في وسائل الاعلام البريطانية، المكتوبة او المرئية، فكان جيشا من العاطلين عن العمل، والمتأهبين لاجترار كتابات معروفة للجمهور السعودي.

 
متظاهرون ضد بيع السلاح لآل سعود

وفي المقابل، نشرت صحيفة الغارديان افتتاحية لها بعنوان «رأي الغارديان في زيارة ولي العهد السعودي: لا تبيعوا قيمنا”. وتقول الصحيفة إنه ينبغي على رئيسة الوزراء أن تتحدث مع الأمير محمد بن سلمان بخصوص ملف حقوق الإنسان، والانتهاكات التي تحدث في الآونة الأخيرة في المملكة، التي تعد فكرة الجلد والتعذيب وعدم ممارسة الانتخابات، أعمدة أساسية في بنيانها.

واعتبرت الغارديان أن الحكومة البريطانية توقعت حملة الانتقادات هذه، ولكنها لم تتخيل حجم العداء من قادة الأحزاب المعارضة. وفي تقييمها للزيارة قالت الصحيفة إنها ستتضمن جدول أعمال مزدوجا، حيث سيجري استقباله كرئيس لبعثة تجارية يحمل صفقات مربحة، والثانية كقائد شاب يبحث عن الدعم الغربي.

بدورها، تناولت صحيفة التايمز الانقسام السياسي الحاصل حول زيارة ابن سلمان، حيث ألقت الضوء على جلسة استجواب رئيسة الوزراء في البرلمان، كما نقلت عن مصدر في الحكومة البريطانية رفضه لاتهامات كوربن، ومطالبته بسحبها. وكشفت التايمز إنّ دبلوماسياً بريطانياً كبيراً، ما يزال يعمل في وزارة الخارجية مرتبط بشركة علاقات عامة، يعمل فيها كـ»مُلمّعٍ» لصورة السعودية.

أما صحيفة «الفاينانشال تايمز»، فقد علقت على التظاهرة التي نظمتها «الحملة ضد تجارة السلاح» و»منظمة أوقفوا الحرب» أمام مقر رئاسة الوزراء، ورأت أن هذه التظاهرة تأتي رغم حملة العلاقات العامة المكثفة التي شنها مؤيدو النظام السعودي في بريطانيا، حيث انتشرت اللافتات وإعلانات الصحف المرحبة بقدوم ابن سلمان، بينما جالت بعض سيارات الأجرة شوارع لندن وهي تحمل صور الدعاية لإبن سلمان.

ولفتت إلى أن هذه الحملة ترعاها شركة «Arabian Enterprise Incubators»، وهي شركة استشارية أنشأها آدم هوزيير، وهو موظف سابق في شركة BAE للصناعات الدفاعية العسكرية.

وخصصت «فايننشال تايمز» افتتاحيتها في اليوم الثاني للحديث عن زيارة ولي العهد السعودي وقالت إن بريطانيا من خلال استقبالها له أرادت أن تؤكد رسالة واضحة أن محمد بن سلمان هو الرجل الذي يجب التعامل معه اليوم في السعودية، الا ان الدافع الحقيقي وراء هذا الاستقبال الحافل، هو التعطش الكبير للعقود التجارية خارج أوروبا.

العين السعودية

هذه الاجواء انعكست عدم ارتياح لدى الامير محمد بن سلمان كما قالت مصادر صحافية بريطانية، على الرغم من الحفاوة التي اظهرها النسق الرسمي البريطاني. ورأت تلك المصادر ان اللعبة البريطانية لم تكن خافية حيث استفادت رئيسة الوزراء البريطانية من الاصوات المعارضة، وافسحت المجال للمعارضين للزيارة ليحتلوا مساحة واسعة في الشارع والاعلام، لكي تمعن في ابتزاز النظام السعودي، وتأخذ منه اقصى ما تستطيع من عقود تجارية والتزامات سياسية.

 
لقطة للتاريخ، مع ملك المستقبل!

كما ان الاجواء التي رافقت الزيارة انعكست على الاعلاميين السعوديين انفسهم الذي اسقط في ايديهم، وبدوا مربكين، ولا يستطيعون مواجهة الاعلام البريطاني، وهم يدركون كم الاسئلة المحرجة التي سيواجهونها، فيما يتعلق بالعدوان على اليمن، وايضاً ما يتعلق بالاجراءات القمعية التي يمارسها النظام في الداخل، وفتح ابواب السجون على مصراعيها، واستمرار تنكره للحريات العامة وخصوصا حرية التعبير، ومعاداته الشديدة لكل مظاهر التمثيل الديمقراطي والمشاركة الشعبية في السلطة على اي مستوى.

ان هذه الحقائق التي لا تخفى على احد، ولا يمكن تبريرها بما يكتبه الصحافيون السعوديون في صحفهم المحلية، لا يمكن حجبها بالدعاية الممجوجة عن بعض القرارات التي اعطت للمرأة حق قيادة السيارة، والتخفيف من غلواء هيمنة هيئة الامر بالمعروف على الحياة العامة، وفتح الباب بحذر على بعض انشطة الترفيه والسماح لدور السينما بالعمل.. فهذه بدايات متواضعة جدا، ورغم اهميتها كحقوق مستحقة لاصحابها، فقدت قيمتها في اجواء القمع والاعدامات التي ازدادت نسبتها مع إمساك محمد بن سلمان بزمام السلطة.

ونعيد طرح السؤال الذي تجنب الصحافيون السعوديون طرحه او الاجابة عليه: اين هي المكاسب الفعلية للسعودية من هذه الزيارة؟

ولنبدأ من اهم نقطتين ركز عليهما الاعلام السعودي: فتح صفحة جديدة وتجديد العلاقات التاريخية بين البلدين من جهة.. وتقديم السعودية بثوبها الجديد، المنفتح والمعتدل، بحسب التوصيفات السعودية من جهة ثانية.

١/ العلاقات الثنائية (التاريخية):

لا نحتاج الى الكثير من الجهد لنعيد الى الذاكرة ان هذه المملكة تأسست في أحضان الاستعمار البريطاني، منذ ان كانت فكرة تراود أحلام عبد العزيز آل سعود، ومن خلال المعارك التي خاضها وانتصر فيها، والتوسع الذي حققه على حساب امراء وملوك آخرين.

كثيرا ما يتردد في الوثائق التاريخية، وحتى على لسان بعض الامراء ومنهم طلال بن عبد العزيز، ان والده كان يتقاضى راتبا شهرياً قدره خمسة آلاف جنيه استرليني من الحكومة البريطانية.

وطيلة تاريخ المملكة السعودية، ظلت العلاقات بين المملكتين على افضل ما يرام، وخصوصا الشراكة الاقتصادية، بما في ذلك مبيعات الأسلحة، والصلات الامنية السرية. ولا يغير من هذه الصورة العامة، حصول بعض المصاعب والازمات التي ظلت محدودة في الزمان والاتساع، وسرعان ما جرى تجاوزها.. وقد نشرت الغارديان تحليلا لمحرر شؤون الشرق الاوسط إيان بلاك، اعتبر فيه المملكة السعودية تاريخيا أكبر سوق لتصدير الأسلحة البريطانية. ويضيف ان البلدين يتشاركان في نحو 200 مشروع اقتصادي، تصل قيمتها الإجمالية إلى نحو 17.5 مليار دولار، كما ان هناك ما يزيد على 20 ألف بريطاني يعيشون ويعملون في السعودية.

 
اجتماعات سعودية بريطانية: الثمن المطلوب دفعه ثمناً للعرش!

ويقول بلاك إن العلاقات بين البلدين تشهد دائما فضائح كل بضع سنوات مثل فضيحة فيلم «موت اميرة»، الذي سجل عام 1980 لإعدام أميرة سعودية وعشيقها بتهمة الزنا، وهي الازمة التى ادت لقيام الرياض بطرد السفير البريطاني، وحرمان بريطانيا من منافع اقتصادية.

كما يعرج بلاك على فضيحة صفقة اليمامة عام 2006، وتهديد الرياض بقطع العلاقات الاقتصادية مع لندن، إذا لم تفرض الحكومة إلغاء التحقيقات المتقدمة في ذلك الوقت في اتهامات بالفساد والرشوة، والتي طالت مسؤولين سعوديين كبار من العائلة المالكة.

ويوضح بلاك، أن العلاقات الامنية بين البلدين شديدة الاهمية تتكرر دوما في كل أزمة، كما يحدث حاليا، لأن الحكومة البريطانية لا ترى غضاضة في الموازنة بين قيمها الديمقراطية المحافظة على حقوق الإنسان ومصالحها الاقتصادية.

وبعيدا عن هذه التعرجات للصحافي بلاك، في خط سير العلاقات البريطانية السعودية، فإنه يمكن الجزم بأنها ظلت في خدمة المصالح البريطانية. فقد تخلت بريطانيا عن الرعاية التامة للنظام لمصلحة الهيمنة الاميركية وليس لحساب استقلالية آل سعود وقرارهم الذاتي، وذلك بالتناسب مع التراجع على مستوى الدور العالمي للامبراطوية البريطانية، وبداية انحدارها بعد الحرب العالمية الثانية.

الا ان لندن ظلت مرجعية لتحركات الامراء، ومقصدا لتعليم النخبة وسياحتها، وتكديس اموالهم او استثماراتهم، ولا تزال جامعاتها تحصد ثاني اعلى نسبة من المبتعثين السعوديين في الخارج بعد الولايات المتحدة.. كما ان لبريطانيا حصة سنوية ثابتة من العقود العسكرية، اضافة الى صفقات كبيرة مثل صفقة اليمامة المعروفة والتي بلغت قيمتها 86 مليار دولار اميركي.. وبحسب صحيفة ذي إندبندنت البريطانية، فإن صفقات بيع الاسلحة البريطانية للسعودية زادت بنسبة 500% منذ بداية الحرب على اليمن. وأوضحت أن حجم تجارة السلاح وصل إلى 4.6 مليار دولار في العامين الأولين من الحرب على اليمن.

اذن ما الجديد في هذه العلاقة الذي يخول للسعودية القول انه عهد جديد؟ كلا بل انها سلسلة من العلاقات المستمرة والتي يحسن البريطانيون استغلال ظروفها، دون ان يتغير شيء في المملكة، التي ستبقى رهينة المصالح الغربية الاقتصادية، والحماية العسكرية، وخدمة المصالح الاستراتيجية للدول الغربية.

٢/ مملكة الإعتدال و»الإرهاب»!

اما الحديث عن الانفتاح والدولة المعتدلة والنفخ في بوق محاربة التطرف الوهابي، والغاء دور المؤسسة الدينية، فهو في حقيقته لا يتعدى اطار التكاذب المتبادل.. فالسعوديون يعلمون ان آل سعود لم يمزقوا دفاتر المذهب الوهابي بالكامل، والوهابية هي المصدر الرئيسي للتطرف واستيلاد مدارس التكفير والارهاب، بل هم يمارسون عملية ضبط ممنهجة، بات مشايخ الوهابية يدركون ابعادها، وهم اعتادوا عليها، وباتوا يعرفون ان وظيفتهم الرئيسية منذ تأسيس المملكة هي حماية النظام، وتكييف النص الديني لخدمة العائلة وقراراتها، في كل الاوقات.. ولن يكون مفاجئا ان يعود آل سعود الى تحريك مصانع الفتاوى المتشددة اذا احتاجوا اليها في احد الايام.

كما ان الغرب يعرف ان هذه الوهابية هي احدى ادواته لضبط القبائل في الجزيرة، ولاحقا للتحكم بالاسلام السياسي، الذي اصبح قوة رئيسية في العقود الماضية. وهذه المدرسة الدينية الصلبة والمتشددة، هي احدى الادوات الغربية لشق المسلمين ومنع اي تقارب بين المذاهب، عطفا عن قدرتها على ابقاء الوضع في السعودية على تخلفه وتبعيته.

ان كل حديث عن الاعتدال لا يجري في اطار المفهوم السياسي للكلمة.. فكيف يكون اعتدالا دون حق الانتخاب، واختيار السلطة السياسية، ومراقبة الانفاق والسيطرة على ثروة البلاد.. وكيف يكون اعتدالا مع اجتثاث كامل للمعارضة بكل اشكالها وفئاتها، من ناشطي حقوق الانسان الى الناشطين من اجل حقوق الاقليات ومنع التهميش والعزل الطائفي والمناطقي؟!

ان هذا الاعتدال لا يمكن صرفه الا في اطار اللعبة الصهيونية الاميركية في المنطقة، فالاعتدال يعني مد اليد للصهاينة ومحاربة المقاومة والتطبيع مع الكيان الصهيوني، على حساب الحقوق المشروعة والتاريخية للشعب الفلسطيني، وعلى حساب المقدسات الاسلامية في القدس الشريف.

هذا هو الاعتدال المطلوب اميركيا، فيكون السائرون في المشروع الاميركي لحماية الكيان الصهيوني هم المعتدلون، ومن يواجهون الهيمنة الاميركية هم المتطرفون..

ما يمكن الخلوص اليه هو أن زيارة محمد بن سلمان الى لندن فاشلة بكل دلالاتها، وهي لم تقدم اي جديد للنظام السعودي، باستثناء تأكيد زعامة محمد بن سلمان وتفرده بالسلطة السعودية، وهو امر حسمه ولي العهد بحد السيف، وبالاعتقالات والاقالات، ومصادرة الاموال والثروات، وقمع كل الاراء وكل التيارات.

وهذه الدكتاتورية البازغة، لا تضير الغرب الرأسمالي في شيء، وخصوصا بريطانيا الخارجة من اوروبا، واميركا ترامب المتغولة على العالم.. فما دامت ثروات السعودية تصب في خزائن ومصانع هذين البلدين، فلا مانع من حفلات الاستقبال مدفوعة الثمن من جيب الضيف ذاته.. فكيف اذا اقترن ذلك باستعداد هذا الضيف لتقديم خدماته اللوجستية والميدانية لخدمة المشروع الاميركي الصهيوني لتمزيق المنطقة واعادة رسم خرائطها؟

الصفحة السابقة