بلد المغامرات.. معركة سعودية مع الأردن

محمد قستي

المعركة السعودية مع الأردن لها وجهان. وجه يبتزّ الأردن في مواقفه الفلسطينية، ووجه حمائي لنظام ملكي وراثي يمثل بقاءه عنصر استقرار للحكم السعودي نفسه.

علينا تثبيت حقيقة أن هناك معركة بين البلدين، قد تكون صامتة، او نصف صامتة، أو تُمارس بأدوات هادئة ـ ناعمة، ولكنها في النهاية معركة.

ومعركة الأردن التي يقودها سلمان وابنه محمد بن سلمان، لا تختلف عن معاركه الأخرى التي خاضاها في السنوات الأربع الماضية، لا من حيث الشكل، ولا من حيث النتائج.

رأينا معركة على اليمن، ونتائجها حتى الآن واضحة المعالم: تخريب وقتل ودمار في اليمن، دون أن تحقق الرياض نتيجة تذكر.

ومعركة مع قطر، او ضد ما يسمونه في الرياض بـ (تنظيم الحمدين)، وهي معركة خطط لها ان تنتهي بالنصر خلال أسابيع، مثلما كان الأمل في معركة اليمن، وها نحن دخلنا العام الثاني، ولم نشهد سوى تكسير وتدمير ذاتي لكلا الطرفين.

وهناك معركة خاضها وخسرها محمد بن سلمان وصبيّه (ثامر السبهان) ضد لبنان، كانت ذروتها استدعاء سعد الحريري، ثم اجباره على تقديم استقالته من الرياض، واحتجازه ومصادرة أمواله، وانتهت القضية بتدخل دولي، خاصة الفرنسي، وخسر ابن سلمان المعركة، ثم خسر سعد الحريري الانتخابات، ولازالت الرياض تبحث في لبنان عن معركة جديدة ضد حزب الله والرئيس عون.

في العراق وسوريا، خسرت الرياض حربها، وهي تحاول ان تمدّها بوقود كاف لاستمرارها خدمة لإسرائيل من جهة، وتخريباً على ايران من جهة ثانية.

معارك ابن سلمان الداخلية اكثر من ان تحصى، وحتى الان لم ينجح الا في معركة واحدة، وهي السيطرة على الحكم، والاستفراد به، وتقليص دور اجنحة العائلة المالكة الأخرى، وكذلك دور المؤسسة الدينية.

عدا عن ذاك، لا يوجد انجاز يُعتدّ به: اللهم الا سواقة المرأة للسيارة، وفتح البلاد على ما أسماه (الترفيه) غير البريء!

اذن.. معارك ابن سلمان ووالده كثيرة.

ومعركة الأردن الجديدة واحدة من المعارك التي يتضح خسارتها منذ اللحظة التي دخلت السعودية فيها.

الفكرة القائمة وراء هذا كله، هي أن المعركة الواحدة قد تقود الى معارك أخرى.

والهزيمة في إحداها تجرّ الى مغامرات ومعارك خاسرة أخرى.

حرب اليمن كانت البداية، وكان البحث فيها عن انتصار سريع، فلمّا تأخر النصر، او تعذّر وأصبح شبه مستحيل، فتح ابن سلمان معركته مع قطر، متوازيا مع معركة داخلية ضد ولي العهد السابق محمد بن نايف والإطاحة به، ثم لحقتها معركة أخرى ضد سعد الحريري بحجة الفساد، وكان لها معركة داخلية موازية أيضاً، وهي التخلص من الأمير متعب بن عبدالله وزير الحرس والسيطرة على أموال الأمراء ورجال الاعمال، ما أدى الى هروب رؤوس الأموال من الداخل، والى تقلص الإستثمارات الخارجية الى أدناها منذ خمسة عشر عاماً حسب الإحصاءات الحكومية الأخيرة.

الهزيمة مع قطر شجعت على فتح معركة مع لبنان، وها نحن امام معركة جديدة ضد الأردن، تكاد تنتهي لصالح الملك عبدالله ملك الأردن.

واضح ان هذا العصر السلماني هو عصر مصادمة وصراع على كل الجبهات، سواء مع الحلفاء او الأصدقاء، فضلا عن الخصوم والمنافسين والأعداء، داخليا وخارجيا.

معارك مستمرة على أكثر من جبهة، لا تنبيء عن نصر.

كثرة الجبهات تدلنا على حس المغامرة المتزايد لدى طاقم الحكم، وعلى تصاعد اليأس من تحقيق نصر ما، يقوّي شوكة رجل الحكم القادم، ابن سلمان، والذي تتضخم مناصبه وتتوسع دون أن يستطيع ان ينجز شيئاً يليق بتلك المناصب الكثيرة.

الموالون للنظام السعودي يقولون ان ما تقوم به الرياض لا يعدو تفعيلاً لقواها الناعمة والخشنة.

ويكررون بأن زمن (الدفع المالي) المجاني انتهى وولى الى غير رجعة.

هكذا فعل ابن سلمان مع القيادة الفلسطينية (محمود عباس) الذي استدعاه ابن سلمان للرياض وهدده بقطع المعونات، وازاحته عن السلطة، ان لم يقبل بـ (صفقة القرن) والتخلي عن القدس كعاصمة لفلسطين الى الأبد.

هذا ما جعل عباس ينتفض، ويعترض، ويرفض، وليكن ما يكون.

كانت مساومة سعودية يصعب قبولها من قبل أي فلسطيني.

والآن جاء ابن سلمان ليساوم ويبتزّ الأردن لتحقيق ذات الغاية: إنجاح صفقة القرن؛ التخلي عن القدس والوصاية الهاشمية عليها؛ وتحويل الأردن الى (الوطن البديل) للفلسطينيين.

الأدوات السعودية هي ذاتها: إيقاف المساعدات.

الأردن ارتبطت شرعية حكمه بالقدس، وقبوله بصفقة القرن وما يمليه محمد بن سلمان، يعني ضياع الحكم الهاشمي نفسه.

انه اشبه ما يكون بأن يتخلّى آل سعود ووهابيتهم عن الحرمين الشريفين، حيث لا يمكن تعويض ذلك لا بالمال ولا غيره. مع ملاحظة ان الأردن لا يمتلك المال أيضاً.

ملك الأردن ووزراء ومعلقون قالوا صراحة ان هناك ابتزاز للأردن من قبل دول الخليج: الامارات والسعودية ليقبل بصفقة القرن.

لا يعني هذا ان ملك الأردن مهتم بفلسطين بقدر ما هو مهتم بالحفاظ على عرش الهاشميين ليس الا.

وال سعود الذين طردوا العائلة الهاشمية من موطنها الأصلي في الحجاز ١٩٢٤-١٩٢٦، فحكمت العراق والأردن، لم يبق لها الا هذه الرقعة الجغرافية المفتعلة بريطانياً.. آل سعود هؤلاء يكرهون الهاشميين حتى الآن، لكن بقاء الحكم الملكي الأردني ضرورة لبقاء حكمهم الملكي الوراثي.

اذن.. العقوبات السعودية للأردن تأديبية، وابتزازية.

فاذا فشل الإبتزاز، انهارت العقوبات.

بقاء النظام الأردني ضرورة لبقاء إسرائيل ايضاً. والغرب لن يتسامح في هذا.

هو مع الضغط على الأردن ولكن ليس الى حد تعريضه للخطر.

ما جرى في الأردن هو أن النظام حاول الالتفاف على ازمته المالية وطلبات صندوق النقد بأن زاد في ضريبة الدخل؛ فانفجر الشارع الأردني، وكان أي مراقب يتوقع زلزالاً قد يعصف بالنظام الملكي هناك في أي لحظة.

المتظاهرون الأردنيون هاجموا العائلة المالكة السعودية أيضاً، ووصفوا السعودية بـ (اليهودية). فيما كان الاعلام السعودي يلتزم بالأوامر الرسمية بأن لا ينجر الى معركة مع الأردنيين العاديين؛ والتركيز فقط على قطر وقناتها (الجزيرة) بأنها هي التي تريد اسقاط حكم الأردن، وأن المملكة السعودية هي التي تدافع عنه.

تحركت قطر من اجل جلب الأردن الى معسكرها التركي!، وكان السعوديون قد غضبوا على الأردن حين زار الملك عبدالله تركيا مرتين بما له علاقة بالوضع الفلسطيني، ولمحت الأردن الى إعادة سفيرها الى الدوحة نكاية بالرياض وأبو ظبي، وقال مسؤولوها بأن خلخلة الأمن الأردني سيؤدي الى خلخلة أمن دول الخليج نفسها.

تطورات الاعتراضات في الشارع وتصاعدها دقّ ناقوس الخطر ليس في عمّان فحسب، بل في الرياض وتل أبيب وواشنطن والعواصم الغربية.

اذن.. لا بدّ من الدفع!

لا بد أن تقوم (دولة شوال الأرز السعودية) بدفع المال حتى لا يسقط النظام الأردني.

وعليه.. كان على ملك الأردن ان يختار الوقت المناسب لاحتواء غضب الشارع، فأقال رئيس الوزراء الملقي وعيّن آخر (عمر الرزّاز).

لم يفعل الملك ما فعل في خطوة تراجعية، إلا بعد أن تلقى وعداً بحل المشكل المالي لبلاده.

وفعلاً.. اتصل محمد بن سلمان بالملك الأردني. قيل ان الاتصال كان لمناقشة (قضايا المنطقة)!

وبعدها.. أعلن الملك سلمان عن قمة طارئة في مكة في ١١ يونيو، تجمع ملكي الأردن والسعودية بالإضافة الى أمير الكويت وممثل عن الإمارات.

الغرض من هذا الجمع، هو تحمل النفقات جماعياً!

وبدأت السعودية تروج لحل الأزمة في الأردن (بعكس قطر!).

جاء الملك عبدالله الى السعودية، واعتمر، والتقى بالملك سلمان في قصر الصفا المطل على الحرم المكي. وخلال نصف ساعة من المؤتمر، انفض عن تقديم معونة للأردن بمليارين ونصف مليار دولار لخمس سنوات متواصلة.

المبلغ ليس نقداً كله، وانما جزء منه فحسب، وبعضه وديعة لدى البنك المركزي الأردني، وجزء آخر منه تعهدات للبنك الدولي، وجزء ثالث قيل أنه لمشاريع تنموية.

بمعنى آخر، فإن المبلغ الذي قدّم للأردن لا يفي بأقل الحاجة. لكنه يخفف بعض العبء، ويبقي الضغط السعودي قائماً لكي يتنازل الأردن عن وصايته على الأقصى والقدس!

المبالغ التي قدمت لا يمكن ان تطمئن الأردن، وإن ما جرى كان مجرد مناورة انقاذ للنظام الأردني، دون التخلي السعودي الصهيوني الأمريكي عن (صفقة القرن).

وستبقى الوديعة السعودية الخليجية أداة جديدة من أدوات الضغط على الأردن لتغيير موقفه.

يصعب والحال هذه، القول ان التراجع السعودي عن ابتزاز الأردن (نهائي).

لكن عدم استقرار الأردن، سيكون على الدوام مؤشر خطر لإسرائيل والسعودية.

حتى الآن، لا يبدو ان الأردن سيتراجع عن موقفه بشأن (صفقة القرن) لأسباب موضوعية.

احدها ان الأردن لا يستطيع تحمّل لاجئين جدد من فلسطين (الضفة الغربية وحتى من مناطق عرب ٤٨). لا ننسى هنا ان ٧٠٪ من الشعب الأردني هم فلسطينيون!

ولا يستطيع الأردن قبول ان يتحول الى (وطن بديل) للفلسطينيين، فتصبح فلسطين هي الأردن، وهي الوطن النهائي، فيما تستحوذ إسرائيل على كامل الأرض الفلسطينية.

السؤال الذي يدور في اذهان المحللين: لماذا تقوم الرياض بكل هذا الخراب في المنطقة، ولماذا هي مصرّة على إنجاح صفقة القرن التي هي (صفعة القرن) كما سماها محمود عباس، والتي لا يمكن ان تنجح؟

ما الفائدة التي تجنيها الرياض من تقديم المنافع لإسرائيل، لتنهب ما تبقى من الأرض العربية؟

لا يوجد أي منطق، سوى ان الحكم السعودي ـ ممثلاً في شخص ابن سلمان ـ التزم لترامب وللصهاينة بوعود مقابل بقائه في السلطة، او صعوده الى العرش.

التخلي عن القضية الفلسطينية امرٌ سعودي واضح. لكن اعلان الحرب على القضية، وعلى كل المواقف التي تخالف الرياض، كما هو الحال مع مواقف الأردن وسوريا وحماس والجهاد وحزب الله وحتى لبنان وايران.. فإن هذا يمثل جهداً صهيونياً محضاً، لا تستفيد منه الرياض الا العار والشنار.

لم تنته معركة الرياض مع الأردن بعد، شأنها شأن كل معارك آل سعود الأخرى في اليمن والعراق وسوريا وايران ولبنان وقطر وغيرها.

ونظن، ان تعذّر النجاح السعودي في هذه المعركة الأردنية، قد يقود ابن سلمان الى معركة أخرى، مع جار آخر قريب او بعيد. قد تكون المغامرة القادمة معركة مع تركيا، أو مع الكويت، او سلطنة عُمان، او السودان.. كل ذلك اصبح ممكناً، في عهد الهزائم السلماني.

الصفحة السابقة