ما بعد «الحديدة»

ناصر عنقاوي

حققت قوى العدوان السعودي والإماراتي نصراً على مواقع التواصل الاجتماعي، فأعلنت احتلال مواقع عديدة في الحديدة، بل والحديدة نفسها.

كانت الأمنيات ان يكون (العيد عيدين) بتعبيرهم. لكن ذلك لم يتحقق. حتى اسقاط مطار الحديدة الخارج من اطار الخدمة لم ينجزوه حينها.

ومسألة احتلال مطار الحديدة، الذي يبعد عشرات الكيلومترات عن مدينة الحديدة، لهم أهمية معنوية، ولكنه من حيث القيمة الاستراتيجية العسكرية فقليلة أهميته.

قوى العدوان أُصيبت بإحباط منذ الساعات الأولى لمعركة السيطرة على الحديدة، حيث فشل الإنزال العسكري الإماراتي بحراً، وتمّت إصابة بارجة إماراتية بالصواريخ ما أدّى الى مقتل عدد من جنود وضباط الإمارات، أعلنت الأخيرة فقط عن مقتل أربعة منهم دون أن تحدد عدد الجرحى.

هذه الضربة عوّقت بشكل كبير فاعلية القوة البحرية للمعتدين، وهي التي كان يعوّل عليها في إحداث فارق في معركة (الساحل الغربي)، إن من جهة السيطرة على الميناء، أو من جهة انزال قوات برية إضافية، بعد (تقطيع) اوصال الإمدادات البريّة، ومحاصرة كتائب قواتها.

هذه ضربة أخرى لقوى العدوان، ونقصد بذلك ما جرى للقوات البرية المعتدية، وهي تتشكل من قوتين أساسيتين: ١/ ما يسمى بقوات العمالقة، وهي إسم على غير مسمّى، وهي تتشكل من قوات جنوبية معظمها تنتمي للقاعدة وداعش والسلفية الوهابية السعودية؛ ٢/ وكذلك من قوات شمالية بقيادة طارق عفاش، ابن أخ الرئيس علي صالح، وتعمل تحت مسمّى (حرّاس الجمهورية).

هذه القوات البرية، لها خطوط إمداد طويلة، وتتمدد في ميدان سهلي على الساحل لا عُمق له، ولا يزيد عن سبعة كيلومترات. وقد استطاع الجيش اليمني واللجان الشعبية (قوات صنعاء) تعميق اختراقاتهم لخطوط الإمداد في ثلاثة مواضع أساسية: في الفازة، ثم في النخيلة، ثم في الجاح، ما قسّم قوّات العدوان البرية وحاصرها، وقطع الامدادات والتموين والغذاء والوقود والتطبيب عنها.

وحتى كتابة هذه السطور، فشلت كل المحاولات لقوى العدوان في سد ثغرة الاختراقات الآخذة بالتوسع، واعترف بأن هناك محاولات اختراق ـ من قوات صنعاء ـ أخرى قد تم افشالها. وأيضاً، ثبت حتى الآن، وهو ما اعترفت به قوى العدوان، إصابة القائد العسكري للعمالقة، ومقتل العديد من مرافقيه، وأسر اكثر من ١٦٠ من احدى الكتائب المحاصرة، وهناك مفاوضات على استسلام أخرى.

من الناحية الاستراتيجية، فحتى لو سقط المطار عسكرياً بتغطية مكثفة بالقصف الجوي، فإن واقع القوات البرية لا يساعد على التوسع ليحتل الحديدة او الميناء، وهذا هو المهم، واليه تتجه النيّة.

الهدف من السيطرة على الحديدة من قبل قوى العدوان السعودي الإماراتي واضح: انه مجرد جهد إضافي لخنق حكومة صنعاء، ومعظم الشعب اليمني والتحكم في مصيره، من خلال المزيد من الحصار، لفرض شروط المعتدي، او لإسقاط حكومة صنعاء؛ حيث ان الظنون تتجه الى انه بعد سقوط الحديدة يمكن إسقاط صنعاء وحتى صعدة. اختيار الحديدة كان لموقعها الجغرافي وكونها ميناء، والأهم لأنها تقع في منطقة سهلية يمكن السيطرة عليها نارياً، بعكس المناطق الجبلية التي لا قِبَلَ لقوات العدوان السيطرة عليها من خلال الجو او البرّ.

بعد لأي وتسرّع، أعلنت قوات العدوان السيطرة على مطار الحديدة الفارغ والبعيد عن المدينة.

لكن المهمة الأصعب وشبه مستحيلة هي قضية الميناء والمدينة نفسها، خاصة وأن أزمة القوات البريّة المعتدية قائمة ولا تمتلك القدرة على محاصرة المدينة واقتحامها، ما لم تتحرر اساساً من الحصار، وتنتظم خطوط الإمداد.

هناك جبهة سياسية للعدوان أرادت تثمير العدوان على الحديدة سياسياً.

في البداية كان الحديث: لا بدّ من إسقاط المدينة و(الحوثي) والسيطرة على الميناء.

بعد الضربات المتوالية في الفازة والجاح، وتقطيع اوصال القوات البرية المعتدية، جرى الترويج لأخبار حول استعداد صنعاء للتنازل عن الميناء، وهو أمرٌ لم يحدث البتة، ولم يقبل أنصار الله النقاش بشأنه، سواء كان التسليم للأمم المتحدة او لقوى العدوان.

السعودية والإمارات قالتا ان الأمم المتحدة تسعى لإنقاذ الحوثي وأنها تريد منعهما من احتلال الحديدة. في حين ان أنصار الله يقولون عكس ذلك، ويرون ان ممثل الأمين العام، غريفيث، انما جاء الى اليمن ليستثمر الضغط العسكري لقوى العدوان سياسياً، من أجل تسليم الميناء لها.

تبين حتى الآن ان الفرنسيين والأمريكيين والبريطانيين مشاركون في العدوان على الحديدة.

 
خريطة معارك الساحل الغربي والاختراقات لقوات المرتزقة

وبالتالي لا يمكن إلا ان نتوقع بأن جهود الأمم المتحدة للبحث عن حل شامل، انما هو هراء، خاصة اذا ما انحصر الحديث في موضوع (الحديدة).

لقد تم الإعلان عن فشل مساعي المبعوث الدولي في اقناع صنعاء بالاستسلام والتسليم؛ وكان ذلك امر طبيعي، وهو نتيجة طبيعية لواقع العمل الميداني العسكري.

حيث لا يمكن لقوى عسكرية فشلت في مهمتها ان يتم تسليمها ـ وهي قوى اجنبية غير يمنية ـ المدينة الثانية او الثالثة في اليمن. هذا خلاف الوطنية، وهو قبول بالإحتلال.

في كل الأحوال، فإن معركة الحديدة قد تستمر لأشهر، وقد يتم تدمير الميناء، مثلما تم تدمير المطار، ومن المرجح ان قوى العدوان ستمنع امدادات الغذاء عبر الميناء، ما يعني تصاعد المعاناة الإنسانية.

والمرجح ان تغطية العدوان غربيا (أمريكيا وبريطانيا وفرنسيا) ستستمر؛ بالرغم من أنه اعترف بفشل القوات السعودية الإماراتية المدعومة من قبله، وانتقد أداءها العسكري حتى الآن.

معركة الساحل الغربي ليست واحدة.

هي مجموعة معارك على طول الشريط الحدودي، وكلها مشتعلة.

بل أن كل جبهات الحرب اليمنية مفتوحة ومتصاعدة: في نهم وصعدة والجوف ومأرب وتعز وغيرها.

والغريب، أن قوى العدوان السعودي الاماراتي تزعم انها تحاصر صنعاء، بل وتحاصر صعدة ايضاً، وهذا ما قاله المتحدث السعودي باسم قوى التحالف.

مزاعم النصر لقوى العدوان في الاعلام كبيرة.

وكلها مزاعم لم تثبت لا بالصورة ولا بالصوت.

جيش صنعاء ولجانه، هو الوحيد الذي يعضد انتصاراته من خلال الكاميرا والشاشة. ويثبتها بشكل واضح. لا يتعجّل اعلان النصر الا بعد تحققه.

وقد اثبت اعلام صنعاء بالصوت والصورة خسائر كبيرة لقوى العدوان في نهم وفي الجوف وفي صعدة وغيرها. والأهم انه في حين تركز قوى العدوان على موضوع المطار، وكأنه نصر مؤزر، يعترف بخجل ان هناك ضغوطات واختراقات كبيرة في خطوط الإمداد في الدريهمي والفازة والنخيلة والجاح والمجيليس.

تبدو معركة الحديدة مجرد جزء صغير من معركة كبيرة مشتعلة في كل ربوع اليمن.

بل ان معركة الحديدة هي مجرد جزء صغير مما سمي بـ (معركة الساحل الغربي). وهي الجزء الأقل أهمية ـ استراتيجياً ـ اذا ما قورنت بما يجري جنوبه من معارك في الدريهمي وغيره.

لكن كلمة (مطار) وتأكيد قوى العدوان على أن السيطرة عليه نصرٌ مبين، يعني بنظرهم سقوط الحديدة فصنعاء، وبالتالي أصبحت له قوة معنوية، وكأن المعركة الفاصلة كانت تدور حول المطار، وليس حول معركة (الساحل الغربي) بمجمله.

وهذا له ارتباط أيضاً بما تريد دولة الإمارات إنجازه، معنوياً وسياسياً.

اذ لا يخفى ان معركة (الساحل الغربي) هي معركة إماراتية بامتياز. فالقوات الآتية من الجنوب (العمالقة وحراس الجمهورية) انما هي قوات مدعومة منها وبتمويلها. والخطط العسكرية التي أفضت الى تكليف الإمارات بانزالات بحرية هي أيضاً تكرس الانطباع بأن معركة الحديدة أضحت معركة إماراتية خاصة، بل قد تكون معركة شخصية لمحمد بن زايد. ولهذا، نجد ان الإعلام الاماراتي أكثر هيجاناً وتغطية لمعركة الحديدة من الاعلام السعودي نفسه؛ لأن النصر او الهزيمة المتحققة من المعارك ستلحق أول ما تلحق بالإماراتيين أنفسهم.

مستقبل معارك الحديدة والساحل الجنوبي لا يمكن استقراؤها بشكل دقيق.

فاذا ما هزمت قوى العدوان على اليمن في معركة الساحل والحديدة، فإن نكسة كبيرة ستصيب كل الجبهات الأخرى المفتوحة، والتي يصل عددها الى نحو أربعين جبهة.

وستؤدي المعارك ليس الى تدمير مطار الحديدة، الخارج عن الخدمة، بل قد يمتد الانتقام بضربات جوية وزيادة الحصار على الميناء، المنفذ الوحيد للبضائع. كما ستؤدي عمليات الانتقام الى ضربات جوية تستهدف المدنيين في مجازر متنقلة، وهذا ما شهدناه مراراً وتكراراً، فحين يخسر المعتدون على ارض المعارك، يتجهون الى المدنيين.

وفي الساحل، فإن القوى اليمنية المرتزقة التي تحارب الى جانب العدوان، يرجح ان تتلقى ضربات غير مسبوقة، بسبب تقطيع اوصالها، واشتداد القتل بين أفرادها، خاصة القوات الجنوبية الوهابية الداعشية التي تشكلت في لواء العمالقة. ولهذا انعكاسات سلبية على مستقبل التعايش بين اليمنيين الجنوبيين والشماليين. فمن جهة نرى ان القوات الجنوبية التي يفترض نظرياً انها حررت ارضها، والتي يزعم قادة الجنوب انهم يريدون استقلالها، تقوم بعمليات في الشمال اليمني، وعلى الحدود السعودية ايضاً. فلا قوات حقيقية بيد الرياض والامارات الا القوات الجنوبية. ووضع الجنوب مقابل الشمال، سيعزز العداء والنزعة الانفصالية مستقبلاً.

ومن جهة ثانية، لا يستطيع الجنوبيون تحمل خسائر بشرية كبيرة في المعارك كالتي يتحملونها اليوم، فسكان ما يسمى باليمن الجنوبي لا يشكلون سوى اقل من ١٥٪ من مجموع السكان؛ ولا أفق لتحقيق أحلام بعض المهووسين الداعشيين بأن يسيطر الجنوب على الشمال من خلال مساهمته العسكرية.

أما على الجبهة السياسية، فالعدوان على الحديدة ومعاركها، لم يكن يستهدف فتح ثغرة للحوار السياسي لحل الأزمة اليمنية. فالرياض نفسها لا تبحث عن حل سياسي ابتداءً. صحيح ان العدوان قال ان احتلال الحديدة هو لإجبار صنعاء على الحوار السياسي، ما فُهم منه أن احتلال الحديدة قد يشكل ورقة سعودية إماراتية في المفاوضات، لفرض أجندتهم وفرض التنازل على أنصار الله. لكن المؤشرات الحقيقية ليست كذلك، فحتى لو سقطت الحديدة، فإن العدوان ينوي مواصلة معاركه، وليس التوقف، والتصريحات في هذا الجانب كثيرة.

في حال خسارة السعودية معركة الحديدة، فإن ذلك لا يعني انها ستقبل بالحلول السلمية، او تترك اليمنيين يرتبوا أوضاعهم ويقرروا مصيرهم بشأنهم بمن فيهم المتحالفون معها.

والأمم المتحدة ومبعوثها لا يمكن ان يفرضا حلاً سياسياً بالدبلوماسية، مادام السلاح عاجزاً عن تحقيق ذلك، او مادام البعض يريد حلاً عسكرياً وإنْ طال السُّرى!

الصفحة السابقة