الدولة المعطِّلة

من آيات أفول العهد الذهبي للمملكة السعودية أن مفاعيل نشاطها الدبلوماسي عقيمة، الى القدر الذي بات التناقض بين حساب الحقل وحساب البيدر فادحاً. ويذكّر ذلك بالآية الكريمة:»والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب».

انتكاسات الدبلوماسية السعودية منذ تولي سلمان السلطة في 23 يناير 2015، هي من النوع الذي لا تكشف عن مجرد عثرة عابرة أو كما يقال «كبوة فارس»، وإنما هي أحد أشكال الضياع المؤسّس على قصور في الرؤية، ونقص حاد في فهم أصول العمل السياسي والدبلوماسي. علاوة على ذلك، اعتلاء رهط من الأشخاص عديمي الخبرة، لمجرد أنهم مقرّبون من بيت الملك وعياله.

رصد سريع للأخطاء الدبلوماسية التي اقترفها ثامر السبهان، وزير الدولة لشؤون الخليج العربي، في العراق ولبنان، أو تركي آل الشيخ، المستشار في الديوان الملكي، بمرتبة وزير، ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للرياضة، والذي عجن على الخطأ مع الحلفاء قبل الخصوم في الرياضة والسياسة، سواء مع مصر ونادي الأهلي وقضايا أخلاقية نربأ عن ذكرها، أو مع الكويت ووزير شؤون الشباب والرياضي الكويتي خالد الروضان، على خلفية زيارة الأخير الى قطر لشكرها على دورها في الوساطة مع الفيفا لرفع الايقاف الدولي عن الكويت وغيرها من الأخطاء. يقال الشيء نفسه عن سعود القحطاني، المستشار في الديوان الملكي، وعنصريته الفجّة، وتغريداته الطفولية والتي لا تمت الى الدبلوماسية بصلة.

بطبيعة الحال، لسنا بصدد رصد أخطاء هامشية، وانما الغرض هو تظهير مشهد بات ملبّداً باقترافات خطيرة في العمل الدبلوماسي. وإذا كانت «الحقبة السعودية» كما نعتها محمد حسنين هيكل مرحلة متخمة بالمبادرات والخطط السياسية الخلاّقة التي وهبت النظام السعودي مكانة محوّرية على خارطة الشرق الأوسط، فإن عهد سلمان وبرغم من كثافة الجهود وحجم الامكانيات الهائلة التي وظّفت من أجل إحياء الدور المحوري السعودي في الجيوبوليتيك الشرق الأوسطي، فإنه كان عهد الخيبات بحق.

لم تسفر أي مبادرة سعودية عن نتائج فارقة، فقد حاول سلمان بناء تحالف استراتيجي على قاعدة مذهبية يشمل السعودية ومصر وتركيا وباكستان بهدف مواجهة ايران. ولكن النتيجة أن التحالف لم ير النور، بل واجه واقعاً شديد الصلابة ورفضاً من الأطراف كافة، حتى من الحليف المصري الذي يعد الأسهل في قبول أي مبادرة من السعودية.

واقع الحال، أن محاولات مماثلة أخرى خليجية وقومية جرت تارة باسم عزل ايران، وأخرى بعنوان عزل سوريا وثالثة بدعوى عزل قطر، وجميعها باءت بالفشل. فالسياسة لا تدار بالانفعالات، والنزوات المنفلتة.

على سبيل المثال، من المراهنات التي كان النظام السعودي يقطع بأنها رابحة هي لبنان، ويرى حصته فيها مضمونة ووازنة، بحكم تركيبته الطائفية وتوزّع ولاءاته. ولذلك، حين استدعي رئيس الحكومة سعد الحريري في 3 نوفمبر 2017 كان يتصرف محمد بن سلمان معه على أنه بمثابة وديعة يستردها ويتصرف بها كما يشاء، فيرغمه على الاستقالة، ثم يحتجزه لأكثر من اسبوعين، كما كشف عن ذلك الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، واضطر الجبير الرد بطريقة بائسة.

مهما يكن، فقد أهين رئيس حكومة دولة ذات سيادة لمجرد أنه حليف لها، ويجب عليه السمع والطاعة. وكان الغرض هو تعطيل عمل الحكومة اللبنانية في رد فعل على توتر العلاقة مع ايران وحزب الله. وكانت النتيجة أن السعودية خسرت الرهان، وعاد الحريري الى دياره وانتصرت الدبلوماسية اللبنانية.

في السادس من مايو الماضي، جرت انتخابات تشريعية في لبنان، وراهنت السعودية على اخراج حزب الله من المعادلة السياسية اللبنانية. ونزل السفير السعودي في لبنان وبرفقته السفير الاماراتي على الأرض، وصارا يجوبان المناطق اللبنانية تحشيداً ودعماً وللحلفاء وتحريضاً على حزب الله وحلفائه. والنتيجة كانت صادمة بحصول حزب الله وحلفائه على أغلبية المقاعد والتي قدّرت بنحو 74 مقعداً من أصل 128 نائباً. ومن الطبيعي والمنطقي ان ينعكس التمثيل النيابي في التشكيل الوزاري، وهذا ما لا تريده السعودية، فاستدعت الحريري أولاً ومن بعده بقية حلفائها في لبنان من أجل تعطيل تشكيل الحكومة، عبر رفع أسقف المطالبات وزيادة الحصص.

في العراق، وبرغم من الفوضى التي سادت مرحلة ما بعد الانتخابات في 12 مايو الماضي، نتيجة دعاوى التزوير، وتضارب المصالح، والتقلّبات السريعة والحادة في التحالفات السياسية، فإن ثامر السبهان استعجل قطف الثمار، التي لم يتعب هو فيها، وراح يتباهى بانتصار من يعتقده حليفاً له، أي كتلة «سائرون» بزعامة مقتدى الصدر، فحرق المراكب وأفسد الطبخة. وبعد أخذ ورد، تشكّل تحالف يضم “سائرون” و“الفتح” بقيادة هادي العامري، وهما أكبر كتلتين فائزتين في الانتخابات البرلمانية العراقية.

في القراءة الإجمالية، بعد استعراض نتف من الاخطاء الدبلوماسية القاتلة، أن السعودية بعد أن عجزت عن جني أرباح صافية في المعارك السياسية التي تخوضها تحوّلت الى قوة معطّلة، أي الانتقال الى «المعارضة»، فهي لا تملك أدوات التغيير فقرّرت تعطيله.

مشكلة النظام السعودي تكمن في كونه يمتلك مالاً وفيراً ولكن لا يملك العقل الحصيف الذي يتقن فن استثماره أو حتى سبل إنفاقه على وجه صحيح. وينقل، والعهدة على الراوي، في عهد سلمان أصبح الدفع مؤجلاً، وبحسب النتائج، فإن حقّق حليف ما المطلوب منه حصل على ما يريد، والا فقد خسر الرهان. إن صدقت الرواية، فإن ذلك يعد تحوّلاً كبيراً، لأن ذلك يبقي الحلفاء أسرى حوائجهم، ما يضطرهم لمضاعفة الجهد من أجل تحقيق أفضل النتائج على أمل الحصول على تعويض مادي كبير.

في النتائج، النظام السعودي لم يعد خلاّقاً ولا مبادراً، والأهم ليس رائداً أو ناجحاً، ويقتصر دوره على تعطيل مفاعيل الناجاحات التي يحقّقها خصومه. وبحسب المثل العراقي: يا ألعب يا أخرب الملعب.

الصفحة السابقة