يأس سعودي، وقلق على المصير

محمد قستي

السحب السوداء تتراكم في مملكة آل سعود.

لا الأوضاع المحلية مطمئنة، ولا الأوضاع الخارجية، التي للرياض صلة بملفاتها، تؤشر الى خير.

محلياً، بدأت السياسات الفاشلة والمُحبطة، التي اتخذها ابن سلمان على أكثر من صعيد.. تؤتي بثمارٍ مرّة، وإن كانت متوقعة.

هجوم على سجن الطرفية ببريدة، والذي يحوي كثيراً من مشايخ الصحوة الوهابيين، او الإخواسلفيين، وقد قتل إثنان من المهاجمين وجُرح الثالث، كما قتل رجل أمن، ومقيم.

هذا مؤشر خطر الى حقيقة ان السياسات الاجتماعية المتعلقة بالعلمنة، والتغريب، وتهميش مشايخ الوهابية الذين شاركوا في صناعة الدولة وإدارتها، لن يمرّ بسهولة.

ما يجري مجرد مؤشر لبروز نسخة داعشية جديدة، مستظلّة بأوضاع اقتصادية واجتماعية فاشلة، وبأوضاع سياسية جامدة، وأمنية قاهرة ظالمة، وسياسات وحروب خارجية تكاد تكون جميعها خاسرة.

كل المؤشرات تفيد بأن الوهابية ستنتج داعشها الجديد. هذا رأي بعض النخب النجدية نفسها، كيوسف الديني الذي كتب في الشرق الأوسط بداية العام الميلادي الجاري، ما يفيد ببروز داعش جديدة، كمعلم من معالم عام ٢٠١٨.

لكن ابن سلمان، وجهاز القمع، الذي يمارس أقسى فتكه، اعتقد بأن الاعتقالات لكل الأطياف السياسية وأصحاب الرأي ومشايخ الصحوة والحقوقين نساء ورجالا، وحتى من يعبّر عن رأيه في تويتر.. ظن ابن سلمان انه بذلك سيطر على الوضع، وأن لا أحد يمكنه مواجهته، لا من التيار الوهابي، ولا الإصلاحي، ولا الحقوقي، ولا من داخل العائلة المالكة، ولا من أي قبيلة ولا منطقة.

نسي ابن سلمان انه بسياساته قد أوجد المناخ المناسب اقتصاديا اجتماعيا ونفسياً للإنفجار. وهذا ما كان قد حذّرت منه مؤسسات بحثية غربية عديدة.

ومن الدلائل المؤشرة لوضع غير مريح قادم، اعتقال الشيخ سفر الحوالي، وهو منظّر للصحوة، ويمثل الإخواسلفيين، ولا يقل خطره بالنسبة للنظام عن خطر سلمان العودة. لكن ما شفع للحوالي ـ ولو لبرهة ـ أنه قد أصيب في ٢٠٠٦ بجلطة في الدماغ أقعدته عن مزاولة معظم نشاطه؛ ثم اجرى عمليتين أخريين في المعدة والحوض.

ولكن الرجل الذي يتابع تحول البلاد الى فضاء غير فضائها، دينيا وسياسيا واقتصاديا وأخلاقيا، استعدّ لتفجير معركة منذ قبل عام ونصف على الأقل؛ وذلك من خلال اعداد كتاب (انتحاري) يسجّل فيه كل ملاحظاته على آل سعود، ويرى انهم ليسوا حكاماً شرعيين، وليسوا قرشيين، ولا الدولة يجب ان تسمى باسمهم، وانتقد اعتقالاتهم وتغرّبهم وعلمنتهم وموالاتهم لأمريكا والغرب، كما انتقد علاقاتهم مع الصهاينة، وأضاف الى ذلك نقده لحربهم في اليمن، ومواجهتهم لقطر، وامتدح اردوغان وتجربته، وندد بالعلاقات مع السيسي ومع ابن زايد الإمارات، كما ندد بعلماء السلطان، ودعاهم الى (الإعتزال) ان لم يقدروا على قول الحق ويتحملوا المسؤولية. بل ان الحوالي في كتابه ذي الثلاثة آلاف صفحة وأكثر، التمس العذر للقاعدة ولداعش، وعدد أسباب بروز العنف، صبّها كلها تقريباً في خانة ردود الفعل على سياسات النظام واعلامه وقمعه.

كتاب الحوالي (المسلمون والحضارة الغربية) كان سبب اعتقاله، ويهمنا أن نقول انه يؤشر الى تمرّد القلة الباقية ضد محمد بن سلمان وسياساته، وكأنه يريد القول بأن البلاد قاب قوسين من الإنهيار والتحول عن نهج الدين (الوهابية)، وان أوضاع وحياة ومعاش المواطنين أصبحت في مهب الريح.

السخط الشعبي يتعاظم بسبب سياسات الإفقار، عبر الضرائب والرسوم وتخفيض الرواتب، وانتشار الجريمة والفساد والإنحلال، وتصاعد معدلات البطالة، وعدم القدرة على الإيفاء بمتطلبات المعيشة الأولى، وحتى على سداد فواتير الكهرباء والخدمات الأخرى.

يترافق هذا مع إحباط هائل لدى كل الفئات الاجتماعية من النتائج المروّعة لـ (رؤية ٢٠٣٠) وهي لما تكمل عامها الثاني بعد، بحيث لا يعتقد أكثر المواطنين أن لديهم القدرة على تحمّل لسنتين قادمتين وليس لسنوات عديدة.

الخوف من المستقبل المظلم، ومن انهيار النظام، مع غضب عارم على شخص الملك سلمان وابنه، يُخرج من رحمه اضطرابات أمنية، إن لم نقل اعتراضات وثورات وانتفاضات، كما في دول عديدة.

عيون المواطنين المُسعودين، ليست معلقة على الداخل وما يجري فيه، وإنما أيضاً على الخارج، وما هو لصيق بمجريات الداخل.

تهافت شرعية النظام، لم تكن فقط لاستبداده، ولا بتهميشة للوهابية واعتقال العديد من مشايخها، وهو نظام يزعم انه يطبق الشريعة. ليس هذا فحسب، وإنما هناك صراع الأجنحة في العائلة المالكة، الذي لازال مستمراً بصور أخرى، وهو كالنار تحت الرماد.

لم تكن مشكلة ابن سلمان نابعة من هذا فحسب، فالنظام ومن يحكمه من آل سعود، قد سقطوا من عين المواطن، وهم يشهدون الإذلال والنهب الذي يقوم به ترامب لخزينة الدولة.

والمواطن الذي نُفخت فيه شوفينية باسم الوطنية لمحاربة انصار الله في اليمن، لم يعد يصدق اعلام النظام بعد اكثر من ثلاث سنوات حرب فاشلة. لقد وصلت الحرب الى الرياض بالصواريخ، والأخطر ما أُعلن عنه مؤخراً من وصول طائرات مُسيّرة من اليمن الى الرياض، قصفت محطة تكرير لأرامكو في الرياض، وعادت سالمة.

انها خسارة الحرب، خسارة الرجال، وخسارة المال، وخسارة السمعة ايضاً، وفوق ذلك لها آثارها من غضب ودوافع انتقام من محمد بن سلمان وأبيه الملك.

اليمن مجرد سحابة سوداء من جملة السحب السوداء التي تغطي سماء الرياض، بل سماء المملكة بكل مكوناتها الاجتماعية، ومناطقها وقبائلها.

انى التفت المواطن لا يرى سوى الخسارة والهزيمة، وربما لهذا السبب بالذات، أراد سفر الحوالي ان يكتب كتاباً غير مسبوق من حيث الجرأة والتحدي في النقد والاتهام وحتى التحريض.

لا أمل في انتصار في اليمن. انها نزيف للدم وللمال وللسمعة وللدين ايضاً. انها ـ كما سماها احدهم ـ ثغرة الدفرسوار.

وليت الأمر يقف عند هذا الحدّ، فالقضية ليست أن آل سعود لن ينتصروا في اليمن، وإنما في الإجابة على سؤال، انه في حال هزيمتهم ماذا سيحدث داخلياً، وما إذا كان اليمنيون سيتوقفون عن الزحف، وقد وصلوا الى جازان ونجران، وقال أحد قادتهم (محمد علي الحوثي/ شقيق السيد عبدالملك الحوثي) تعليقاً على مزاعم ابن الملك وسفيره في واشنطن خالد بن سلمان، بشأن قرب اسقاط صعدة: (سيطر على نجران وبعدها اعلن السيطرة على صعدة. الآن بدري عليكم). فهل يتمكن آل سعود من تحقيق انسحاب تكتيكي يحميهم من رد الأفعال، وما هي الأثمان الاقتصادية التي يجب ان تُدفع لليمن المُدمّر ولكن المنتصر؟، وماذا عن مستقبل يمن ليس تحت سيطرة السعودية، وقد هزمها، وكيف يغير ذلك من خرائط الجزيرة العربية سياسيا واستراتيجياً.

ومن السحب السوداء المؤلمة لآل سعود، والتي لا يعرفون حتى الآن كيف يواجهونها، هي أن آمالهم على ترامب تكاد تتبخر جميعاً، فيما يتعلق بأمرين أساسيين:

الأول ـ الغاء تبعات تفجيرات ٩/١١، خاصة قانون جاستا، واستعادة الثقة الأميركية بالسعودية كحليف استراتيجي.

الثاني ـ مواجهة إيران، ردعاً، أو حرباً، مع شراكة سعودية أمريكية في سياسات المنطقة فيما يتعلق بحرب اليمن، والتطبيع مع إسرائيل، والنظر اليها كدولة محورية في الخليج والمنطقة، وتعزيز نفوذها الذي خبا كثيراً في العقدين الأخيرين.

هذه الآمال لم يتحقق منها شيء يستحق الذكر، فلا ترامب قنع بما أخذه من أموال ليتخلّى عن قانون جاستا الذي يعطي ضحايا تفجيرات نيويورك وواشنطن الحق في رفع قضايا على السعودية باعتبارها وراء تلك التفجيرات. ولا هو ـ أي ترامب ـ بدا قادراً على ليّ ذراع ايران، رغم ترحيب الرياض ـ بل تطبيلها ـ لترامب «البطل الذي يختلف عن سلفه أوباما».

رحبت الرياض بإلغاء الاتفاق النووي، وخنق ايران نفطياً وماليا واقتصاديا، على ان تقوم هي ـ وحسب الخطة ـ بتعويض الصادرات النفطية الإيرانية، مع تخفيض أسعار النفط التي هاجمها ترامب اكثر من مرة علناً.

كان الشعور السعودي بالإنتصار لقرارات ترامب لا حدود له؛ عكسته التصريحات والمقالات والتغطيات الصحفية والتلفزيونية السعودية.

لم يعر آل سعود لبقية العالم بالاً، فمادام ترامب قد قال ما قال وقرر ما قرر، فإذن لن تستطيع أوروبا ولا الصين ولا روسيا، ولا كل هؤلاء مجتمعين إنقاذ الاتفاق النووي، كما لا يمكنهم حُكماً إلا أن يرضخوا لقرارات ترامب بمعاقبة الشركات التي تتعاطى مع ايران وتستثمر فيها، وكذلك معاقبة الدول التي تشتري نفطاً بما فيها أوروبا. هكذا حسبها آل سعود.

الذي حدث ـ حتى الآن ـ كان عكس كل توقعات السعودية وامريكا وإسرائيل، بل خلاف التوقعات التي سادت لدى كل المحللين.

لم تنسحب ايران من الاتفاق النووي ردا على انسحاب ترامب، وعملت على جرّ أوروبا بعيدا عن أمريكا. وقد ساعد ترامب في تحقيق ذلك حين أعلن حربه التجارية على الصين وعلى كل حلفائه الأوروبيين وجيرانه، ما فتح المجال للتمرد على سياساته في الشرق الأوسط، حتى من حليفه المقرب (بريطانيا).

قررت الدول الخمس الموقعة على الاتفاق النووي: إبقاء الاتفاق النووي بتلبية طلبين أساسيين لإيران: شراء النفط الذي تتجه العقوبات اليه والتشجيع على بقاء الإستثمار؛ والأهم إيجاد وسيلة لتجاوز نظام سوفت المالي الأمريكي للتحويلات، وهو ما حدث.

هذا أدّى الى عزلة أمريكا بدلاً من عزلة ايران. وتقول أوساط إيرانية ان ترامب طلب لقاء روحاني ثمان مرات، ورفض الجانب الإيراني.

على صعيد آخر، كأن معركة إيقاف تصدير النفط الإيراني، قد انتهت بالفشل قبل أن تبدأ. فأكبر المستوردين للنفط الإيراني: الصين وتركيا والهند، قررت الاستمرار في شرائه. فضلا عن دول أوروبية وجنوب شرق آسيوية. وعموما فإن ايران تصدر ٢.٦ مليون برميل يوميا، وايراداتها لا تشكل سوى ٣٧٪ من الميزانية الإيرانية. وقد أدت تصريحات ترامب الغبية وحربه المعلنة على النفط الإيراني الى اضطراب الأسواق مترافقا مع تصاعد المخاطر الأمنية والحرب واغلاق مضيق هرمز، ما أدى الى ارتفاع سعر النفط. بكلمة أخرى: فإن ايران تستطيع ان تحصل على ذات الإيرادات من نفطها، حتى لو تقلّص حجم تصديرها منه.

هنا شعرت الرياض انها وإسرائيل وواشنطن في جبهة، والعالم كله في جبهة أخرى. ورأت بالعين المجردة ان الذي تمّ عزله سياسياً ليس ايران، بقدر ما هو حلف الأمريكان، بل ورئيسهم ترامب الذي بدا أشبه ما يكون بأهبل سياسي، تتناوشه الدعايات والسخرية من الإعلام والسياسيين الأمريكيين، خاصة بعد لقائه ببوتين في هيلسنكي.

بل ان الرياض أصبحت شبه متأكدة الآن، ليس من عجز ترامب وأنه لن يأتي بالمعجزات لها ولإسرائيل فحسب، بل ان تقلباته قادتها ـ متأخرة ـ الى القبول بحقيقة ان ترامب مزاجي ومضطرب، ولا يمكن الوثوق به، وقد يتحول ضد آل سعود في أي لحظة، ويعتبرهم عدواً، بين عشية وضحاها.

لهذه الأسباب وغيرها، فإن آل سعود يشعرون بثقل السحب السوداء المتراكمة فوق سماء عاصمتهم، وكأن لسان حالهم يقول: (وين ما تضربها عوجا)!

الصفحة السابقة