المملكة المتحوّلة

الشراكة السعودية ـ الصينية

القسم الثالث

سعدالشريف

يمّمت المملكة السعودية وجهها نحو الصين بحثاً عن فرص استثمارية، ومناكفة للحليف الاستراتيجي، أي الولايات المتحدة، فوجدت نفسها بين فكي القوى الاقتصادية المتنافسة. غفرت واشنطن للرياض خدعتها الناعمة في صفقة رياح الشرق العام 1985، في وقت لا تزال فيه طموحات الصين دون سقف التهديد الاقتصادي والاستراتيجي للولايات المتحدة. أمّا وقد باتت الصين قاب قوسين أو أدنى من صدارة الاقتصاديات الكونية، فإن واشنطن لن تغفر للرياض خيارها الصيني، تجارياً وعسكرياً، ولو كلّفها ذلك تغيير النظام. وفيما تحتدم المواجهة التجارية بين واشنطن وبكين، باتت الرياض في وضع لا تحسد عليه، وعليها أن تختار أي صراط تسلك لانقاذ نفسها، ورؤيتها الاقتصادية، وتالياً وجودها البيولوجي.

بطبيعة الحال، إن الرياض، في ظل ولي عهد منحاز بصورة شبه كاملة لخيارات واشنطن الجيوستراتيجية، سوف تؤثر درب السلامة على الوقوع بين سنابك القوى الاقتصادية المتنافسة.

مرّت الصين بمرحلة طويلة من الإنكفاء على الذات، وكانت حذرة في مقارباتها للملفات السياسية، ولا سيما الحسّاسة منها، واعطت أولوية للعلاقات الاقتصادية مع بلدان المنطقة، فيما بدت علاقاتها السياسية مع دول المنطقة وقواها السياسية متناقضة، الى حد ما، ومثار تساؤل وجدل. وفي الوقت الذي كانت تدعم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل حقوقه المشروعة، كما انعكس في المؤتمر الاسيوى والافريقى بمدينة باندونغ فى اندونيسيا فى ابريل عام 1955، حين اعلن شو ان لاي رئيس مجلس الدولة ورئيس الوفد الصينى المشارك خلال المؤتمر عن تأييده لنضال الشعب العربى من اجل الاستقلال الوطنى وحمايته، فإن الصين تحتفظ أيضاً بعلاقات متميّزة مع الكيان الاسرائيلي.

وفي الوقت الذي تسعى الى تمتين علاقاتها مع ايران في مجالات عدّة، تعمل في الوقت نفسه على زيادة مستوى الشراكة الاستراتيجية مع السعودية. في النقاش السياسي، يبدو الأمر اعتيادياً، بل إن السياسة هي اللعب على المتناقضات، ولا ضير في ذلك. ولكن الكلام حول دولة تعتنق إيديولوجية ثورية، وتحمل على عاتقها قضايا الشعوب المقهورة والمناضلة من أجل الحقوق والاستقلال، في وقت كانت فيه المنطقة تصخب بأيديولوجيات التحرير الوطني والنضال القومي (الناصرية واليسارية بأشكالها).

كانت نهاية الحرب الباردة مع سقوط الاتحاد السوفييتي في العام 1989 بداية مرحلة جديدة في السياسة الخارجية السعودية. كان تشكّل نظام دولي جديد يقوم على القطبية الاحادية أضعف دور الدول الوظيفية في منطقة الشرق الأوسط التي كانت مسرحاً لصراع القوى الكبرى. كان جنوح الادارات الاميركية المتعاقبة منذ تولي بيل كلينتون الرئاسة في العام 1992 نحو معالجة المشكلات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية داخل الولايات المتحدة والنأي عن الانخراط الواسع في شؤون الخارج، قد شجّع الدول الحليفة على البحث عن شركاء جدد لتحقيق فكرة التوازن وتأمين قدر من الحماية القائمة على مصالح اقتصادية.

كانت الصين وجهة سعودية أساسية منذ الأيام الأولى لنهاية الحرب الباردة. فبرغم انقطاع العلاقة بين الدولتين منذ العام 1949، على خلفية وصول الحزب الشيوعي الى سدّة الحكم في الصين، فإن البلدين حافظا على وتيّرة متدرّجة في العلاقة القائمة على أساس مصالح اقتصادية بصورة شبه حصرية.

مع أن عودة العلاقات بين السعودية والصين لم تتم من الناحية الرسمية إلّا في العام 1990، فإن ثمة تطوّراً لافتاً حصل على مستوى التعاون العسكري بين البلدين في يوليو 1985، والذي تمّ بموجبه حصول السعودية على صواريخ الشرق الباليستية أرض ـ أرض ويطلق عليها الصينيون (DF3A) والأميركيون (CSS2) التي يبلغ مداها ألف ميل ومصممة لحمل رؤوس نووية، وتمّ تعديله من قبل الصينين للحيلولة دون تثبيت رؤوس نوويه عليه.

وقد أخفت السعودية (عبر سفيرها في واشنطن حينذاك الامير بندر بن سلطان) عن حليفها الاستراتيجي، الولايات المتحدة، حقيقة الصفقة، الامر الذي نظرت اليها واشنطن على أنه خداع وفشل كبير للاستخبارات الأميركية. وقد كشف الامير بندر في 6 مارس 1988 لمساعد وزير الخارجية الأميركي ريتشاد ميرفي حقيقة الصفقة عندما واجهه الأخير بسؤال عنها.

في كل الأحوال، كان قرار السعودية بالتوجّه الى الصين يمثّل نقطة تحوّل رئيسية في العلاقات العسكرية والامنية السعودية الأميركية، بما في ذلك تبادل الكثير من المعلومات الاستخبارية. فقد رفض السعوديون الطلب الأميركي بتفقّد الصواريخ للتحقق أولاً من كونها لا تحمل رؤوساً نووية، وقالوا بأنها مسألة سريّة تامة بين الرياض وبكين. من وجهة النظر السعودية، أن صفقة الصواريخ الصينية هي للرد على رفض الكونغرس مراراً وتكراراً تزويد السعودية أسلحة وطائرات بما في ذلك F15Es وصاروخ لانس قصير المدى. الملك فهد بعث برسالة في 12 مارس 1988 الى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان لطمأنته حيال الصواريخ الصينية كونها لا تحمل رؤوساً نووية.

في حقيقة الأمر، أن صواريخ رياح الشرق التي جرى تمريرها تحت غطاء صفقة صواريخ (سيلك وورم) أو دودة القز، المخصّصة للعراق إبان حربه مع ايران، ليست المفردة الوحيدة في ملف التعاون السعودي الصيني، فقد وظّفت الرياض العلاقات في مجال البتروكيماويات حيث كانت تبحث عن أسواق لتوسيع الانتاج السعودي وتالياً تعزيز الاتصالات السرية بين الرياض وبكّين، برغم من أن العلاقات الدبلوماسية كانت لا تزال مقطوعة بين البلدين(1).

استأنفت العلاقات السعودية الصينية في العام 1990، وحافظت بكين على حضور اقتصادي حذر في المنطقة، ونأت عن الانخراط في الشؤون السياسية فضلاً عن أي اشتغال ايديولوجي في منطقة تصخب بالايديولوجيات المحافظة، ولا سيما في المملكة السعودية. أدركت الأخيرة مبكراً أهمية التجارة مع الصين بل وأهمية الطرق التجارية اليها، ولذلك لم تنقطع العلاقة الاقتصادية مع الصين سواء في المرحلة الأولى (1939 ـ 1990)، وما تخللها من تقطّع العلاقات البدلوماسية بعد إسقاط جمهورية الصين الوطنية وطردها طاقمها الى جزيرة فرموزا وتولي الحزب الشيوعي بقيادة ماو تسي تونج السلطة في الأول من أكتوبر سنة 1949، أو في المرحلة الثانية، حيث استئناف العلاقات الدبلوماسية في العام 1990 وحتى الآن حيث شهدت العلاقات بين الرياض وبكين قفزات هائلة.

فقد كانت الصادرات الصينية الى السعودية في الفترة ما بين 1954 ـ 1977 منخفضة الى حد كبير، ولكنها حافظت على وتيرة تصاعدية أي من 0.05 مليون دولار الى 14.79 مليون دولار(2).

هيمنت أجواء الحرب الباردة على العلاقات السعودية الخارجية، ولا سيما الصين الشيوعية، ولكن لم تفض الى قطعها تماماً، الذي يؤكّد حاجة السعودية الى السوق الصينية، وحاجة الصين الى فتح أفاق اقتصادية في الأسواق الشرق الأوسطية.

بصورة إجمالية، كانت السياسة الخارجية الصينية تجاه الشرق الأوسط رهينة الوقائع الجيوسياسية والاستراتيجية التي أملت قواعد عمل خاصة تأسيساً على رؤية صينية خاصة لمصالحها في المنطقة، فهي من جهة تسعى لحماية مكاسبها الاقتصادية في المنطقة، سواء لجهة الحصول على 60 في المائة من وارداتها من النفط، أو من خلال التبادل التجاري مع بلدان المنطقة، وعدم رغبة الصين، لبعض الوقت على الأقل، في التصادم مع الولايات المتحدة في هذه المنطقة، التي تمثّل مجالاً حيوياً لمصالحها(3).

في مرحلة «الثورة الثقافية» التي استغرقت عقداً كاملاً أي في الفترة ما بين 1966 ـ 1976 شهدت العلاقات السعودية الصينية مرحلة متوتّرة، بفعل الكباش الايديولوجي بين الطرفين، حيث قرّرت السعودية خوض معركة ضد الشيوعية، فيما خاض الحرس الأحمر الصيني حرباً ضد الاسلام داخل الصين، وأجبر مسلمي تركستان الشرقية على الهجرة الى مناطق كثيرة بما فيها السعودية. ولكن مع رحيل ماو تسي تونج العام 1976 شهدت الصين انتقالاً جوهرياً وتفوّق البعد الاقتصادي على الايديولوجي، واختارت بكين ألانفتاح الاقتصادي وتخفيف حدة الخطاب الايديولوجي.

اعتنق الزعيم الصيني دنغ هسياو بنغ الذي تسلّم السلطة العام 1978 سياسة مزدوجة: الاصلاح الاقتصادي في الداخل والانفتاح على الخارج، وشقّت الصين درباً متمايزاً عن الاتحاد السوفييتي، وقدّمت للعالم نسخة خاصة عن نموذجها الشيوعي، في الاقتصاد على وجه الخصوص. فقد نجحت في فترة قياسية أن تتحوّل الى قوة اقتصادية عالمية، من خلال معدلات نمو غير مسبوقة حيث بلغت في العام 1993 نسبة 12 في المائة.

الصين تحتل المرتبة الثانية في اقتصاد العالم في الوقت الراهن، وهي مرشّحة لاحتلال المرتبة الأولى في غضون سنوات قليلة قادمة. ويتضح مدى النجاح الذي حقّقته الاصلاحات الاقتصادية في الصين، إذ كان يقدّر نصيبها من إجمالي الناتج العالمي في عـام 1980 بنحو 2 بالمئة، ثم صعد إلى 7.6 بالمئة في عام 2001، وبلغ في العام 2017 حوالي 15 في المائة(4).

لا تزال السعودية أكبر شريك تجاري للصين في منطقة الشرق الأوسط، مع بلوغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام 2017 نحو 50 مليار دولار(5).

في المنظور الصيني، تشكّل السعودية مصدراً رئيساً للحصول على حاجتها من النفط، كما تشكّل سوقاً أساسياً لتصريف البضائع الصينية، وسوف تعوّل عليها في بناء شراكة اقتصادية فاعلة، من خلال جذب الاستثمارات السعودية والخليجية عموماً بفعل امتلاكها فوائض نقدية كبيرة.

وتعد الصين ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم، بعد الولايات المتحدة التي أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم، فيما تحتل الصين المرتبة الأولى من حيث الدول المستوردة. في العام 2015 كان استهلاك النفط في الولايات المتحدة يومياً 19.396 مليون برميل يومياً فيما كان استهلاك الصين 11.968 مليون برميل يومياً(6). وبحسب تقرير شركة بي بي (بريتيش بتروليوم) الصادر في يونيو 2018 فإن الولايات المتحدة سجّلت أعلى معدل لاستهلاك النفط بواقع 19.880 مليون برميل يومياً، وبعدها الصين بواقع 12.799 مليون برميل يومياً(7). وبحسب احصائيات إبريل 2018، فإن السعودية جاءت في المرتبة الثانية بعد روسيا من حيث الدول المصدّرة للنفط الى الصين في العام 2017 بنسة (12,6 في المائة)(8).

تزايد الاعتماد الصيني على النفط السعودي بصورة ملحوظة من كمية ضئيلة في العام 1998 الى 1.1 مليون برميل يومياً تقريباً بحلول العام 2013. في المقابل، تراجع الإعتماد الأمريكي على النفط السعودي من 5.1 مليون برميل يومياً إلى 3.1 برميل يومياً خلال الفترة ذاتها.

وبحسب دراسة صينية: على الرغم من حرص المملكة على استعادة حصتها السوقية المفقودة في السنوات الأخيرة، فإن قدرتها على زيادة صادرات النفط الخام إلى الصين في العام 2018 من المرجح أن تكون محدودة بسبب التخفيضات المستمرة في الإمدادات التي تقودها منظمة أوبك. ومع ذلك، من المرجح أن تواصل المملكة السعودية سعيها إلى بناء المزيد من المصافي المشتركة في الصين، الأمر الذي سيسمح لها «بامتلاك» حصة أكبر من شحناتها الخام إلى الصين(9).

بصورة إجمالية، فإن الصين التي تسلك طريقها بثبات الى صدارة الاقتصاديات الكونية في العشرية القادمة، تجعلها وجهة استثمارية نموذجية لكثير من الدول.

وإذا ما صحّت المقولة المنسوبة للقائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت من أن الصين أسد نائم، «دعوها تنام، لأنها عندما تستيقظ، سوف تهز العالم»، فإن هذا الأسد، بعد قرنين تقريباً من المقولة، ليست مجرد أسد مستيقظ فحسب، بل ويزأر. فالشركات الأجنبية في آسيا والمصانع في أفريقيا، وحتى في قرى إيطاليا وشوارع فرنسا قد نفذ اليها رجال الأعمال الصينيون.. فالصين هي الشركة المصنّعة المنخفضة الكلفة في العالم وأكبر دائن للولايات المتحدة، حيث توقّع أحد مراكز الأبحاث في واشنطن أن يتفوّق اليوان على الدولار كعملة احتياط رئيسية في غضون عقد من الزمن(10).

لناحية الصين، فإن أهدافها في الشرق الأوسط تتلخص في:

ـ ضمان الحصول على موارد الطاقة والعلاقات الاقتصادية المزدهرة.

ـ تحقيق التوازن مقابل الولايات المتحدة مع السعي الى التعاون معه

ـ وقف أشكال الدعم كافة للإقليات المسلمة في جمهورية الصين الشعبية.

ـ الحصول على الاحترام الملائم كقوة عظمى.

 

وقد تأخرت بكين في القدوم إلى الشرق الأوسط، وحاولت إبان الحرب الباردة اللحاق بالقوتين العظميين، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فيما كانت السعودية لا تزال تجمعها علاقات دبلوماسية على مستوى السفراء مع جمهورية الصين في تايوان.

على أية حال، فإن التعاون العسكري بين الرياض وبكين في منتصف الثمانينات وأسّس لنجاح جيواستراتيجي، مهّد لعلاقات اقتصادية متينة وإن لم تهمل تماماً البعدين العسكري والدبلوماسي.

أعادت الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية مع الصين في العام 1979 بعد عام على زيارة الرئيس الاميركي ريتشاد نيكسون الى بكين، الأمر الذي أسّس لمكانة خاصة للأخيرة عالمياً، في وقت كانت لا تزال فيه العديد من الدول الشرق الأوسطية، بما في ذلك السعودية، تحافظ على علاقات دبلوماسية مع تايبيه، عاصمة تايوان.

السعودية التي شعرت بالخطر نتيجة صعود المد الثوري الايراني في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، إلى جانب التوترات الناجمة عن صراع القوى الكبرى، وفي ظل ممانعة اسرائيلية لحصول السعودية على سلاح كاسر للتوازن، كان الخيار الصيني راجحاً لحصول السعودية على صواريخ باليستية متوسطة المدى، وكانت بكين على استعداد للدخول الى السوق السعودية عبر تجارة السلاح على أمل أن يسهّل في دخول تجاري واسع النطاق.

قبول الصين بالعرض السعودي لشراء صواريخ رياح الشرق وسيلك وورم يعود الى سببين: الثمن المالي المرتفع، والتأسيس لنفوذ سياسي في الشرق الأوسط، عبر عاصمة رئيسية وحليفة للولايات المتحدة.

وعلى ما يبدو، فإن السعودية حسمت خيارها في بناء علاقات إقتصادية متينة مع الصين، فلم تتوقف عند مجزرة ساحة تيانانمين في يونيو 1989 برغم من قرار العديد من الدول النأي بنفسها عن الصين. وقد واصلت الرياض المفاوضات بشأن إقامة علاقات دبلوماسية مع بكين. وبعد توقيع مذكرة تفاهم، قرّر الطرفان في نوفمبر 1988 فتح مكاتب تجارية، وفي 21 يوليو 1990 أعلنت السعودية والصين الشعبية رسمياً إقامة علاقات دبلوماسية بينهما، وفي 23 يوليو من العام نفسه، أعلن كيان كيشين، وزير الخارجية الصيني ونظيره السعودي، سعود الفيصل، في بيان مشترك عن إقامة علاقات دبلوماسية بين بلديهما، وأفاد نص البيان أن الرياض تعترف بأن «حكومة الصين الشعبية هي الممثل الوحيد للشعب الصيني»، ومنذاك قرّرت تايوان تجميد علاقاتها مع السعودية(11).

في غضون سنوات قليلة انتعش الاقتصاد الصيني بعد فترة الركود التي أعقبت مجزرة ساحة تيانانمن، إذ نجح القائد الأعلى دنغ شياو بينغ بإعادة تفعيل سياسة بكين الإصلإحية والمنفتحة على العالم الخارجي. وبحلول عام 1993 أصبحت الصين مستورداً صافيا للنفط. وعليه، ازدادت أهمية كبار منتجي النفط مثل السعودية بالنسبة للصين وأصبح الشرق الأوسط منطقة ذات أهمية جيواستراتيجية فارقة.

بطبيعة الحال، فإن تنامي دور بكين على المسرح الدولي، إقتصادياً واستراتيجياً، يبعث قلقاً خاصاً لدى الرياض، وهو ناجم عمّا تنعته تراجعاً في مستوى الالتزام الاميركي إزاء حلفائها الاساسيين في المنطقة. مؤشرات ذلك بدأت عملياً في احتلال العراق في إبريل 2003 والذي عبّر عن خيبة أمل السعوديين بأنها لم تحصل على ما كانت تأمله، فيما عبّر سعود الفيصل بلغة افتجاعية أن الولايات المتحّدة قدّمت العراق لإيران على طبق من ذهب، ثم الانسحاب العسكري الاميركي من العراق في العام 2012، وتخفيض عدد جنودها في أفغانستان، واستقبال إدارة أوباما لوفد من جماعة الإخوان المسلمين في واشنطن أوائل العام 2015، وتراجع واردات النفط الأمريكية من المملكة. وكانت أكبر صدمة تلقتها السعودية هي في الغاء أوباما قرار الحرب على سورية في سبتمبر 2013 على خلفية حادثة الكيماوي المزعوم في غوطة دمشق في أغسطس من العام نفسه، وأيضاً المفاوضات النووية السرية مع ايران.

زيارات متعاقبة قام بها مسؤولون سعوديون من مستويات متفاوتة، من بينها زيارة الملك عبد الله الى الصين في يناير 2006 وثم في يونيو 2009. وقد زار الملك سلمان، حين كان أميراً للرياض في العام 1999 الصين ثم قام بزيارة أخرى بعد توليه منصب ولي العهد في العام 2014. وفي زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الى الرياض في إبريل 2006، كان هو ثاني رئيس أجنبي يتحدث أمام مجلس الشورى السعودي.

ومن الواضح، أن الرئيس الصيني شي بينغ الذي تمّ تنصيبه رئيساً مدى الحياة منذ مارس 2013، سوف يقود ملف العلاقات الصينية السعودية وتربطه علاقات وثيقة مع الملوك السعوديين المتأخرين. وفي مارس 2014 أفاد شي لضيفه نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع، وولي العهد سلمان بن عبد العزيز، وقد أصبح الملك منذ 23 يناير 2015: ” لابد أن يركّز الطرفان على التعاون في مجال الطاقة وتوسيع نطاق الشراكة..”(12).

وخلال زيارة رئيس الصين جيانغ زيمين العام 1999 وقعّت الحكومتان اتفاقية تخول الشركات السعودية بالإستثمار في مصافي النفط الصينية مقابل السماح للشركات الصينية باستغلال احتياطي الطاقة السعودية والقيام بمشاريع استثمارية أخرى. ونتيجة لذلك بنت شركة سينوبك Sinopecفي أوائل العقد الأول من القرن الحالي وبالشراكة مع أرامكو السعودية مصفاة بالقرب من مرفأ تشينغداو الشمالي في مقاطعة شاندونغ، وبنيت مصفاة إضافية واحدة على الأقل في مقاطعة فوجيان في العام 2008، لتمثل مشروع مشترك بين شركات إكسون موبيل وأرامكو وسينوبك.

وهناك مصفاتان إضافيتان الأولى في العام 2015 في كاوفيديان والثانية جزء من مشروع مشترك مع أرامكو االسعودية في أنينغ في مقاطعة يونان لمعالجة النفط السعودي الخام المضخ عبر خط أنابيب من ميانمار. الى جانب التعاون الثنائي في مشاريع البتروكيماويات والغاز الطبيعي والقائم على قدم وساق. وتصدّر السعودية هذه المواد الكيماوية سنوياً إلى الصين بقيمة عشرات المليارات من الدوالارات(13).

وكان القنصل الاقتصادي والتجاري الصيني في الرياض وانغ يو قد أعلن في سبتمبر 2012 أن الاستثمارات الصينية في السعودية بلغت 240 بليون ريال (64 بليون دولار)، معتبراً أن المملكة هي الشريك الأقوى للصين مع وجود 100 شركة صينية مرخصة فيها. ويعد هذا العام فارقاً في حجم التبادل التجاري بسبب المشاريع المشتركة في مجال النفط والتكرير بين البلدين(14).

وخلال العام 2017 بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 49 مليار دولار، كما وقّع البلدان إتفاقيات تعاون بحوالي 65 مليار دولار، وعرضت الصين شراء حوالي 5 في المئة من أسهم شركة أرامكو النفطية مباشرة، وهو ما قد يشكل عائدات للسعودية قد تصل إلى 100 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى وجود أكثر من 160 شركة مقاولات مملوكة للحكومة الصينية تزاول أعمالها في المملكة.

وتيرة العلاقات الاقتصادية بين الرياض وبكين أخذت شكلاً تصاعدياً لافتاً، ففي غضون 10 سنوات (2006 ـ 2016) بلغ إجمالي قيمة التبادل التجاري 1.79 تريليون ريال (477 مليار دولار) مقسّمة ما بين صادرات سعودية (نفطية وبتروكيمياوية) بقيمة 1207 مليار ريال، وواردات (أدوات كهربائية، وتكنولوجيا الاتصالات، وقطع غيار، وسلاح، وملابس). وفي العام 2015، احتلت الصين المرتبة الأولى في استقبال الصادرات السعودية (المتمثلة في النفط والمواد البتروكيميائية) بواقع 92.1 مليار ريال (24.6 مليار دولار)، فيما احتلت الولايات المتحدة المرتبة الثانية بواقع 80.5 مليار ريال (21.5 مليار دولار)(15).

تجدر الاشارة الى أن الصادرات النفطية السعودية للصين، من أهم المبادلات التجارية بين البلدين، حيث تنتج الصين بحسب احصائية صادرة في 18 فبراير 2018 ما مقدراه 3.789 مليون برميل يومياً، وكان أقصى مستوى للانتاج من النفط في الصين في يونيو 2015 بمعدل 4.408 مليون برميل يومياً. في الوقت نفسه، فإن استهلاك الصين المتزايد من النفط كما أشرنا سابقاً يجعلها بحاجة الى تغطية النقص من الدول المصدرة وعلى رأسها روسيا والسعودية وايران(16).

وبالنسبة لحجم الواردات الصينية، تحتلّ السعودية المركز السادس من بين الدول الإحدى وسبعين مع بلوغ إجمالي هذا الحجم في العام 2017 قرابة 31.74 مليار دولار، بزيادة نسبتها 34.4 في المئة مقارنة بالعام 2016(17).

ولا غرابة في ضوء عرض المعطيات السابقة، أن يحظى محمد بن سلمان بحفاوة صينية خاصة، فهو يأتي بأجندة استثمارية جاذبة ومنسجمة مع التطلعات الاقتصادية الصينية. وهذا ما حصل قبل قمة العشرين في مدينة هانغشتو الصينية في مارس 2016، مسبوقة بمذكرات تفاهم ثنائية في المجال الاقتصادي على وجه الخصوص، مهّدت لإبرام 15 اتفاقية ومذكّرات تفاهم حول تطوير الطاقة، وتخزين النفط وعودة التعاون بشأن قضايا التنمية الخاصة بالإسكان والموارد المائية، وفي الوقت نفسه، تلقّت شركة هواوي، الرائدة في مجال توفير حلول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، على إجازة الاستثمار من المملكة السعودية.

في كل الاحوال، فإن الصين بكونها أكبر مستورد للنفط في العالم، والسعودية بكونها أكبر دولة مصدّرة له يهيء ظروفاً مؤاتية لشراكة اقتصادية متينة، وهذا ما أفصح عنه الرئيس الصيني شي جين بينغ في تصريحاته عن شراكة استراتيجية مع السعودية. وهذا يفسر الارتفاع الفلكي في الاستثمارات المتبادلة بين البلدين حيث ارتفعت من مليار دولار في 1990 ووصلت الى 70 مليار دولار بحلول العام 2013(18).

وكان نائب رئيس مجلس الدولة الصينى تشانغ قاو لى قد قام بزيارة للسعودية لمدة ثلاثة أيام ما بين 23 ـ 25 أغسطس 2017، وقع خلالها مع الجانب السعودي 60 اتفاقية بقيمة ما يقرب من 70 مليار دولار(19). وقال تشانغ إن التعاون بين الصين والمملكة العربية السعودية سوف يدخل حقبة جديدة أكثر قوة واستدامة ومثمرة(20).

وقبل أيام من زيارة تشانغ، قام وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية السعودي خالد الفالح بزيارة لبكين واجتمع مع تشانغ في 18 أغسطس من العام نفسه. وخلال الاجتماع، تعهّد الجانبان بتعزيز العلاقات الاقتصادية(21).

بطبيعة الحال، لا تخلو الشراكة الصينية السعودية من تحدّيات جيوسياسية واستراتيجية، لا سيما من الولايات المتحدة التي تصنّف الصين بكونها المنافس الاستراتيجي الأول لها عالمياً، ولن تقبل بأن تحصد مكاسب في منطقة كانت ترى بأنها استثمرت فيها طويلاً وكثيراً من مواردها المالية والبشرية. وعلى ما يبدو، فإن نهم الصين نحو الدخول الى الاسواق السعودية يبعث هواجس أميركية قديمة ومتجدّدة من عودة التنين بقوة الى المسرح الدولي. لم يكف الصينيون عن دعوة السعودية الى التكامل الاقتصادي والاستراتيجي في ضوء رؤية 2030 حيث دعا الصينيون الى تكامل أكثر بين الاقتصادين السعودي والصيني من خلال مبادرة الحزام والطريق (Belt and Road Initiative) التي أعلن عنها السفير الصيني لدى السعودية لي هوا شين في 18 يناير 2018.

 

المبادرة الصينية المعبّر عنها في (حزام واحد، طريق واحد) (One Belt One Road) أو مختصرة في (OBOR) تشمل 60 دولة حول العالم تربطها بالصين بكونها أكبر ممر اقتصادي في العالم، حيث تربط الصين بأوروبا عبر الموانئ، والطرق السريعة، والجسور، والأنفاق، وشبكات الاتصالات، وخطوط السكك الحديدية على طول طريقين يمرّان بالعديد من المناطق. ويمتد «الحزام» (الحزام الاقتصادي لطريق الحرير) من غرب الصين إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى، فيما يربط «الطريق» (طريق الحرير البحري في القرن الحادي والعشرين) الصين بأوروبا عبر بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي والبحر الأحمر.

في (منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي) في بكين في يومي 14 ـ 15 مايو 2017 وبمشاركة مائة دولة، بينهم زعماء نحو 29 دولة وهو أكبر اجتماع في تاريخ الصين الحديثة. ومن وجهة النظر الصينية سيكون المشروع «محركاً كبيراً لتعاف مطرد في الاقتصاد العالمي والتجارة الحرة والاستثمار». في المقابل، ترى عدد من الدول الغربية، أن هناك أهدافاً جيوسياسية على الأجندة الصينية من وراء المبادرة، في محاولة لتوسيع نفوذها بمواجهة نفوذ الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي(22).

ووفقًا لوسائل الإعلام الحكومية الصينية، فقد تلقت شركة «OBOR» استثمارات بقيمة 1 تريليون دولار، وستتبعها عدة تريليونات أخرى في العقد المقبل. وفي حال نجاح المبادرة، فإنها ستعزز تأثير الصين التجاري أو الاقتصادي والسياسي في عشرات البلدان. ويخشى بعض خصوم الصين الجيوسياسيين مثل الولايات المتحدة واليابان والهند من مثل هذه الآثار الاستراتيجية.

وبرغم من ان دول مجلس التعاون الخليجي ليست واقعة بصورة مباشرة على طول الطرق التجارية لشركة «OBOR»، فإن لديها حصصاً اقتصادية وجيوسياسية عالية في الممر الاقتصادي الصيني. إن سعي الصين لتأمين احتياطي من النفط والغاز من أكبر عدد ممكن من المصادر المتنوعة جعل بكين قريبة من مشيخات الجزيرة العربية، التي تعد أكبر الموردين للصينيين. وبدورها، تبنت دول الخليج العربية بقوة واستفادت من التجارة والاستثمار الصيني في القرن الواحد والعشرين. ولذلك، فإن الدول الست ستحقق، إذا ما سارت الأمور كما يشاؤون، الكثير من المكاسب، حيث تهدف المبادرة إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين بكين والدول التي تحظى برؤية إيجابية للصعود الاقتصادي والسياسي العالمي للصين، عبر تزويدها بالوقود(23).

المملكة السعودية، أكبر شريك تجاري للصين في الشرق الأوسط رحّبت «ببذل الجهود الحثيثة» لانجاح مبادرة (OBOR). وصرّح الوزير الفالح بأن جهود بكين لإحياء هذه الطرق التجارية القديمة تكمل رؤية المملكة 2030 الطموحة على أساس «السمات والمفاهيم المشتركة» بين الطرفين(24).

وفي سبيل لعب دور أساسي في OBOR كمحرّك رئيس للتنمية الإقليمية، شارك السعوديون والصينيون في بناء شركة «أبور». كما أكّد البنك الصناعي والتجاري الصيني تدشين فرع له في الرياض في يونيو من العام 2015، مما يؤكد على أهمية مبادرة الصين في مساعدة السعوديين الاستثمار الأجنبي - وهو شرط لنجاح رؤية 2030(25).

في ردود الافعال، هناك مخاوف لدى واشنطن من تداعيات الاستثمارات الصينية على تحالف الولايات المتحدة والسعودية. إن خوف الرياض من توجّه صيني نحو ايران وقطر يضغط بقوة على حساب التحالف الاستراتيجي مع واشنطن. وتواجه السعودية صعوبة بالغة في تحقيق التوازن في علاقاتها مع الصين كشريك اقتصادي والولايات المتحدة كشريك استراتيجي.

يشعر صانعو السياسة في الولايات المتحدة بالقلق من أن تزايد الحضور الاقتصادي الصيني في السوق السعودية مصمم لناحية الجهود الرامية في نهاية المطاف الى تآكل الهيمنة الأميركية على الاسواق المالية العالمية.

وقد فجّر اعلان محمد التويجري، نائب وزير الاقتصاد والتخطيط في مؤتمر سعودي صيني مشترك في جدة، في 24 أغسطس 2017 مفاجئة صادمة لواشنطن، بأن السعودية مستعدة لدراسة تمويل جانب من احتياجاتها باليوان الصيني، ما قد يمنحها مزيداً من المرونة المالية ويمثل نجاحاً للصين في مسعاها لتحويل اليوان إلى عملة عالمية رئيسية إلى جانب الدولار الاميركي.

وقال التويجري «إن الرياض مهتمة بجمع أموال في الخارج ليس فقط لتغطية عجز الميزانية وإنما الأهم من ذلك لتمويل مشروعات استثمارية كبيرة توسع اقتصادها وتخلق فرص عمل». وقال وزير الطاقة السعودية خالد الفالح على هامش المؤتمر أن «السعودية والصين تعتزمان إنشاء صندوق استثماري قيمته 20 مليار دولار على أساس أن تكون الكلفة والأرباح مناصفة». ويأتي المؤتمر استكمالاً لزيارة الملك سلمان الى الصين في مارس 2017 والتي تمّ خلالها توقيع اتفاقيات عمل تصل قيمتها الى 65 مليار دولار في قطاعات تشمل تكرير النفط، والبتروكيماويات، والصناعات التحويلية الخفيفة، والإلكترونيات(26).

 قرار الرياض بالاقتراض باليوان الصيني، وإن لم يدخل حيز التنفيذ، يؤسس لحالة مقلقة بالنسبة لواشنطن، حيث يفتح الباب أمام العديد من الدول للانتقال من البترودولار الى البترويوان. وهذا من شأنه إضعاف الدولار كعملة احتياطية عالمية ومفضّلة للائتمان من قبل الدول المنتجة للنفط. وسوف تعمل واشنطن المستحيل على منع السعودية من مجرد التفكير في زعزعة مكانة الدولار، لا سيما من حليفها الاستراتيجي القوي اقتصادياً ونفطياً.

لا ريب أن المصالح الاستراتيجية بين واشنطن والرياض سوف تحول دون جنوح الأخيرة نحو بكين الى القدر الذي يلحق ضرراً بالأهداف الجيوسياسية للسعودية في الشرق الأوسط ومواجهة ايران، وهذا لا يتحقق دون الاعتماد على مبيعات الاسلحة الاميركية. وفي كل الأحوال، فإن الرياض سوف تضطر في نهاية المطاف الى كبح جماحها نحو التكامل الاقتصادي مع بكين. لا يجب إغفال حقيقة أن التوجّه السعودي نحو الصين ليس دائماً أصيلاً وحقيقياً، وإنما يمثّل أحد صور المناكفة للضغط على واشنطن من أجل الحصول على أسلحة أميركية متطوّرة.

من دون شك، فإن التحسّن الملحوظ في العلاقات السعودية الأميركية سوف ينعكس تلقائياً على علاقات الرياض مع بكين ومع عواصم أخرى في العالم كانت السعودية قد لجأت اليها في السنوات الأخيرة بهدف ما وصفته تنويع الشركاء. في حقيقة الأمر، إن الممانعة الأميركية هي ما يجعل التعاون الاقتصادي بين الصين والمملكة السعودية بالغ الصعوبة، بالرغم من العروض المغرية التي تقدّمت بها بكين للرياض في مجال الاستثمار والشراكة الاقتصادية الممتدة، بما في ذلك العرض الصيني بشراء 5 في المائة من شركة أرامكو والذي يسهّل مهمة الرياض في تجاوز الاجراءات البيروقراطية والمدة الزمنية التي تستغرقها عملية البيع.

في حقيقة الأمر، كانت الصين على جهوزية كاملة للدخول إلى الأسواق السعودية، وحجز حصة لها في سوق الاستثمار المحلية. وحتى بعد اعلان شركة «أرامكو» في بداية العام 2016 عن نيتها طرح جزء من أرامكو للاكتتاب العام، كانت الصين تترقّب مسار الطرح، في وقت كان لا يزال الغموض يلف قرار السعودية لناحية اختيار أي من الأسواق العالمية يكون منصة اطلاق الاكتتاب العام لشركة «أرامكو»، فيما جرى الحديث عن سوقي لندن ونيويورك.

ومع اقتراب موعد الاكتتاب، في ظل قيمة سوقية غير محسومة للشركة بين تريليوني دولار، بحسب محمد بن سلمان، أو 1.4 تريليون دولار بحسب تقييم شركات مالية عالمية، وحتى بعض مسؤولي شركة «أرامكو»، بادرت شركتان نفطيتيان صينيتان في أكتوبر 2017 بعرض شراء نسبة 5 في المائة المقرّر طرحها في السوق العالمية دون مرورها بالاكتتاب العام. الهدف من وراء العرض الصيني، بحسب أحد المصادر أن الصينيين»يريدون تأمين إمدادات نفطية...هم مستعدون لأخذ الخمسة بالمئة بكاملها، أو ربما أكثر من ذلك، وحدهم»(27).

لم تحسم السعودية قرارها بخصوص العرض الصيني، برغم من وضعه خياراً، تماماً كما لم تحسم أمر العروض الأخرى بما في ذلك مكان وموعد اطلاق الاكتتاب العام. وذلك يعود الى عوامل كثيرة هو الخوف من خسارة الرهان، وانكشاف درّة التاج السعودي أمام العالم بمقاسمة ملكيته مع أطراف خارجية قد تشارك يوماً ما في القرار النفطي، وكل ما يحيط به من قرارات متّصلة. وعليه، أعلن وزير الطاقة خالد الفالح في مارس 2018 عن تأجيل موعد الاكتتاب العام الى 2019. وقد كشف الفالح لشبكة (سي إن إن) خلال زيارته إلى لندن برفقة محمد بن سلمان، أن السعودية لديها بعض القلق من طرح جزء من أسهم شركة النفط السعودية أرامكو للاكتتاب في بورصة نيويورك. وقال الفالح: «يمكنني القول إن الدعاوى مصدر كبير للقلق في الولايات المتحدة.. وبصراحة أرامكو كبيرة جداً ومهمة جداً للمملكة لتتعرض لمثل هذه المجازفة»، مشيراً إلى قرار مدينة نيويورك بمقاضاة 5 شركات نفطية كبرى بسبب تأثير منتجاتها في الاحتباس الحراري للحصول على تعويضات من أجل حماية المدينة من آثار التغير المناخي.

ونقلت الشبكة عن بعض المسؤولين اعترافهم بشكل خاص بأنه يمكن تأجيل الطرح إلى العام 2019 لضمان أفضل ظروف للبيع. في ظل هذا الغموض في الموقف السعودي، ذكرت صحيفة (وول ستريت جورنال) في 5 يوليو 2018 بأن التحضيرات لطرح أرمكو للإكتتاب العام توقفّت بصورة كاملة وأن مسؤولين حكوميين وأشخاص مقربين من الملف يشككون في المضي قدماً على الإطلاق(28).

في المقابل، فإن نجاح شركات تكنولوجيا الاتصالات في السعودية، ولا سيما في مجال التواصل الاجتماعي، مثل )تويتر( و)فيسبوك( و)جوجل(، سوف يعزز من فرص شركات التكنولوجيا الأميركية لكسب الرهانات في السوق السعودية، الأمر الذي يضعف، حكماً، القدرة التنافسية لدى الصين في اقتصاد ما بعد النفط في المملكة السعودية، وهو اقتصاد سوف يعتمد، بدرجة كبيرة، على التكنولوجيا المتقدّمة بدرجة أساسية، ولا سيما في مجال الاتصالات والتواصل الاجتماعي.

بطبيعة الحال، فإن الصين سوف تبقى مستثمراً رئيساً في المنطقة والعالم بأسره، فالنمو الاقتصادي المتسارع يجعل الصين منافساً كونياً ومن المرجّح أن يزيح الولايات المتحدة عن صدارة قائمة أقوى الاقتصاديات في العالم في المستقبل القريب.

على الضد، إن بكين لن تحصل على حصص كبيرة في الصناعة التكنولوجية، أو اقتصاديات ما بعد النفط. عامل آخر، يعبّر عنه في الغالب المحللون الأميركيون من أن ثمة حذراً سعودياً إزاء العقيدة الاستثمارية الصينية من أن الصين «ستحاول في نهاية المطاف تحويل نفوذها الاقتصادي في المملكة السعودية إلى نفوذ سياسي»، ولذلك، فإن بناء شراكات اقتصادية مع روسيا واليابان والهند في السنوات الأخيرة تنطوي على رغبة سعودية بتجنّب الاعتماد على رأس المال الصيني.

في المقابل، سوف ترقب الصين المشهد الجيوسياسي في المنطقة، وطبيعة الضغوط الاميركية على حلفائها، وكذلك المصالح المشتركة التي تجمع بين بكين والرياض أو أي من العواصم الأخرى في المنطقة لتبني على الشيء مقتضاه، واختيار الشراكة الصحيحة والمناسبة لها. وقد يكون تهوّر محمد بن سلمان سبباً كافياً بالنسبة للصين كيما تخضع علاقاتها مع الرياض لمراجعة دقيقة وتعيد «توجيه بعض استثماراتها الرأسمالية إلى أسواق ناشئة أخرى في الشرق الأوسط في السنوات القادمة»(29).

كانت الصين ترقب بقلق حملة مكافحة الفساد المزعومة التي قادها محمد بن سلمان في 4 نوفمبر 2017، والتي تزامنت أيضاً مع اطلاق صاروخ باليستي على مطار الملك خالد بالرياض في 5 نوفمبر، ثم مقتل الأمير منصور بن مقرن، نائب أمير عسير وإبن ولي العهد الأسبق، بسقوط مروحيته في 6 نوفمبر، ولاتزال أسباب الحادثة غامضة فيما راجت رواية تفيد بأنه كان ينوي الهرب بطائرة خاصة خارج الحدود. حوادث متعاقبة لابد أن تترك آثارها على خطط الاصلاح الاقتصادي التي يقودها إبن سلمان، وعلى علاقات السعودية مع كثير من الدول التي تربطها معها عقود تجارية كبيرة.

وفيما يتقلص دعم البنزين والمشتقات البترولية عموماً، بدأ العمل بقانون السماح للمرأة بقيادة السيارة في 24 يونيو 2018، والتي يعوّل عليها في زيادة مشتريات السعودية من السيارات وتحريك عجلة الاقتصاد من خلال انخراط عدد كبير من النساء في سوق العمل المحلية. تجدر الاشارة الى أن شركات السيارات لم تلحظ زيادة فعلية في مستوى المشتريات، الأمر الذي يخفي حقائق أخرى حول القدرة الشرائية لدى السكّان المحليين، والاعباء المالية الناجمة عن ارتفاع الضرائب والمستوى المعيشي عموماً.

الأوراق والأوراق المضادة
 
الملك عبدالله زار الصين مرتين

برغم من حاجة الصين الى النفط، فإنها كشفت عن امتلاكها أوراق ضغط للتعامل مع ارتفاع أسعار النفط. فقد قرّرت الصين في مايو 2018 تخفيض وارداتها من النفط السعودية بنسبة 40 في المائة، بعد أن قرّرت شركة أرامكو أسعاراً أعلى من المتوقع، كونها لاتتبع منهجية تسعير منطقية. في الوقت نفسه، أفادت تقارير عن اكتشاف حقول نفطية في هضبة تشينجهاي، وإقليم شينجيانغ، ومنغوليا الداخلية، الى جانب إمكانية حصولها على نفط رخيص من روسيا وايران وفنزويلا وأنغولا(30).

وتبقى المشكلة الكبيرة التي ستواجهها السعودية، والمنطقة برمتها في المستقبل هي أن الصين لم تعد أكبر مستورد للنفط الخام عالمياً فحسب، بل إن أمريكا قد تتحول في المستقبل القريب إلى منافس قوي للدول المصدّرة للنفط. وتشير توقعات الوكالة الدولية للطاقة إلى أن حجم واردات الصين من النفط الخام سيرتفع إلى حوالي 10 مليون برميل في اليوم بحلول العام 2023، عندها سيكون حجم واردات أمريكا حوالي 5 ملايين برميل فقط(31).

وبرغم من زيادة إنتاج الغاز الصخري في الصين في سعيها للاستفادة من أعلى احتياطي من الصخر الزيتي في العالم، فإنها بعيدة عن أن تسير على خطى الطفرة الصخرية في أميركا، حيث يتوقع المحلّلون أن تعجز الصين عن تحقيق أهداف إنتاجها لعام 2020 بهامش واسع.

في تقرير صدر في 17 إبريل 2018 عن شركة الاستشارات (وود ماكينزي) جاء إن صناعة الصخر الزيتي في الصين وصلت إلى ما يقرب من 600 بئر و9 مليارات متر مكعب من الإنتاج في العام 2017، ومن المتوقع أن يتضاعف الإنتاج إلى ما يقرب من سبعة عشر مليار متر مكعب بحلول العام 2020.

بالإضافة إلى ذلك، فمن المتوقع أن ينطلق العمل في حوالي 700 بئر جديدة بحلول نهاية العقد عبر ثلاثة مشاريع جديدة في حوض سيتشوان الجنوبي الغربي، بإجمالي استثمارات تبلغ 5.5 مليار دولار.

لكن على الرغم من التقدم الذي تحقّقه الصين، فمن المتوقع أن يكون العجز للعام 2020 بمقدار 30 مليار متر مكعب. وقد تمّ الإعلان عن هذا الإخفاق في خطة الصين الخمسية الثالثة عشر لقطاع الطاقة. في المقارنة، أنتجت حفّارات الولايات المتحدة 474.6 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من الصخر الزيتي في العام 2017 وحده.

لناحية الصين، فإنها حريصة على التحرّر من الاعتماد على الخارج في تأمين حاجتها من الغاز والنفط. ومن أجل تلبية هدف الحكومة البالغ 32 مليار متر مكعب، هناك حاجة إلى 725 بئراً إضافية بحلول العام 2020 بالإضافة إلى ما يقرب من 700 بئر جديد. وهذا سيضاعف كمية الاستثمار المطلوبة في خطة الحفر الأساسية.

وقد نجحت شركات النفط الوطنية الصينية في خفض التكاليف من خلال تحسين تقنيات الحفر، إلى جانب تحسين الفهم الجيولوجي والخبرة التقنية. وتشير تقديرات وود ماكنزي إلى أن هذا أدى إلى خفض التكلفة بنسبة 40 بالمائة لآبار الاستكشاف مقارنة بمستويات العام 2010، وانخفاض بنسبة خمسة وعشرين بالمائة في الآبار التجارية مقارنةً بالعام 2014.

ومع ذلك، تظل تكاليف الإنتاج في الصين أعلى بكثير من الولايات المتحدة، التي بنت ثورتها الصخرية على الأسواق التنافسية والمفتوحة، والمستكشفين النشطين، والبنية التحتية المتطورة والخبرات المتاحة بسهولة. وقالت وود ماكنزي: «لا ينطبق أي من هذه العوامل على الصين».

بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم مسارح عمليات الصخر الزيتي في الصين (مثل مشروع فولينج لشركة سينوبك، ومشروعي شركة بتروتشاينا في تشانغيانغ - وييوان، وتشاوتونغ) تقع في تضاريس جبلية وعرة. وهذا يعني أن المشغلين يواجهون التحدي المتمثل في إزالة الأراضي الجبلية لتأهيل المواقع، إلى جانب بناء البنية التحتية الخاصة بهم، ونقل أطقم الحفر والمعدّات عبر مسافات شاسعة، الى جانب بطبيعة الحال صعوبات لوجستية وطبيعية وجيولوجية(32).

في مقابل المجهود الداخلي لتغطية العجز بين كفّتي الانتاج والاستهلاك، تتطلع الصين نحو تأمين حاجاتها من النفط المستورد ولكن بأسعار منخفضة. فالصين سوف تبقى لأمد غير منظور أكبر مستورد للنفط في العالم، وإن انخفاض أسعار النفط هو مطلب صيني: فزيادة دولار واحدة في سعر النفط يحرم النشاط الاقتصادي الصيني مليارات الدولارات. اليوم، أصبح النفط والصين هما من يتحكمان في النمو الاقتصادي العالمي، بحسب صندوق النقد الدولي في يناير 2016(33).

وبحسب دراسة لمجموعة Anbang للأبحاث الصينية حول تأثير أسعار النفط صعوداً وهبوطاً على الاقتصاد الصيني، وتعد الصين الرابح الأكبر من انخفاض الاسعار، حيث توفّر مئات المليارات من الدولارات كل عام. وبحسب احصاءات جولدمان ساكس، فإن هبوط أسعار السلع في عام واحد يمكن يوفر للصين ما مجموعة 460 مليار دولار، منها 320 مليار دولار بسبب انخفاض أسعار النفط، بينما يأتي الباقي من مصادر أخرى للطاقة والفولاذ والفحم والمنتجات الزراعية.

ويعتقد سيرجي بيكين، مدير مؤسسة تنمية الطاقة الروسية، أنه في انخفاض أسعار النفط في العام 2015، وفّرت الدول المستهلكة للنفط 1.6 تريليون دولار مقارنة بـ 1.7 تريليون دولار العام 2014. تستورد الصين حوالي 10 ملايين برميل يومياً. وباحتسابها 100 دولار للبرميل الواحد، يمكنها توفير 70 دولاراً أمريكياً للبرميل، مما يوفر 700 مليون دولار أمريكي يومياً. كما شدد بي جين على أن الصين لا تستفيد فقط كدولة مستوردة للنفط الخام، ولكن أيضا كدولة معالجة للنفط الخام، لأن ارتفاع أسعار المنتجات البترولية أسرع من النفط نفسه، وسوف تتسع الفوارق في المبيعات. بالإضافة إلى المساعدة في احتواء التضخم، فإن انهيار أسعار السلع أعطى صانعي السياسة الصينيين مجالاً أكبر لتخفيف السياسة النقدية وتحفيز النمو الاقتصادي(34).

يلفت تقرير صندوق النقد الدولي في إبريل 2018 الى انخفاض أسعار النفط في السنوات القادمة. وبحسب التقرير: «فيما يتعافى العرض، فإن أسعار النفط من المتوقع أن تنخفض إلى 58.2 دولار للبرميل في العام 2019 وإلى حوالي 53.6 دولار للبرميل في عام 2023»(35).

من هبات السماء على الصين، أنها تتواشج مع السعودية في تآزر طبيعي في مجال الطاقة الشمسية. بحلول العام 2016، باتت الصين أكبر منتج للطاقة الشمسية في العالم، حيث أنتجت 77.42 جيجاوات، أي ما يعادل 66.2 مليار كيلو واط ساعة من الطاقة. وبرغم من أن هذا لا يمثل سوى واحد بالمائة من إجمالي توليد الطاقة في البلاد، بالنظر الى عدد السكان الهائل، ولكونها أكبر دولة صناعية في العالم، الا إنها تتطلع إلى تعزيز استخدامها للطاقة المتجددة بشكل كبير، وستعمل على تعزيز زيادة الطاقة الشمسية في السنوات القادمة(36).

لناحية المملكة السعودية، التي تغمرها الشمس، فإن زيادة انتاج الطاقة الشمسية بالتعاون مع الصين، سوف يقلّل من استهلاك المملكة المحلي للنفط، وسوف يزيد من وتيرة انتاج النفط للتصدير الى الخارج، وهذا بدوره سوف يؤدي الى انخفاض أسعار النفط، وكل ذلك يدعم تطوير صناعة الطاقة الشمسية المحلية في الصين، الى جانب التأثيرات البيئية الايجابية. وهنا تبرز المصلحة المتبادلة والهائلة بين الصين والمملكة السعودية في مجالي النفط والطاقة الشمسية. وبمرور الوقت، سوف ينبغي على الرياض وبكين البحث في صيغة لحماية هذه المصلحة الحيوية. ولكن يبقى السؤال: هل ستسمح واشنطن للرياض بأن تقرر بمفردها المصلحة الخاصة بها دون مراعاة لمصالح الولايات المتحدة؟(37).

فما يصعّب جهود السعودية لناحية تطوير علاقاتها التجارية مع الصين وبناء شراكة اقتصادية حيوية هو مخطط ترامب لمواجهة الصين، من بين اقتصاديات أخرى في العالم. فثمة بوادر حرب تجارية كونية بدأت بتوقيع ترمب مذكرة رئاسية في 23 مارس 2018 يفرض بموجبها حزمة جديدة من الضرائب الجمركية على الواردات من الصين، ولا سيما الحديد والصلب، قد تصل قيمتها الى نحو 60 مليار دولار، وتحديد الاستثمارات فيها رداً على ما تراه واشنطن سنوات من انتهاك الملكية الفكرية وسرقة التكنولوجيا من الشركات الأمريكية(38).

في المقابل، ردّت الصين في 2 إبريل من العام نفسه على القرار الأميركي وفرضت رسوماً جمركية إضافية بنسبة 25 في المئة على 128 سلعة من الوردات الأمريكية، بما في ذلك واردات لحوم الخنزير والنبيذ(39). وفي رد فعل على قرار ترامب آواخر يونيو 2018 فرض رسوم على حزمة من السلع الصينية، أعلنت وزارة التجارة الصينية في 6 يوليو 2018 بدء سريان التعرفة على بضائع أمريكية، مؤكدة أن واشنطن، أشعلت «أكبر حرب تجارية في التاريخ الاقتصادي.” وبحسب وكالة أنباء شنخوا الصينية الرسمية على لسان المتحدث باسم وزارة التجارة الصينية قوله: «إنه ومع فرض 25 بالمائة من الرسوم الإضافية على المنتجات الصينية بقيمة 34 مليار دولار أمريكي اعتباراً من اليوم، فإن الولايات المتحدة أشعلت أكبر حرب تجارية فى التاريخ الاقتصادي.”

لا شك أن الاجراء الأميركي يمثّل تحوّلاً في العلاقات الدولية، ويرسم مشهداً قاتماً لمستقبل الاقتصاد العالمي، حيث تعيد الصين مراجعة استراتيجتها الاقتصادية المعتمدة منذ العام 1970 لناحية تسهيل دخول المجتمع الصناعي الغربي إلى الأسواق الصينية، في سياق خطة إعاد الاندماج في المجتمع الدولي. ما لم يكن يتوقعه الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، أن تكون وتيرة الصعود الصيني على نحو سريع وغير قابلة للسيطرة، ففي غضون أربعين عاماً (1978 ـ 2018) استطاعت الصين تحجز مكانها المتقدّم في الدورة الاقتصادية الكونية، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة الى اعلان الحرب التجداري لوقف وصول الصين الى الصدارة، بعد أن أصبحت في المركز الثاني كونياً، في ظل فشل أميركي على إدارة أزمات العالم، ودخولها في مواجهات كبرى مع الكيانات الاتحادية الكبرى في العالم (الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الروسي، كندا، المكسيك..)، فضلاً عن إخفاقها في ملفات إقليمية (العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، الازمة الخليجية...)، بما يفتح الباب مشرعاً أمام الصين لتقديم مقاربات جديدة وإبداعية اقتصادية أولاً وجيوسياسية لاحقاً.

لاشك أن ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تشهد المناطق الواقعة على طريق الحرير هدوئاً واستقراراً لأن ذلك يعزز فرص نجاح استراتيجية الصين (الحزام والطريق). تجدر الاشارة الى أن الصين الشعبية تتاخم 14 دولة، ولا تكاد تخلو أي واحدة منها من مشكلات داخلية وأخرى حدودية.

إن الحرب التجارية التي أعلنتها الولايات المتحدة لن تقف عند حد، ولا عند حزمة واحدة، بل هي حرب متدحرجة بدأت بنحو 60 مليار دولار ثم في الحزمة الثانية بقيمة 200 مليار دولار، وثالثة بالقيمة نفسها، بما يفضي الى بداية نهاية النظام العالمي القديم بقيادة الولايات المتحدة، والتأسيس لنظام عالمي متعدد الاقطاب، عمادها التعاون وليس التضامن بين الدول والكيانات الاتحادية.

ان الانسحابات المتوالية للولايات المتحدة من اتفاقيات ومؤسسات دولية (اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادىء في 23 يناير 2017، اتفاق باريس للتغيّر المناخي في الاول من يونيو 2017، اليونيسكو في 12 أكتوبر 2017، ومجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة في 20 يونيو 2018) كانت تنطوي على دلالة عبّر عنها فريد زكريا، المحلل السياسي في شبكة سي إن إن، في تعليقه على انسحاب ترمب من اتفاقية باريس أن ذلك يعني: “نهاية زعامة أمريكا للعالم الحر»(40).

بكلمات أخرى، إن الاجراءات العقابية ضد الدول، والانسحابات من المؤسسات والاتفاقيات الدولية، هو لا ينقذ الاقتصاد الاميركي بقدر ما يعزّز النزعة الانعزالية والقطيعة مع بقية الدول والاتحادات الاقتصادية القائمة على أساس التشاركية. إن واحدة من النتائج المباشرة للإجراءات المالية التي تتبناها إدارة ترامب هي اعتناق الاقتصاديات المتضرّرة إجراءات مضادة. أكثر من ذلك، إن الولايات المتحدة بسياستها الأحادية تجعل من الصين خياراً كونياً مناسباً، من خلال مبادرتها الاقتصادية الانفتاحية في مقابل النزعة الانغلاقية والانعزالية الاميركية(41).

لناحية السعودية، ما لم تتوصّل واشنطن وبكين الى «هدنة تجارية» طويلة الأمد، فإن الرياض سوف تواجه صعوبات تجارية ومالية وسياسية جمّة من قبل الحليف الاستراتيجي والشريك التجاري. وهذه الهدنة سوف تكون حكماً على حساب الزبون الأصغر، أو بالأحرى المستهلك الأكبر، حيث ينزع المتنافسون نحو التوصّل لتوافقات متينة في التدابير الجمركية، وتعديل الميزان التجاري بصورة مرضية، والأهم من ذلك كله هي التشريعات الحمائية التي سوف تلجأ اليها الاقتصاديات الكبيرة إزاء أي مخاطر سلبية للحرب التجارية وهذا ما سوف تدفع ثمنه الاقتصاديات الصغيرة.

وكان كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي موريس أوبستفيلد قد حذّر في إبريل 2018 من اندلاع حرب تجارية بين الصين والولايات المتحدة. وقال بأن: «احتمالات القيود التجارية والقيود المضادة تهدد بتقويض الثقة وإخراج النمو العالمي مبكراً عن مساره الصحيح. وفي حين أن بعض الحكومات عاكفة على إجراء إصلاحات اقتصادية كبيرة، نجد أن مخاطر النزاعات التجارية بدأت تحَوِّل مسار البعض الآخر بعيداً عن الخطوات البناءة التي ينبغي اتخاذها الآن لتحسين آفاق النمو وتأمينها».

ويرجع ذلك الى اعلان الولايات المتحدة عزمها فرض رسوم جمركية على واردات الحديد الصلب والألومنيوم لأسباب تتعلق بالأمن القومي. وبرغم من أن اجراءً من هذا القبيل لن يعدّل في الميزان التجاري أو يعالج العجز فيه، فإنه حفّز بقية الاقتصاديات، لا سيما المتضّررة منها، أوروبا والصين، الى تبني تدابير مضادة. وبحسب أوبستفيلد: «ويمكن أن يكون لاختلالات الحساب الجاري دور اقتصادي أساسي، ولكنها قد تجلب مخاطر إذا بلغت مستويات مفرطة، بما في ذلك مخاطر نشوب النزاعات التجارية. وفي البيئة العالمية الحالية، ينبغي اقتسام عبء تخفيض الاختلالات العالمية المفرطة عن طريق العمل متعدد الأطراف – فالبلدان ذات العجز المفرط ومثلها البلدان ذات الفائض المفرط ينبغي أن تعتمد سياسات اقتصادية كلية تجعل مستويات إنفاقها أكثر اتساقاً مع مستويات دخلها»(42).

من جهة ثانية، فإن عدم الاستقرار السياسي في المملكة السعودية ينطوي، حكماً، على عواقب وخيمة على أسواق الطاقة العالمية، والاقتصاد العالمي عموماً. وقد لعبت السعودية، على مدى عقود، دور الناظم لثنائية العرض والطلب، أو بالأحرى لمستويين: الانتاج والسعر. ولذلك، فإن الصين تتأثر تلقائياً بأي اهتزازات في هذين المستويين، وقد تؤدي زيادة الاسعار الى ضغف الناتج المحلي والاجمالي في الصين، وفي بلدان عديدة تعتمد على النفط في اقتصادها. ومن هنا، يمكن فهم العرض الصيني بشراء 5 في المائة من شركة «أرامكو».

ثمة مشاعر مختلطة لدى دول الخليج عموماً، ولا سيما السعودية والامارات، إزاء الرؤية الصينية حول اعادة هيكلة الاقتصاد العالمي، والمنعكسة في علاقاتها مع دول الخليج، وهي مشاعر تتغذى على مخاوف داخلية وأخرى خارجية، ولا سيما أمريكياً، وتتمحور حول الطموح الصيني الكوني بدرجة أساسية.


المصادر

1- David B. Ottaway, SAUDIS HID ACQUISITION OF MISSILES, Washington Post, March 29, 1988;

https://goo.gl/KwJjye

2- العلاقات السعودية الصينية: الواقع والمستقبل، أنظر:

https://goo.gl/ZkgRdE

3 ـ علاء عبد الحفيظ محمد، السياسة الصينية تجاه الصراع العربي ـ الاسرائيلي: الثوابت والمتغيرات، مركز دراسات الوحدة العربية، أنظر:

http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/

mustaqbal_418_alaaabadalhafiz.pdf

4 ـ الناتج المحلي الإجمالي الصيني يشكل 15% من الإجمالي العالمي، بنغ مين، صحيفة الشعب اليومية، 7 مارس 2018 أنظر:

http://arabic.people.com.cn/n3/2018/0307/c31659-9434193.html

5 ـ الصين الأولى في التبادل التجاري مع السعودية، موقع (العربية)، 15 مارس 2017، أنظر:

https://goo.gl/thfoKN

6- https://www.bp.com/content/dam/bp/pdf/energy-economics/

statistical-review-2016/

bp-statistical-review-of-world-energy-2016-full-report.pdf

7- https://www.bp.com/content/dam/bp/en/corporate/pdf/

energy-economics/statistical-review/bp-stats-review-2018-oil.pdf

الصين تنتج 16 مليون طن وتستورد 39 مليون طن من النفط الخام في مايو 2018

http://arabic.people.com.cn/n3/2018/0619/c31659-9472621.html

8- http://www.worldstopexports.com/

top-15-crude-oil-suppliers-to-china/

9- Erica Downs, Russia not Saudi Arabia is China’s main source of oil, China Policy Institute: Analysis

The online journal of the China Policy Institute;

https://cpianalysis.org/2018/03/28/the-new-king-of-chinas-crude-oil-imports-russia-and-the-competition-for-market-share-in-china/

10-Xué Xinran, Why China won’t conquer the world, Telegraph, Ocotober 2, 2011;

https://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/asia/china/8796486/Why-China-wont-conquer-the-world.html

11- China and Saudi Arabia, 2004/08/26;

http://www.chinaembassy.org.sa/eng/zsgx/t153977.htm

12- Shannon Tiezzi, Saudi Arabia, China’s ‘Good Friend’, The Diplomat, March 14, 2014;

https://thediplomat.com/2014/03/

saudi-arabia-chinas-good-friend/

13- الصين في الشرق الأوسط..التنين الحذر، أندرو سكوبيل عليرضا نادر، أعد لجيش الولايات المتحدة الأمريكية، نشر مؤسسة راند سانتا مونيكا، كاليفورنيا، 2016

https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/research_reports/

RR1200/RR1229/RAND_RR1229z1.arabic.pdf

14 ـ 64 بليون دولار الاستثمارات الصينية في السعودية، صحيفة (الحياة)، 27 سبتمبر 2012،أنظر:

https://goo.gl/L5BqP9

15- http://www.aleqt.com/2016/08/26/article_1080873.html

16- https://tradingeconomics.com/china/crude-oil-production

https://goo.gl/gqtztJ-17

18- https://www.eremnews.com/news/arab-world/

saudi-arabia/557115

19-الفالح: 70 مليار دولار سجلتها الاتفاقيات السعودية الصينية خلال 60 اتفاقية، صحيفة (المدينة)، 25 أغسطس 2017، أنظر:

https://goo.gl/CnZQAS

20ـ السعودية-الصين..حقبة جديدة من الشراكة الإستراتيجية، الرياض بوست، 25 أغسطس 2017، أنظر:

http://riyadhpost.live/10970

21-Charlotte Gao, Closer Ties: China And Saudi Arabia Sign $70 Billion in New Deals, The Diplomat, August 27, 2017;

https://thediplomat.com/2017/08/

closer-ties-china-and-saudi-arabia-sign-70-billion-in-new-deals/

22ـ قمة «الحزام والطريق» محاولة صينية لإعادة صياغة مستقبل الاقتصاد العالم، الشرق الأوسط، 14 مايو 2017، أنظر:

https://goo.gl/wiCG2U

23-Giorgio Cafiero and Daniel Wagner, What the Gulf States Think of ‘One Belt, One Road’, The Diplomat, May 24, 2017;

https://thediplomat.com/2017/05/

what-the-gulf-states-think-of-one-belt-one-road/

24 ـ وزير الطاقة: «طريق الحرير» مبادرة هائلة تتلاقى مع رؤية 2030، صحيفة «الاقتصادية»، 15 مايو 2017، أنظر:

http://www.aleqt.com/2017/05/15/article_1187781.html

25 ـ تدشين فرع بنك الصين الصناعي التجاري في المملكة العربية السعودية، موقع مؤسسة النقد العربي السعودي، 4 يونيو 2015، أنظر:

http://www.sama.gov.sa/ar-sa/News/Pages/News04062015.aspx

26 ـ السعودية قد تسعى لتمويل باليوان الصيني، وكالة رويترز، 24 أغسطس، 2017، أنظر:

https://ara.reutersmedia.net/article/businessNews/idARAKCN1B41MI

27 ـ حصري-مصادر: الصين تعرض شراء 5% من أرامكو السعودية مباشرة، وكالة رويترز، 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2017، أنظر:

https://ara.reuters.com/article/businessNews/idARAKBN1CL20W

28ـ الفالح لـCNN: نشعر بقلق من طرح أرامكو في بورصة نيويورك ونحترم بورصة لندن، شبكة سي إن إن، 8 آذار (مارس) 2018، أنظر:

https://arabic.cnn.com/.../2018/.../

saudi-aramco-ipo-new-york-lond

Doubts Grow Aramco IPO Will Ever Happen, The Wall Street Journal, July 5th 2018;

https://www.wsj.com/articles/doubts-grow-aramco-ipo-will-ever-happen-1530813982

29- Samuel Ramani, The Risks of the China-Saudi Arabia Partnership, The Dipolomat, February 17, 2018;

https://thediplomat.com/2018/02/the-risks-of-the-china-saudi-arabia-partnership/

-30Sinopec to cut Saudi crude imports for May in response to high OSPs: Official, CNBC, April 10, 2018;

https://www.cnbc.com/2018/04/10/sinopec-to-cut-saudi-crude-imports-for-may-in-response-to-high-osps.html

31- http://www.chinainarabic.org/?p=37588

32- China Will Need American Shale, The National Interest, May 26, 2018;

http://nationalinterest.org/feature/china-will-need-american-shale-25990

33- IMF: China and oil will drag down global growth, CNN, January 19, 2016;

http://money.cnn.com/2016/01/19/news/economy/imf-global-growth-china/index.html

-34The other side of the impact of the drop in oil prices on the Chinese economy, January 27, 2016 07:27 China Anbang Group Research Headquarters (ANBOUND), ftChinese;

http://www.ftchinese.com/story/001065947?full=y&archive

-35IMF World Economic Outlook, April 2018: Cyclical Upswing, Structural Change, April 17, 2018, p.13;

https://www.imf.org/en/Publications/WEO/Issues/2018/03/20/world-economic-outlook-april-2018

-36June Javelosa and Chelsea Gohd, China is Now the Biggest Producer of Solar Energy in the World, Futurism, February 6, 2017;

https://futurism.com/china-is-now-the-biggest-producer-of-solar-energy-in-the-world/

-37Wang Mouzhou, What the Saudi Shake up Means for China, The Diplomat, November 09, 2017; https://thediplomat.com/2017/11/what-the-saudi-shake-up-means-for-china/

 -38http://www.bbc.com/arabic/business-43504638

-39http://www.bbc.com/arabic/business-43620893

-40https://arabic.cnn.com/world/2017/06/02/zakaria-us-resigned-leader-free-world

41 ـ للمزيد أنظر: عماد رزق، – خطة الصين للرد على الحرب التجارية الاميركية (الجزءان الاول والثاني)، الاستشارية للدراسات والتواصل الاجتماعي، 22،23 يونيو، 2018، أنظر:

http://iscslb.com/archives/736

http://iscslb.com/archives/741

42 ـ موريس أوبستفيلد، الاقتصاد العالمي: أخبار سارة مؤقتة وتوترات تجارية تلوح في الأفق، صندوق النقد الدولي ـ مدونات الصندوق، 17 أبريل 2018، أنظر الرابط:

http://www.imf.org/ar/News/Articles/2018/04/17/blog-global-economy-good-news-for-now-but-trade-tensions-a-threat

الصفحة السابقة