سياسة المجازر «السعودية» في اليمن!

فريد أيهم

مجزرة صعدة، كما المجازر الأخرى في اليمن تعكس توترا لدى آل سعود، وشعورا بالهزيمة الداخلية، أي أنها محصلة لمجمل سياسات النظام الداخلية والخارجية، بما فيها الفشل العسكري في اليمن، والفشل السياسي في لبنان وسوريا والعراق وقطر وغيرها. كما انها محصلة لفشل النظام داخليا على المستوى الاقتصادي والتنموي، بحيث انعكست تصرفات الملك وابنه وابتُنيت على أساس الفشل، وما الاعتقالات التعسفية وأحكام الإعدام المتواترة بحق المعارضين بمن فيهم النساء، والمجازر التي يقيمانها صباح مساء في اليمن، كمجزرة ضحيان بصعدة، الا صورة للانتكاسات المتوالية والإخفاقات المستمرة التي يريد آل سعود علاجها بمظاهر قوة وأساليب ردع خارج اطار القانون، والأخلاق وحتى خارج اطار المصلحة الفعلية للنظام نفسه.

مجزرة ضحيان والمجازر التي سبقها لا تعكس قوة للنظام السعودي، بل هي محاولة لإخفاء حالة الفشل والقلق، باستعراض مظاهر قوة فارغة.

تساءل البعض: هل المجازر السعودية المتعمدة في اليمن ناتجة عن فعل براغماتي، يحسب المصالح والخسائر، أم هي مجرد (فشّة خلق) صبيٍّ مأزوم يلاحقه الفشل أينما كان؟ لا شك ان للهزيمة العسكرية في اليمن والفشل الداخلي اقتصاديا وشعور النظام بالقلق الأمني، وتصدع تحالفاته يمكن ان تفضي لـ (فشّة الخلق) الدموية.

والقاعدة تقول انه كلما كان النظام متوترا قلقا على مصيره، غاص في الفشل في جوانبه المتعددة أكثر فأكثر، وأصبح أقرب الى تعويض ذلك بالعنف الأعمى داخليا وخارجيا. من الناحية المنطقية.. لا يمكن لنظام مسترخٍ ان يفعل ما يفعله ابن سلمان.

لكن.. هل يُعقل ان يصل الأمر بالنظام الى المغامرة والإستهتار بحيث يفتعل المعارك الداخلية والخارجية كل يوم؟

هل يُعقل انه لم يحسب حساب مجازره في اليمن مصلحيا؟

لنفترض انه حسبها مصلحيا.. ولو جزئياً، فكيف تكون المصلحة من مجزرة دامية كالتي وقعت في الحديدة ثم أعقبتها صعدة وما بينهما؟

ليست كل حسابات ابن سلمان وأبيه خاطئة. وصوله الى السلطة وتكسير ابن نايف، ووزير الحرس الوطني متعب بن عبدالله، والتيار الاخواسلفي/ الصحوي، وضرب الحقوقيين، ورهانه على صمت المجتمع المسعوَد.. تدلّ على ان بعض حساباته صحيحة، وأنه حقق ما أراد.

لكن هناك قضايا عمياء فشلت: اعتقال الحريري مثلا. واعتقال الناشطات ايضا!

حسابات ابن سلمان في حرب اليمن ثبت فشلها، ان كان قد حسبها بشكل صحيح، وبالقطع هو لم يتوقع هكذا مأزق وهزيمة!

حساباته مع قطر، قادته الى مغامرة فاشلة ايضا.

حساباته في صفقة القرن تراجع (تكتيكيا) عنها بعد ان فشلت وسيعود اليها.

حساباته مع ايران ومنذ عقود فاشلة.

في سوريا والعراق ولبنان فشل سياسي سعود مطبق!!

 

كذلك حسابات ابن سلمان الداخلية، حتى وان نجح بعضها، فإنها ستقوده لاحقا الى فشل ومشاكل أكبر. الاعتقالات مثالاً. تهميش شركائه المشايخ في السلطة مثال آخر، وهو ما قد يولد داعش جديدة. وهناك فشل لابن سلمان في رؤيته منذ اللحظة الأولى. واذا كان ابن سلمان قد نجح في فرض الضرائب وتغيير الاقتصاد من ريعي الى ضرائبي، فإن ما قام به حتى الآن ليس لم يحل الأزمة البنيوية في الاقتصاد، ولا أزمات البطالة والإسكان، ولا في محاربة الفساد. فما يبدو نجاحاً في تحقيق الهدف، يستبطن آثاراً مدمرة على شرعية النظام واستقراره، وعلى الولاءات التي تشهد تحولات جوهرية.

نعم.. نجح ابن سلمان في السيطرة على (كل) السلطات.. لكنه فشل في ايفائها حقها والنجاح فيها.

حسابات ابن سلمان في مجزرة صعدة وغيرها واضحة.

هي من جهة تمثّل (فشّة خلق) لهزائم عسكرية على الأرض. أي انه ينتقم من المدنيين، كلما تمت هزيمته، حتى قيل بأن وراء كل هزيمة سعودية مجزرة سعودية. هذا ما يجعلنا نعرف لماذا اقام ابن سلمان مجزرتين كبيرتين متتاليتين في الحديدة وفي ضحيان ـ صعدة، خلال أسبوع واحد.

كل جبهات اليمن تشهد خسائر سعودية ـ إماراتية كبيرة. في الساحل الغربي (الحديدة وجنوبها حتى المخا)؛ وكذلك جبهة نهم وصرواح، وجبهات الجوف وتعز، فضلاً عن الجبهات الحدودية في ميدي. في كل هذه الجبهات خسر تحالف السعودية أرضاً وليس فقط لم يتقدم. لكن الأهم بنظرنا، هو ازدياد حدّة التوغّل اليمني في الأراضي السعودية، حيث سيطر اليمنيون باندفاعة واضحة على مئات الكيلومترات من الأراضي السعودية في نجران وجيزان وعسير.

كل من راقب تطور الأوضاع العسكرية منذ معركة السيطرة على الحديدة التي قادتها الإمارات والتي ادّت الى فشل ذريع، وخسائر بشرية غير مسبوقة، ولاتزال القوات التابعة للإمارات (خاصة لواء العمالقة الجنوبية الذي هو في مجمله سلفي قاعدي) محاصرة وممزقة ويصعب إخراجها. نقول كل من راقب سير المعارك وجد تحولاً نوعياً في أداء حكومة صنعاء.

في البحر تمّ قصف بارجة الدمام، وقبلها بارجة إماراتية في الساعات الأولى من معركة الحديدة.

في الجو تم استخدام الطيران المُسيّر بكثافة غير معهودة ووصلت الى أبو ظبي، وكبّدت تجمعات القوات المرتزقة خسائر ضخمة.

والصواريخ الباليستية لاتزال تسبب ارباكا وخسائر يتم التغطية عليها. لكن اثرها واضح المعالم نفسيا وماديا، خاصة اذا علمنا أن الصواريخ، التي تحاول ان تُظهر الرياض انها عديمة الفائدة ولا قيمة لها، هي في البند الأول للمفاوض السعودي، مع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث!

المعارك داخل السعودية شهدت خسائر بشرية غير مسبوقة خلال الأسابيع الماضية، وهناك مواقع عسكرية تسقط تباعاً ويتم نشر تفاصيلها وصورة على قناة المسيرة اليمنية. أسماء جبال ومواقع يجري التذكير بها كان انصار الله قد وصلوا اليها في الحرب السادسة التي خاضها علي صالح والسعودية معا في ٢٠٠٩-٢٠١٠، تلك المواقع باتت بحكم الساقطة ويجري تجاوزها عسكريا، وتسمع هذه الأيام عن جبل الدود وجبل الدخان وأمثالهما.

فإذا اضفنا الى هذه الخسائر.. فشل الإدارة السعودية الإماراتية في عدن، وانكشاف اهداف الاحتلال الاماراتي والسعودي، وسجون القمع والتجاوزات، ومحاولة سرقة الموانئ والجزر اليمنية بما فيها سوقطرى، ومحاولة السعودية ضم المناطق اليمنية المحاذية لعمان.. اذا اضفنا هذا كله، مع ملاحظة النقمة الشعبية لجنوبيي اليمن على الامارات والسعودية، واستياء العالم لما تقوم به الدولتان.. فإننا نعلم لماذا كانت (فشّة الخلق) السعودية دموية وعلى شكل مجازر مجنونة.

لكن هناك بُعد عقلاني لمجزرة ضحيان ـ صعدة.

فمحمد بن سلمان يعلم بأن (المدنيين) في كل حرب يمثلون الخاصرة الضعيفة في المعارك.

عدم التعرض للمدنيين مبدأ دولي.

لكن لا أمريكا ولا إسرائيل ولا السعودية ولا بلدان عديدة تلتزم به.

يمكن الالتزام به في إحدى حالتين: ان لا تكون هناك حاجة للضغط واستخدام المدنيين كأهداف ضاغطة؛ او حينما يكون هناك ردع متبادل: بمعنى حين يكون قصف المدنيين متاحاً لطرفي الحرب، فيتوقف الطرفان عن التعرض للمدنيين.

في الحالة اليمنية بالذات، فإن السعودية لا يردعها أخلاق ولا ضمير ولا إنسانية ولا قانون ولا دين عن ضرب المدنيين منذ بداية الحرب. هي توقعت ان الطرف اليمني الأضعف لا يستطيع الرد بفعل مماثل، أي بالتعرض للمدنيين في السعودية.

لهذا كانت اليد السعودية الظالمة الباطشة مفتوحة منذ بدء العدوان.

لكن مع الزمن، اكتشف آل سعود، ان الطرف اليمني يستطيع ان يضرب المدنيين ليس فقط بالصواريخ البالستية او ما هو أدنى منها (الكاتيوشا مثلا).. بل ان الأسلحة الخفيفة قادرة على إصابة المدنيين السعوديين في المناطق التي توغلوا فيها خاصة في نجران.

لكن الرياض تعلم علم اليقين بأن اليمنيين لا يردّون بالمثل رغم إمكانيتهم بفعل الشيء ذاته!

معظم او كل المدن السعودية الكبرى، غير محصّنة اليوم، لو أراد اليمنيون قصف مدنييها. لكنهم لم يفعلوها لحسابات مختلفة: دينية وسياسية وأخلاقية. لكن ابن سلمان فعلها، لينتقم من هزائمه عسكريا، ولتكون المجازر (أداة ردع) بعدم التقدّم، واجبار اليمنيين على قبول الاستسلام او الخضوع والتنازل سياسيا.

وهدف (الردع السعودي) لليمنيين بقتل مدنييهم، واضح المعالم. فأمام توغّل القوات اليمنية داخل الأراضي السعودية، وإزاء الإنكسارات المتتالية لقوى العدوان السعودي الاماراتي ومن معهما، لم يجد محمد بن سلمان الا هذه الوسيلة لتجنّب هزيمة عسكرية منكرة.

 

هذه الوسيلة تمت تجربتها وبنجاح نسبي كبير منذ بداية الحرب. وغالباً ما كان الطرف اليمني (الضحية) مضطراً للتراجع أو التوقف في زحفه وتوغله في الأراضي السعودية، منعاً للمجازر السعودية، وعلى أمل ان يكون الحل السياسي متاحاً في فترة قريبة قادمة.

لكن الحلّ تأخر، والرياض لا تبحث عن حل سلمي. وبعد معركة الحديدة والساحل الغربي، تغير الوضع، ويبدو ان قرارا قد اتخذ بالمواجهة وعدم اعتماد وسيلة الدفاع، فكانت المجازر السعودي تترى، صغيرة وكبيرة، ولاتزال.

كانت التبريرات السعودية لمجازرها بائسة جدا جدا!

في الحديدة اتهت ـ بغباء ـ اليمنيين بقصف انفسهم، في سوق السمك ومستشفى الحديدة العام!

وحين مرت المجزرة بقليل من النقد، عاود آل سعود الأمر في صعدة، وكانت تبريراتهم أنهم قصفوا منصات صواريخ في وسط سوق ضحيان، راح ضحيتها ٥٢ طفلاً في حافلة، إضافة الى ثلاثة أطفال لم تبقِ الصواريخ السعودية لهم من أثر!

هذه لم تكن غلطة تحتاج تحقيقاً، بل مجزرة متعمدة، من أجل (ترقيع سياسة الردع السعودي) لليمنيين، والتي انتهت منذ يونيو الماضي. الرياض بتكرار مجازرها تريد من جهة احتواء الزخم العسكري اليمني (المهاجِم)، ومن جهة ثانية، تريد استباق مؤتمر جنيف الذي دعا غريفيث القوى السلمية لحضوره بداية سبتمبر.

مفعول المجازر أوقع الرياض في مأزق جديد، حيث يزداد القرف الغربي منها وهو المؤيد اساسا للموقف السعودي وعدوانه، او هكذا بدا الأمر، قبل ان تدافع أمريكا وروسيا وبعض دول أوروبا عن السعودية حين أوكلت اليها في التحقيق في مجازرها!

فهل يمكن للدموي محمد بن سلمان، الذي يشن حرباً ظالمة ان يحقق في جرائمه بنفسه؟!

ما هذا السُّخف الدولي؟!

الشيء المؤكد ان المجازر السعودية لن تُرقّع سياسة الردع السعودية، ولن تُثني اليمنيين عن مواصلة الهجوم في العمق السعودي ورد العدوان، وعدم التنازل لآل سعود، لا عن ميناء، ولا عن مدينة، ولا عن منطقة او مديرية.

والشيء المؤكد الآخر، ان المجزرة أثبتت ان شعوب العالم لا تقف مع السعودية، ولا تؤيد همجيتها، بل حتى المواطنين ـ وأكثرهم مضللين ـ بدأوا بالإمتعاض من المجازر غير المبررة. المناخ العربي والاسلامي والدولي ملّ من آل سعود ومساوئهم وعنترياتهم وانتفاخهم الكاذب وسلوكهم المشين في أكثر من قضية وبينها فلسطين. الدول المؤيدة للرياض محاصرة بالنقد والاتهام بالمشاركة في الجرائم. حتى معركة آل سعود مع كندا ساهمت في تشجيع العالم ع نقد المجزرة السعودية!

والأمر المؤكد الثالث، هو أن المجازر السعودية قد فتحت بوابات الثأر اليمني، وحققت اجماعاً وتلاحماً داخلياً غير مسبوق، ورفداً للجبهات بالمقاتلين، واصطفافاً مع أنصار الله، أكثر من أي وقت مضى. من الصعب، بل من المستحيل، ان يكون للسعودية نفوذا في اليمن كبيرا ومتميزاً بعد ان فعل الطيران السعودي الأعمى أفاعيله في كل المناطق والمديريات والقبائل.

وهذا كله يدفعنا للتساؤل فيما اذا كان محمد بن سلمان قد فكر في مآلات المجازر، بعقلية براغماتية مصلحية، وما اذا كانت قد أفادته على الأرض.

لا يبدو انها افادته لا عسكريا ولا في سمعة الدولة السعودية، ولا في تطويل امد الحرب كما يريد، ولا في تحصيل اصطفاف داخلي وعربي واسلامي الى جانبه، ولا الى شق اليمنيين او تحريض بعضهم على بعض.

فهل ستتواصل المجازر السعودية لاحقاً؟

نعم.. هي تتواصل، وقد وقعت مجازر جديدة في حيران والدريهمي ايضاً!

الان لا يوجد عقل سعودي، وانما حنق وحمق أعميان!

لا توجد لدى ابن سلمان حلولا او خيارات اخرى اذا ما فشلت عملية ترقيع الردع المسعود عبر المجازر؟ السلوك السعودي غير المنضبط يقول: (سنفعل ما نريد، ولن يهمنا رأي العالم ونقده، فمعركتنا حياة او موت)! الموقف السعودي الحالي يقول: (اذا لم تؤت مجزرتا صعدة والحديدة ثمارهما، سنزيد العدد)!

بعض اليمنيين الموتورين بالمجازر، يضغطون على قياداتهم للقيام برد مماثل. وحجتهم تقول: لا يوجد لدينا خياراً آخر. فلنقصف الرياض مثلاً ان كان قصف جيزان ونجران وعسير (وهي المناطق المحاذية للحدود) ممنوعاً بسبب الجيرة والنسب والمصاهرة والعلاقات التاريخية.

ماذا اذا قرر اليمنيون الرد بالمثل واستهدفوا المدنيين السعوديين في الرياض او جدة؟!

هذا لا يقلق آل سعود، لأنهم يعلمون بأن ذلك لن يحدث. ولكن ان حدث، فهذا يفيد آل سعود، ويطلق يدهم اكثر للإيغال في الدم اليمني.

ليس امام ال سعود إلا الهزيمة في اليمن. سواء أقامت مجازر أم قبلت الصلح والحل السلمي.

لقد خسرت حرب اليمن منذ اشهرها الأولى. كانت حربا خاسرة بامتياز، والاستمرار فيها له ثمن مضاعف.

عدم الاعتراف بالهزيمة، لا يغير من واقع الأمر شيئاً.

قالها ابن سلمان من قبل: إيقاف الحرب أسوأ من الاستمرار فيها.

اليمن بكل شهدائه ومقاتليه وشعبه، يعبر قنطرة النصر على وقع المجازر السعودية!

فقط: الصبر والانتظار لنرى النهاية!

الصفحة السابقة