المملكة المتحوّلة

الشراكة السعودية ـ الروسية

هواجس وآمال معلّقة

القسم الرابع

سعدالشريف

في المنظور التاريخي، اختطت العلاقة بين الرياض وموسكو درباً متعرّجاً. وبالرغم من كثافة الزيارات، من الجانب السعودي على الأٌقل، والتفاهمات المعلنة في ملفات بالغة الحساسية ذات الصلة، على سبيل بالمثال، بالأمن القومي والإقليمي، والتسلّح، والمشروع النووي، والتسويات السياسية ذات الطابع الثنائي، فإن الحصاد النهائي لتلك التفاهمات يبدو ضئيل القيمة في البعد الجيوستراتيجي.

باستثناء ملف النفط، الذي تيقّن الجانبان السعودي والروسي ألاّ مناص من تجديد الاتفاق بشأنه على نحو يحفظ مصلحة الطرفين، بعد خسائر قياسية وقاصمة تكبّدها البلدان منذ انهيار أسعار النفط ابتداءً من أكتوبر 2014، فإن منسوب التعاون بين البلدين كان شديد الاضطراب على وقع تناقض المصالح بينهما أو نتيجة لضغوطات جمّة تقع الرياض تحت تأثيرها من حليفها الاستراتيجي، أي الولايات المتحدة، ما يجعل موسكو بمثابة الباب الدوّار الذي تستخدمه الرياض من أجل إيصال رسائل الى واشنطن لتحقيق مطالب تترد أو بالأحرى ترفض الأخيرة تلبيتها، كما في قضايا التزوّد بأسلحة نوعية، أو بناء مفاعلات نووية مرفقاً بامتياز التخصيب المحلي.

 
اول سفير روسي للرياض كريم حاكيموف

منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وتالياً نهاية الحرب الباردة، اختارت الرياض فتح صفحة جديدة مع روسيا الاتحادية على قاعدة أن الأخيرة لا تزال، برغم تبعثر الاتحاد السوفييتي، تحتفظ بقدرات وازنة إقتصادية، وعسكرية، واستراتيجية، وبالتالي وجود مساحة فارقة للمصالح المشتركة بين البلدين. ربما كان انخراط النظام السعودي في الشؤون الداخلية لعدد من الجمهوريات السوفييتية السابقة، قد جعل التواصل بين القيادتين حتمياً، لناحية معالجة قضايا مشتركة مرتبطة بدرجة أساسية بالأمن القومي.

زيارات بندر بن سلطان إلى موسكو، بصفته سفيراً سعودياً سابقاً في واشنطن وتالياً رئيساً لمجلس الأمن الوطني، وثالثاً رئيساً للاستخبارات العامة، كانت ذات طبيعة خاصة، وتتعلّق في الغالب بصفقات أو بالأحرى مقايضات، غالباً ماتكون إيران طرفاً فيها. لم يستطع بندر بن سلطان انتزاع مكاسب نوعية في الجولات التفاوضية مع القيادة الروسية، التي كانت على علم مسبق بنوايا الرياض وأهدافها البعيدة. ومن المفارقات، أن الروسي لم يكن يكتم عن حليفه الايراني ما يدبّره السعودي له في عروضه لموسكو، الأمر الذي يكشف عن عمق العلاقة بين ايران وروسيا.

في كل الأحوال، لم تدخل العلاقات السعودية الروسية مرحلة الثبات على مدى أكثر من عقدين، فقد كانت محفوفة على الدوام بالتعثّر، ولولا قناعة الطرفين بأن النفط هو الناظم لتلك العلاقة لكانت الرياض وموسكو تتجابهان بصورة دائمة، وأيضاً لولا النزعة السعودية الجنونية نحو إبعاد موسكو عن طهران لربما كانت الرياض غير متحمّسة للدخول في شراكة من أي نوع مع موسكو، لأسباب عديدة في مقدّمتها التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة بما يتعارض والمصالح الروسية، وتناقض الاتجاهات الجيوسياسية بين موسكو والرياض في الشرق الأوسط. تجدر الاشارة الى أن السعودية وروسيا خاضتا تجربة تعاون ناجحة في 2003 أدّت الى ارتفاع الاسعار، وهذه التجربة كانت هادية لكل منهما في تجارب لاحقة.

يبقى، إن الرؤية التي يعتنقها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد وضعت روسيا على جدول البلدان المستهدفة في الاستثمار على مستوى الطاقة بكل ضروبها، والسلاح بأنواعه، وكان لابد أن تختلف مقاربة العلاقة بين البلدين عمّا سبقها من مقاربات كانت تتسم بالتقطّع السريع والمحدودة.

لكن السؤال المركزي: ما هو حصاد الرؤية السعودية روسياً وبالعكس؟

زيارة الملك سلمان الى موسكو في 4 أكتوبر 2017 كانت بمثابة إقرار ضمني بالدور الحيوي لروسيا في الشرق الأوسط سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً.

من جهة ثانية، إن شبكة التحالفات التي نسجها الروس في المنطقة فرضت واقعاً جيواستراتيجياً صلباً تنوء القوى الكبرى بحمله. بنفس القدر من الصلابة، كان اتفاق واشنطن ـ موسكو في الملف السوري بدرجة أساسية هو الآخر، إقراراً أميركياً بالدور الروسي الحيوي في معادلات المنطقة.

حاجة السعودية الى التنسيق مع روسيا شمل جملة ملفات أبرزها: النفط، التعاون التجاري في مجال الصناعة العسكرية، الطاقة النووية، الاستثمارات في البنية التحتية. وفي السياسة هناك ملفات لا تقل أهمية: ايران، سوريا، تركيا، أفغانستان، باكستان.

تصريحات وزير الخارجية السعودية عادل الجبير في المؤتمر الصحافي مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، في موسكو في 5 أكتوبر2017 شدّدت على تطابق في وجهات النظر حيال ملفات المنطقة، على الأٌقل في الأزمة السورية من خلال التأكيد على دور الرياض في توحيد صفوف المعارضة المعتدلة، والمشاركة الفاعلة في مؤتمر آستانا في 30 أكتوبر من العام نفسه، وهي تنبىء من طرف ما إلى اعتراف ورغبة في تنسيق المواقف. وعليه، بدا أن السعودية أذعنت للمطلب الروسي بتجميد الملفات الخلافية وعلى رأسها مصير الرئيس السوري بشار الأسد.

في موقف لافت، وجّه لافروف نقداً غير مباشر للايديولوجية المشرعنة للنظام السعودي، يقصد الوهابية، إذ ربط بين محاربة الارهاب ومحاربة الايديولوجية المتشددّة المسؤولة عنه.

في خلاصة أولية وإجمالية، فإن روسيا، في الحقبة السوفييتية، كانت أول من زرع، وهي اليوم آخر من حصد.

 
فيصل في موسكو ١٩٣٢ ومعه حكيموف: صفقة شراء الكيروسين

من المفارقات التاريخية، أن روسيا كانت أول من اعترف بدولة ابن سعود في 19 فبراير 1926، وكان يطلق عليها حينذاك «مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها». ولعل السبب في اعتراف روسيا المبكر بها هو وجود ممثلية سابقة روسية في جدّة، قبل احتلال عبد العزيز الحجاز في 1926. وقد سعى الأخير للتقرّب من الروس في ذلك الوقت لأسباب إقتصادية، إذ أوفد نجله، الأمير فيصل، رئيس دائرة الشؤون الخارجية آنذاك، وزار موسكو لمدة 15 يوماً في الفترة ما بين 28 مايو ـ 13 يونيو1932، أي قبل شهور قلائل من الإعلان الرسمي للمملكة السعودية (21 سبتمبر 1932)، وعقد صفقة شراء مادة الكيروسين بدفع مؤجّل، وكان برفقته السفير السوفييتي في جدّة عبد الكريم عبد الرؤوف حكيموف (القنصل السابق في مدينة مشهد في ايران في العام 1921)، والذي عيّن سفيراً في العام 1924 في جدّة(1).

وكان فيصل طلب مساعدات اقتصادية من موسكو، ولكن الرئيس السوفييتي جوزف ستالين كان منكبّاً على محاربة المجاعة المتفاقمة في أرجاء الاتحاد، إلى جانب طموحه المستبد نحو الإنتقال بدولته الاتحادية كيما تصبح قوة صناعية كبيرة، فرفض طلب فيصل، في سياق رؤية سوفييتية حينذاك تقوم على غياب أفق في العلاقة مع السعودية، تماماً كما هي الرؤية السائدة حينذاك لدى الأميركيين الذين أحجموا أكثر من مرة عن فكرة التنقيب عن النفط لولا تدخّل المستشار الانجليزي للملك عبد العزيز جون فيلبي (والد الجاسوس الروسي كيم فيلبي)، لدى الشركات النفطية العالمية. في النتائج، تم استدعاء السفير السوفييتي في السعودية حكيموف في 1936، ثم أعدم لاحقاً بتهمة التجسس لصالح دولة معادية (في إشارة الى بريطانيا)، وأسدل الستار على العلاقة بين موسكو والرياض حتى العام 1990.

من المفيد الإشارة الى أن حكيموف عكف على دراسة الأوضاع الاقتصادية للمملكة السعودية وأراد تقديم المساعدة لها، وحاول إقناع القيادة السوفييتية بذلك، ولكن أزمة المجاعة المتفاقمة ذهلت موسكو عن استغلال حاجة المملكة الناشئة لناحية تطوير العلاقة معها.

وبحسب رواية أرملة حكيموف، فإن معظم الأبحاث والدراسات التي وضعها حكيموف حول الدولة السعودية الفتية لا تزال محفوظة في الخارجية السوفييتية، وتعتقد أنها لاتزال تحتفظ بقوتها وعمقها حتى الآن..»(2).

انهمك حكيموف في إعداد مسودة مشروع التعاون المشترك بين موسكو والرياض، ولكن التحوّلات الكبرى التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وقرار عبد العزيز بعد لقاء روزفلت في فبراير 1945 بالدخول في تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، أوصد أبواب التعاون والتعامل بين الطرفين، وتحوّلت السعودية الى رأس حربة ضد المعسكر الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط، وبدأت في تطوير خطاب إسلامي، يكافح الشيوعية، وليس الاستعمار، كما جاء في مقالة سيد قطب (إسلام أمريكاني) والتي نشرت في مجلة (الرسالة) في يونيو 1952. وبعد الاعلان عن مشروع إيزنهاور في 5 يناير سنة 1957، تحوّلت السعودية الى جبهة أميركية متقدّمة في مواجهة المعسكر الشيوعي في الشرق الأوسط.

وفي مرحلة الحرب الباردة الممتدة من 1947 ـ 1989 تماهت الرياض تماماً مع القطب الأميركي ضد خصمه الايديولوجي والسياسي والاستراتيجي، أي الاتحاد السوفييتي. وكانت للرياض أدوار وظيفية في تأجيج مشاعر الكراهية ضد الشيوعية والمعسكر الشرقي عموماً، ونفرت لتمويل حروب واشنطن القذرة في أمريكا اللاتينية، والقارة الأفريقية. في حقيقىة الأمر، كانت السعودية تخوض حرباً شاملة ضد الاتحاد السوفييتي، حربٌ تجمع الإيديولوجي، مع الاقتصادي، والسياسي، والأمني والاستخباري، وأخيراً العسكري والتي تظهّرت عملياً في حرب ضد القوات السوفييتية في أفغانستان في العام 1979، إذ رصدت السعودية موازنة ضخمة لتمويل الحرب، قدّرت بنحو 40 مليار دولار، وفتحت أبواب «الجهاد» ضد ما وصفته “الالحاد” الشيوعي في أفغانستان، تحت رعاية وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي آي أيه.

في المقابل، كان الدعم السوفييتي لأنظمة ماركسية في أثيوبيا، واليمن الجنوبي، وأفغانستان، يستهدف في نهاية المطاف تطويق المملكة السعودية، وصولاً الى إسقاط العائلة المالكة الحليفة للولايات المتحدة.

وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي في العام 1989، بدا أن ماضياً يطوى وفصلاً جديداً يبدأ في العلاقات السعودية الروسية. وفي بادرة إيجابية من الجانب الروسي، ضمن سياسة بيرويسترويكا (التفكير الجديد) التي انتهجتها موسكو في عهد الرئيس ميخائيل جورباتشوف، ترجمت في مساعي عضو مجلس الرئاسة، ومجلس الأمن القومي لروسيا، يفغيني بريماكوف، وزير الخارجية لاحقاً، لإقناع الرئيس العراقي صدام حسين بسحب قواته من الكويت، التي دخلتها في 2 أغسطس 1990.

 
تحالف سعودي امريكي أغلق الباب أمام عودة موسكو للرياض

في غضون التسعينيات، كانت العلاقات السعودية الروسية فاترة يتخلّلها بعض التوتر والمخاصمة، وكان لكل من موسكو والرياض روايته ودوافعه وذرائعه. لجهة السعودية، كان مبرر الخصومة يتمحوّر حول صفقات بيع السلاح الروسي الى طهران ودعم برنامج الطاقة النووية الايرانية. في هذا الصدّد، ذكرت صحيفة (كوميرسانت) الروسية في يوليو 2008 أن السعودية عرضت على الروس شراء أسلحة بقيمة 2.4 مليار دولار في مقابل وقف تعاون موسكو مع طهران. وبرغم من نفي الناطق باسم رئيس الوزراء الروسي، حينذاك، فلاديمير بوتين صحّة التقرير، إلا أن وسائل الاعلام الروسية ومسؤولين روس تحدّثوا في زيارات أخرى لمسؤولين سعوديين إلى روسيا عن العرض السعودي المتكرّر في السر والعلن(3).

لناحية روسيا، فإن المسؤلين والخبراء اتهموا بصورة علنية الرياض بدعم المتمرّدين الشيشانيين والعمل على نشر «الوهابية» بين المسلمين في روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة. وبحسب جملة تقارير، فإن السعودية تورّطت بصورة مباشرة وفاعلة في الحرب الروسية الشيشانية (1994 ـ 1996)، حيث انتقل مقاتلون كثر من الأفغان العرب الى الشيشان، وبرز من المقاتلين السعوديين من تولوا مراكز قيادية من بينهم أبو الخطاب، (وأسمه الحقيقي سامر بن صالح بن عبد الله السويلم)، واغتيل برسالة مسمومة في 20 مارس سنة 2002 بتخطيط من الاستخبارات الروسية، وأبو الوليد، (وأسمه الحقيقي عبد العزيز بن سعيد بن علي الغامدي)، الذي قرّر نقل العمليات المسلحة الى داخل الاراضي الروسية، وقضى في مواجهات مسلّحة مع القوات الروسية في 19 إبريل 2004.

تبنّت السعودية سياسة تدخّل شبه علنية في الشأن الشيشاني عبر توظيف حملات الاغاثة كبوّابة للنفوذ، وأعلنت في اجتماع وزاري برئاسة الملك فهد في 27 ديسمبر 1999 عن إرسال طائرتين محمّلتين بمواد إغاثية لمسلمي الشيشان، الذين يتعرضون «للقتل والطرد الجماعي» بحسب البيان. ونظّم التلفزيون السعودي قبيل ذلك حملة تبرعات لمسلمي الشيشان، وتبرّع الملك فهد بخمسة ملايين ريال. ووجهت السعودية اتهاماً صريحاً لروسيا «بالتظاهر بالجهل فيما يخص المواثيق الدولية لشن حربها ضد الشيشانيين»(4).

وفي 16 مايو سنة 2001 قام شخصان من أصل شيشاني باختطاف طائرة من طراز توبولوف 154 تابعة لشركة طيران فنوكوفو الروسية بعد قليل من اقلاعها من اسطنبول في رحلة إلى موسكو وإجبارها على الهبوط في مطار المدينة المنورة. وقال ألكسندر كليموف، الرئيس التنفيذي لشركة فنوكوفو، أن خاطفي الطائرة طلبا «إنهاء حملة روسيا العسكرية في الشيشان». وبرغم من نفي المتمرّدين الشيشانيين أي علاقة لهم باختطاف الطائرة، فإن السلطات الروسية وضعت عملية الاختطاف ووجهة الطائرة المختطفة في سياق الحملة العسكرية الثانية في الشيشان. وأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتشكيل فريق من مسؤولين كبار لمواجهة الأزمة، وأعرب بوتين «عن تأييده إجراء مفاوضات بهدف إنهاء عملية خطف الطائرة الروسية..»(5).

وبرغم من مطالبة بوتين الجانب السعودي تسليم الخاطفين الا أن الامير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية آنذاك، قال بأن مصير الخاطفين «ستحدّده السلطات السعودية»، فيما قال الجهاز الاعلامي التابع للرئيس الشيشاني أصلان مسعدوف أن خاطفي الطائرة الروسية «يجب أن يعاقبوا طبقاً للشريعة الاسلامية» وأن لا يتم تسليمهم الى موسكو»، وحمّلت الرئاسة الشيشانية الرئيس بوتين «مسؤولية خطف الطائرة باعتبار أن «الجرائم التي ارتكبتها القوات الروسية في الشيشان دفعت الشيشانيين الى ارتكاب هذه الأعمال»(6).

تجدر الاشارة الى أن الزخم الداخلي نحو أسلمة الحركة الانفصالية الشيشانية لم يكن نابعاً من الشعب الشيشاني بشكل عام، بل من مجموعة من أمراء الحرب والسياسيين الذين حصلوا على مناصب بارزة في الشيشان بسبب الحرب. وشملت هذه المجموعة شامل باساييف (1965 ـ 2006)، سلمان راديف (1969 - 2002)، أربي (1973 - 2001)، موفسار باراييف (1979 - 2002)، موفلادي أودوغوف ( 1962 ـ...) وسليم خان يانداربييف (1953 - 2004). وقد خضع هؤلاء الأفراد لعملية التطرف/ الأسلمة خلال الحرب الأولى.

وكان أودوغوف، زعيم حزب الأمة الاسلامية، قد ذكر علناً ان الشيشانيين يمكنهم استخدام المجاهدين الافغان في معركتهم ضد موسكو. وهناك دلائل تشير إلى أن بعض الدوائر الوهابية في السعودية اختارت أودوغوف، مع إسلام خاليموف، كدعاة لأيديولوجيتهم في الشيشان خلال الحرب الأولى، وأن المال عبر المصادر السعودية كان يتم توجيهه إلى أودوغوف. أنباء أكّدت أن تمويل حملة الأخير الانتخابية في أول انتخابات رئاسية في العام 1997 كانت من السعودية. وبعد فرارهم من الشيشان في العام 1999، سافر أودوغوف بصورة متكرّرة إلى السعودية ومصر وقيل أنه تلقّى أموالاً طائلة من البلدان العربية(7).

 
السعوديان سامر السويلم (أبو الخطاب)، وعبدالعزيز الغامدي (أبو الوليد): رأس حربة السعودية في حرب الشيشان ضد روسيا

تنبّه الروس، وفيلادمير بوتين على وجه الخصوص بصفته رئيساً لجهاز الاستخبارات الروسية، إلى أن ثمة مشاركة سعودية فاعلة بالسلاح، والأفراد، والأفكار، والأموال في الحرب الشيشانية الأولى والثانية، الأمر الذي جعل نعت «وهابي» مكافئاً للمتطرف الاسلامي.

الجدير بالإنتباه أن الانخراط السعودي في الحرب الشيشانية لم يكن مصمّماً لاستقلال الشيشان، أو حتى لإقامة دولة إسلامية، وقد طلب الرئيس الشيشاني الأسبق سليم خان يانداربييف (أغتيل في العاصمة القطرية، الدوحة، في 13 فبراير2004) مساعدة السعودية لإقامة دولة اسلامية في سبتمبر 1996، ولكن السعودية رفضت الطلب، وعارضت استقلال الشيشان عن روسيا، وتأسيس دولة إسلامية في الشيشان(8). وتكرر الطلب ذاته في حالة البوسنة والهرسك، حيت أظهرت وثائق أميركية عن مراسلة بين الملك فهد والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، بطرس بطرس غالي يوصي فيها بعدم السماح لإقامة دولة إسلامية في البوسنة والهرسك.

على أي حال، ومن المفارقات الجديرة بالإهتمام أن يسوق القدر السعوديين للتفاوض مع، فلايديمير بوتين، المسؤول الروسي الذي كان يتعامل مع ملف المقاتلين السعودييين في الشيشان وهو نفسه الذي يدير الدولة الروسية ويتصدى لملف العلاقات مع السعودية.

أدرك بوتين الفرص والمخاطر في العلاقة مع السعودية. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وضلوع 15 سعودياً من أصل 19 انتحارياً في الهجمات، توصل الأميركيون والروس الى قناعة بأنهم معاً ضحايا للإرهاب الذي تقوده السعودية. ولكن الاحتلال الأميركي للعراق في إبريل 2003 أعاد خلط الأوراق، ووجدت روسيا نفسها والسعودية في جبهة واحدة، وهو ما أظهرته مواقف البلدين من الملف العراقي إبان زيارة الملك عبد الله في سبتمبر من العام نفسه. حينذاك، بدا أن خصماً مشتركاً يضرب البلدين، متمثلاً في تنظيم القاعدة، ما ساعد على مزيد من التقارب والتنسيق، الى جانب ملفات أخرى، على رأسها ملف النفط.

سلسلة زيارات قام بها مسؤولون سعوديون في العقد الأول من الألفية الجديدة، بدأت بزيارة وزير الخارجية السابق سعود الفيصل الى موسكو في 12 إبريل 2002 لعرض المبادرة السعودية حول السلام في الشرق الأوسط، ثم عاد إلى موسكو مجدداً في الثامن من مايو من العام 2003 للتحضير لزيارة ولي العهد آنذاك، الأمير عبد الله إلى روسيا، والتي تمّت في 3 سبتمبر 2003. وكانت أول زيارة على هذا المستوى منذ تأسيس العلاقة في العام 1926، وناقش خلالها عبد الله مع الجانب الروسي أغلب الموضوعات التي تجدّد طرحها لاحقاً على مائدة سلمان ـ بوتين، ومن بينها: تمديد التعاون التجاري والاقتصادي، وبصورة رئيسية في مجالي النفط والغاز، ومبادرة الرئيس الروسي، ميدفيديف، بانضمام الوفد الروسي لفعاليات منظمة المؤتمر الاسلامي، والحرب ضد الارهاب الدولي، وإعادة إعمار العراق ما بعد الحرب، والتسوية في الشرق الأوسط(9).

ومن أبرز نتائج الزيارة، أن الطرفين نجحا في ضبط تدفق النفط في الأسواق العالمية بهدف رفع الاسعار والذي أدى الى انعاش اقتصاد البلدين، حيث بدأت أسعار النفط بالإرتفاع وتواصلت على هذا النحو لأكثر من عقد من الزمن، أي منذ العام 2004 ـ 2014، حين قرّرت الرياض من جانب واحد إغراق الأسواق العالمية بكميات كبيرة من النفط ما أدى الى انهيار الأسعار بهدف ضرب الاقتصادين الروسي والإيراني. ولذلك، فإن عودة عملاقي النفط للتفاهم مجدّداً حول آلية العرض والطلب بهدف رفع الاسعار كان لها أثر فاعل وسريع في الأسواق العالمية.

الزيارة.. رؤية 2030

لأول وهلة يمكن المجادلة، أن زيارة سلمان الى روسيا في أكتوبر 2017 يمكن وصفها بالجدّية، وأنها صمّمت لتحقيق «نتائج»، وكونها تنطوي على جرعة تفاؤل مرتفعة جداً، والتوقّعات منها عالية، حسب وكالة تاس الروسية.

في زيارات سابقة قام بها مسؤولون سعوديون الى روسيا، كانت الحصيلة النهائية تأتي دائماً زهيدة، إن لم يكن مخيّبة بالنسبة للجانب الروسي. على سبيل المثال، قام الأمير بندر بن سلطان، رئيس مجلس الأمن الوطني ورئيس الاستخبارات العامة سابقاً، بسلسلة زيارات الى روسيا، وخلفه في المهمة محمد بن سلمان، ولي العهد، وكانت تتعلق بمقايضات محدودة وذات طابع محدود (صفقة في الاقتصاد مقابل صفقة في السياسة)، أي في الترجمة العملانية صفقة أسلحة مقابل التخلي عن إيران أو الأسد. وباستثناء زيارة إبن سلمان في مايو 2017، التي أرست معالم مرحلة جديدة في العلاقة مع موسكو، فإن الزيارات السابقة كانت دائماً تنتهي الى الفشل.

زيارة الملك سلمان في أكتوبر 2017 وضعت في سياق استثنائي بالمعنى المطلق للكلمة، فقد وصفها وزير الخارجية سيرغي لافروف بأنها «حدث حقيقي حقاً»، فيما أسبغت المتحدثة باسم المجلس الفيدرالي فالنتينا ماتفينكو «آمالاً كبيرة» على وجود الملك في موسكو، وكتب القائد الشيشاني رمضان قاديروف في حسابه على الانستغرام «الحوار بين روسيا والسعودية سوف يساعد في حل النزاعات الكبرى». وبناء على مصدر دبلوماسي، فإن الزيارة الأولى لضيف رفيع المستوى في تاريخ العلاقات الثنائية قد جرى العمل عليها منذ عدّة سنوات. وقد تمّ اختيار جدول أعمال المفاوضات بعناية، وتم أخذ العامل الجيوسياسي فى الاعتبار. وفقاً للمصدر، كل شيء يعتمد على الاتصالات الشخصية لرؤساء الدول.

 
الطائرة الروسية المختطفة شيشانيا في مطار المدينة المنورة

تحضيرات الزيارة كانت على درجة كبيرة من الأهمية، فقد جرى التمهيد لها في زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الى السعودية في 10 سبتمبر 2017، التقى خلالها بالملك سلمان، وأجرى أحاديث مستفيضة مع نظيره السعودي للإتفاق على جدول أعمال زيارة الملك الى موسكو.

وبرغم من الحديث عن زيارة سلمان الى روسيا قبل عامين من الموعد الفعلي الا أن موعد الزيارة لم يقرر بصورة نهائية حتى بعد زيارة لافروف الى المملكة، ما يشي بوجود تباين في وجهات النظر حيال أجندة الزيارة وجدول أعمالها. وبرغم من الدفء الملحوظ في العلاقات، كانت لا تزال هناك خلافات بين البلدين. من نافلة القول، فإن الشائعات التي أفادت بأن الملك السعودي على وشك زيارة موسكو كان يجري تداولها بالفعل في وسائل الاعلام ودوائر الخبراء تقريباً منذ العام 1991 عندما استأنفت روسيا والسعودية العلاقات الدبلوماسية بينهما.

وتلمح تفاصيل المؤتمر الصحافي الذي عقده لافروف والجبير في جدة في 10 سبتمبر 2017 الى أهمية وحساسيّة اللحظة في منطقة الشرق الأوسط والعالم. فكان لافروف والجبير يتجهان نحو زوايا حادّة، في محاولة لإثبات الإجماع حتى في الأمور التي يختلفان فيها، لا سيما في المسألة السورية. فكان هناك إصرار لدى الرياض على تغيير النظام في دمشق، ولكن ليس على الفور، في حين كانت موسكو مقتنعة بأن السوريين وحدهم من يقرّر ذلك. واتفق لافروف والجبير على إقامة مناطق لتخفيف التوتر في سوريا، وتوحيد المنصات الثلاث للمعارضة السورية – الرياض والقاهرة وموسكو ـ في وفد واحد. وأكّد الجبير، بالتضامن مع نظيره الروسي، على احترام كل من السعودية وروسيا القانون الدولي، ومبدأ السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وفي الوقت نفسه، لم يخف الجبير ولافروف التباين في مقاربة الأزمة الخليجية حول قطر(10).

جدول أعمال زيارة سلمان شمل ملفات رئيسية مشتركة. ومما لا شك فيه أن ملف النفط كان في رأس الجدول، انطلاقا من الإتفاق بين بلدان أوبك في نهاية 2016، لناحية تخفيض الانتاج، والظروف المحتملة لإطالة أمده إلى ما بعد العام 2018.

في ظروف الزيارة، بالمقارنة مع زيارة محمد بن سلمان في 17 مايو 2015 الى موسكو حيث كانت لا تزال كفة الميدان السوري تميل لصالح الجماعات المسلّحة مثل «داعش» و»النصرة» و»الجيش الحر» و»جيش الاسلام»، هو ما جعل الموقف التفاوضي السعودي قوّياً، وبني عليه ترتيبات لمرحلة «ما بعد الأسد». ولكن الحال تبدّل منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا في 30 سبتمبر 2015.

عادل الجبير كشف في يوليو 2016 من بروكسل عن تغييرات في مواقف المملكة السعودية. فقد مدّ الجبير غصن الزيتون الى الروس، في الوقت الذي كان يصعّد اللهجة العدائية ضد ايران. وقال الجبير حرفياً: «نحن على استعداد لإعطاء روسيا حصة في الشرق الأوسط، والتي سوف تجعل من روسيا أشدّ قوة من الاتحاد السوفييتي»، وأضاف «إننا نختلف على سوريا، وليس على اللعبة النهائية، ولكن كيف نصل الى هناك». وخلص الى أن «أيام الاسد معدودة، دعنا نبرم صفقة حيث نقدر على ذلك»(11).

زيارة سلمان الى موسكو جاءت في ظروف مختلفة تماماً، وبات على الجانب السعودي القبول بالمتغيّر الميداني الكبير، والقبول بمعادلة سياسية يشكّل «بقاء الأسد» ركيزة أساسية فيها. وفي الحالة السورية، تمحور الحوار حول خلق مناطق لتخفيف التوتر، وإشراك المعارضة المعتدلة في جولة المفاوضات في آستانا آواخر أكتوبر سنة 2017.

سعت السعودية الى ضمان حصتها في التسوية السورية، بعد تفكك التحالفات السابقة التي كانت تضم تركيا وقطر، ووجود مساحات واسعة تحت سيطرة الجماعات المسلحة.

على مستوى الآمال المعقودة على نتائج الزيارة، كتبت صحيفة (كومرسانت) مقالة بعنوان (انتصار الملك) في 5 أكتوبر 2017، وذكرت أن التوقعات من زيارة سلمان الى موسكو كانت مرتفعة للغاية، بما يشمل التعاون في مجال التقنيّة العسكرية. وبحسب الصحيفة فإن ثمة احتمالات لإبرام مجموعة من عقود الأسلحة تزيد قيمتها على 3 مليار دولار، ما يعني تسليم منظومات صواريخ مضادة للطائرات من طراز S-400 إلى الرياض، وكل ذلك يعتمد على نتيجة المفاوضات(12).

على كل حال، فإن التقارب السعودي الروسي كان يرمز، نظرياً على الأقل، الى تحوّل سياسات بين طرفين لدودين. فالسعودية، من الناحية التاريخية، هي حليف للولايات المتحدة، خصم روسيا، والشريك الرئيس في اكتشاف وانتاج الخام في المملكة. لا شك في أن الطفرة المباغتة في انتاج النفط الصخري الأميركي أوجد نقطة تحوّل، والذي عزّز فرص التعاون بين الرياض وموسكو على قاعدة الدفاع عن المصالح المشتركة ضد القادم الجديد الى السوق النفطية العالمية، والعمل معاً للتوصّل الى اتفاق على تخفيض الانتاج.

وعلى الرغم من تحسّن العلاقات بين الرياض وواشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب، فإن رهانات السعودية في مجالات النفط والسياسة تبقى من خلال بناء علاقات أوثق مع روسيا التي برزت كقوة رئيسة في الشرق الأوسط في العقد الثاني من الألفية الثالثة.

التعاون الاقتصادي
 
يندرباييف يطلب مساعدة الرياض لإقامة دولة إسلامية في الشيشان

يبدي الجانب الروسي تفاؤلاً في تطوير العلاقة مع السعودية الى مستوى الشراكة الاقتصادية في الحد الأدنى، فيما تسعى الرياض الى توسيع دائرة علاقاتها الخارجية، ولاسيما مع روسيا، بعد أن أصبحت قوة فاعلة في الشرق الأوسط، وقادرة على التأثير في ملفات سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن، كما في ملفات النفط، والأمن الاقليمي، والصراع العربي الاسرائيلي.

يعوّل الروسي، كما تعكس تحليلات الصحافة الروسية، على فصل جديد في العلاقة مع الرياض بعد تنصيب محمد بن سلمان ولياً للعهد، الذي أظهر حماسة في التقارب مع روسيا، وتوظيفه في الخطة الاستثمارية السعودية لمرحلة ما بعد النفط.

وقد نجحت موسكو عبر المنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبرج بين الأول والثالث من يونيو 2017 في استقطاب اهتمام المسؤولين السعوديين، حيث شارك وزير الطاقة السعودي خالد الفالح في المنتدى، بعد اسبوع من اتفاق منظمة البلدان المصدرة للبترول أوبك على تمديد تخفيضات الإنتاج لمدة تسعة أشهر بالتعاون مع منتجين من خارج المنظمة من بينهم روسيا.

في زيارة الفالح الى موسكو تلقى تأكيداً من الرئيس الروسي بوتين بالتزام بلاده بسقف الانتاج المتفق عليه مع دول أوبك. في المقابل، لم يستبعد الفالح أن يعود الروس إلى المملكة باستثمارات أكبر وأعمق من مشروع «لوكسار» في صحراء الربع الخالي، الذي انتهى دون أن يبدأ الإنتاج من الغاز الطبيعي، والذي كان المشروع الوحيد المشترك بين البلدين. ونقلت وكالة «تاس» الروسية للأنباء عن الفالح قوله إن السعودية ستدرس الاستثمار في شركة «أوراسيا دريلينغ»، ومن المحتمل أن يكون لـ»أرامكو» و»أوراسيا» مشروع مشترك يقدّم الخدمات النفطية(13).

نظرياً أيضاً، يفترض أن يشمل التعاون الروسي السعودي إنشاء محطات للطاقة النووية المتجدّدة. وقد أرسلت شركة روساتوم الحكومية مقترحات الى الجانب السعودية لبناء معمل للطاقة النووية في السعودية، بحسب أليكسي ليخاتشيف، رئيس الشركة. وقال: «أتمنى التوصّل الى اتفاق على التعاون في مجال الطاقة النووية السلمية ومجالات أخرى، مثل المصادر المتبدّلة للطاقة النووية، الصغيرة والمتوسطة الحجم، والبحث العلمي»(14).

مجالات اقتصادية حيوية طموحة، ولو قدّر لها النجاح، فإنها ترسم مستقبل الشراكة الروسية السعودية في قطاع الطاقة، بما يشمل الطاقة النووية، والسلاح. تجدر الإشارة الى أن السعودية وروسيا تنتجان ما يقرب من ربع النفط العالمي، وأن الاتفاق بينهما يترك تأثيراته المباشرة على سوق النفط وعلى معدل الأسعار.

في القطاع النفطي، تتطلع الشركات الروسية للاستثمار في مجال تطوير النفط والغاز، على غرار الاتفاق الذي منح لشركة (Lukoil) في 2007، أي قبل زيارة بوتين للرياض في فبراير من العام نفسه لتطوير حقل الغاز الطبيعي في الربع الخالي، بعد فشل المفاوضات بين الرياض والشركات البترولية الغربية لناحية تطوير حقول الغاز في السعودية.

لابد من الإشارة الى أن الاستثمار السعودي في إنتاج الغاز الروسي يعكس مشروعاً مشتركاً غير ناجح في وقت سابق، حين أمضت شركة لوكويل الروسية أكثر من عقد من الزمن في محاولة لتطوير رواسب الغاز في منطقة الربع الخالي.

وكانت السعودية تطمح مع اقترب موعد طرح ارمكو للاكتتاب العام، وبحسب خالد الفالح وزير الطاقة، الى الاستثمار في شركات النفط الروسية، مثل (يوراسيا) بهدف تخفيض كلفة التنقيب والانتاج في أرامكو(15). في المقابل، كان صندوق الاستثمار الروسي يسعى للتوقيع على ثلاث اتفاقيات حول إنشاء صناديق جديدة مع صندوق السيادة السعودي - صندوق الاستثمار العام، وكانت تقدر أصوله بـ 183 مليار دولار، على أن ينمو إلى 2.5 تريليون دولار بسبب الاكتتاب العام في أرامكو السعودية في منتصف 2018.

يذكر أن صندوق استثماري سعودي للطاقة قد وعد في يونيو 2015 باستثمار 10 مليارات دولار في المشاريع الروسية التي كانت صفقة قياسية للصناديق السيادية في العالم، وقد تمّ التوقيع على الاتفاقية خلال زيارة محمد بن سلمان في مايو 2017 إلى روسيا. وجرى الاتفاق على إنشاء ثلاثة صناديق جديدة في إطار هذا المبلغ، وتحدّد البرنامج لذلك(16). بطبيعة الحال، ليس كل ما يقال هنا قد يجد طريقه الى حيز التنفيذ.

وكان لقاء بوتين ـ محمد بن سلمان في العام 2015 شمل التداول في سبل التعاون المشترك في مجالات الطاقة، والتسلّح، والاستثمار في مجال الغاز. وأبرم الجانبان 6 اتفاقيات “استراتيجية”، تشمل بناء 16 مفاعلاً نووياً، وقّعها عن الجانب الروسي سيرغي كيريينكو، رئيس وكالة «روساتوم»، وتوقّع أن تصل قيمة الاتفاقية إلى 100 مليار دولار، كما شملت شراء منظومات صواريخ (إسكندر)، وبرنامجاً للتعاون في مجال الطاقة، في ظل حاجة السعودية للتنسيق التام مع روسيا لضبط آلية العرض والطلب وصولاً الى رفع أسعار النفط، وتالياً معالجة أزمة عجز الموازنة السعودية المتراكم منذ أكثر من عامين. تبقى هذه المشاريع بمثابة قائمة تمنيات لم يتم تسييلها في هيئة مشاريع فعلية حتى إشعار آخر، وهو ما يجعل الروس في حالة ارتياب دائم من الطريقة التي تعلن فيها الرياض عن نواياها.

لابد من الاشارة الى أن العلاقات التجارية بين السعودية وروسيا لم تتطوّر بشكل كبير برغم تحسن العلاقات منذ العام 2005. وإن اجمالي التبادل التجاري بين البلدين حتى عام 2007 لم يتجاوز مليار دولار. وفي مارس 2007، وقّعت شركة (Stroitransgaz) عقداً بمدّ شبكة أنابيب نفط بطول 217 كم لحساب شركة أرامكو، ولكن لم تتجاوز قيمة الصفقة 100 مليون دولار. وفي يناير 2008 حصلت شركة القطارات الروسية (RZD) على صفقة بقيمة 800 مليون دولار لبناء سكة حديد بطول 520 كم في المملكة، ولكن الأخيرة ألغت الصفقة بعد شهور أربعة من التوقيع(17).

 
سعود الفيصل في موسكو.. بداية علاقات متأخرة وغير جدية

يلفت اليكسي مالاشينكو، رئيس معهد أبحاث «حوار الحضارات»، إلى أن التعاون الاقتصادي بين موسكو والرياض، على الرغم من الإعلانات المتكررة لتقارب المصالح، لا يزال عند مستوى منخفض. ولا يعتقد بأن البيانات الحالية ستؤدي إلى اختراق بسبب الخلافات المستمرة في السياسة الخارجية (الرياض هي حليف واشنطن الأكثر أهمية في المنطقة).

ووفقاً لوزارة الخارجية الروسية، فإن التبادل التجاري الاجمالي بين روسيا والمملكة السعودية بحلول نهاية عام 2016 وصل إلى 491.7 مليون دولار فقط. وفي النصف الأول من العام 2017، بلغت قيمة التبادل التجاري 332 مليون دولار. وتبلغ حصة المملكة السعودية في التجارة الخارجية للإتحاد الروسي 0.1٪.

وعليه، فإن زيارة الملك سلمان شكّلت اختباراً عملياً لمدى جدّية الرياض في العلاقة مع موسكو، خصوصاً مع منسوب التوقعات المرتفع للغاية في المجال الاقتصادي على وجه خاص. وبحسب أرتيوم مالوف، كبير المحللين في مركز سكولكوفو للأعمال التجارية، فإن سوق خدمات حقول النفط في المملكة السعودية ممثلة بشكل رئيسي من قبل الشركات الأجنبية مثل شلمبرجير، وهاليبرتون، وبيكر هيوز، وويثيرفورد.

ووفقاً لمالوف، فإن السلطات السعودية تفكّر في توطين الإنتاج، على وجه الخصوص، إذ تعتزم أرامكو السعودية شراء 70٪ من الخدمات والمعدات من خدمات حقول النفط في البلاد بحلول العام 2030. وترجح كفة روسيا في تكنولوجيا الانتاج المرتبطة بمعدات النفط والغاز، بسبب التجربة الطويلة، وكذلك التخزين، وخطوط الأنابيب. ولكن يعتقد أرتيم مالوف “فيما يتعلق بهذه الخدمات، مثل التنقيب والحفر، يبدو أن التعاون الواسع النطاق في هذه المجالات غير مرجح”(18).

في النتائج، لا يبدو أن تغييراً ملحوظاً طرأ على التبادل التجاري بين البلدين. ففي قمة قازان الاقتصادية العاشرة التي تجمع روسيا مع دول العالم الاسلامي في مايو 2018، كشف رئيس اللجنة الوطنية التجارية التابعة لمجلس الغرف السعودية، سليمان بن إبراهيم العييري، بأن حجم التبادل التجاري بين روسيا والسعودية منخفض وقال “نحن نسعى أن يكون مستوى التبادل التجاري بشكل كبير وقوي، يليق بالبلدين، حيث إن روسيا والسعودية تتمتعان بأقوى الاقتصادات في العالم ضمن مجموعة العشرين، ولذلك من المفترض أن يكون التبادل بين البلدين على مستوى القوة الاقتصادية للبلدين”(19).

وبصورة إجمالية، فإن حجم التبادل التجاري بين روسيا والسعودية لا يزال منخفضاً للغاية ولم يتجاوز نصف مليار دولار، برغم من توقيع «تفاهمات» تجارية في عدد من القطاعات. وبطبيعة الحال، فهو لا يشابه التبادل التجاري بين روسيا والامارات التي دخلت في شراكة استراتيجية منذ 1 يونيو 2018 مع زيارة ولي العهد محمد بن زايد برغم من أن التبادل التجاري بين البلدين تراجع في العام 2017 الى 1.569 مليار دولار بعد أن بلغ 3.7 مليار دولار في العام 2015(20).

في حقيقة الأمر، أن الملف النفطي وحده المجال الأكثر تفاعلاً بين الرياض وموسكو، لحاجة الطرفين الملّحة للتنسيق بغية رفع الأسعار لتحسين الوضع الاقتصادي الضاغط. إن الزيارة التي قام بها محمد بن سلمان، ولي العهد، الى موسكو في يونيو 2018 جاءت عقب وقف موسكو العمل بخطة تخفيض الانتاج وبدء ضخ كميات إضافية من النفط في الأسواق العالمية والمتزامن مع زيادة نشاطات الحفر الأميركية إلى أعلى مستوياتها في أكثر من ثلاث سنوات والذي أضعف جهد منظمة أوبك لكبح الإنتاج منذ أوائل 2017، والتي دفعت الأسعار إلى الارتفاع بقوة في النصف الأول من السنة(21).

وكان ابن سلمان توصّل الى اتفاق مع موسكو في منتصف أكتوبر 2015 من أجل تخفيض الانتاج النفطي بهدف رفع الأسعار. وبحسب صحيفة (موسكو تايمز) أن موسكو، من جانبها، اتخذت خطوة نحو الرياض إلى أنه سيكون من الممكن مناقشة إنتاج النفط مع أوبك(22).

الاستثمار العسكري

بعد مرور أربعة أشهر على إبرام عقود تسلح مع إدارة ترامب بقيمة 350 مليار دولار، إضافة الى 11 مليار دولار تقرّر استثمارها في البنية التحتية داخل الولايات المتحدة على مدى عشر سنوات، فإن زيارة الملك سلمان الى موسكو حملت تباشير، وإن محفوفة بالشكوك، لانعاش سوق السلاح الروسي..

شركات السلاح الروسية لها حصّة، من الناحية النظرية على الأقل، في برنامج الاستثمارات في السعودية، وجرى الحديث حول افتتاح مصانع للسلاح الروسي في السعودية، من بينها تصنيع رشاش (كلاشينكوف) المشهور.

فيما يرتبط بصفقة منظومة صواريخ S-400 الروسية المتطوّرة والتي أعلن عنها في 5 أكتوبر 2017، فإن السعودية تعد الزبون الثالث، الافتراضي، بعد الصين وتركيا. وكانت الصين وقّعت عقداً في هذا الصدد في سبتمبر 2014، فيما أبرمت تركيا في سبتمبر 2017، وتقرر حصول بكين على هذه الأنظمة بعد العام 2018، وأنقرة بعد العام 2019. ولن يبدأ انتاج نظام الرياض الا بعد حصول وكالة (ROSOBORNEXPORT) الرسمية المعنية بتصدير الأسلحة الروسية للخارج، على الدفعة الأولى من ثمن الصفقة، وبحسب أحد المسؤولين: “لا ينبغي أن يكون هناك أي سوء فهم بيننا”(23).

 
الملك عبدالله في الكرملين

لقاء الملك سلمان مع وزير الدفاع وفريق مبيعات الأسلحة الروس كان ينبىء عن قاعدة من الثقة المتبادلة غير متينة، وكأن الفريق العسكري الروسي أراد أن يسمع كلمة الفصل في المشتريات السعودية مباشرة من الملك سلمان بصفة شخصية ومباشرة، بسبب التجارب السابقة غير المريحة للجانب الروسي، حين كان يسمع الأخير وعوداً ما تلبث أن تتبخر..

سيرغي تشيميزوف، رئيس روستيخ (أكبر شركة حكومية متخصصة في عملية تصميم وتصنيع وتصدير المنتجات الصناعية ذات التقنيات العالية والطابعين المدني والعسكري وذات الاستخدام المزدوج وتضم ما يزيد على 700 شركة)، قال بأن: «المملكة وقّعت مع الشركة الروسية على اتفاق أولي في مجال التعاون العسكري التقني بقيمة 3.5 مليار دولار».

السعودية اشترطت نقل التكنولوجيا العسكرية الى داخل أراضيها لتمرير الصفقة، وبناء مصنع لإنتاج بعض الأسلحة الروسية. ولفت الى أن «مفعول العقد يبدأ، عملياً، إذا شاركناهم بجزء من التقنيات وبدأنا الإنتاج في أراضي المملكة. نحن نفكّر في ما يمكننا مشاركته معهم. وأبسط شيء هو بناء مصنع لإنتاج الأسلحة الصغيرة، على سبيل المثال، بندقية كلاشنيكوف المعروفة.”

تشيميزوف أبدى شكوكاً في إتمام الصفقة، بناء على تجارب الصفقات السابقة بين الطرفين إذ لم يكن مطمئناً على الإطلاق «وقّعنا عقوداً بقيمة 20 مليار دولار مع المملكة السعودية قبل خمس سنوات، لكنها لم تكن مجدية لأن الصفقة لم تحرز تقدّماً أبعد من إبداء النوايا. لم تشتر الرياض أي شيء في ذلك الوقت.”

ويأتي الاتفاق المبدئي بين الرياض وموسكو عقب لقاء عقد بين الفريق أول الكسندر فومين، نائب وزير الدفاع الروسي، مع الفريق الركن فياض حامد الرويلي، نائب رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش السعودي، وإبداء المملكة اهتمامها بشراء أحدث الأسلحة الروسية.

وجرى اللقاء على هامش مؤتمر موسكو السادس للأمن الدولي في إبريل 2017. وقال فومين خلال اللقاء إن التعاون العسكري الدولي بين البلدين شهد تكثيفاً كبيراً خلال السنوات الماضية، وأكّد أن روسيا تدرس قائمة كبيرة بأنواع الأسلحة الحديثة التي عبّرت الرياض عن الاهتمام بشرائها. في المقابل، أكّد المسؤول الروسي تصميم وزارة الدفاع الروسية على التطوير المستدام للتعاون الثنائي بين روسيا والسعودية في المجال العسكري التقني، مضيفاً أن الجانب الروسي يأمل في مواصلة الحوار المفتوح والصريح حول كافة المسائل التي يهتم بها الطرفان(24).

وكانت تطمح السعودية في الحصول على أنظمة صواريخ مضادة للدبابات المطوّرة، وقاذفات قنابل يدوية AGS ـ30، ويخطط السعوديون “لاتقان دورة كاملة من التجميع والانتاج” وصولاً الى “توطين” السلاح الروسي في الداخل السعودي.

يبقى، أن مطالبة السعوديين بنقل التكنولوجيا العسكرية في إطار ابرام العقود، كانت دائماً تخلق صعوبات في المفاوضات، برغم من إجراء الاتفاقيات على أعلى المستويات والذي يفترض أنه «يساعد فى حل هذه القضية».

وفي ضوء تجارب سابقة، فإن مسؤولي الصناعة العسكرية الروسية مرتابون إزاء الطريقة السعودية في إبرام الصفقات، وقد أثاروا أكثر من مرة أسئلة حول التزام السعوديين بما يقولون. ويذكر المحاورون الروس لصحيفة (كومرسانت) الروسية أن مذكّرة التفاهم الروسي السعودي ليست ملزمة قانوناً، ولكنهم يأملون في أن «يحتفظ الشركاء السعوديون بالإهتمام الذي أظهروه خلال الاجتماع بين الرئيس والملك»، فيما امتنع المسؤولون في «”Rosoboronexport والخدمة الإتحادية للتعاون العسكري التقني عن الإدلاء بتعليقات إضافية.

مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات رسلان بوخوف يشير إلى أن كلمة الملك سلمان أمام بوتين تستحق مفاوضات مطوّلة من الخبراء. وقال «هذه المرة، حتى وان كان السعوديون نفوا مرتين اتفاقات شراء الاسلحة، فاذا لم تكن هناك كارثة، فانهم سيبقون على كلامهم». ويرى أن بناء مصنع لإنتاج البنادق الهجومية من طراز كلاشينكوف أمر معقول، نظراً لأن الأسلحة الصغيرة الخفيفة للمملكة السعودية هي مادة قابلة للاستهلاك وتستفيد منها الرياض. ولكن من الصعب الحديث عن التوطين الجزئي لـ S-400 حتى في المدى الطويل الأجل، ويعتقد السيد بوخوف: «هناك تقنيات في هذا النظام لا ينبغي تقاسمها حتى مع الشركاء الأكثر ثقة»(25).

وقد سعت موسكو على مدى عشر سنوات لدخول سوق الأسلحة في الرياض. ونوقشت حزم العقود بقيمة 20 مليار دولار، ولكنها لم تصل أبداً إلى عقود ثابتة. وبحسب سيرجي تشيميزوف، رئيس روستيخ، فإن هذا عامل جيوسياسي: «إذا سمّينا الأشياء بأسمائها الخاصة، فإن السعوديين لعبوا معنا، لا تزوّدوا إيران بأنظمة الدفاع الجوي S-300 وسنشتري أسلحتكم - الدبابات وغيرها من المعدات،» وبالطبع لم تلتزم موسكو بشروط الرياض، وقامت بتزويد طهران بأنظمة الدفاع الجوي هذه، ما دفع السعودية للتراجع عن إتمام الصفقة.

في المفاوضات التي جرت بين بندر بن سلطان في سبتمبر 2008، ومسؤولين من الخدمة الفيدرالية الروسية للتعاون العسكري ومن «”Rosoboronexport، حول شراء أنوع من الاسلحة تشمل دبابات، وطائرات هيلوكبتر، وصواريخ ولكن كل المفاوضات انتهت الى لا شيء، تماماً كما لم يتم التوصّل الى أي اتفاق في قطاع الطاقة. تجدّد الأمل الروسي في زيارة الملك سلمان الى موسكو في أكتوبر 2017، لا سيما وقد أبدى الجانب السعودي جديّة زائدة في بناء علاقة متينة مع الجانب الروسي من خلال سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية الممهدّة لشراكة طويلة الأجل.

العقدة الإيرانية

ظلّ الجانب الروسي يتطلع لسنوات طويلة نحو صفقات عسكرية مع السعودية، وكذلك فتح الأبواب أمام الشركات التجارية الروسية للعمل في القطاع النفطي في المملكة السعودية. ولكن، وبحسب تقارير صحافية روسية في 2008، أن الرياض تربط مشتريات السلاح الروسي بنأي موسكو عن طهران.

وكان الشرط السعودي بابتعاد موسكو عن طهران حاضراً في كل زيارات المسؤولين السعوديين الى روسيا. وكان وزير الخارجية السابق سعود الفيصل واضحاً في زياته الى موسكو في فبراير 2008 بأن المملكة سوف تمنح عقود سلاح سخية لروسيا، على شرط الحد من التعاون العسكري مع ايران. وخلال زيارة الأمير بندر بن سلطان الى العاصمة الروسية في يوليو 2008، أعاد المطالب السعودية الى كل من ميدفيدف وبوتين(26).

وبحسب صحيفة (Kommersant) الروسية، في لقاء سعود الفيصل مع بوتين في فبراير 2008، نقل رسالة شخصية من الملك عبد الله، إذ عبّرت الرياض عن قلقها إزاء تعاظم نفوذ إيران في الشرق الأوسط. واقترحت سلطات المملكة على موسكو تخفيص مستوى تعاونها مع طهران، في مقابل منح الجانب الروسي عقوداً تجارية سخية مع المملكة. في حقيقة الأمر، أن المطلوب من روسيا كان التخلي عن شريكها الرئيسي في الشرق الأوسط(27).

ولكن رئيس الوزراء الروسي حينذاك، فلاديمير بوتين، كان واضحاً أيضاً بأن روسيا ترفض القيام بذلك. وكما يظهر، فإن كل طرف كان يأمل تنازل الآخر، ولم يحصل ذلك طيلة السنوات الماضية، ولكن في زيارة سلمان الى موسكو حصل التنازل من الجانب السعودي(28).

وبخلاف الحوارات السابقة، فإن الملف الإيراني كان له حصة في المفاوضات ولكن على قاعدة مختلفة تماماً، برغم من تفهّم القيادة الروسية لمخاوف الرياض من إيران، وبحسب مصادر صحيفة «كومرسانت» الروسية: «بالنسبة للرياض، كانت العلاقات الروسية الإيرانية بمثابة عظم في الحلق منذ عدة سنوات..» ولذلك، أعدّت موسكو إجابة للرياض في هذا الصدد.

الكرملين كان قد أعلن قبيل زيارة سلمان موسكو بأن التعاون مع المملكة السعودية لن يلحق أي ضرر بالعلاقات الروسية الإيرانية، لأن هذين المسارين متوازيان. وأعرب المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف عن تقدير موسكو العالي لاتصالاتها التقليدية مع الرياض. ونقلت وسائل الإعلام الروسية، عن بيسكوف قوله إن هذه العلاقات «مكتفية بذاتها»، وتمثّل مساراً مستقلاً في سياسات روسيا الخارجية، إنطلاقاً من المكانة بالغة الأهمية التي تشغلها السعودية في المنطقة والعالم العربي برمته، مشدّداً على أن العلاقات مع الرياض لن تتأثر بالاتصالات الروسية الإيرانية(29).

وتتعاون موسكو وطهران بصوّرة وثيقة وفعّالة في القضية السورية، باعتبارهما ضامنين للهدنة، التي دخلت حيز النفاذ في ديسمبر 2016، وأيضاً في تنسيق الحوار بين السوريين في محادثات أستانا. بطبيعة الحال، فإن السعودية سعت، بكل ما في وسعها، إلى استبعاد طهران من التسوية السياسية السورية(30).

خلاصة:

أظهر الطرفان السعودي والروسي حماسة فائقة لناحية بلوغ العلاقات الثنائية مستوى جديداً، ولا شك أن المشتركات سواء كانت مصالح أو أخطاراً تجعل التقارب بين الرياض وموسكو شبه حتمي. على خلاف العهود السابقة، فإن كثافة الزيارات السعودية الى موسكو، لاسيما في غضون عامي 2015 و2016 تنبىء عن رغبة جديّة في بناء شراكة اقتصادية وعسكرية مع روسيا.

قد لا تتفق موسكو والرياض في عدد من الملفات السياسية في المنطقة، وعلى رأسها سوريا وإيران، وإلى حد ما قطر، ولكن هي تباينات قابلة للتجميد، أو حتى التجاوز، في مقابل مصالح اقتصادية واستراتيجية حيوية وعاجلة.

أنبأت زيارة سلمان بأن فصلاً جديداً ومفصلياً قد بدأ في العلاقات السعودية الروسية، يفتتح بالإقتصاد ولا ينتهي بالسياسة، ولكن ذلك كان كله مرهوناً بالمتغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. وعلى ما يبدو، فإن الصمت الذي ساد مرحلة ما بعد الزيارة، بما في ذلك سير الصفقات العسكرية والنووية والتجارية التي تمّ التوصل اليها، جدّد الشكوك حول نتائج الزيارة برمتها، بالنظر الى عدم وجود مؤشر على ما كانت موسكو تأمله من الرياض، ما خلا التنسيق الثابت في الملف النفطي. وهذا ما كشفت عنه زيارة ولي العهد محمد بن سلمان الى موسكو في يونيو 2018 حيث اقتصر النقاش على «تمديد اتفاقية أوبك لخفض انتاج النفط، وجعلها اتفاقية دائمة”.

من جهة أخرى، لفّ الغموض بقية التفاهمات حول شراء منظومة اس 400 وبناء المفاعلات النووية وغيرها. وتقدّم تصريحات ديفيد شينكر مرشح الرئيس الأميركي دنالد ترامب لشغل مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى دليلاً على قدرة واشنطن في لجم رغبة حلفائها في إبرام صفقات لا تحظى برضاها. وبحسب شينكر فإنه سيصرف نظر دول مثل السعودية وقطر ومصر عن إبرام صفقات أسلحة مع روسيا قد تقتضي تطبيق العقوبات الأمريكية. وقال في جلسة في مجلس الشيوخ للتصديق على ترشيحه «سأعمل مع حلفائنا لصرف نظرهم...أو تشجيعهم على تجنب عمليات شراء أسلحة قد تكون مشمولة بالعقوبات”. وتابع قائلا «بمعنى آخر..سأقول للسعودية ألا تفعل ذلك”. فيما قال السناتور بوب منينديز، كبير الديمقراطيين في لجنة العلاقات الخارجية «تلك الكيانات التي هي حليفة لنا يجب أن تفهم أن بموجب القانون الأمريكي...شراء مثل تلك الأنظمة في النهاية خاضع للعقوبات وسندفع بقوة فيما يخص تطبيق تلك العقوبات إذا ما قرروا فعل ذلك وآمل أن توصل ذلك من خلال منصبك”. ورد شينكر قائلاً «بالقطع”(31).

كمحصّلة، يبدو مشهد العلاقات السعودية الروسية ضبابياً الى حد كبير، ويحاول الطرفان التكتّم على مفاعليه الحقيقية. لاريب أن ثمة مصالح مشتركة تستدعي تعاوناً دائماً، لا سيما في مجال النفط، أما في المجالات التي تتقاطع فيها مع مصالح الولايات المتحدة يبدو فيه التعاون هزيلاً إن لم يكن معدوماً، فيما تخضع ملفات أخرى لضغوط الحليف الأميركي الذي بيده الحل والعقد، وعلى الجانب الروسي أن يتفهم ذلك لدواعي الحفاظ على المستوى المتيّسر من التعاون المشترك.


المصادر

1- في العام 1929 نقل حكيموف الى صنعاء تحت حكم الامام يحيى حميد الدين، ثم عاد في العام 1934 إلى موسكو لاستكمال دراساته العليا، وفي العام التالي طلب منه التوجّه الى المملكة السعودية، ولكن في العام 1936 أستدعي على عجل مع البعثة الدبلوماسية السوفييتية الى موسكو، وفي شتاء العام 1937 أقتيد الى سجون الاستخبارات السوفييتيه كي جبي بي في الحقبة الستالينية، وجرى إعدامه لاحقاً، بتهمة «التخابر مع جهات أجنبية» وأنه «جاسوس لدولة معادية»، بحسب أرملة حكيموف، خديجة. وتذكر أرملة حكيموف أن من بين من كان يتردد على السفارة السوفييتية المستشار الانجليزي جون فيلبي، وتذكر بعض الوثائق أن السفارة كانت تخضع للمراقبة.

2- خديجة خانم تكشف أسرار أول سفير سوفييتي في السعودية، مجلة (المجلة)، 12 إيلول 2013، أنظر:

https://goo.gl/NBSLvK

3- Alexander Gabuyev, The Arab seduction, Russian Press

Digest – Russica Izvestia July 15, 2008;

http://www.biyokulule.com/view_content.php?articleid=1341

4- مواد إغاثة سعودية للاجئي الشيشان، بي بي سي أونلاين، 28 كانون الأول 1999، أنظر:

http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_580000/

580922.stm

5- اختطاف طائرة روسية وإجبارها على الهبوط في مطار المدينة المنورة، صحيفة (الجزيرة) الرياض، 21 ذي الحجة 1421هـ/16 أيار 2001، أنظر:

http://www.al-jazirah.com/2001/20010316/t/ln2.htm

6- الرئيس الروسي يبعث ببرقية للملك فهد ممتدحا أسلوب تحرير رهائن الطائرة ومطالبا بتسليم الخاطفين، صحيفة (الشرق الأوسط)، 18 آذار 2001، أنظر:

http://archive.aawsat.com/details.p?issueno=8070&article=30914#.WdizMFu0OM8

7- JULIE WILHELMSEN, Between a Rock and a Hard Place:

The Islamisation of the Chechen Separatist Movement,

EUROPE-ASIA STUDIES Vol. 57, No. 1, January 2005, 35 – 59;

http://werzit.com/intel/classes/amu/classes/lc514/

LC514_Week_08_The_Islamization_of_the_Chechen_

Separatist_Movement.pdf

8- JULIE WILHELMSEN, Between a Rock and a Hard Place: The Islamisation of the Chechen Separatist Movement,

EUROPE-ASIA STUDIES Vol. 57, No. 1, January 2005, 35 – 59;

http://werzit.com/intel/classes/amu/classes/lc514/

LC514_Week_08_The_Islamization_of_the_Chechen_

Separatist_Movement.pdf

Quoted from: Aleksandr Zhilin, ‘Chechenskaya filosofiya

po-Kremlevski’, Nevskoe vremya, 17 September 1996

9- President Vladimir Putin held negotiations with Abdullah ibn Abdul Aziz al Saud, the Crown Prince of Saudi Arabia,

The Kremlin, Moscow, September 2, 2003;

http://en.kremlin.ru/events/president/news/29294

10- https://www.kommersant.ru/doc/3407847

11- BARBARA SURK, ‘Never write off Saudi Arabia’, Politico, 22 July 2016;

http://www.politico.eu/article/dont-write-off-saudi-arabia-diplomatic-charm-offensive-brussels-russia-iran/

12- Ivan Safronov, Tatiana Edovina ,”Triumph” for the monarch, Kommersant, 5.10.2017;

https://www.kommersant.ru/doc/3429291

13- من أرامكو إلى القطب الشمالي... عهد جديد للتعاون الروسي ـ السعودي، صحيفة (الشرق الأوسط)، 3 حزيران 2017، أنظر:

goo.gl/d4B7aT

14- أنظر وكالة تاس:

http://tass.com/economy/969120

15- Saudi Arabia Weighs Russia Deals, Deepening Energy Ties, By Wael Mahdi , Elena Mazneva , and Ilya Arkhipov,

October 3, 2017;

https://www.bloomberg.com/news/articles/2017-10-03/

saudi-arabia-is-said-to-plan-russia-deals-deepening-energy-ties

16- Ivan Safronov, Tatiana Edovina ,”Triumph” for the monarch, Kommersant, 5.10.2017;

https://www.kommersant.ru/doc/3429291

17- Alexander Gabuyev, The Arab seduction, ussian Press

Digest – Russica Izvestia, July 15, 2008;

http://www.biyokulule.com/view_content.php?articleid=1341

18- The Saudi King is promised an oilfield service Riyadh may become a shareholder of EDC, Kommersant, 10/03/2017;

https://www.kommersant.ru/doc/3427908

19- https://goo.gl/xzr3kz

20- موسكو وأبوظبي توقعان على إعلان شراكة استراتيجية، موقع آر تي بالعربي، 1 يونيو 2018، أنظر:

https://goo.gl/CKXcdb

21- https://goo.gl/G9dTYJ

22- Is a Russia-Saudi Deal on the Horizon? Moscow Times,

Ocotober 12, 2015;

https://themoscowtimes.com/articles/

is-a-russia-saudi-deal-on-the-horizon-50218

23- أنظر موقع

(ROSOBORNEXPORT):

http://roe.ru/eng/

24- السعودية تتطلع لشراء أحدث الأسلحة الروسية، روسيا اليوم، 24 نيسان 2017، أنظر:

goo.gl/gFGJFJ

25- Эр-Рияд получит огня, ракет и гранат Россия и Саудовская Аравия как никогда сблизились в вопросах поставок С-400; Komersant, Ocotber 6, 2017;

https://www.kommersant.ru/doc/3429985?from=four_strana

26- Julien Nocewtti, From Moscow to Mecca: Russia’s Saudi

Arabian Diplomacy, IFRI, Russian/NIS Center, June 2010,P20;

https://www.ifri.org/sites/default/files/atoms/files/

ifrinocettirussaudiarabiaengmay2010.pdf

27- Mark N. Katz, SAUDI-RUSSIAN RELATIONS SINCE THE

ABDULLAHPUTIN SUMMIT, Middle East Policy,

VOL. XVI, NO.1, SPRING 2009;

http://ebot.gmu.edu/bitstream/handle/1920/5586/

Saudi%20Russian%20Relations%20MEP%

202009.pdf?sequence=1&isAllowed=y

28- Saudi-Russian Relations: 1979-2009, By Mark N. Katz | Professor of Government and Politics - George Mason University, Middle East Institute, Oct 1, 2009;

http://www.mei.edu/content/saudi-russian-relations-1979-2009

29- نصر المجالي، الكرملين: لا ضرر لعلاقاتنا مع إيران بزيارة الملك سلمان، ايلاف، 3 أكتوبر، 2017، أنظر:

http://elaph.com/Web/News/2017/10/1170277.html

30- Ivan Safronov, Tatiana Edovina ,”Triumph” for the monarch, Kommersant, 5.10.2017;

https://www.kommersant.ru/doc/3429291

31- واشنطن ستدعو السعودية وقطر ومصر لتجنب صفقات السلاح الروسية، يورونيوز، 15 يونيو 2018، أنظر:

https://goo.gl/1ajziJ

الصفحة السابقة