كيري يؤسس لعلاقة متوترة مع السعودية

النفط في الانتخابات الرئاسية الاميركية

منذ بدأت الاستعدادات لخوض المنافسة الانتخابية على رئاسة البيت الأبيض في الدورة القادمة، والعائلة المالكة تترقب ما يفصح عنه المتنافسون حول السياسة الخارجية تحديداً، وبخاصة حول العلاقة المستقبلية بين واشنطن والرياض. فقد عوّلت العائلة المالكة على رحيل الرئيس الحالي جورج دبليو بوش من البيت الابيض من أجل فتح صفحة جديدة في العلاقة مع واشنطن وطي صفحة الحادي عشر من سبتمبر بكافة تداعياتها على صورة السعودية وسمعتها وموقعها أيضاً في خارطة العلاقات الدولية. فقد حمل الرئيس بوش من النذر أكثر مما حمل من البشارات لهذه العائلة منذ وصوله الى البيت الابيض بالرغم من العلاقة التقليدية والاستراتيجية التي تربط بين عائلتي آل بوش وآل سعود، وشكراً للنفط الذي دشّن هذه العلاقة وأمدّها بمبررات الاستمرار. بيد أن السياسة المحكومة لعناصر غير ثابتة تجعل من العلاقات خاضعة للتبدل الدائم إذ لا تثبت اذا ما اضطرب ميزان المصالح، وهذا ما حصل لعلاقة آل سعود وآل بوش، حيث جاءت ظروف ما بعد الحادي عشر من سبتمبر مغايرة لرغبة أحد الطرفين، تماماً كما هي الظروف تغيرت بعد نهاية الحرب الباردة وخسارة السعودية لدورها المحوري في تلك الحرب. على أية حال، فإن الرئيس الحالي بوش كان في جعبته أجندة سياسية مختلفة بعد الحادي عشر من سبتمبر لأنه بحاجة لاقناع شعبه بأنه قادر على توفير الحماية له، وأن من شروط الحماية أن يغيّر نمط التحالف ومحتوياته، وهو تغيير لم يرق للعائلة المالكة في السعودية خصوصاً وأن هذا التغيير يتطلب احداث تغيير في بنية الحكم واحداث تبديلات جوهرية في ميزان القوى الداخلية.

وفيما كانت آمال الأمراء السعوديين معقودة على جون كيري المرشح الديمقراطي المنافس والأوفر حظاً حسب بعض المراقبين للفوز بالرئاسة الاميركية القادمة، ظهر بأن كيري ليس بالرئيس الليّن أو المتصالح مع العائلة المالكة في السعودية، فقد أدلى بتصريحات تنمّ عن عزم ثابت على عدم العودة للوراء في العلاقة مع السعودية، فهو يصرّ على تحجيم دور المؤسسة الدينية في السياسة، ومنع رجال الدين من التحريض على الكراهية ومناوئة الولايات المتحدة.

كيري وسلاح الطاقة

كيري: هل تصريحاته ضد السعودية انتخابية؟

كشف كيري عن خطة لاستقلال الطاقة الاميركية حين قبل من الناحية الرسمية الترشيح الرئاسي الديمقراطي. وقد دعت الهيئة الرئاسية في الحزب الولايات المتحدة من أجل تطوير امدادات الخام من الدول غير التابعة لمنظمة أوبك مثل روسيا وكندا ودول أخرى في أفريقيا.

وفي السياق نفسه، فقد تعهد كيري في الثالث من اغسطس أن يضع حداً لاعتماد الولايات المتحدة على النفط السعودي اعتقاداً منه بأن واشنطن لن تبقى رهينة لهذه المملكة. كما دعى أيضاً الى أن تعتمد أميركا (على مهارتها وابداعها الذاتي وليس على العائلة المالكة) حسب قوله، وهي لهجة قد تحمل جزئياً على الدعاية الانتخابية لكسب أصوات الناخبين، بالرغم من أن خبراء الصناعة النفطية يلحّون في التأكيد على أن النفط السعودي سيبقى عنصراً حيوياً وجوهرياً بالنسبة لأي ادارة اميركية.

يقول كيري بأن (خطة الطاقة لدينا من أجل أميركا قوية ستستثمر في التكنولوجيات الجديدة والطاقة البديلة وسيارات المستقبل، حيث لن يكون هناك شاب أميركي يمكن أن يقبض عليه كرهينة بسبب اعتمادنا على النفط من الشرق الاوسط). وقد علّق بعض المراقبين على هذا التصريح بأنه أشبه ما يكون بتفكير المتمني والمؤمّل كونه لا يستند على معطيات واقعية وحقيقية.

وعلى حد قول احد المحللين بأن (أي مرشح ديمقراطي، أو جمهوري، أو مستقل يعتقد بأنه قادر على أن يجعل صناعة الطاقة الأميركية مستقلة سيمنى بالفشل). إن بامكان المرشح الرئاسي أن يدلي بأنواع مختلفة من التصريحات، ولكن ما إن يمسك بالسلطة فإن عليه أن يتحرى الدقة فيما يجب عليه فعله وتصحيحه والالتزام به.

مسؤولون سعوديون انتقدوا كيري من أجل تقريع المملكة وقالوا بأنها كانت مزوّداً للنفط جديراً بالثقة للسوق الأميركية وأنها ستستمر على ذلك سواء فاز كيري في الانتخابات الرئاسية القادمة أم فشل. ويعتقد كثيرون بأن الشرق الاوسط يمثل خياراً حيوياً بالنسبة لمصادر الطاقة البديلة. وحيث يبلغ الطلب على النفط وسعره المدى الاقصى منذ عقود فإن اسعار النفط الاميركية قد بلغت المعدل بتجاوزها 44 دولاراً للبرميل الواحد. ويقول محللون بأن المستهلكين لا يبدون أي مؤشرات على أنهم سيتخلون بالكامل عن النفط لصالح مصادر أخرى من الوقود. ويقول هؤلاء بأن النفط كان مسعّراً بصورة تنافسية أكثر من غيره من مصادر الوقود الأخرى، وأنه أكثر صداقةُ مع البيئة وعنصراً حيوياً في البتروكيميائيات والزيوت.

وحتى مصادر الطاقة البديلة المتطوّرة مثل الغاز الطبيعي يأتي من منطقة الشرق الاوسط بما في ذلك السعودية. وحسب مصدر عربي فإن (هذه المنطقة التي تقودها دول الخليج العربي هي تمثل الجبهة الامامية لدعم مصادر الطاقة البديلة)، مضيفاً بأن الدول العربية المنتجة للنفط ليس لديها خوف من أن تدفع مصادر الوقود البديلة بها خارج سوق الطاقة.

السعودية التي تملك رابع أكبر أحتياطي في العالم من الغاز اي بما يعادل 235 تريليون قدم مكعب، قد وقّعت عقوداً اكتشاف الغاز هذه السنة مع عمالقة شركات النفط في العالم. اما الجارة قطر فإنها تملك أكبر مخزون من الغاز في العالم وتطمح لأن تصبح أكبر منتج للغاز الطبيعي السائل ووقود الغاز المسيّل بنهاية هذا العقد.

وبصرف النظر عما اذا كانت واشنطن تستورد نفطها الخام من المملكة فإنها تعتبر الحليف الاقليمي للولايات المتحدة والمصدّر الأكبر للنفط في العالم يغذي السوق العالمية ويؤثر في أسعار النفط. ولأنه سوق عالمي موحد ولأن أسعار النفط تستحق الاهتمام فإن السعودية تمثل حجر الزاوية في هذا السوق وليس هناك شيء يمكن وصفه بالاستقلال عن النفط السعودي. فالسعودية صاحبة الوزن الثقيل تمتلك ربع الاحتياطي العالمي الثابت من النفط الخام وهي المزوّد النفطي الأكبر للولايات المتحدة حيث تمدّها بنسبة 17 بالمئة من وراداتها من النفط.

هوى آل سعود مع آل بوش

هذه الحقيقة التي تصدم الساسة الاميركيين وتفشل طموحاتهم في التخلص من الاعتماد كلياً أو جزئياً على النفط السعودي لاريب أنها تعكس نسبياً على الاقل درجة التوتر التي تسود العلاقة بين واشنطن والرياض. فالروابط بين البلدين قد اهتزت بعنف بفعل هجمات الحادي عشر من سبتمبر على المدن الاميركية، والتي قامت بها شبكة القاعدة التي يقودها المواطن السعودي الشيخ اسامة بن لادن وحيث كان 15 من أصل 19 انتحارياً من السعوديين.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر شهدت الروابط السعودية الاميركية فتوراً ما لبث أن أثار قلقاً بأن الرياض قد تتخلى عن التصرف كضامن لتوفير نفط رخيص كما فعل في التسعينيات. ولعل من نافلة القول الاشارة الى أن الرياض بقيت تزوّد الولايات المتحدة بنفط رخيص الثمن طيلة السنوات الماضية كجزء من التعويض المفروض عليها من قبل واشنطن للمشاركة في الحرب على العراق، وهنا مربط الفرس، فالولايات المتحدة لا تخشى من انقطاع النفط السعودي عن اسواقها، لعلمها بأنها قادرة على الحصول عليه في كل الاحوال، ولأن السعودية لا تملك حق الرفض فيما يرتبط بتصدير النفط الى الاسواق النفطية، بل هي على استعداد ايضاً للاضطلاع بأدوار باهضة التكلفة سياسياً واقتصادياً من أجل طمأنة الادارة الاميركية وتوفير الاستقرار داخل الولايات المتحدة وفي سوق النفطية العالمية، ولم يكن جديداً الدور الاستثنائي الذي تلعبه بين فترة وأخرى من أجل رفع الانتاج والمحافظة على الاسعار.

إن المشاعر المعادية للسعودية في الولايات المتحدة تعمّقت بعد اعلان محاربي القاعدة حملة عسكرية دامت لمدة 14 شهراً شهدتها المدن السعودية، وقام خلالها تنظيم القاعدة فرع الجزيرة العربية بسلسلة هجمات مسلحة وانتحارية، ولعل العملية الأكثر دموية واثارة للمشاعر المعادية للسعودية هي قطع رأس المواطن الاميركي في المملكة باول جونسون. ولاشك أن العلاقة الجدلية بين النفط والدم حين تشهد فترات قلق تضيع فيها المجهودات المبذولة خارج الوقت الرسمي وخلف الستار، فالعائلة المالكة في السعودية لاشك أنها بذلت فوق مافي وسعها من أجل الحصول على رضى واشنطن في الحرب على الارهاب، الا أن دوي التفجيرات وقطع الرؤوس سواء في السعودية أو العراق وخصوصاً بالنسبة للشعب الاميركي الذي ينظر الى هذه المنطقة بمنطق يغيب فيه عنصر الجيوبلويتيك حيث تصبح السعودية والعراق وكافة دول المنطقة بقعة موحدة فكيف اذا ما اجتمعت فيها عناصر تنتمي الى شبكة تنظيمية وايديولوجيا دينية واحدة. ولاشك أن العائلة المالكة بذلت أيضاً فوق ما يجب منها فعله من أجل توفير التسهيلات العسكرية والسياسية وبغرض إنجاح مهمة واشنطن في العراق، ولكن ليس الى حد التفريط في ملكها. صحيح أن هذه العائلة المالكة تلعب كباقي الساسة في العالم بأوراق متضاربة، فهي تمنح تسهيلات وقواعد عسكرية للطائرات الاميركية لتهديم أركان النظام العراقي البائد، وفي الوقت نفسه تستحث جماعات العنف في الداخل على أن تفتح فروعاً لها في المدن العراقية وأن تغلق مكاتبها في موطن النشأة، ولكن لا يعني ذلك أنها ليست مخلصة في حرب واشنطن على الارهاب داخل الحدود، فقد أغلقت مؤسسة الحرمين، وفرضت رقابة أشد صرامة من الرقابة المعمول بها في الولايات المتحدة على حركة الاموال وتحويلها وتبديل العملة ونقلها، وفصلت عدداً كبيراً من الخطباء المعروفين بعدائهم ضد الولايات المتحدة.

في نظر العديد من المراقبين أن استعمال كيري لعامل الطاقة في توجيه تقريع عنيف للعائلة المالكة في السعودية، يعكس اتجاه العداء المتصاعد لنظام الحكم حيث يشعر الساسة الاميركيون بأنهم أبقوا عليه في أوقات كان عرضة للزوال، وأنه ساهموا في اطالة عمره فيما كان الأجدى بهم أن يدفعوا به للهاوية أو للجراحة المعقّدة كيما يتناسب وموقعه كحليف غير متناقض مع قيم أو مصالح الولايات المتحدة، بحسب عدد من المنظّرين الاميركيين.

هناك من يعتقد جازماً بأن الادارة الاميركية تملك حيال السعودية أجندتين ليستا بالضرورة متعارضتين ولكنهما بالتأكيد غير منسجمتين الاولى: الاجندة البراغماتية، القائمة على أساس المعطيات الواقعية والحقائق المعمول بها والمتوفرة على الارض والتي تملي نمطاً عملياً ومصلحياً في العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية، والثانية: الاجندة المأمولة التي تعكسها تصريحات كيري، والتي تندرج في سياق طموح سابق لدى الادارة الاميركية والمعبّر عنه بفكرة (الطاقة البديلة). ومهما يكن، فإن ثمة انفصالاً مؤجلاً تتهيأ له واشنطن وتحذر منه الرياض ولربما يجب أن تستعد له من الآن، لأن استمرار الوضع بالطريقة الحالية بكل ما يشي بميول كامنة لدى القادة الاميركيين بالتخلص من مبدأ الاعتماد على النفط السعودي يلفت الى أن محرضات القطيعة متوفرة ويبقى المبررات الدافعة على تنفيذها.

لا يبدو أن العائلة المالكة بعد تصريحات كيري حول السعودية تراهن كثيراً على تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية الاميركية، وإن كان المؤمّل من وصول كيري هو زيادة الاهتمام بالداخل الأميركي على حساب الخارج سيمتص جزءا من التوتر في العلاقة بين البلدين، وسيشغل الادارة الاميركية القادمة بأحوال شعبها عن التفكير في خوض معارك خارجية وخصوصاً مع السعودية التي لابد من الاحتفاظ بها كمزوّد نفطي رئيسي يعين على تسوية المشكلات الاقتصادية داخل الولايات المتحدة.

الصفحة السابقة