الحلقة المفقودة

هل ثمة نهاية لدوامة العنف؟

في الثالث من سبتمبر الماضي عادت ماكينة العنف للدوران مرة اخرى، حيث وقعت اشتباكات في حي الهلال جنوب مدينة بريدة التي تبعد 340 كلم شمال غرب العاصمة السعودية الرياض، وأدت الى مقتل رجل أمن وإصابة ثلاثة آخرين، وقد استمرت المواجهات التي وصفت بأنها كانت (ضارية) منذ بعيد المغرب وحتى ساعة متأخرة من الليل، حيث انتقلت عمليات تبادل اطلاق النار من حي الهلال الى حي الخليج اللذين فرضت قوات الأمن حصاراً حولهما، كما تم اغلاق كافة الطرق المؤدية الى حي الهلال واستعلمت خلالها قوات الامن مروحية لتعقّب المسلّحين.

وبعد ثلاثة أيام من عملية المداهمة، قامت قوات الأمن بحملة تمشيط واسعة في السادس من سبتمبر في الاحياء الواقعة جنوب مدينة بريدة وأسفرت المواجهات المسلحة مع مشتبّه بهم الى مقتل ثلاثة من رجال الأمن من شعبة البحث الجنائي في عملية مطاردة بالسيارات حيث أصيبت سيارة الأمن بطلق ناري أدى الى اشتعالها وتفحّم من فيها، وقد تم القاء القبض على سبعة من المشتبه بهم. وفي الوقت ذاته، تم ضبط سيارتين مطلوبتين في المنطقة المركزية في الرقوبة وحي الخانسة في مكة المكرمة وتعود السيارتان الى الجماعات المسلّحة، حيث جرى استعمالهما خلال عمليات مطاردة مع مشتبّه بهم، ونقل اسلحة ثقيلة ومواد تفجير صغيرة الحجم.

وفي فجر الثاني عشر من أكتوبر الجاري، شهد حي الخليج اشرق الرياض الذي يقيم فيه عدد كبير من الاجانب والغربيين مواجهات شرسة بين قوات الأمن. وقد بدأت المواجهات بعد عملية رصد لأحد مواقع تنظيم القاعدة في الحي، حيث فرضت قوات الامن طوقاً أمنياً وباشرت باطلاق النار حيث ردّت الجماعات المسلّحة باستعمال كثيف للنار من أسلحة رشاشة وقنابل يدوية أدّت الى إصابة 12 من رجال الشرطة. وبالرغم من مقتل ثلاثة من أفراد الجماعة الا أن مشهد الجرحى وهم راقدون في المستشفى قلب نتيجة المواجهات لصالح الجماعات المسلّحة. وقد شملت المواجهات حي النهضة الذي كان مسرحاً لحشود أمنية بعد مطاردة سيارة تقل أربعة من المشتبه بهم بالقرب من مجمع السدر السكني ورفضهم التوقف تنفيذاً لأوامر رجال الشرطة.

حصيلة العملية لم تنحصر في مقتل ثلاثة من أفراد تنظيم القاعدة، او اصابة رجال الأمن، ولكن ما عثر عليه في الموقع التابع للتنظيم، والذي حوى أسلحة متنوعة ووثائق مزوّرة وأجهزة تقنية يجري استعمالها في عمليات التفجير وتفخيخ الشاحنات المسلّحة.

ما لم تفصح عنه بيانات وزارة الداخلية أن الجماعات المسلّحة كانت تعدّ لعملية واسعة النطاق على غرار عملية مجمع الخبر في مايو الماضي والذي سجّل فيه تنظيم القاعدة أكبر استعرض للقوة والانتصار الساحق على قوات الأمن. فقد كانت خلايا تابعة لتنظيم القاعدة تعدّ خطة لشن هجوم على مجمع السدر في شرق الرياض والذي يضم 279 فيلا، وهو ذات المجمع الذي تعرّض لهجوم بقنابل يدوية قبل عام ولكن لم يسفر الهجوم عن اصابات، وقد غطي الهجوم بنار كثيف اطلقه أفراد الخلية من أجل تسهيل عملية هروب المهاجمين.

لقد دشّنت هذه المواجهات لفصل دموي جديد بين جماعات العنف والحكومة، وذلك بعد فشل خيار مهلة الشهر وما تبعه من خيارات اخرى لاحقة في محاولة لاحتواء دوامة العنف التي شهدتها البلاد قبل نحو عامين. إن حالات الاستسلام المنفردة من قبل بعض المحسوبين على جماعة العنف والتي يتم الاعلان عنها بين فترة واخرى من قبل وزارة الداخلية رغم أنها حققت بعض الاهداف المنشودة ولكنها بالتأكيد عجزت عن كسر ارادة الجماعات الجهادية التي تظهر المواجهات بأنها مازالت مصرّة على مواصلة الخيار المسلّح وأن ثمة ترتيبات تعدّها تلك الجماعات من أجل تطوير نشاطها العسكري. وبالرغم من سقوط رموز كبار في الجماعة الجهادية مثل عبد العزيز المقرن، قائد تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية واستسلام عدد من المحسوبين على التيار الجهادي الا أن هذه الجماعة مازالت تحتفظ بقدرة تنظيم الخلايا وتهريب السلاح وتخزينه والاعداد لعمليات سرية في مناطق مختلفة من المملكة.

إن عمليات المداهمة التي تشنّها قوات الامن التابعة لوزارة الداخلية وإن نجحت في قتل أو اعتقال عدد من المطلوبين الا أنها كشفت عن حجم التنظيم الجهادي المنتشر في أنحاء مختلفة من البلاد. ففي عملية المداهمة التي شنتها قوات الامن في محافظة الاحساء شرق المملكة والتي ادت الى مقتل أحد المشتبّه بهم واعتقال اربعة آخرين وجرح ثلاثة منهم كشفت عن وجود خلايا عديدة قائمة أو في طور الاعداد من اجل تنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق وفي نقاط عديدة حساسة.

إن بيئة العنف التي صنعتها المواجهات المسلحة بين تنظيم القاعدة وقوات الأمن جعلت من الساحة المحلية مرشّحة على الدوام لأن تشهد اختلالات أمنية. ويكفي أن يشهر أحدهم مسدسه وسط العاصمة الرياض أو إحدى المدن الرئيسية مثل جدة أو مكة المكرمة أو حتى الخبر ليعيد تشغيل ماكينة العنف مجدداً، تماماً كما حصل في عملية اطلاق النار على سيارة تابعة للقنصلية الأميركية في جدة وإن لم تسفر العملية عن سقوط ضحايا.

إن المواجهات المسلّحة التي تشهدها السعودية منذ مايو 2003 والتي تخللها عمليات تفجير ضخمة قد وضعت البلاد على حافة تحوّل أمني دراماتيكي. إن الهدوء الحذر الذي شهدته البلاد خلال الفترة التي أعقبت مقتل عبد العزيز المقرن لم تتأكد صدقيته واستمراريته كونه يخفي ما تخطط له الجماعات المسلّحة خصوصاً وأنها رفضت الاستجابة للعروض التي تقدّم بها ولي العهد ووزارة الداخلية أو تلك التي بادر الى تبنيها بعض المشايخ مثل سفر الحوالي وعايض القرني ومحسن العواجي. إن رفض المبادرات بحد ذاته يكشف عن نوايا التنظيم الجهادي على المواصلة في طريق الخيار المسلح.

ويبقى السؤال دائماً: هل ثمة نهاية محتملة لدوامة العنف؟

وبطبيعة الحال، فإن الجواب لا يكمن في مجرد النهاية البيولوجية لجماعة العنف، أو في إخماد صوت الرشاشات وقاذفات الآر بي جي أو في إعطاب السيارات المفخخة وإبطال مفعول الشحنات التفجيرية. فمنذ أكثر من عام والأجهزة الامنية تعثر على مخازن للاسلحة هنا وهناك، وتصادر كميات من العتاد والاجهزة والوثائق المزوّرة، كما تقوم بمطاردة خلايا نائمة وقائمة واعتقال أو قتل أفرادها، ومنذ أكثر من عام أيضاً وقوات الأمن تخوض معركة المصداقية والهيبة ضد مجموعات تتحرك كالاشباح من غرب البلاد الى شرقها، ولكن النتيجة في كل الاحوال لم تصل الى مستوى إنهاء تام وحاسم وشامل للعنف.

لابد أن وزارة الداخلية اكتشفت حجم المنخرطين في العمل الجهادي الذي يقوده تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، ولربما فكّرت في فتح قائمة الـ 26 كيما تضم عشرات آخرين، فالذين انتظموا في عمليات التنظيم خلال السنوات الفائته كانوا بأعداد كبيرة، لا سيما وأن مبررات العمل الجهادي باتت الآن أشد تأثيراً وفاعلية، فتطهير الجزيرة العربية من المشركين والكفار من الاميركيين والاوروبيين الذين يحتلون العراق والذين يخططوا مع اليهود من أجل احتلال الجزيرة العربية، تجعله دافعاً شديد الجاذبية لدى كثير من الشباب المتدينين الذين يرغبون في املاء وقت فراغهم في أعمال عظيمة كالتي قرأوا عنها أو سمعوها في الخطب الدينية ومجالس الوعظ والكتيبات الارشادية.

إن حجج المدافعة باتت متوازية لدى الحكومة والتيار الديني المناصر لها والجماعات المسلّحة التابعة لتنظيم القاعدة، فالجميع يستمد مشروعية عمله من مصادر مشتركة وموحدة كما أسلفنا في أعداد سابقة من المجلة. إن التفسيرات الجديدة للنص الديني التي يطلقها العلماء تصاب بالوهن الشديد حين توضع في مقابل نصوص أخرى مستفيضة لا تقبل التأويل.

لقد حاولت الدولة ان تستعيض عن حركة تأويلية للنصوص الدينية السلفية عن طريق حملة اقناع سرية يقودها العلماء الشعبيون كيما يروّضوا نزعات العنف لدى الشباب وللحد من تنامي الظاهر العنفية. ومن السخرية أن يكون هؤلاء أنفسهم الذين كانوا بالأمس متهمين بترويج بضاعة العنف بين الشباب، ولعل ما ذكره أحدهم صائباً بأن الحكومة قد تكون نجحت في بعض الحالات حيث استطاعت بنفس الاسلحة القديمة ان تعيد ضحايا الأمس الى أحضانها، ولكن في حالات اخرى عديدة أيضاً فشلت بل وخسرت مصداقية هؤلاء العلماء الذين باتت أفكارهم بالامس تطرح في موازاة وتناقض مع نصائحهم اليوم.

إن النجاح الجزئي في استقطاب المنتمين للجماعات المسلّحة دفع نحو تبني خيار تعميم ثقافة دينية تصالحية تدعو للتسامح والسلام، وقد لجأت الدولة من اجل انجاح هذه العملية الى علماء دين من الطبقة الثانية أو من غير الحائزين على قاعدة شعبية. فإضافة الى طبقة هيئة كبار العلماء التي لم يسهم أي من أعضائها على الاطلاق في ثقافة التسامح الديني التي انطلقت عبر الحوارات الوطنية الثلاثة، فإن العلماء الشعبيين عبّروا عن رفض علني للمشاركة في أي لقاء وطني يفرض عليهم القبول بالتعددية والاختلاف. وهذا ما يجعل مهمة الدولة في اشاعة التسامح ولجم تيار التشدد والعنف مستحيلة، فالذين كسروا التابو الديني داخل المدرسة السلفية الوهابية كانوا أولاً قلة ضئيلة وثانياً تم ذلك بمحض الارادة المستقلة وليس بالخضوع تحت تأثير قرارات الدولة أو بقناعة منهم بجدوى الانضواء في مشاريع الحوار الوطني. ومع ذلك، فقد رفض بعضهم (والشيخ سلمان العودة مثالاً) أن يكون جزءا من حوار وطني يجمع خصومه الايديولوجيين ونسي أن هؤلاء الخصوم يسدون أكبر خدمة للدولة التي تمثل بالنسبة له خياراً مصيرياً كيما يبقى الاعلى صوتاً فيها، فهؤلاء الخصوم يعكسون صورة للخارج في غاية النصاعة، سيما في مرحلة تشتد الضغوطات الدولية على هذا البلد في سياق إحداث تغييرات جوهرية في جهازه الاداري، وفي احترام الحريات الفكرية وتحسين ظروف الاقليات، والمرأة، بما يجعل اللقاء الوطني فرصة ذهبية للنظام السياسي السعودي كيما يقنع العالم بأنه يحتضن رؤوس القوم تحت قبة واحدة.

على أية حال، فإن خيارات الحكومة في احتواء العنف لم تحقق نجاحاً باهراً، وأن الاكتشافات المتكررة لخلايا تابعة لتنظيم القاعدة في أرجاء مختلفة من المملكة تؤكد على أن هذا التنظيم لم يمت، ولم يوقف عملياته بالرغم من الضربات التي يبدو أنها كانت قاصمة للظهر. صحيح أن مستوى المواجهات وحجم العمليات العسكرية قد تناقص الى حد كبير، ولكن أحداث الشهر أي منذ الثالث من سبتمبر الماضي وحتى الثاني عشر من اكتوبر وما تخللها من اكتشاف لمخازن أسلحة وتجهيزات معقّدة تنبىء عن حقيقة ان التنظيم الجهادي مازال قادراً على امتلاك المبادرة في تنفيذ عمليات عسكرية كبيرة. اضافة الى ذلك، أن الكلام عن (مشتبه بهم) في بيانات وزارة الداخلية أو حتى (متهمين) ثم تبيّن أنهم من غير المطلوبين او من غير قائمة الـ 26 يكشف عن أن تحركات التنظيم الجهادي ليست مقتصرة على عدد قليل من الافراد، بل هناك من يضطلع بمهمات خطيرة ويمتلك مهارات قتالية متفوّقة كما حصل في حي السدر وفي مواجهات بريدة.

ويكفي بعد ذلك كله القول بأن مجرد بقاء أغلبية أفراد قائمة الـ 26 على قيد الحياة، وأنهم قد رفضوا عرض الشهر ـ المهلة، أو حتى شروط المفاوضات السرية التي قام بها الحوالي والعواجي، يجعل من إمكانية المواجهات المسلّحة قائمة على الدوام، وأن العنف الذي تفجّرت أحداثه قبل نحو عامين سيبقى ما لم تقدم الدولة على الخيار الجراحي، ولكنه الأسلم طريقة والأشد تأثيراً، وهو الاصلاح السياسي الشامل.

الصفحة السابقة