مـرافـعـة أولـى..

المجتمع المدني ودوره في الحدّ من العنف والإرهاب

الإصلاحي المعتقل علي الدميني

أولا: المجتمع المدني


تقديم:

من ضمن التهم الضخمة التي اثقلت صياغتها قلم الادعاء العام، ما ورد في اتهامه لي (بالسعي إلى إثارة الفتن وبث بذور الخلاف بين أبناء الشعب وإثارة التحزب المذهبي والطائفي)، وهذا الجهد التأويلي العجيب يستدعي أن نقرأ منطلقاته وفق ما يلي:

1 - إن المطالبة بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان، فتنة ينبغي القضاء عليها، وأنها، بحسب كلمات الادعاء العام، فعل محرمٌ، ومعاقب عليه شرعاً ونظاماً!

2 - إن إقامة المؤسسات الدستورية، وتمكين الشعب من المشاركة السياسية في إتخاذ القرار، وتشريع عمل جمعيات المجتمع المدني المعبرة عن تطلعات كافة الشرائح، والتشكيلات الإجتماعية في كافة ميادين الحياة، يعتبر من وجهة نظر الإدعاء العام عملاً يبذر الخلاف بين أبناء الشعب.

3 - إن إزالة المظالم الاجتماعية بكافة أشكالها الفئوية والطائفية والمناطقية، وتطبيق مبدأ التوزيع العادل للثروة بين كافة الشرائح والمناطق، وتمكين جميع المذاهب والطوائف من ممارسة حقها الطبيعي في اتباع قواعد مذاهبها، سوف يعمل على إثارة التحزب المذهبي والطائفي.

كما أورد المدعي العام في تهمة أخرى قولي (إن من أهم أسباب إنتشار الإرهاب والعنف في المملكة، هو احتكار تيار فقهي واحد من التيارات الأربعة، ونفي ما عداه من مذاهب وطوائف، قد أدى إلى تغلغل هذا التيار في كافة مفاصل النظم التعليمية والتربوية والاجتماعية والسياسية، وأنه تم استقطاب الشباب ضمن رؤية أيديولوجية تكفر المجتمع، وان مجتمعنا أصبح مجتمع الرأي الواحد المغلق، بالإضافة إلى عوامل معيشية تتمثل في أزمات صحية وإسكانية وتعليمية، وفي الفقر والبطالة) وقد اعتبر هذا الكلام تبريراً للعنف واستغلالاً للعمليات الإرهابية للنيل من نهج البلاد والطعن في مرتكزاتها الدينية.

وهذه القراءة المتعسفة لما قلته، تفسح المجال أمامنا لطرح التساؤلات التالية:

1- هل انبنى نهج الدولة وكيانها ومشروعيتها على العدل واحترام حقوق المواطنة، أم على حرمان الإنسان من حقوقه في التعبير السلمي عن الرأي، وعلى سكوته عما تشهده بلادنا من أزمات تمثلت في الفقر والبطالة والدين العام، وما يعيشه المواطنون من اختناقات معيشية تطال التعليم والصحة والسكن والبيئة؟

هل انبنت مشروعية الدولة على إزالة الظلم وتحقيق العدالة الاجتماعية أم على السكوت على مظاهر الفساد والرشوة واستغلال المال العام؟

2- هل ترعرع الإرهاب لأننا طالبنا بمعالجة جذوره الفكرية والمعيشية، أم لأن هناك خلل ثقافي وتربوي واجتماعي ضخم فشلت أجهزة الدولة في معالجته، مما أدى إلى انتشار تيار التشدد والتكفير والعنف والإرهاب؟

وفي الحقيقة فإن كل هذه السلبيات والاختناقات لا تمت بصلة إلى مرتكزات الدولة ومشروعيتها بل إنها أمراض فتاكة تهدد أمنها واستقرارها، وحاضرها ومستقبلها أيضاً. كما أن الصمت حيال السلبيات والأزمات الخطيرة هو الجريمة المنكرة التي تعتبر إخلالاً بثوابت الدولة ونهجها العادل الذي قامت أسسها عليه، ويهمني أن أؤكد على أن من يتصدى بأسلوب سلمي وعلمي لانتقاد مظاهر الخلل والأخطاء في أجهزة الدولة ليس هو العدو، بل إنه هو المحب المخلص، وهو الأكثر وفاءً للأسس العادلة التي قامت عليها نظرية بناء الدولة، وهو الأكثر انتماءً وولاءً للدولة، وهو الأشد حرصاً على أمنها ورخائها واستمراريتها.

ولذلك فقد رأيت وزملائي الدكتور عبدالله الحامد والدكتور متروك الفالح أنه من الضروري العمل على تجلية المفاهيم والمرتكزات التي حفلت بها الخطابات المطلبية لكي تتضح على ضوء ذلك استهدافات هذه المطالب ومشروعيتها وأهمية الأخذ بها، وقد قررنا أن نتحدث في جلسة محاكمتنا الأولى حول هذه المرتكزات النظرية، حيث يقدم الدكتور الحامد مداخلته عن الأساس القانوني والشرعي لمفاهيم الفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء، ويتحدث الدكتور الفالح عن الدستور والملكية الدستورية، وأن يتركز كلامي حول مفهوم المجتمع المدني ودوره في الحد من العنف والإرهاب، ولذا أعددت هذه الورقة لتجلية هذا الموضوع، وللرد على تهمة تبرير الإرهاب والعنف والتشكيك في نهج الدولة.

ثوابت:

لعله من المهم التأكيد على الثوابت التي استندت إليها كافة أشكال الحراك المطلبى الاجتماعي في بلادنا، والتي انطلق منها دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري وهي:

1/ مرجعية الشريعة الإسلامية السمحاء في كل ما تصدر عنه.

2/ تصليب الجبهة الداخلية، والتمسك بثوابت الوحدة الوطنية والعمل على إزالة كل ما يسئ إليها.

3/ الالتفاف حول القيادة باعتبارها صمام أمن بلادنا وازدهارها.

4/ ضرورة المضي في طريق الإصلاح السياسي والدستوري الشامل.

5/ الوقوف في وجه كافة التدخلات الأجنبية في شئون بلادنا، وإدانة العنف والإرهاب من كافة أطرافه ومصادره كوسيلة للتعبير عن الرأي أو عن استغلال قوة القانون.

في تعريف المفهوم:

إن سؤال المجتمع المدني هو سؤال العلاقة بين الدولة والمجتمع بشكل عام، من أجل ترشيد صنع القرار، وتحويل إرادة الدولة من إرادة قهرية خارجية ضد المجتمع، إلى إرادة داخلية تتكامل مع حركته وقواه ومعطياته(1).

ولتوفر مقاربات متعددة لتعريف مفهوم (المجتمع المدني)، فسوف آخذ هنا بأكثرها وضوحا وقربا لما يرى فيه المهتمون بالشأن العام في بلادنا تعبيرا عن تصورهم، لذا فالمجتمع المدني هو كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من نيل الخيرات والمنافع دون تدخل أو توسط من الدولة(2)؛ وهو مجمل التنظيمات (غير الإرثية/ النسبية) وغير الحكومية التي تنشأ لخدمة المصالح أو المبادئ المشتركة لأعضائها، وهو مجموعة المؤسسات والفعاليات والأنشطة التي تحتل مركزا وسيطا بين العائلة - باعتبارها الوحدة الأساسية التي ينهض عليها البنيان الاجتماعي والنظام القيمي في المجتمع ـ من ناحية والدولة وأجهزتها ومؤسساتها ذات الصبغة الرسمية من جهة أخرى. وهو المجتمع الذي تقوم فيه دولة المؤسسات بالمعني الحديث (المؤسسة) والمكونة من البرلمان، القضاء المستقل، والجمعيات والنقابات والأحزاب(3).

ولا يقوم المجتمع المدني ضداً للدولة أو نقيضاً لها، بل أنه يسهم معها في تحقيق الأمن والسلم الاجتماعيين، وتجذير مفهوم المواطنة وتعزيز الوحدة الوطنية ومشروعية القيادة. كما أنه مجتمع لا تمايز فيه يضم الدولة والمجتمع معا. وهو مجتمع الأحرار المستقلين، الذي لا يخضع تركيبه الداخلي للسيطرة ولا التبعية، وتتأسس العلاقات بين أفراده على ثوابت العلاقة بين أحرار متساويين(4).

الأسس النظرية في التاريخ الإسلامي:

يقوم نظام الحكم في الإسلام على مبادئ كلية يمكن أن نجتهد في إيجاد الهياكل والإجراءات الكفيلة بتحقيقها. وترتكز هذه المبادئ على: الشورى، الحرية والكرامة، العدالة والمساواة، وتعددية المناهج والنظم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشأن العام (وهو ما يمكن تسميته بحق المعارضة والنقد الذاتي).

الشورى: هي أهم المرتكزات الأساسية للحكم في الإسلام، وعبرها تتحقق مفاهيم الحرية الأساسية. قال تعالى: (والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون) سورة الشورى - آية 38. ويمكن الاستشهاد على أهمية الشورى من خلال إقرانها في الآية الكريمة بالعبادات، ومن خلال تسمية إحدى سور القرآن الكريم بالشورى(5) .

وقد قال رسول الله (ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمرهم)، كما قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم). وقد قال أبو هريرة (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله).

حرية العقيدة في الإسلام:

كفل الإسلام حرية العقيدة لغير المسلمين، من أهل الكتاب، وسواهم. قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين) سورة هود ـ الآية 118.

وقال تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.) سورة يونس ـ الآية 99.

وقال تعالى: (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) سورة الكهف ـ الآية 29.

وقال تعالى (لكم دينكم ولي دين) سورة الكافرون – الآية 6

كما قال تعالى: (لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) سورة البقرة – الآية 256.

وقال تعالى: (إن الذين آمنوا، والذين هادوا والنصارى والصابئين ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة البقرة ـ الآية 62

ولذلك فإن كفالة حرية العبادة في الإسلام وحق التفكير والتأمل تقتضي كفالة أجواء الحرية السياسية لكافة أفراد الأمة الذين تنطبق عليهم الآيات الكريمة السابقة.

كرامة الإنسان والقبول بتعددية المناهج:

أرسى الإسلام قاعدة الكرامة الإنسانية العامة المكفولة لكل إنسان: (ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البروالبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)، كما أقر الإسلام تعددية المناهج والنظم لكل أمة، حيث يقول تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولوشاء الله لجعلكم أمة واحدة) (6).

ويمكن القول، بأن العقيدة الإسلامية، بما جاءت به من أحكام، تقوم على حرية العقيدة لغير المسلمين، والشورى في الحكم، والعدل والمساواة لأفراد الأمة، وتقبل الاختلاف، وتقبل النقد الذاتي(7)، وقد أرست قبل أربعة عشر قرناً مرتكزات القيم الأساسية لما نسميه اليوم، بالمجتمع المدني، وحقوق الإنسان، وقد حلّت الأمة و (الملّة) محل القبيلة والعشيرة(8)، وحلت المساواة والعدالة بين الناس محل الظلم والاستبداد والتمييز على أساس عرقي أو مناطقي، (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى) كما قال عليه السلام.

كما أن الصحيفة التي وضعها رسولنا محمد ، لتنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار واليهود في المدينة، تعتبر أول دستور تعاقدي بين المواطنين في ذلك العهد.

وقد أقرت تلك الصحيفة أن (يهود بني عوف أمة مع المؤمنين)، (وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)، تثبيتا لحرية المعتقد وما يتفرع عن ذلك من حقوق سياسية، وأنه (لا يأثم أمرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم). وبذلك يكون كل أهل المدينة منضوين تحت لواء أمة واحدة، هي التي يرأسها الرسول. لأنها أمة سياسية تتعايش داخلها أمم مختلفة الدين والعقائد، وإن كانت الغلبة للمسلمين(9).

وقد أكدت سيرة الخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم)، تطبيق هذه المبادئ لضمانة حقوق المواطنة حيث يقول عمر ابن الخطاب: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) كما أن الإمام علي ، كفل حقوق الخوارج الذين خرجوا عليه حيث يقول (لكم علينا ثلاث، لا نمنعكم مساجد الله تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدأكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء). وهذا يؤكد على ضمانة حقوق المعارضة السلمية.

ولذا تطورت تجمعات المجتمع الأهلي في عهد الخلفاء الراشدين وفي عهود خلفاء الدولة الإسلامية، وهي الشكل الموازي لجمعيات المجتمع المدني اليوم. وقد تمثلت تلك الجمعيات والتكوينات الأهلية التقليدية في صيغ متعددة، من أهمها ما يعرف (بأهل الحل والعقد) والذين يشكلون مجلس الشورى الذي يستعين به الخليفة على معالجة مختلف القضايا الدينية والمدنية.

كما تشكلت جماعات الفقهاء، والقضاة، والعلماء، وبرز دور الحلقات الدينية والفكرية في المساجد، وتطورت نقابات الحرفيين وأهل الصناعات ولعبت مؤسسات الوقف الإسلامي دوراً مهماً في توفير مستلزمات الحياة الاجتماعية للمحتاجين، واستمر شيوخ الطوائف، والعشائر، والقبائل في لعب دورهم الاجتماعي لحماية أفراد الطائفة أو القبيلة.

ويمكن القول بأن حرية الاجتهاد الفقهي التي أنتجت المذاهب الفقهية الأربعة لأهل السنة كانت مثالا للقبول بمبدأ الاجتهاد والإقرار بحق الاختلاف، حيث يقول في هذا المعني، الأمام الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب).

وقد أرسى هذا الباب المفتوح بضوابطه للاجتهاد مبدأً مهماً لمشروعية الاختلاف وهو ما يعرف اليوم بمبدأ (التعددية) في الشأن المدني.

وقد غدت القيم الإسلامية التي جاء بها رسول الهدى محمد ، قبل أربعة عشر قرناً قيما إنسانية مشتركة في مختلف الحضارات والبلدان، تتفق على ضرورة تبني المجتمعات المختلفة لقيم الحرية، والمساواة والديمقراطية والتعددية، وحقوق الإنسان، كمقومات لما يسمى (بالمجتمع المدني) المعاصر.

وقد اجتهد العديد من المهتمين بالشأن العام في بلادنا من الأكاديميين والباحثين والمثقفين في البحث عن الصيغ الملائمة لتبيئة مفهوم (المجتمع المدني) في بلادنا، بحيث يتم عبرها المحافظة على الهوية الإسلامية من جهة، والعمل على تطوير آليات عمل المجتمع بما يؤدي إلى تحقيق مقومي الحرية والعدالة الاجتماعية، وهي الآليات الكفيلة بتطوير بلادنا، وتعزيز السلم الاجتماعي، والأمن الوطني، وتصليب الجبهة الداخلية، وتعزيز مشروعية الدولة الإسلامية التي تأخذ بآليات بناء الدولة الحديثة، ولكي يتضح هذا المعنى في ضوء الثوابت الخمسة التي ذكرناها آنفاً، فإنه يمكن تقسيم مفهوم المجتمع المدني إلى ما يلي:

أولاً: المرتكزات النظرية(10):

أ- العلاقة بين القيادة والمجتمع: هي علاقة تعاقدية، وهي ميثاق، أو عقد، وتقوم على الرضا والاختيار، والتعاون وتوزيع الأدوار.

ب- حقوق المواطنة: الناس متساوون في الحقوق والواجبات أمام الشرع والقانون، وتقتضي العدالة الاجتماعية للمواطنين، عدالة في توزيع الثروة، وتكافؤاً في فرص العمل والإدارة والتجارة وتمكين المرأة من نيل حقوقها المشروعة في الحياة الاجتماعية والمشاركة في اتخاذ القرار.

ج- إقرار حرية التفكير والتعبير والإبداع، والتجمع بطريقة سلمية لا تخل بالنظام العام.

د- إشاعة ثقافة التسامح، وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر الموجود في الوطن، والتكافل والتعاون، وقبول الاختلاف والالتزام بحل الخلاف بأسلوب سلمي، وهذا ما يعبر عنه بقبول (التعددية).

هـ- إقرار مشروعية تأسيس الجمعيات والمنظمات المدنية، النقابية والمهنية والسياسية، في مختلف مجالات الحياة.

و- الأمة هي المخولة بتقرير مصالحها، ويتم ذلك عبر ممثليها المنتخبين من أهل الرأي والعلم والحنكة والنزاهة والشجاعة، الذين يخولهم الشعب لبلورة إرادتها، ومرجعيتها في اتخاذ القرار.

ز- وظيفة الأجهزة الحكومية تتركز في تطبيق ما يراه الشعب عبر ممثليه في السلطة النيابية، وسعيها لتحقيق مصالح الشعب في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية.

ح- تحريم استخدام العنف للتعبير عن الرأي من أي قوة اجتماعية، وقوة العنف الوحيدة التي يتم تشريع استخدامها، هي القوة التي تحمى القانون بواسطة أجهزة الدولة المختصة، وفق أحكام الدستور، ورقابة ممثلي الأمة عليها في ذلك(11).

ثانيا: الإطار القانوني والسياسي:

لا يتحقق وجود المجتمع المدني إلا في ظل توفر الإطار القانوني والسياسي الذي يضمن حرية أنشطتة وحماية حركته، من خلال الضمانات الدستورية الأساسية التي تتكون من:

أ- وجود دستور يستند إلى الشريعة الإسلامية السمحاء، والذي يقره الشعب في استفتاء عام ويتضمن الإقرار بالتعددية السياسية، وحرية تكوين منظمات المجتمع المدني السياسية والنقابية والاجتماعية والثقافية، ويكفل تطبيق العدالة الاجتماعية وقيم الحرية والمساواة لكافة المواطنين والمواطنات.

ب- أن ينص الدستور على تطوير نظام الحكم من دولة الملكية المطلقة إلى دولة المؤسسات الدستورية.

ج- إقرار مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث (النيابية والقضائية والتنفيذية).

د- احترام النظام القضائي، واستقلاله لحماية الشرعية الدستورية والحريات الأساسية للمواطن.

هـ- ضمان المشاركة الشعبية لكافة المواطنين والمواطنات في اتخاذ القرار من خلال ممثليهم المنتخبين في مجلس نواب الشعب.

ثالثا: الهياكل الشعبية:

تتشكل هياكل المجتمع المدني على صيغة جمعيات ونقابات، وروابط وأحزاب تعبر عن مصالح التكوينات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في البلاد، ومن خلال عمل هذه المكونات، يتم ترسيخ مبدأ الحوار السلمي بين كافة قوى المجتمع لحل الاختلاف، والاحتكام إلى رأي الأغلبية، والتمرس على اختيار القيادات الأكثر كفاءة ونزاهة لتولي المناصب القيادية، وتطوير الأداء من خلال وضع اللوائح والنظم الداخلية القابلة للتعديل بحسب رأي الأغلبية، وتطبيق مبادئ المراقبة والمحاسبة من قبل أعضاء الجمعيات لسير عمل جمعياتهم وقياداتها المنتخبة، وهذا ما يكفل ممارسة العملية الديمقراطية بحسب المصطلحات الحديثة.

وينقسم نشاط جمعيات المجتمع المدني إلى قسمين رئيسيين:

خ القسم االأول: منظمات خاصة مهنية ونقابية وتضم أصحاب المهنة الواحدة، كالقضاة، والمعلمين، والمعلمات، والأكاديميين، والطلاب، والعمال، والمزارعين والتجار، والأطباء، والمهندسين، وسائقي السيارات وأصحاب الحرف والهوايات والإبداعات المختلفة وسواهم، ويتركز عمل هذه المنظمات على:

أ- تطوير المهنة.

ب- المحافظة على شرف المهنة ومحاسبة منتهكي أعرافها وتقاليدها ونظمها الداخلية.

ج- الدفاع عن مصالح المنتمين إليها.

د- المساهمة بالرأي في قضايا الشأن العام.

القسم الثاني: منظمات عامة في مجالات الصالح العام الاجتماعي والسياسي، ويشمل الوجه الاول منها جمعيات الاحتساب وحقوق الإنسان، التي تتكون من المختصين القادرين على إرشاد الناس في أمور دينهم ودنياهم، والحفاظ على الأخلاق والآداب العامة، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومراقبة تطبيق قيم الحرية المسئولة والعدالة، والمساواة، و الدفاع عن حقوق الإنسان.

أما الوجه الآخر من المنظمات العاملة في سبيل المصلحة العامة، فيشتمل على منظمات وجمعيات سياسية تهتم بتعزيز عمل آليات المجتمع المدني، والتعبير عن الشأن العام، وتعزيز الحريات العامة والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وإقرار مبدأ التعددية، وحقوق الإنسان والسعي لتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية، وكشف التجاوزات التي تطال حقوق المواطنين أو المال العام، و تسمى الجمعيات السياسية.

ويمكن تحديد فعاليات عمل المجتمع المدني فيما يلي:

1- الحد من احتكار الدولة للسلطة والقرار وقوة القمع، وقيامها بممارسة دور الحياد النزيه إزاء مختلف القوى الاجتماعية.

2- ترسيخ القناعات والممارسات بأهمية احترام الاختلاف وإقرار مبدأ التعددية، وتيسير إمكانية اندماج الأفراد المنحدرين من مناطق وشرائح مختلفة في إنجاز أعمال ومشاريع مشتركة والقضاء على ترسبات التفرقة المناطقية والطائفية والفئوية.

3- توسيع قاعدة المهتمين بالمصلحة العامة، و ذلك ما سوف يعمل على تصليب الجبهة الداخلية والانتماء الوطني، والقضاء على مشاعر اللامبالاة أو اليأس وعدم الجدوى، وفتح المجال للتعبير عن حرية الرأي، والمساهمة في صناعة القرارات المصيرية للوطن و للمواطنين.

4- امتصاص حالات الغضب والاحتقان الاجتماعي والسياسي، وفتح الباب للتنفيس عنها سلمياً بالتعبير عن الرأي العلني، وتعميق مفاهيم العمل المؤسسي، و تأكيد مقدرة المجتمع على التنظيم الذاتي والعمل الجماعي، والقدرة على اتخاذ المبادرات وتدعيم النهج السلمي في الحوار بين الأطراف المختلفة، والعمل على تقليص تأثير النزعة الفردية والتسلطية في اتخاذ القرار.

5- حماية مصالح الأفراد والجماعات وكافة المنتمين للمهن والتخصصات المختلفة الذين ينتمون لهذه الجمعيات، والدفاع عن حقوقهم إزاء الأجهزة الحكومية والأهلية التي تهدد تلك المصالح.

6- تلبية الاحتياجات المتعددة والمختلفة لكل أفراد المجتمع من خلال انخراطهم في النشاطات النقابية التي تعبر عن تخصصاتهم وميولهم وتطلعاتهم، وفتح الباب أمام كل مكونات المجتمع بدون تمييز للانخراط في العمل المؤسساتي، وذلك ما سوف يحد من احتكار أي تيار أو فكر للعمل الثقافي والاجتماعي والسياسي في الوطن.

7- وبالنسبة للأجيال الشابة، فإن جمعيات المجتمع المدني سوف تعمل على استيعاب طاقاتهم، وتوفير أسباب الأمان الاجتماعي والثقافي والنفسي لهم، وتلبية احتياجهم لتحقيق الذات، وتوفير البيئات العملية الكفيلة بتعميق روح العمل الجماعي والمؤسسي المنظم في نفوسهم.

8- تطوير المهارات القيادية، وتأهيل الكوادر، وتعزيز القبول برأي الأغلبية واختيار الأفراد الأكثر كفاءة لقيادة أعمال جمعياتهم، وتعزيز آليات المراقبة والمحاسبة والمساءلة، والتعود على العملية الانتخابية، وتطبيق مبادئ تكافؤ الفرص وتداول السلطة.

9- تحقيق بعض المكتسبات المادية كالرعاية الصحية، أو التمتع بالبرامج الترفيهية، والثقافية التي تقدمها الجمعيات، أو بالإعانة المادية للمحتاجين.

10- ولسوف تثمر جهود هذه الجمعيات بآرائها وأنشطتها في حل الكثير من الأزمات والمشكلات الاجتماعية، وتعمل على تعزيز حرية الرأي وترسيخ ثقافة التسامح، وحقوق الإنسان.

ثانياً: العنف والإرهاب

العنف ظاهرة بشرية لا يختص بمكان أو زمان دون غيره، ولا يختص بدين، أو جنس أو فكر أو ثقافة دون سواها، ولكنه يترعرع ويبلغ أوج التعبير عن قسوته في البيئات التي تفتقر إلى العدالة والمساواة وكفالة حرية التعبير للأفراد والجماعات، وكذلك في المجتمعات التي يسودها الاستبداد السياسي والفكري والاجتماعي، وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين.

والعنف أسلوب تعبير عن تراكمات اليأس والغضب أو الانتقام، يمكن أن يقوم به الفرد أو الجماعات، كما يمكن أن تمارسه الدولة أيضا. ويتجلى من خلال شكلين هما: العنف الرمزي والعنف المادي.

ويتمثل العنف الرمزي في ادعاء احتكار الحقيقة، وإقصاء وتهميش الآخر، وفي تكفيره أو تبديعه بدون وجه حق. أما العنف المادي فيتمثل في استخدام الأساليب والأدوات المادية كالسلاح ضد الآخر.

ويمكن أن يكون العنف بشكليه مشروعاً للشعوب المضطهدة الساعية إلى نيل حريتها واستقلالها كالشعب الفلسطيني، ويمكن أن يكون محرما عندما يستهدف أمن وسلامة الأبرياء كما يحدث هذه الأيام على أراضي بلادنا وهو ما نعبر عن تسميته (بالإرهاب).

أما عنف الدولة فإنه يأخذ الشكلين معاً، ويستمد العنف المسموح به مشروعيته من تفويض الشعب عبر ممثليه لأجهزة الدولة باستخدام العنف لتطبيق القانون وفق ضوابط الدستور، وتحت مراقبة ومحاسبة ممثلي الشعب.

وفي بلادنا ـ مع الأسف ـ فإن الأجهزة الأمنية تمارس الكثير من العنف غير المشروع سواءً تمثل في شكله الرمزي أو المادي، وليست ملومة في ذلك نظراً لغياب المؤسسات الدستورية القادرة على ضبط ذلك العنف وفق القانون.

ولعل أبرز مثال على ذلك ما رافق ظروف إلقاء القبض علينا والتحقيق معنا واعتقالنا لمدة خمسة أشهر قبل مثولنا أمام المحكمة بتهم باطلة، وفيما تعرضنا له من ضغوط ومراوغات للتحايل على علنية جلسات المحكمة والبحث عن المبررات غيرالقانونية لتحويل المحاكمة من علنية إلى سرية.

كما أن الإفراج عن عدد من المهتمين بالشأن العام من زملائنا الذين اعتقلوا معنا، بعد اضطرارهم إلى التوقيع على تعهدات جائرة بعدم الاستمرار في المطالبة بالإصلاح السياسي والدستوري في بلادنا، ثم منعهم من السفر حتى الآن، تعتبر أمثلة صارخة على انتهاك حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، واستخداما للعنف الرمزي ضد الهتمين بالشأن العام في بلادنا.

وأما العنف المادي الذي تمارسه الدولة ضد المواطنين، فأعتقد أنه لو توفرت الحرية للمواطنين، للتعبير عما لحق بهم من أذى، أمام لجنة وطنية لحقوق الإنسان، تتمتع باستقلاليتها عن الأجهزة الحكومية في المملكة، لحصلت على وثائق كثيرة موثقة تثبت هذا الأمر. ولتأكيد ذلك سأحصر استشهادي بقضية أعرفها وقد حدثت أثناء اعتقالي السابق في عام 1403هـ حيث توفي أحد زملائي في سجن وزارة الداخلية الكائن في مبناها القديم على طريق المطار، خلال فترة التحقيق معه، وهو المرحوم خالد النزهة، ويمكنكم التأكد من ذلك بالإطلاع على ملفات التحقيق في وزارة الداخلية أو بالاستماع إلى شهادة أهله.

ومن قبل خالد النزهة، مات محمد ربيع في سجن العبيد بالإحساء في الخمسينات الميلادية.

أسباب تفشي ظاهرة العنف والإرهاب في بلادنا:

ليس هناك ظاهرة اجتماعية يمكن تفسيرها بالاعتماد على عامل أو سبب واحد، مهما كانت أهميته ولذا فإن هذه الظاهرة منتج مركَب من بيئة يتوفر فيها اختلالات واختناقات في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية(12) ، وحين نبحث عن الأسباب التي أشعلت مظاهر العنف والإرهاب في بلادنا، فإننا لا نسعى إلى تبريره ولا تبرئته، وإنما نجتهد مع غيرنا في دراسة الظاهرة من كافة جوانبها بغية الوصول إلى الحلول الجذرية التي لا يمكن اختزالها في الجانب الأمني ـ رغم أهميته ـ وقد دان دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري في بلادنا كلٌ وفق قراءته، كافة مظاهر العنف والإرهاب وذلك في خطابي (دفاعاً عن الوطن)، و (نداء إلى القيادة والشعب معاً).

ويمكننا تقسيم الأسباب إلى قسمين:

• الأسباب الداخلية:

1- في ظل ممارسة الدولة لتغييب حواضن ومكونات تنظيمات المجتمع المدني في كافة مجالات الحياة، وفي ضوء تقلص دور تنظيمات المجتمع التقليدية التي كانت توفر الحماية ومشاعر الانتماء للجماعة، والأمان، لأفرادها من العائلة إلى الحي إلى العشيرة والقبيلة، فإن هذه العوامل قد أوجدت خللاَ اجتماعياً كبيراَ، أدى إلى تعميق مشاعر اغتراب الفرد عن محيطه، وإلى تأزيم إحساسه بفقدان الهوية والأمان النفسي والاجتماعي، وإلى تنامي مشاعر الإحساس بالضياع، لعدم وجود الجماعات المعبرة عن رغباته وميوله وآلامه وتطلعاته. كما عملت مظاهر الاستبداد والتفرد بالقرار السياسي، وغياب المؤسسات الدستورية، وانعدام المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وغياب حرية التعبير والتفكير والإبداع، وسوء توزيع الثروة، وتفاقم ظاهرة الفساد الإداري والمالي، وسواها من العوامل، لعبت مجتمعة على تعميق مشاعر الإحباط والغضب وانسداد الأفق أمام المواطنين وخاصة فئة الشباب منهم والذين يشكلون أكثر من 70% من عدد السكان في المملكة.

ولذا فإن التجمعات والتنظيمات الدينية عبر قنواتها الثقافية والدعوية والسياسية، وبدعـم - غير مقصود- من الدولة التي كرست حضورها ومشروعيتها دون غيرها، قد استطاعت أن تصبح مراكز استقطاب وحيدة للشباب الباحثين عن تحقيق الذات، والشعور بالأمان، وتعزيز الهوية. وهذا الأمر قد أدى بالطبع إلى إضعاف مشاعر الانتماء الوطني، وسهل التفاف هؤلاء الشباب حول قيادات وزعامات متطرفة في الداخل والخارج.

2- استطاع الخطاب الديني المتشدد أن يكرس منهجا أحادياً لاحتكار الحقيقة الدينية، وتهميش المذاهب الأخرى بما فيها تيار الوسطية والاعتدال، مما ساعد على بروز ظواهر الغلو والتطرف التي صبغت الحياة الثقافية والاجتماعية والإعلامية بألوانها. كما تمكن هذا الخطاب المتشدد من ترسيخ أسلوب التلقين والحفظ والتوجيه بدون مناقشة أو حوار في كافة مراحل التعليم ومناهجه، لتصبح ثقافتنا ثقافة انغلاق ونفي لكل قيم التسامح والحوار وقبول الآخر.

وقد ساهمت الاجهزة الحكومية في تعزيز هذا التوجه من جانبين: أولهما، اعتبار هذا التوجه معبراً عن نهجها، وثانيا السماح لهذا الخطاب المتشدد بإقصاء وتهميش وقمع كافة التيارات الفقهية والثقافية الأخرى. كما أن الأجهزة الحكومية قد مارست أساليب التضييق على المثقفين لمنعهم من القيام بأنشطتهم الثقافية في داخل البلاد وخارجها، بما في ذلك المنع من المشاركة في البرامج الفكرية والثقافية والسياسية في القنوات الفضائية(13)، كما مارست الأجهزة الحكومية كافة أشكال الرقابة والتضييق على الوسائل الإعلامية الحديثة كالإنترنت، والقيام بإغلاقها، خاصة إذا كان القائمون عليها من أبناء الوطن، مثلما حدث لموقع (طوى) الذي فتح الباب للمواطنين للتعبير عن مساندتهم لمطالبنا الإصلاحية والمناداة بإطلاق سراحنا بعد الاعتقال. كما أنها مارست ومازالت إيقاف الكتاب والصحفيين عن الكتابة، واستدعائهم للمباحث واعتقالهم ومنعهم من السفر إلى الخارج.

3- قامت المملكة، ومنذ إعلان توحيدها على يدي المغفور له الملك عبدا لعزيز في عام 1351هـ، بدور الحكم والوسيط القادر على حسم الخيارات الصعبة حين يعارض الخطاب الديني المتشدد مصلحة تطوير البلاد بالأخذ بمقومات التحديث. وقد كانت الدولة قادرة على تطويع العنف الرمزي للخطاب المتشدد بالحوار أو فرض الأمر الواقع، مثلما حدث في تعاطيها مع أجهزة التلكس والهاتف والتلفون والتلفزيون، وتعليم المرأة، وسوى ذلك. كما أنها استخدمت القوة في القضاء على العنف المادي والإرهاب الذي قاده رموز التشدد والعنف المسلح ضد الدولة منذ معارك الإخوان إلى احتلال الحرم المكي الشريف عام 1399هـ، ولكن الدولة كانت تقضي على تيارات العنف ثم تتبنى برامجهم ظناً منها أن ذلك سيقضي على أسباب الغلو والتطرف والعنف.

وبالرغم من النجاحات الظاهرية التي حققتها الدولة في هذا المجال، إلا أن عدم السماح لمكونات المجتمع المدني بممارسة حقها في النشاط، قد هيأ الأرض وباستمرار، لثقافة الغلو ومظاهر التشدد والانغلاق بالانتشار واحتكار الفضاءالثقافي دون منازع أو رقيب.

إلا أن تطور المجتمع وتعدد احتياجاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى ما وفره عصر التقنية والاتصالات من وسائط وممكنات حديثة ـ في ضوء عدم الاستجابة إلى تطوير المؤسسات الدستورية وإشراك الشعب في اتخاذ القرار ـ قد عزز من ظواهر الإحباط والغضب لدى مختلف الشرائع الاجتماعية ولم يعد محتكراً لتيار التشدد وحسب.

ولذا فإن الأساليب القديمة في معالجة هذه الاحتياجات ومقاربة هذه الظواهر ومنها ظاهرة العنف لم تعد مجدية، وهذا ما يستدعي ضرورة البحث الجدي في الأخذ بآليات بناء الدولة الإسلامية الحديثة لتحقيق مطالب الشعب التي ستسهم في الحد من استفحال ظواهر العنف والإرهاب أيضاً.

4- تشكل معالجة الدولة للحاجات المعيشية والاجتماعية للمواطنين في التعليم والعمل والصحة والسكن، الأساس الذي يحقق إحساسهم بالأمن والأمل والرضى، أو يدفعهم لليأس والغضب والتعبير العنيف عن تلك الأحاسيس. وفي بلادنا التي حباها الله بنعمة البترول الذي يدر على الدولة مئات المليارات سنوياً على مدى 30 عاماً، يغدو توفير ضرورات العيش الكريم لكل مواطن حقاً لا تنازل عنه. ولكن الذي يحدث في بلادنا من تفاقم للأزمات المعيشية والاجتماعية، ومن العجز عن الوفاء بالمتطلبات الأساسية للمواطن، قد ساعد على تكريس حالات اليأس والإحباط، ووضع الدولة في موقع المساءلة أمام المواطنين.

فبالله، بماذا نبرر فشل خطط التنمية في بلادنا في تلبية حاجات أبنائنا وبناتنا للمناهج التعليمية القادرة على ملاءمة مخرجاتها مع احتياجات المجتمع؟

- بماذا نجيب على غضب مئات الآلاف الذين لم تستوعبهم الجامعات رغم حصولهم على علامات عالية في الشهادة الثانوية؟

- ماذا نقول لمئات الآلاف من العاطلين والعاطلات عن العمل؟

- وكيف نغطي على عجزنا عن توفير المستشفيات والعلاج المناسب للمرضى في كافة أنحاء بلادنا؟

- وماذا نقول لمئات الآلاف من الأسر الفقيرة التي تعيش على الفتات بجوار القصور الفارهة، والتي كشف أوضاعها علنا سمو ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز في قلب الرياض، ليضعنا جميعاً أمام الحقائق الصعبة؟

- بماذا نطمئن الأجيال القادمة التي ستواجه مصيرها المظلم، حين نعجز ونحن نمتلك الثروات الطائلة عن وضع خطط التنمية الاقتصادية المستدامة؟

- كيف ننظر للمستقبل القريب حين ينضب البترول بعد خمسين عاماً وحيث نكون مكبلين بالديون التي تجاوزت اليوم في مجملها 700 مليار ريال؟

- ماذا نقول للمواطنين، حين نعجز عن تكوين جيش قوي يصد عن بلادنا غيلة الأعداء، وحين نضطر للاستنجاد بالأجانب لكي يدافعوا عنا ويقيموا قواعدهم العسكرية على أراضينا؟

- ماذا نقول لنصف المجتمع من النساء، وقد حرمناهن من التمتع بكامل حقوقهن، في مجالات التعليم والعمل والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار؟

- ثم، كيف يتم تصليب الجبهة الداخلية، وتعزيز مشاعر الانتماء للوطن، والالتفاف حول القيادة لمجابهة التحديات الخارجية، في الوقت الذي نمارس فيه التمييز الطائفي، والتمييز المناطقي في توزيع الثروة والمناصب القيادية، وتمارس فيه الأجهزة الأمنية مصادرة حرية التعبير السلمي عن الرأي، وتكمم فيه الأفواه، ويتم فيه تغييب الشعب عن المشاركة في صنع القرار، وتنتهك خلاله حقوق المواطنة ومواثيق حقوق الإنسان التي وقعتها المملكة؟

- كيف يمكننا المشاركة في معالجة المشكلات والأزمات والاختناقات ومظاهر العنف والإرهاب والتهديدات الخارجية، إذا كانت الأجهزة الأمنية جاهزة لكيل التهم لنا بإثارة الفتن وعصيان الدولة والتشكيك في مشروعيتها، ونحن لم نستخدم إلا اليسير من حقوقنا المشروعة في المطالبة السلمية والعلنية لقيادة بلادنا، بالمضي في طريق الإصلاح؟

• الأسباب الخارجية:

هناك رأي يعيد أسباب العنف والإرهاب في بلادنا إلى عوامل خارجية، نتجت عن احتضاننا لقيادات وكوادر الإخوان المسلمين من الستينات(14)، ولعل هذا الرأي يؤكد مظاهر تلاقح الفكر الأصولي المتشدد في بلادنا مع الفكر الحركي للإخوان المسلمين.

وإذا كان هذا السبب هو العامل الرئيسي في استشراء ظواهر العنف والإرهاب في بلادنا، فمن المسئول عنه؟ أليست الأجهزة الحكومية؟

وهناك من يعزو ظواهر الإرهاب إلى انخراط الآلاف من شبابنا في معسكرات التدريب والحرب في أفغانستان، حيث تعلموا أساليب التنظيم السياسي والعسكري وتشربوا مناهج العنف وتكفير الحكومة والمجتمع معاً.

وإذا كان الأمر كذلك، فمن المسئول؟ ألم تدخل المملكة في الحرب شريكاً مع أمريكا، وساهمت بالأموال والسلاح، بحسب ما أورده الأمير تركي الفيصل في برنامج أذيع على المحطة BBC يوم 28/8/2004م؟

وإذا كان هذان السببان وجيهين، فهل نغفل الأسباب الداخلية التي تحدثنا عنها آنفاً؟ وهل يمكن لنا إغماض أعيننا عن المظالم الأمريكية في العالم العربي والإسلامي، وفي فلسطين والعراق تحديداً؟

إن هذه المظالم المستمرة التي تمارسها الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل ضد العالمين العربي والاسلامي، إضافة إلى عدم نجاح حكومتنا - كحليف استراتيجي للولايات المتحدة - في استخدام موقعها الهام وثروتها، في الضغط على ذلك الحليف لتعديل كفة الميزان المختلّ، قد دفعتنا حكومة وشعباً إلى تبني مشاعر الرفض لتلك السياسة المنحازة.

واستشهد في هذا السياق بما قاله الأمير تركي الفيصل سفير المملكة في بريطانيا في مقال بعنوان (آن وقت التحرك معا.. حتى لا ينجح المتعصبون في إفساد العلاقة بين الشرق والغرب)، إذ يقول: (وهكذا فإننا نواجه بعد ما يقرب من مئة عام، المشاكل ذاتها في المناطق ذاتها والوعود ذاتها، ولكن هذه الوعود اليوم هي وعود خاوية، فالكثير من العرب يخشون اليوم من أن العراق ينحدر إلى مصير مدمر، وسيجد نفسه في المأزق نفسه الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني. إن عدم الإستقرار والأزمة غذاؤهم اليومي، وهذا التعامل غير السليم وإرث الوعود الخاوية يثير النشاط الإرهابي والإستياء) (الشرق الأوسط / العدد9444 بتاريخ 6/10/2004م).

وإذا كانت الجذورالفكرية للإرهاب تعد العامل الأبرز من بين العوامل الأخرى التي تتحكم في استمرار المنخرطين اليوم في دوامة العنف والإرهاب في بلادنا نتيجة لتأثرهم بثقافة الكراهية والعنف والتدمير والموت ونبذ الحياة من خلال البرامج والتسهيلات المؤسساتية عبر المنابر والمدارس والشاشات والإذاعات وكل مفاصل التربية والإعلام، فإن مجمل العناصر الأخرى التي تحدثنا عنها هي التي تفسر قناعات وممارسات المتعاطفين مع الإرهاب أو الصامتين عن إدانته.

ولكن الأمر الآخر الذي أود الإشارة إليه هو أن تلك الأسباب ـ وبغض النظر عن ظاهرة الإرهاب الحالية - ما زالت تنذر بمخاطر دفع الآلاف من العاطلين عن العمل، والطبقات المحرومة والفقيرة، والطلاب الذين لا يجدون مقاعد في الجامعة، والفئات التي تتعرض للتمييز الطائفي وسواهم، إلى التعبير عن مطالبهم وحاجاتهم بأشكال أخرى من العنف الفردي أو الجماعي، ومنها تدمير الذات بطرق عديدة.

أما الآن، وتأسيساً على ما أوردناه من أسباب كامنة خلف مظاهر العنف والإرهاب، فإننا نخلص إلى القول، بأننا حين نحدد مظاهر الأزمة وجذورها، لا نهدف إلى تسويغ أو تبرير العنف سواءً أتى من الأفراد أو من الدولة، وإنني كأحد دعاة المجتمع المدني أدين الإرهاب مهما كانت الأسباب، وأدعو إلى ممارسة التعبير عن الرأي بالطرق السلمية المشروعة. كما أنني في نفس الوقت، أرى أن الحلول الأمنية لوحدها عاجزة عن علاج ما نشهده من عنف أو ما ستحمله الأيام القادمة من أشكال أخرى له، وأن المدخل العملي الصحيح القادر على الحد من ظواهر العنف والإرهاب يكمن في البدء في عملية الإصلاح السياسي والدستوري الشامل، وتشريع عمل جمعيات المجتمع المدني ومنظماته، وإعلان الدولة التزامها به وفق جدول زمني متدرج. وذلك ما سيعمل على ترسيخ قيم التسامح والحوار والحرية والقبول بالاختلاف، وحقوق الإنسان، ويساعد بلادنا على تجاوز الأزمات والاختناقات التي تعيشها، وهو ما سوف يعمل بفاعليه على الحد من ظواهر التشدد والإقصاء والعنف من حياتنا الاجتماعية والثقافية.


إحالات:

(1) المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية ـ د. برهان غليون

(2) المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديموقراطية ـ د. كمال عبد اللطيف

(3) مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي- الدكتور أحمد شكر الصبيحي- مركز دراسات الوحدة العربية.

(4) المصدر السابق

(5) المصدر السابق

(6) الشرق الاوسط ـ عدد 9370 - د.زين العابدين الركابي

(7) مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي- الدكتور أحمد شكر الصبيحي- مركز دراسات الوحدة العربية.

(8) العقل السياسي العربي ـ الدكتور محمد عابد الجابري ـ مركزدراسات الوحدة العربية

(9) المصدر السابق

(10) المجتمع المدني في بوتقة الإسلام ـ بحث مخطوط للدكتور عبد الله الحامد

(11) الشرق الاوسط، عدد 9338، غسان سلامة

(12) العنف والإصلاح الدستوري ـ بحث مخطوط للدكتور متروك الفالح

(13) المصدر السابق

(14) المصدر السابق

الصفحة السابقة