دلالات مكتومة

بيان التيار السلفي حول المقاومة في العراق

بلغة مباشرة وذات إيحاءات شديدة البلاغة أصدر ستة وعشرون من أقطاب التيار السلفي الناشط في السعودية من أساتذة الفقه والتفسير والعقيدة والدراسات الاسلامية العامة في الجامعات الاسلامية في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة وهكذا مشرفين على مواقع اسلامية على شبكة الانترنت، أصدروا بياناً مفتوحاً للشعب العراقي في الثاني والعشرين من شهر رمضان الموافق الخامس من نوفمبر الجاري. وقد جاء البيان عقب أنباء عن قرب موعد اجتياح مدينة الفلوجة التي يتحصن فيها أفراد المقاومة من جنسيات عربية مختلفة.

خلفية البيان ودلالاته

لقد ثبت من خلال تسلسل الاحداث وتطوّرها منذ سقوط نظام صدام حسين بأن العراق فتح شهيّة علماء المؤسسة الدينية، وبخاصة الطبقة الثانية في التراتبية العلمائية في المجتمع الديني النجدي، سيما وأن هذه الطبقة تشعر بالتحرر من التزامات المؤسسة.. لقد فتح العراق شهية خاصة لدى أفراد هذه الطبقة، وبهذا تحوّل هذا البلد كما أفغانستان مصباً لاحتقانات الخارج، وأيضاً تجسيداً للمهام المعطّلة في البلدان التي قدم منها المنخرطون في مشروع المقاومة بما في ذلك جهاد المشركين.. لم يكن لدى افراد هذه الطبقة اهتمامات خارج الحدود، ولكن منذ انهيار البرجين وتحوّل السعودية الى دولة مستهدفة، ليس كمؤسسة حكم فحسب بل ومؤسسة دينية أيضاً، حيث بدأ الحديث يدور عن تخفيض شديد لدور هذه المؤسسة في الحياة السياسية.. ثم جاء العراق وتحوّلاته السياسية الكبيرة والتي تضمنت مخاوف من اختلال ميزان القوى الداخلي لصالح الشيعة المناوئين تكوينياً للحركة السلفية حيث ظهر اول بيان لأفراد هذه الطبقة باسم الامة يحّذر فيه من انهيار الحكم في العراق ويطالب الامة بالوقوف الى جانب أهل السنة في العراق كيما لا يقع الحكم في أيدي الشيعة.. كان ذلك قبل اندلاع الحرب.. ثم لما وضعت الحرب العسكرية النظامية اوزارها وزال النظام، كان افراد هذه الطبقة يصدرون الفتاوى تباعاً والداعمة لحركة مقاومة قوات الاحتلال بل وكانت تدفع أفراد التنظيم الجهادي في الداخل للانتقال الى العراق وتعهّدوا لهم بتوفير مصادر تمويل وتهريب وتسلل الى العراق.. اضافة الى التغطية الشرعية المتصلة.

عوض القرني ـ الحوالي ـ العودة : رموز التشدد والعنف

إن الربط بين عمليات المقاومة في العراق وأفراد هذه الطبقة من الموقّعين على البيان وثيق وبخاصة في مجال شرعنة المقاومة، التي التصق بها من المخازي من قبيل قتل الاسرى والخطف والمساومات المالية على ارواح البشر والسرقة العلنية وغيرها من الفضائح المثيرة للازدراء.

لقد قيل كلام كثير عن مصادر التوجيه والافتاء لدى المنخرطين في عمليات المقاومة، وجاء البيان ليؤكد الارتباط العضوي والتوجيهي بين الموقّعين وبعض المنخرطين على الاقل في عمليات المقاومة داخل العراق، ولعل لغة البيان توحي بتلك العلاقة الوثيقة والمستجدة مع العراق الغائب في الاجندة السلفية لعقود طويلة. غير أن أهم دلالات البيان هي على النحو التالي:

1 ـ إن محتويات البيان توحي بإعتقاد الموقّعين بأنهم وحدهم الجهة المخوّلة بتمثيل الامة، وهم أصحاب الصوت الشرعي الأعلى والنهائي فيها. إن ثمة تعالياً واضحاً في لهجة البيان بتلك النزعة التعليمية التي يحاول الموقّعون تثبيتها عن طريق إبلاغ الشعب العراق بقائمة توصيات في البناء والاعمار والوحدة والتعامل الشرعي مع المصالح العامة..

2 ـ إن أعضاء التيار باتوا على قناعة بأنهم يمثلون قوة توجيهية رئيسية ليس في العراق وحده بل وفي داخل المملكة، ولها أتباع ومناصرون وهناك من يمتثل لإملاءاتهم.. في الواقع ان البيان ينطوي على نزوع شديد نحو تجاوز النظام المراتبي الديني السائد في المملكة، فالبيان يوحي بأن الموقعين قد كسروا احتكارية التوجيه الديني المزموم بلجام السلطة، وبالتالي فإن الموقّعين كسروا حاجز الصوت في الفضاء الديني أولاً والفضاء السياسي ثانياً، حيث ألغوا من الناحية العملية الوصاية الدينية لهيئة كبار العلماء، كما تحرروا من قيود السياسي وهيمنته على القرار الديني..

وصف أحد كتاب موقع الساحة على شبكة الانترنت الموقّعين على البيان بأنهم (مجموعة من علمائنا الكرام الذين لا زال لديهم بقية من رفض الباطل (مهما جـُـمِّـل ومهما زُين!!) ومن مؤازرة المظلوم والوقوف في وجه الظالم وإرهابه ووحشيته... إنهم ثلة مباركة من أصحاب (الضمير الحيّ)... ممن لم يتلوث دينهم بالنفاق... و تتلوث أخلاقهم بالكذب... وممن لم تتلّوث عقولهم بالشر والإجرام... وممن (وهذا هو الأهم) لا زالوا يخافون الله عز وجل... وممن أبوا إلا أن يترجموا ما يشعر به كل إنسان (شريف) في بلادنا من الألم والقهر وقلة الحيلة...

إن ما صرح به هؤلاء العلماء الذين يمكن بحق تسميتهم (هيئة كبار العلماء الحقيقية) لهو بحق لسان حال شعبنا المغلوب على أمره والمضطهد في وطنه والمقموع حتى من مجرد إبداء أي رأي يخالف رأي البيت الأبيض أو يتعارض مع إرهابه الذي طال حتى شعبنا...

إن هذا البيان ليعيد للناس بعض الثقة التي فقدوها في كثير من علماء هذا العصر (الرسميين) الذي جعلوا دين الله عز وجل وسيلة لإستعباد الإنسان ولإخضاع الشعوب. لقد أصبح كثير من الناس ينظر إلى المناصب الدينية وشاغليها نظرة إزدراء واحتقار... لأن كثيراً ممن تولوا تلك المناصب خانوا الأمانة التي أؤتمنوا عليها وخانوا دين الله عز وجل بطعن الصالحين في ظهورهم وتبرير الجرائم للمجرمين والقتلة...).

3 ـ إن البيان يترجم إحساساً عميقاً لدى الموقّعين بأنهم متهّمون في تشجيع العمليات العسكرية في العراق في أشكالها الوحشية واللاإنسانية، الامر الذي اضطرهم لشرح وجهة نظرهم وربما تعديلها بعدم استهداف المدنيين.

4 ـ أن ثمة رسالة يبعث بها الموقّعون على البيان لأفراد الجماعات الجهادية في داخل السعودية بنقل عملياتهم الى العراق وتوجيه ضرباتهم ضد قوات التحالف، وقد حدث أن قام بعض رموز التيار السلفي مثل الشيخ سفر الحوالي والشيخ محسن العواجي وغيرهما بإقناع أعضاء التنظيم الجهادي في المملكة بالهجرة الى العراق والانضمام الى قوافل المجاهدين ضد المشركين وأهل الضلال في العراق. وهذا البيان جاء ليؤكد شرعية الجهاد على العراقيين وغيرهم واعتبار ان مساعدة الشعب العراقي في مقاومة المحتلين واجب شرعي على كل مسلم.

قراءة أوليّة في البيان

لم يخفِ الموقّعون على البيان الموجّه (الى الشعب العراقي المجاهد) خلفية التوقيت، حيث كان الدافع وراء صدوره هو (الحال الاستثنائية) التي يمر بها العراق بحسب البيان، ولا نظن أن الحال الاستثنائية قد تطلبت هذا العناء من الجهد من أجل تركيز البيان حول معركة الفلوجة المنتظرة، بالرغم من أن أحوالاً استثنائية اخرى سابقة قد شهدتها مناطق أخرى من العراق دون أن يكلّف الموقعون أنفسهم عناء صياغة بيانات مماثلة، فهذه الاستثنائية لم تكن عراقية بالمعنى الجغرافي الشامل، وإنما بالمعنى الاقليمي والايديولوجي، أي باعتبار أن الفلوجة تحوّلت الى حصن للمقاومة الخاضعة تحت تأثير التوجيه الايديولوجي في المملكة، فكتائب المجاهدين المتدافعين من خارج الحدود الى الفلوجة يستلهمون من فتاوى الموقّعين معانٍ خاصة في الجهاد والمقاومة تماماً كما هو الحال بالنسبة لقوى المقاومة الاخرى في أرجاء من العالم.

من الغريب، أن العراق الذي كان يوصم بعش الفتن والشقاق في الادبيات السلفية، حتى أن أحدّهم تأول تعسفاً الحديث المروي عن المصطفى بأن نجد هي مصدر الفتنة واليها تعود بأن المعني بها العراق، ولكن بات الاخير الآن بلداً مسلماً يخاف عليه ويجتهد الموقعون في حفظ مصلحة أخوانهم المسلمين (في هذا البلد العريق)!

وكما هي العادة المتبّعة فإن تدبيج البيانات باللغة الدينية الطافحة بالآيات الكريمة والاحاديث النبوية مسلكاً معهوداً يراد منه إحتكار المشروعية الدينية وحق استعمال النصوص المقدّسة في معارك سياسية محضة.

لقد نبّه الموقّعون الى خطورة الدوافع الحزبية والفئوية والمطامع الدنيوية، وهو تنبيه كان ضرورياً قبل أن تسيل الدماء في شوارع العراق على ايدي الانتحاريين الذين يلبّون نداء خارجياً يطلقه المحتكرون للحقيقة الدينية الخالصة. فتلك الدوافع لم يجر التنبيه لخطورتها في عمليات زرع المتفجرات والشاحنات المفخّخة وعمليات الخطف العابث وسحل الابرياء، فلماذا الدم يسترخص حين يسيل من أجساد من هم على غير أهل دعوة الموقّعين على البيان.

إن إمضاء العدل والانصاف لا يتحقق حصرياً في ظروف استثنائية (كما في حال الحرب على الفلوجة) بل هو قانون شرعي وانساني لا يخضع لتبدّل الظروف والاحوال.. كنا ننتظر بياناً من هذه الفئة المتصدّية لقضايا الامة، يحذّر من الفتنة والانقسامات الداخلية قبل ان يحيق الخطر بالفلوجة معقل المقاومين. فتلك الفتنة أطلّت برأسها منذ أن تسللت الى العراق جماعات نصّبت من نفسها القوة المنافحة عن الشعب العراقي وأرضه وتاريخه وحضارته، وكأنه ليس العراق الذي تعلمنا منه جميعاً معاني المقاومة والتحدي ضد الاستعمار، وكأنه ليس العراق الذي انطلقت منه حركات المقاومة الشعبية منذ العشرين من القرن الماضي.

لم يتسلل الشقاق الى جسد هذا الشعب حين كانت تلتقي زعامات العراقية الدينية والسياسية والاجتماعية على كلمة سواء في مواجهة المحتل الاجنبي، ولم يعرف العراق التقسيمات المذهبية والمناطقية قبل أن يبعثها طواغيت السياسة، ثم أذكاها القادمون من خلف الحدود.. كان التزاوج والتداخل الاجتماعي قائماً بين فئات الشعب العراقي دون نظر الى الانتماءات المذهبية والقومية والاجتماعية فكان السني يتزوج من شيعية وبالعكس، والعربي من كردية وبالعكس، حتى أصبحت الانساب متظافرة متداخلة.. ولم يفهم العراقي لهجة التمذهب قبل وصول جحافل المقاومين، بل كان التخاطب على أساس سني وشيعي ممقوتاً بل ومجهولاً، واذا بالعراق يصبح على أيدي القادمين الجدد خاضعاً لقسمة مذهبية بعد سقوط الصنم، وكل ذلك لأن في خارج الحدود أصواتاً تحاول نقل أمراضها الى داخل العراق.

إن الحديث عن الرؤية الواقعية وفهم الخارطة الداخلية للعراق كان لفتة هامة في بيان الموقّعين ونأمل أن يصيغوا بياناتهم ومواقفهم في قادم الايام على ضوء تلك الرؤية والفهم، لأنها وحدها الكفيلة باخراج العراق من محنته السياسية وسيما الطائفية منها والتي تندس اصابعنا فيها على مدار الساعة.

ولذلك قبل أن يوصي الموقّعون على البيان الشعب العراقي بعدم إيذاء رجال المقاومة، أو الابلاغ عنهم، كان يفترض ان يوصي هؤلاء المقاومين بضرورة احترام الارواح التي تزهق بغير رحمة وبلا هوادة، وتجنّب اسالة محجمة من دم قبل تأمل طويل وادراك عميق لحرمة الانسان، ليس على طريقة أولئك المسترخصين لدماء وأرواح ومصائر البشر حقاً كان ام باطلاً.. كان يفترض أن يوجّه المنبريون بيانات شديدة اللهجة ضد تخريب المنشآت النفطية والعامة، واستعمال الابرياء دروعاً بشرية في المباني العامة التي يتحصن فيها هؤلاء المقاومون، أو أن يفخخوا المباني السكنية أو يملأوا الطوابق السفلية بكميات كبيرة من المتفجرات رغم علمهم بأن فوقها ينام النساء والاطفال وكبار السن، ويعدّون ذلك من أعمال المقاومة.. المقاومة قبل أن تبدأ ضد الآخر المحتل والطاغوت، هي مقاومة ضد شرور النفس وغلوائها، أين ذهب تعليم المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم بأن الجهاد الأكبر مقدّم على الجهاد الاصغر، أليس جهاد النفس من أشرف أنواع الجهاد لأنه وحده الحصن الحصين ضد انحراف المسيرة وانبعاث الاطماع الدنيوية.

ألم تكن عبارة (حفظ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم) أولى بالجأر بها منذ اليوم الأول لسقوط الصنم، فلماذا يصبح الخوف من الخسارة السياسية الدنيوية محركاً نشطاً على بيانات لا تصدر الا حسب الحاجة الخاصة، والمصلحة الخاصة، ولحساب الجماعة الخاصة.. فهل الدماء تقاس بالمصالح أيضاً، أم أن الدماء البريئة لا تكون كذلك الا حين ينزفها رجال المقاومة اما المتساقطون في الشوارع العامة وفي داخل المباني وعلى نقاط تفتيش استثنائية ينصبها قطاع الطرق فيقتلون وينهبون بإسم المقاومة، فدماؤهم مستباحة فلا ينفر لها العلماء بل ينفروا منها.

وعلى أية حال كان استدراكاً صائباً وإن جاء متأخراً من قبل الموقّعين على البيان المفتوح للشعب العراقي، التشديد على قطع دابر التأويل في دماء المسلمين والأبرياء من عراقيين وأجانب سيما أولئك الذين جاءوا بنيّات صافية لتقديم خدمات إنسانية جليلة لشعب العراق المظلوم.. ستحسب للموقعين يقظتهم المتأخرة فيما يتصل باستسهال الدماء المهدورة في الشهور الماضية، وإن ارتبطت اليقظة بالمعركة الجائرة على الفلوجة، التي ندعو الله ان يحقن فيها دماء الابرياء ويحفظ فيها المال والعرض.

وسيحسب للموقّعين إحساسهم المتأخر أيضاً بخطر التفكك في العراق، على خلفية مذهبية او قومية، خشية وقوعه فريسة لمؤامرات خارجية، وإن كان الاحساس مرتبطاً أيضاً بتداعيات التفكك على العراق وعلى دول الجوار بما في ذلك السعودية.

لاشك أن البيان حوى نصائح ذات بعد انساني وقبل ذلك الهي كالدعوة (الى الاصلاح والبناء والاعمار المادي والمعنوي والاعمال الانسانية والتربوية والعلمية والمناشط الحيوية) وهي دون شك مهمات منتظرة واستراتيجية في العراق في المرحلة القادمة، ولاشك أيضاً أن العمل الجماعي والمؤسسي هو الآلية الفاعلة في مرحلة البناء الشامل للعراق المتهدم على يد طواغيته السابقين.. ولا شك أيضاً أن الارتقاء فوق الانتماءات الخاصة المذهبية والقومية والاجتماعية هو السبيل الوحيد لاعادة بناء الوحدة الوطنية والضمانة الوحيدة لتماسك الشعب والتراب العراقيين. وهي نصائح على أية حال صالحة للتطبيق في كل بلد بما في ذلك المملكة التي تعاني من نفس الامراض المشار اليها سلفاً.

الصفحة السابقة