الطريق الى كابل

وجه مستور للشرق الاوسط

انتخابات الرئاسة الاميركية كانت ذات نكهة خاصة هذه الدورة، فقد وصفت بأنها أشبه ما تكون بانتخابات محلية في دول عديدة من العالم. الأهم في هذه الانتخابات هو المردودات السياسية المتوقّعة، فهناك كثير من الدول عوّلت كثيراً على بقاء أو رحيل الرئيس بوش، فالذين أرادوا بقاءه يتطلعون الى استكمال ما بدأه من مشاريع سياسية كما في أفغانستان والعراق، وتراهن قوى سياسية معارضة الى أن تحظى بلدانها بالاحتلال!!.. في المقابل هناك عدد كبير من الحكام العرب والعجم من راقب بقلق شديد وطمع أشد في نجاح جون كيري بالرئاسة من أجل وضع حد لكابوس بوش الذي دام أربع سنوات، وهي الفترة التي تهاوت فيها الاحلاف، وتمزقت فيها الروابط بين الولايات المتحدة ودول عديدة في العالم على أساس القسمة التي وضعها الرئيس بوش بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر إما معنا أو مع الارهابيين أو إما معنا أو ضدنا.

هل هناك مفاجأة في العلاقات؟

كانت إنعاكاسات عهد الرئيس بوش بالغة القسوة على الحكومة السعودية، فقد فجّر تورط خمسة عشر سعودياً في هجمات الحادي عشر من سبتمبر دع عنك سعودية الاعضاء القياديين في شبكة تنظيم القاعدة ومصادر تمويلها، فجّر قضية ذات انشعابات تتداخل فيها العناصر السياسية والأمنية الى تصفية حسابات قديمة الى البعد الايديولوجي.

ولم يكن (الطريق الى كابل) سوى طريقاً الى وضع قصة الجهاد الافغاني بكافة أطرافها وأهدافها وتداعياتها تحت مجهر يحاول الجميع أن يسدل عليه طبقة سوداء، فتلك القصة ليست نزيهة تماماً.. في افغانستان أريد للحقيقة ان تطوى سريعاً، فقد تم اخراج القوات السوفييتية وبتر جذور الالحاد الشيوعي، وهذا وحده الجانب الذي أريد له أن يسود وأن يتم تلقينه لكل الذين لفظتهم أجواف بلدانهم الى خارجها ولكل من سقطوا تحت موجة الدعاية الكثيفة التي كان الجميع يطلقها بما فيها حركات الجهاد الافغاني وهكذا الافغان العرب..

بالنسبة للسعودية فإن رحيل بوش من البيت الابيض سيغلق ملف سبتمبر ـ ولو جزئيا على الأقل ـ بكل أسراره وعقوباته، لأن بقاء هذه الملف مفتوحاً يعني المزيد من التحقيق في التاريخ، ونبش قبور المجاهدين، وملاحقة مصادر تمويلهم، وكشف أنباء اللقاءات السريّة وشبكة انتقال الافراد والاموال عبر عواصم عالمية قبل ان تصل الى مثواها الاخير.

في عهد الرئيس بوش، بلغت العلاقات السعودية الاميركية مرحلة من التدهور لم تشهدها من قبل، فلأول مرة يصبح أمراء كبار مثل وزير الدفاع الامير سلطان ووزير الداخلية الامير نايف على قائمة المطلوبين في الولايات المتحدة من أجل التحقيق في تورطهم في أعمال إرهابية كتمويل لنشاطات جماعات مرتبطة بتنظيم القاعدة... ولأول مرة يصبح السعودي مواطناً ومسؤولاً موضع شبهة، ويخضع للتحقيق والرقابة في مطارات غربية عديدة، بل إن دولة مثل سنغافورة كانت تطلب كفيلاً للمتقدمين من هذا البلد بطلب تأشيرة سفر. في حقيقة الأمر، خلال أربع سنوات من عهد الرئيس بوش تغيّر كل شيء بالنسبة للسعودية ومواطنيها، وباتت الأغلبية تدفع حماقات واقترافات أقلية في مؤسستي الحكم والدين. لقد تم هدر بلايين الدولارات على مشاريع دعوة تخفي بداخلها مضامين انفجارية، وتواطئات سريّة يشارك فيها عملاء السي آي أيه مع قوافل المبشّرين الذين أخذوا على حين غفلة وبلاهة للانخراط في عمليات استخباراتية معقّدة. وكانت النتيجة أن الأخطاء الحمقاء حققت مكاسب كبيرة، فقد ألهبت اقترافات سبتمبر نزعات الابتزاز التي لم تتوقف عند حد معاقبة المتورطين في تلك الهجمات الانتحارية بل طالت المنطقة والعالم.. كان تغيير طبيعة النظام الدولي، والتحالفات الثنائية شكلاً ومضموناً بحاجة الى حدث ضخم كيما يجعل التغيير مشروعاً وقبل ذلك ممكناً، فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي أصبح العالم رتيباً ولم تعد قوانين الطبيعة والجدارة الذاتية وحدها الشروط الضرورية والوحيدة للبقاء، إذ لا بد من صناعة الأزمات وتفجيرها كيما يحقق الأقوياء شروط بقائهم وتفوقهم.

كانت طهران وبيروت تتقاسمان في الثمانينات الصراع الدولي مع الولايات المتحدة ثم انتقلت مراكز جاذبية الحرب الكونية الى كابل وبغداد، وربما الرياض ودمشق في وقت لاحق. كل الحروب الخفية تصل لحظة استعلان حين يراد تدويلها، أو تعديل ميزان القوى الاقليمي او الدولي.

كانت الحرب العراقية الايرانية الساتر الامامي لساحة الجهاد الافغاني، تلك الساحة التي امتصت واستثمرت الفائض الاحتجاجي المحلي الثابت والكامن في بلدان عديدة من دول المنطقة، فكانت التعبئة الشاملة مفتوحة على وسائل وخيارات عمل متنوعة، فقد اصبحت المساجد مراكز تجنيد للمحاربين في كتائب الجهاد، فيما كانت حملات التبرع تمتد من أكوام العلب المنتشرة في المساجد والمحال التجارية ومراكز التسوق ومحطات التزوّد بالوقود، الى مبانٍ ومؤسسات الحكومة.. كل المتبرّعين يلبّون نداء مفتوحاً ومتصلاً من أجل الفوز بالمشاركة في مشروع الجهاد ضد الالحاد السوفييتي. وكانت دول عربية محددة مثل مصر والسعودية والجزائر تمثل خزّانات بشرية ولوجستية لمشروع الجهاد، وكل ذلك تحت إشراف المسؤول الاميركي المقيم في القاهرة.

كانت افغانستان تمثّل معركة حاسمة للحرب الباردة بين الشرق السوفييتي والغرب الاوروبي والاميركي، وكان من الطبيعي ان يكون حلفاء المعسكرين في الشرق الاوسط شركاء في تلك الحرب، وكان لابد للحلفاء ان يؤطّروا مشاركتهم في تلك الحرب دينياً وسياسياً، فلكل دولة أن تستمد من خطابها الخاص ما تبرر وتشجّع الانخراط في تلك الحرب.. فللولايات المتحدة أن تضعها في اطار الحرب الباردة ضد المعسكر الشرقي، وللسعودية مثلاً أن تضفي عليها حرباً دينية ضد الالحاد الشيوعي، ولعل في ذلك ما يكفي للتعاون الثنائي والتنسيق، بل و(تديين) الحرب في افغانستان لتصبح جهاداً.. وهذا لا يبرر على وجه الاطلاق الغوغائية والبشاعة الشيوعية السوفييتية واجتياحها الأخرق والهمجي لبلد آخر ذي سيادة وحكم وشعب.

أفغنة العراق سعودياً!

على أية حال، فإن ثمة قصة في افغانستان كتبت فصولها أطراف عديدة: الولايات المتحدة، الدول العربية المشاركة في مشروع الجهاد الافغاني، باكستان وروسيا، الحركات الافغانية، الافغان العرب.. هؤلاء جميعاً ضالعون بصورة مباشرة في قصة الجهاد الافغاني، ويدركون تماماً متى وكيف انطلق ركب الجهاد وماذا أفرز في منتصف الطريق وتداعياته، والخطوط الخفية والدقيقة لهذا المشروع، ثم التحوّلات الدراماتيكية في ميزان القوى الداخلية الافغانية لصالح حركة طالبان، تلك الحركة المحفوفة بكل شك مشروع، ثم بزوغ شبكة تنظيم القاعدة التي تحوّلت الى الحاضن الأكبر للمجاهدين العرب والمسلمين الذين توافدوا من كافة أرجاء العالم الى افغانستان. كل ذلك كان يدور في أجواء ودّية بين تلك الاطراف جميعا، باستثناء الطرف السوفييتي المستهدف الأول ـ وليس الأخير ـ في مشروع الجهاد الافغاني.

في الواقع، كانت نهاية الحرب الايرانية ـ العراقية في يوليو 1988 ثم سقوط الاتحاد السوفيتي في السنة التالية وضعا حدّا لأية تساؤلات حول قصة الجهاد الافغاني، لولا أن الافغان العرب الذين عادوا الى بلدانهم أولاً في الجزائر ثم مصر وهكذا نقلوا خبراتهم الجهادية الى بلدانهم، خصوصاً وأنهم جاءوا محمّلين بطموحات ترتقي الى مستوى الالتحام بالقوة الثانية في العالم، والاطاحة السياسية بأنظمة حكم عميلة.. فهؤلاء لم يتم استيعابهم في بلدانهم، ولم يخضعوا تحت برامج إعادة تأهيل فكري واجتماعي قبل ادماجهم في المجتمع.. فقد عاد اسامة بن لادن بطموح فيصل الدويش الذي أراد أن يتولى حكم المدينة بعد احتلال الحجاز عام 1926، أما أسامة فقد أراد أن يصبح قائداً في الجيش وأن يضطلع بدور كبير في المؤسسة العسكرية وقد وضع خطة عسكرية في حرب الخليج الثانية 1991 من أجل مواجهة خطر عدوان محتمل تقوم به قوات صدام حسين.. لقد عجزت الدولة السعودية عن استيعاب الرجل الطموح في جهازها، الامر الذي أبقى لهيب التطلعات الكبيرة مشتعلاً ليس في صدر وذهن أسامة بن لادن فحسب، بل وفي مئات القادمين من افغانستان الذين لم تعد الحياة الرتيبة تمثل مكافأة مغرية تستحق التحرر من الاحلام الكبيرة. إن واحدة من أشد إخفافات الدول التي انطلقت منها كتائب المجاهدين العرب الى افغانستان هي عجزها عن اعداد خطة استيعاب وادماج للعائدين، فقد اعتقدت هذه الدول بأن ريثما يعود المجاهدون من سوح القتال منهكين ستقابلهم الدنيا بمغرياتهم وسينشغلون بالحياة الخاصة والوقوع في فخ ثالوث البيت، الزوجة، والوظيفة. ولكن على العكس من ذلك، فإن افغانستان وانتصار مشروع الجهاد قد صنع وعياً أخروياً وبطولياً يصعب ادراكه بالنظر المباشر، فهناك عالم آخر قد تشكل في أذهان المشاركين في الجهاد الافغاني..

لم يكن مفاجأة أن لا تضع نهاية الجهاد الافغاني حداً لحركة المهاجرين في شكلها الارتدادي، فقد ضاقت الدول المصدّرة للمجاهدين عليهم، واتسعت الدولة المستوردة حتى أصبحت وحدها المكان الذي يمكن للمجاهدين ان يحققوا على أرضها وفيها حلماً قديماً.. أي اقامة دولة الامة أو الخلافة.. فقد خرج اسامة بن لادن من بلاده في السنوات الاولى من العقد التسعيني باتجاه السودان، والتي لم يقم فيها طويلاً كيف وهناك سابقة في هذا البلد حيث تم تسليم كارلوس الى الحكومة الفرنسية، ويخشى أن يقع ضحية مساومات سياسية سرية. عاد الى افغانستان تاركاً وراءه مشاريع اقتصادية مربحة واخرى طموحة في مراحلها الاولى.. عاد الى افغانستان ليبدأ مشروعاً جهادياً كونياً، منذ ان عقد تحالفاً مع المهندس الجهادي المصري الدكتور أيمن الظواهري.. وهناك أعيد تشكيل خلايا الجهاد التي كأنما استحثها الاحساس بالخديعة من المحرّكين السابقين كيما يشرعوا في رحلة الانتقام الجديدة، فبعد أن كان أفراد تلك الخلايا يعملون تحت إمرة المسؤول الاميركي الذي يدير مشروع الجهاد الافغاني هاهم اليوم ينقلبون عليه وضده..

من هناك بدأت قصة الانفصام التي أعقبها سلسلة انفصامات متوالية طالت العلاقة بين الرياض وواشنطن، التي دفعت ليست ضريبة اخفاق عدم تأهيلها لمجاهديها، وليس لصدمة غارة نصير الأمس على الكويت فحسب، بل ولتحميل واشنطن إياها مسؤولية ما جرى عليها من هجمات انتحارية قارعة.

كان الحادي عشر من سبتمبر انفجار قصة الجهاد الافغاني، والتعبير المدوّي عن الاحساس بالخديعة لدى الافغان العرب العائدين بالخيبة من بلدانهم الى افغانستان ثانية للتعاقد مجدداً ولكن هذه المرة ليس على اعلان الجهاد ضد الروس ولكن على حلفاء الأمس، الذين ألهتهم المحنة الافغانية عن النظر الى تناقضات الموقف الاميركي في مناطق اخرى، وخصوصاً فلسطين التي لم تدخل هي ولبنان في الخطاب الجهادي لدى القاعدة سوى متأخراً وكأن قادة هذا التنظيم يعيدون تركيب خطابهم النضالي وتبرير فعلهم السبتمبري بأثر رجعي.

قد تبدو المنطقة الملتهبة مرشحة للهدوء في مرحلة قادمة، بعد تواصل الضربات القاصمة على مراكز القاعدة في افغانستان وخارجها، ولكن مازالت لأفغانستان وليس بالضرورة لذاتها ذيول اخرى في بلدان عديدة، إذ أن اولئك الذين دفعوا أرواحهم ثمناً لمشروع الجهاد قد نقلوا رسائل عديدة لمن يليهم بأن ثمة بناء لم يستكمل بعد، وفي الواقع أن هجمات سبتمبر تكاد تتحول الى شرط موضوعي من أجل كشف الاوراق جميعاً، فقد مرّت أحداث سابقة لم تعر أذن صاغية ولم تنل إهتماماً واسعاً وقد أبقت على جوانب هامة في قصة افغانستان مغفول عنها.

الآن وبعد أربع سنوات من الاحداث وعلى دورة رئاسية اميركية مليئة بالعمل الدؤوب المنذر بالمفاجئات والانتقامات، ليس هناك ما ينبىء عن عودة هادئة رغم ما صرّح به السفير الاميركي في القاهرة في السابع من نوفمبر بأن الرئيس بوش سيقيم علاقة (متوازنة) مع الشرق الأوسط.. في الواقع أن أفغنة العراق يمثل رهاناً خطير وكبيراً لدى دول المنطقة المستهدفة في مشروع الشرق الاوسط الكبير، وهو الرهان على تعديل الموقف الاميركي الانتقامي، وابطاء حركة التغيير.. إن تصريح القيادة العراقية بأن ايران وسوريا تعملان على تأجيج العنف في العراق يأتي كفائض من الصبر الذي كان المسؤولون العراقيون يلوذون به في الفترات الماضية، كيف وهم يلمسون باليد أدلّة دامغة تثبت تورط هذين البلدين وغيرهما من دول الجوار في الشأن العراقي.. وستكشف الفترة القادمة عن حجم الاعداد التي تسللت من الحدود السعودية والسورية والاردنية الى داخل العراق والتي قدمت على وقع تعبئة دينية كثيفة كتلك التي خضع لها المجاهدون قبل رحيلهم الى افغانستان.

الصفحة السابقة