الدولة الذاهبة

كان الملك عبد العزيز يصف الدولة العثمانية في أواخر أيامها بـ (الدولة الذاهبة) وأن حكامها بالذاهبين، وقد صدقت فراسته ونبؤته، فقد هوى بنيان الامبراطورية العمثانية على عروشه وتفكك الجسد المهول الى أجزاء صغيرة.. قالها الملك عبد العزيز وهو يرمق انهدام عزّ وقيام آخر، ولم يدر في خلده أنه يؤسس لنهاية مماثلة، وقد جاء من يقرأ موت دولة شيّدها على ذات الاسس، من استبداد واستثئار بمصادر الثروة والقوة، فمنذ عدة سنوات وطائفة من الباحثين تتحدث عن نهاية مرتقبة للدولة السعودية، استنادا الى قراءة تشريحية دقيقة للنظام السياسي في السعودية.. فالخلخلات البنيوية المتواصلة على امتداد العقود الماضية أدت الى تصدّع أسس الاستقرار في النظام السياسي السعودي، بدأت أول مرة من تركيبة الدولة على أساس احتكاري، أي من انحصار السلطة وادارة الحياة السياسية في نطاق ضيق وفي فئة محدودة لها حق تقرير المصير العام للبلاد، وتمارس هذا الحق على أساس مزاعم دينية وتاريخية.

في واقع الأمر، مرّت على السعودية فترات كانت تصل فيها الى حافة الذهاب، كما حدث عقب وفاة الملك عبد العزيز، وفي الصراع داخل العائلة المالكة بين جناحي الملك سعود والملك فيصل في الستينيات، وهي فترات كانت حاسمة بالنسبة لمصير الدولة.. ولكن ولأسباب عديدة ليس هنا مجال ذكرها تمكنت الدولة من توفير جرعة حياة أطول واستطاعت ان تضمن لنفسها أسباب استقرار لفترات اخرى، ولكن قد تكون لحظة الانهيار تبدأ من ذروة القوة كما في حضارات عديدة غابرة، فقد هوت الامبراطورية العثمانية بعد ان بلغت ذراعها شرق الارض وغربها كما لم يكن متوقعاً ان تتهدم أركان الاتحاد السوفيتي خلال فترة قياسية.. إن أسس الانهيار ومدده لا تكشف عن نفسها الا في لحظة تاريخية حاسمة، إن إعلان موت الدول يتم عملياً وفي نقطة زمنية واحدة، ولكن فترت الاحتضار قد تطول بحسب قدرة هذه الدول على المقاومة.

لقد نجحت الدولة السعودية في توفير ضمانات لها للبقاء فترات أطول، بالاتكال على نظام الرعاية كأحد الانظمة الفاعلة في ربط الافراد بمنظومة مصالح وشبكة تحالفات صلبة تستهدف بدرجة اساسية إخضاع الرعايا تحت سلطانها، وبطبيعة الحال، فإن نظام الرعاية يستوعب مجموعة خدمات مرتبطة بضروريات الحياة اليومية وأيضاً المستقبلية، منها التعليم والصحة والخدمات العامة والاجتماعية وتوفير فرص عمل وتقديم قروض وتسهيلات مالية وقانونية.. بهكذا وسائل، وثّقت الدولة عرى وجودها بنظام رعاية قائم على أساس احتكار مصادر الثروة ثم توزيع جزء منها على السكان من أجل اكتساب رضاهم ودعمهم للسلطة الحاكمة..

إن التعويل على استمرار واستقرار نظام الرعاية من قبل الطبقة الحاكمة له ما يبرره، فالبلاد تختزن مصادر طبيعية ثرية قادرة على توفير الاطمئنان لهذه الطبقة، بل واقناعها بأن استمرارها، كوجودها، بات مأموناً ومضموناً. وهو تعويل مازالت المراهنة عليه عالية جداً، بل أن في العائلة المالكة من يتمسك بهذا الرهان على أساس أن ذهاب الثروة سيتبعه ذهاب الاسرة.. الا أن هناك في العائلة المالكة من يعتقد بأن ليس بالثروة وحدها يمكن للدولة أن تكفل استمرارها، إذ لا بد من عوامل استقرار اخرى من بينها تغييرات جوهرية في بنية وشكل السلطة التي ستتظافر مع عوامل اخرى لتأمين مصادر استقرار السلطة.

على أية حال، كان عهد الملك فهد قد أثار فزعاً خاصاً لدى الحريصين على منجز الدولة السعودية، فقد اعتبر وصوله الى الحكم بداية نهاية الدولة السعودية.. ومن الطريف أن أحدهم قد أوصى من كرهوا بقاء الملك فهد طويلاً في سدة الحكم أن يكفوا ألسنتهم عن الدعاء عليه، قائلاً لهم بدلاً عن ذلك: بل ادعوا له بطول العمر، حتى لا يخرج من الدنيا الا بذهاب ملك آل سعود، وذهاب الدولة معه.

وصول فهد الى العرش كان إيذاناً بتحولات دراماتيكية عديدة، منها أولاً أن العجز السنوي في الموازنة العامة للدولة بدأت عام 1982 أي في سنة وصوله الى العرش، وفي عهده بدأت مشكلات البطالة والمديونية وتردي مستوى الخدمات العامة الصحية والتعليمية تتفاقم، بل وحتى الجريمة الفردية والجماعية كانت من معالم عهده الزاهر، لقد كثر في عهده الطامعون والمتربّصون بالمال العام، حتى تسرب النهم والجشع الى صغار الموظفين.. وفي عهده أطلق وصف (دولة البركة) كوصف رديف لـ (الدولة الذاهبة)، فكثير من موظفي الدوائر الحكومية المخلصين لعملهم والحافظين لشرف المهنة يلوذون بـهذا الوصف (أي دولة البركة) لدفع اللوم عن أنفسهم فيما قصّر في القيام به من هم في المقامات العالية، وقد عجزوا هم، أي هؤلاء الموظفين ـ عن تحقيقه..

في عهد الملك فهد وهو أطول العهود منذ الاعلان الرسمي عن قيام المملكة العربية السعودية عام 1932، تبدّلت أوجه الحياة جميعها، فبعد ان كانت المشكلة مقتصرة على البعد الاجتماعي ـ الاقتصادي في المرحلة الاولى من عهده الى جانب تصفية آثار انتفاضتي مكة المكرمة بقيادة جهيمان العتيبي وانتفاضة المنطقة الشرقية بقيادة رجال دين شيعة، فإن عقد التسعينيات بداية لتحوّل داخلي خطير، حيث تفجّر التحالف الاستراتيجي الداخلي بين القوتين الدينية والسياسية، وبدأ التيار الديني السلفي نشاطه الاحتجاجي بطريقة ملفتة للنظر واستفزازية للدولة، ومنذاك وهو يعيش مرحلة تجاذب متفاوتة من حيث حدتها واعتدالها..

في الاربع سنوات الاخيرة بدأ نذير الزوال يدق أجراسه بعنف في هذه المملكة التي فقدت صفة واحة الأمن والاستقرار وأصبحت بقعة شديدة الاضطراب منذ ان بدأ دوي القنابل والسيارات المفخخة، والتي وصلت الى حد الالتحام في رمز الامن لهذه الدولة. إن التفجير الاخير الذي ضرب مبنى وزارة الداخلية كان اشبه ما يكون بأول حجر يرمى على سجن باستيل الذي مثّل رمز الاستبداد والقمع وأشعل اقتحامه فتيل الثورة الفرنسية.. ويخشى ان يكون ضرب رمز القوة يؤدي الى اضمحلال مصدر وجود الدولة.

الصفحة السابقة