التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن

إعادة تأسيس أم ترتيب مصالح

روزفلت: المتعهد الأول للدفاع عن السعودية

لم تكن السعودية في بداية قيامها تثير إهتماماً خاصاً لدى الولايات المتحدة، على عكس الشركات الاميركية التي كانت تتسابق على اتفاقيات التنقيب عن النفط، وكان الملك عبد العزيز قد طلب عام 1928 اعتراف واشنطن بدولته، ولكنه لم يحصل على هذا الاعتراف الا بعد مرور ثلاث سنوات، ولكن دون أن تنعقد بين البلدين أية روابط دبلوماسية نشطة. وفي مايو عام 1940 وبتأثير من الشركات النفطية قررت واشنطن إقامة علاقات دبلوماسية مع المملكة بعد أن عيّنت سفيرها في مصر سفيراً غير مقيم في السعودية في الرابع من فبراير سنة 1940.

وبعد اكتشاف النفط بكميات تجارية بدأت مسيرة التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والسعودية تأخذ وتائر متصاعدة، حيث تحولت السعودية الى منطقة حيوية للغاية بالنسبة للمصالح القومية الاميركية. وقد أصدر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت أمراً تحت رقم (6298) في 18 فبراير 1943 جاء فيه (إن الدفاع عن السعودية أمر حيوي للدفاع عن الولايات المتحدة الأميركية) (أنظر: Foreign Relations of The US Records 1943, vol. IV, p.859. ويأتي هذا التصريح بعد عامين على لقاء روزفلت مع الملك عبد العزيز في جدة، ثم توالت التصريحات المماثلة على لسان القادة الاميركيين مثل ترومان.

وقد لعبت الادارة الاميركية دوراً متميزاً في أدوار مختلفة من سنوات الحكم السعودي بشأن إقناع رجاله بالمبادىء السياسية الاميركية وكانت واشنطن تفيد دائماً من الاوضاع المضطربة وحالات القلق التي تعتري القادة السعوديين. فبعد بزوغ نجم مصر في العالم العربي عام 1957 بشكل مثير للقلق، كانت الحكومة السعودية تراقب بحذر بالغ انعكاسات ذلك على أوضاعها الداخلية ومن إحتمالية اجتياح المد الناصري هذا البلد الذي كان مرشحاً للانكسار بفعل الخلافات المحتدمة داخل العائلة المالكة في فترة الملك سعود، مما أدى الى (اسراع السعودية في قبول مبدأ ايزنهاور وذلك أثناء زيارة الملك سعود للولايات المتحدة، إذ استطاع الاميركيون إقناع السعوديين بأن الأهداف المصرية تساعد الخطط السوفييتية في المنطقة وتشجع الشيوعيين العرب على تولي المراكز القيادية في أجهزة الاعلام وفي بعض المراكز الحساسة الأخرى، وأشاروا الى سوريا والأردن على وجه التحديد كمثال على النشاط الشيوعي العربي) (أنظر: جميل مطر وعلي الدين هلال، النظام الاقليمي العربي ص 76ـ77).

وقد أفادت واشنطن من الاختلالات السياسية في المنطقة من أجل تعزيز وجودها داخل السعودية، حيث جددت في يونيو 1955 الاتفاقية المتعلقة بقاعدة الظهران، والتزمت بموجبها بالاشراف على تكوين الجيش السعودي، كما التزمت بموجب اتفاقيات 1952 بمشاريع التنمية في السعودية (خطوط السكة الحديدية، الزراعة)، اضافة الى التوقيع على اتفاقية أمنية دفاعية بين واشنطن والرياض.

إن الالتزام بالدفاع عن السعودية بوصفها مركزاً حيوياً للمصالح الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط كان وراء تصدي واشنطن للتهديدات الاقليمية، وقد وظّفت الولايات المتحدة المخاطر السياسية التي واجهت السعودية في جني المزيد من المكاسب وفي تعميق وجودها السياسي والعسكري في المنطقة. ففي 26 سبتمبر 1962 وقع إنقلاب عبد الله السلال في اليمن الذي أطاح بالملكية ثم وصل الجيش المصري بعد بضعة أيام لتنتقل الثورة شمالاً عبر الحدود الى داخل السعودية، ووصلت أخبار عن فرار ثلاث من طواقم لطائرات السعودية الى مصر وانتشار أنباء عن خلافات داخل العائلة المالكة. وقد شكل الانقلاب تهديداًجدياً للسعودية واستقرارها، سيما بعد انعقاد التحالف الناصري الجمهوري اليمني، وقد زاد من مخاوف الرياض اعتراف واشنطن بنظام الحكم الجمهوري في اليمن، مما اضطر الامير فيصل الى السفر للولايات المتحدة للاستفسار عن حقيقة الموقف الاميركي وعلاقته بالاتفاقية الدفاعية عن المملكة. وكان فيصل (ولي العهد آنذاك) في أمريكا لحضور الدورة الخريفية للأمم المتحدة، كان ذلك ظاهراً الا أن الحقيقة هو للقاء الرئيس كندي حيث حصل على وعد سري من الاخير يضمن الدعم الأميركي لسيادة المملكة العربية السعودية بحسب مبدأ ايزنهاور (أنظر: روبرت ليسي، المملكة، ص 262). وقد تم الاعلان عن هذا المبدأ في الخامس من يناير 1957 في رسالة للكونجرس يتضمن: استخدام القوات المسلّحة الأميركية من أجل الحفاظ على السيادة الاقليمية أو الاستقلال السياسي لهذه البلاد. وقد وافق الملك سعود على هذا المبدأ خلال زيارته في نفس العام.

وبالفعل قامت الطائرات الاميركية بعروض جوية فوق جدة والرياض لتأكيد التضامن مع المملكة، وبذلك لم تجرؤ الطائرات المصرية (اليوشن) على التحليق صوب شمال السعودية التي تعرضت قبل تنفيذ الاميركيين وعدهم الى غارات جوية. وقد حاول رشاد فرعون إقناع فيصل بإتخاذ رد فعل تجاه الهجوم المصري على الشمال الا أنه بدا غير مكترث طالباً منه إبلاغ الامير سلطان أن يخبره عند وصول المصريين الى الرياض ولذلك لم يتحدث الا بعد وصول الاميركيين الى البلاد.

ويلزم الفات الانتباه الى أن الوجود العسكري والامني في السعودية وفي المنطقة بصورة عامة لم يأخذ شكله النهائي الا بعد الانسحاب البريطاني من الخليج في نهاية عام 1971، حيث بدأت الولايات المتحدة بملء الفراغ في المنطقة، وقد حدد جوزيف سيسكو مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط في حزيران 1973 الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسك وأكّد على (دعم جهود الأمن الجماعي لتحقيق الاستقرار ورعاية التنمية المنتظمة دون تدخل خارجي، وحل النزاعات الاقليمية وغيرها بين دول المنطقة وضمان استمرار امدادات النفط بأسعار معتدلة وكميات كافية لمواجهة احتياجات الولايات المتحدة وحلقائها وتعزيز المصالح المالية والتجارية) (أنظر: حسين آغا وآخرون في وثائق سلسلة الدراسات الاستراتيجية، مركز العالم الثالث للدراسات والنشر ـ لندن 1982، ص 150).

زيارة موسكو رسالة تنبيه لواشنطن

على أن الولايات المتحدة التي ورثت الامبراطورية البريطانية في الخليج التزمت سياسة مختلفة بوحي من تجربتها في فيتنام التي دفعت في حربها أثماناً باهضة بشرية ومادية وسياسية. ولذلك أعلن ريتشارد نيكسون في مطلع عام 1971 مبدأ الحرب بالنيابة (War by Proxy) بعد الهزيمة الاميركية في فيتنام ومغزى المبدأ هو اسناد مسؤولية الحفاظ على المصالح الأميركية الى بعض القوى الاقليمية الرئيسية المرتبطة بالمصالح والسياسات الغربية في المنطقة عن طريق دعمها عسكرياً. مبدأ نيكسون عبّر عنه بـ (سياسة العمودين المتساندين) وهو توزيع عبء الدفاع عن الخليج بين ايران والسعودية. فعمدت الى تقوية إيران عسكرياً وجعلها أكبر قوة إقليمية في المنطقة وإزالة الخلافات بينها وبين السعودية والتنسيق مع القوى الاخرى (مصر واسرائيل)، أما السعودية فدعمها كان على أساس النفوذ السياسي والمالي في الخليج والشرق الاوسط وشمال أفريقيا. ولكن مبدأ نيكسون تراجع مع بداية عام 1973 وتحديداً بعد اعلان الحظر النفطي على الغرب وثم سقوط الشاه في 1979 حيث بدأ الحديث يدور حول التدخل العسكري الاميركي عند الحاجة.

إن التحالف السعودي الاميركي أخذ شكلاً تصاعدياً منذ منتصف السبعينيات، وأصبح تحالفاً استراتيجياً صلباً، كما ينبىء عن ذلك التطور المتسارع والمتلاحق في اتفاقيات البلدين على مختلف الاصعدة. فمن خلال قراءة سريعة لتطور العلاقة بين البلدين يظهر أنه في الخامس من أبريل 1974 أي بعد رفع الحظر النسبي عن تصدير البترول لأميركا، أجرت الحكومة الأميركية والسعودية محادثات بشأن تطوير التعاون الاقتصادي والعسكري. وفي 14 أبريل من نفس العام وقع الأمير عبد الله اتفاقية بقيمة 335 مليون دولار مع السفير الاميركي في السعودية جيمس أكينز على مشروع تحديث الحرس الوطني. وكانت بعثة إدارة الدفاع الاميركي تدرس خلال ثلاثة شهور من ابريل ـ يونيو من نفس السنة احتياجات الدفاع السعودي والخروج بتوصيات لكل من الرياض وواشنطن. وفي الزيارة التي قام بها وزير الداخلية آنذاك فهد في الفترة ما بين 6 ـ 8 يونيو 1974 لواشنطن تم توقيع اتفاقية موسعة للتعاون الاقتصادي والعسكري السعودي ـ الاميركي. وفي الرابع عشر من يونيو زار الرئيس نيكسون السعودية ضمن جولة له في الشرق الاوسط لتعزيز التعاون بين البلدين. وقد وقعت السعودية في هذا العام (1974) اتفاقيات إتسمت بالطابع الأمني، رغم الجانب الاقتصادي القوي، فقد طلبت السعودية من الولايات المتحدة مساعدتها ضد التهديدات الاقليمية.

وفي 9 يناير 1975 وقّعت الولايات المتحدة عقداً بقيمة 750 مليون دولار مع السعودية لبيعها 60 طائرة من طراز ف ـ 5 وفي التاسع من فبراير أعلنت شركة فانيل في لوس انجلس بعد حصولها على 77 مليون دولار قيمة اتفاقية دفاعية وأنها ستستخدم 10 آلاف من المتطوعين في الحرب الفيتنامية لتدريب الحرس الوطني. وقد انسحب التعاون على المجال الامني الاستخباراتي، فمن المعروف أن شعبة المخابرات العامة التي تولى رئاستها كمال أدهم ثم انتقلت في وقت لاحق الى الامير تركي الفيصل أنشئت سنة 1963 بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الاميركية (سي آي أيه) والتي اعتبرت نسخة مصغّرة من الوكالة، والشعبة تجمع بين المخابرات العسكرية والمدنية في الداخل والخارج.

وبعد تدفق أموال النفط عام 1974 بدأت أكبر 400 شركة أميركية وأكبر 35 بنكاً أميركياً بالقدوم الى المملكة والحصول على عقود ببلايين الدولارات. وفي عام 1983 كان في المملكة أكثر من 800 شركة أميركية و 30 ألف أميركي. (أنظر: Lindsey, Saudi Arabia, pp.325, 327).

وقد نلحظ بأن التحالف الاستراتيجي بين واشنطت والرياض قد أتى ثماره في مجال انتاج وتسويق النفط، إذ كان ـ وما زال ـ قرار تخفيض الانتاج النفطي أو زيادته بهدف رفع الاسعار أو تخفيضها كان في أغلب الاحوال خاضعاً لمنطق التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن، كما حصل في التسعينيات وفي العام الماضي حيث كانت السعودية تميل الى إسترضاء وواشنطن في قضية رفع سقف الانتاج من أجل المحافظة على معدل الاسعار، وكانت للولايات المتحدة أولوية من حيث كمية الانتاج والاسعار الخاصة التي تدنو عن معدلات الاسعار في السوق النفطية العالمية.

لقد طغى عنصر التحالفات الدولية فأصبح الاعتبار السياسي راجحاً على الاعتبار الاقتصادي الداخلي، فقد اعطت الحكومة السعودية وعداً لادارة بوش الأب بمضاعفة الانتاج من أجل زيادة المخزون النفطي الاميركي وتخفيض أسعار النفط. وقد ظل نصيب السعودية من الواردات من الولايات المتحدة ثابتاً تقريباً عند 20 بالمئة. فمنذ إنشاء اللجنة المشتركة الأميركية ـ السعودية للتعاون الاقتصادي في يونيو 1974 والسعودية تخضع تحت تأثير المشاريع الاقتصادية المقترحة من مؤسسات مالية ومعاهد اقتصادية واستشارية متخصصة اميركية والتي تؤكد فيها على مصالح الولايات المتحدة، فقد كان لمعهد سانفورد للابحاث دور أساسي في إعداد خطط التنمية والمشاريع الاقتصادية وكان مشرفاً على تصميم الخطة الخمسية الثالثة في السعودية.

وفي نفس العام وقع الامير فهد مع وزير الخارجية الاسبق هنري كيسنجر الاتفاقية التجارية والعسكرية، حيث فتحت الاتفاقية المجال أمام الولايات المتخدة لأن تحتل المركز الأول من حيث الدول المصدرة للسلاح والمعدات وبرامج التدريب والدفاع الى المملكة. فقد بلغت الاتفاقيات العسكرية بين السعودية والولايات المتحدة في الفترة ما بين 1973 ـ 1980 ما مقداره 34.5 مليار دولار بالمقارنة مع 1.2 مليار دولار خلال الفترة من 1950 ـ 1972، فيما بلغ حجم مشتريات السعودية من السلاح الاميركي ما يقارب 40 مليار دولار للسنوات من 1972 ـ 1981.

أحداث سبتمبر تصوغ العلاقة بين واشنطن والرياض

وهكذا نجد بأن بنية التحالف بين واشنطن والرياض أصبحت شديدة الصلابة، وان واشنطن باتت ترى في السعودية القاعدة الكبرى التي منها يمكن إدارة الاوضاع السياسية والامنية في المنطقة. وبعد تفجر التظاهرات الشعبية في مدن ايران عام 1978 وتالياً سقوط شاهنشاه وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام واقع بالغ الخطورة، وهذا ما ساعد على توفير المزيد من الحماية للعمود الثاني كي لا يواجه المصير ذاته. وفي تصريح للسناتور جورج باول بعد سقوط الشاه قائلاً (إذا ما أريد للخليج أن يحمى الآن، فإننا نحن الذين يجب أن نقوم بهذه التهمة، ولكي نفعل ذلك بفعالية كاملة فنحتاج الى تعاون السعوديين) أنظر (سارام شابان، الأمن في الخليج الفارسي، ص 70 ـ 71). وفي تصريح لهنري كيسنجر لمجلة (إيكونوميست) البريطانيا (نحن بحاجة الى وجود ملموس للقوة الاميركية في المحيط الهندي كتعويض جزئي عن القوة الايرانية المتضائلة) (خلود شاكر، السياسة الخارجية السعودية، ص 86).

ولذلك، وبعد سقوط الشاه والاجتياح السوفيتي لأفغانستان صدر مبدأ كارتر والذي أكّد فيه على فكرة التدخل العسكري الاميركي في الخليج والتي تمخّضت عن تشكيل (قوات التدخل السريع) أو (القيادة المركزية لاحقاً). وفي 20 يناير 1980 أعلن عن مبدأ كارتروالذي أعطى للولايات المتحدة الحق في حماية النفط العربي من منابعه حتى مصابه ضد ما أسماه بـ (الخطر السوفييتي) (أنظر: جيفري ديكورد، نص مبدأ كارتر، ص 13). كما فرض مبدأ كارتر ضغطاً على دول الخليج للسيطرة على الاسعار والانتاج النفطي أو استخدام النفط كسلاح سياسي مما ستكون مبررات للتدخل العسكري في الخليج. كما وجّه المبدأ عناية بالتمردات والثورات المحتملة في الشرق الاوسط (ايران مثالاً) وأنه سيواجهها بقوة.

وفي مطلع عام 1981 دعى الرئيس الاميركي الاسبق رونالد ريغان الى سياسة جديدة عبّرت في (سياسات الاجماع الاستراتيجي) وضعت الخليج في قوس دفاعي يبدأ من تركيا وينتهي لعمان ماراً باسرائيل ومصر والسودان والصومال ثم يتداخل مع خط دفاعي آخر يعبر المحيط الهندي حتى باكستان ماراً بقاعدة (دييغو غارسيا) والجزء الأهم من هذا الخط هو شواطىء الخليج. وكان من أهداف هذه السياسة (إيجاد نوع من التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة من جهة وكل من مصر والسعودية واسرائيل من جهة أخرى، تتوزع الادوار والمهام: فالولايات المتحدة لمواجهة الاتحاد السوفييتي، والسعودية لضبط الاوضاع الداخلية في الجزيرة العربية ومصر واسرائيل لضمان الامن والاستقرار الاقليميين، ولا يمكن لهذا التعاون أن يشتد وتقوى مصداقيته الا إذا تعزز الوجود العسكري الاميركي في الخليج. (هيثم كيلاني، الاستراتيجية الاميركية في الجزيرة العربية ص 54).

إن الاستراتيجيات الدفاعية الاميركية في الشرق الاوسط كانت قائمة على أساس أهداف محددة، ولاشك أن السعودية تحتل موقعاً مركزياً في تلك الاستراتيجيات من أجل تحقيق أهداف رئيسية منها: ضمان تدفق النفط، واقامة حلف اقتصادي يمكن الافادة منه كيما تزاول السعودية نفوذها في إجتماعات أوبك، اقامة علاقات عسكرية (وجود عسكري، قواعد، اتفاقيات أمنية ودفاعية)، الافادة من العوائد النفطية السعودية في عمليات الاستثمار والايداع داخل الولايات المتحدة لدعم الاقتصاد الاميركي وهكذا الممتلكات السعودية عن طريق الايداع والتي قدرت بنحو 160 مليار دولار حتى ما قبل أزمة الخليج الثانية.

لقد تبدّلت صورة التحالف الاستراتيجي بعض الشي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينات، إذ أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، فانعكس ذلك على شبكة تحالفاتها، حيث لم تعد واشنطن بحاجة الى الركون لحلفاء إقليميين من اجل مواجهة الخطر السوفييتي الذي تآكلت ذيوله في أفغانستان واضطر الى التخلص من تركة ثقيلة منهكة، فيما كانت الولايات المتحدة تعقد اجتماعات مكثفة مع حلفائها الاوروبيين من أجل تشكيل جبهة موحدة لوراثة التركة السوفييتيه، ولاشك أن حرب الخليج الثانية قد منحت الولايات المتحدة فرصة سانحة كيما تعيد تشكيل تحالفها الاستراتيجي ليس مع السعودية فحسب بل مع دول المنطقة عموماً، التي وقعت اتفاقيات دفاعية ثنائية مع واشنطن بما أطاح بالاساس الذي قامت عليه فكرة مجلس التعاون الخليجي حيث بدأ النفوذ السياسي السعودي في دول مجلس التعاون يتقلص بوتيرة سريعة.

لقد شعرت السعودية بأن ثمة ما يتطلب تعديلاً في تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، فالاخيرة باتت تحمل أجندة سياسية مختلفة، وقد شكّل موقف موسكو الايجابي إزاء السعودية إبان أزمة الخليج بداية مشجّعة للرياض كي تبدأ التفكير في تنويع الحلفاء. ففي في 17 سبتمبر 1990 عادت العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وموسكو بعد قطيعة دامت حوالي نصف قرن من الزمن، وكان لدعم موسكو للقرارات الدولية ولواشنطن تحديداً وانتهاء الصراع بين القوتين الكبريين دور أساسي في فتح الطريق لعودة العلاقات بين موسكو والرياض.

لكن عودة العلاقات بين البلدين لم تكتسب أهمية كبيرة، وظلت مقتصرة على الشكل البروتوكولي الاعتيادي بين الدول، غير ان الزيارة التاريخية التي قام بها ولي العهد الامير عبد الله العام الماضي كانت ذات دلالة خاصة، فهي تأتي في سياق بناء شبكة تحالفات جديدة ومتنوعة أصبحت السعودية بحاجة لها من أجل فك الطوق المفروض عليها من الولايات المتحدة التي أصبحت القوة الدولية العظمى. لقد أعطت زيارة الامير عبد الله لموسكو إيحاءات معبّرة لواشنطن وللدول الغربية بأن السعودية ترغب الآن في تنويع مصادر تحالفاتها، الا أن الزيارة لم تتجاوز حد رسالة التنبيه لواشنطن من أجل تخفيف الضغوط التي تفرضها على الرياض، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر وتشكّل طوق خانق من العداء ضد السعودية في أوروبا والولايات المتحدة.

وبالرغم من إطمئنان السعودية الى استمرار حاجة الولايات المتحدة لنفطها وكونها مازالت تمثل منطقة حيوية بالنسبة للمصالح القومية الاميركية، الا أنها في المقابل باتت تشعر بأن واشنطن تملك من أوراق الضغط عليها ما يكفي ان تدحض استعمال ورقة النفط ضدها.. ولذلك المفاضلة كانت تتراوح بين الاستمرار تحت ضغط الولايات المتحدة وابتزازها السياسي والاقتصادي في مقابل ضمان الحماية والدفاع عنها، أو البحث عن حليف آخر او مجموعة حلفاء اقليميين ودوليين من أجل الخرج من الشرنقة التي وضعتها فيها أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

لاشك أن الرياض ترقب بقلق بالغ تطورات الوضع في العراق، لأن نجاح تجربة الحكم تحت الاحتلال سيشجع الادارة الاميركية على المضي في تنفيذ مخططها الذي أعلنت عنه باسم الشرق الاوسط الكبير، والذي يتضمن تغييراً جوهرياً في الخارطة الجيوبوليتيكيه وربما قد تطير فيه رؤوس سياسية كبيرة. السعودية لم تعد أثيرة لدى واشنطن بالدرجة التي كانت عليها في السابق، وهي الآن تعيش حالة تجاذب معقدة في علاقتها مع واشنطن، بين استرضاء الاخيرة في مجال النفط وعقود السلاح من أجل الكف عن مخطط تغيير النظام السياسي أو حتى تطويره ديمقراطياً، وبين الخروج من التحالف بأقل الاضرار مع الاكتفاء بعلاقات متينة لا ترقى الى مستوى النفوذ والهيمنة.

الصفحة السابقة