عملية الرس:

مواجهة لم تحسم ومرحلة لم تبدأ

في الرس، المدينة الكبرى الثالثة بعد بريدة وعنيزة في منطقة القصيم حيث يتموقع التيار الديني المتشدد، دخلت على حين غرّة قوات الامن السعودية مواجهة شرسة في الثالث من أبريل ضد المجموعات المسلّحة وسط تضارب في التقارير الصادرة عن أجهزة الامن بشأن نتائج المواجهات. ففي اليوم الثاني من العملية تحدثت أجهزة وزارة الداخلية بأنها قد حسمت بمقتل أغلب أفراد المجموعة بعد حصار ضرب حول المكان الذي يتحصّن فيه افراد التنظيم الجهادي التابع لتنظيم القاعدة، وقيل حينذاك بأن ثمانية من قادة التنظيم قد لقوا مصرعهم فيما جرح نحو 40 من رجال الامن، فيما كان الحصار مضروباً حول 4 الى 5 من عناصر التنظيم، واذا بالمواجهات تستعر مجدداً بأقوى مما كانت عليه في اليوم السابق. قيل حينذاك أيضاً بأن عناصر من التنظيم جاءت من مواقع أخرى للالتحاق بالمجموعة لغرض فك الحصار المضروب حول رفاقهم، فيما ذكرت بعض الانباء بأن المحاصرين هم قياديون بارزون في التنظيم الأمر الذي تطلب استنفاراً تنظيمياً ولوجستياً عاجلاً.

عملية الرس: هل كانت نجاحاً حكومياً؟

الا أن التقارير اللاحقة أكّدت أيضاً بأن إمدادات أمنية كبيرة من مختلف القطاعات الامنية السعودية وصلت على نحو عاجل من أجل دعم قوات الامن التي أنهكتها كثافة النيران المضادة بما أحدث إرباكاً شديداً وسط قوات الامن، اضطرت قوات الامن على إثره الى استعمال أسلحة متوسطة مثل قاذفات الـ (آر بي جي) ضد مواقع الجماعات المسلّحة. وبالرغم من التقليل من عدد أفراد الجماعة المسلّحة الا أن استمرار المواجهات أكّدت أمرين هامين: الكفاءة القتالية المتقدمة لدى عناصر المجموعات المسلّحة وثانياً استبسالها في خوض أشرس المعارك ضد قوات الامن، أضف الى ذلك الغموض الذي كان يلّف الحجم الحقيقي للجماعات المسلّحة التابعة لتنظيم القاعدة.. فبعد كل عملية مواجهة يطرح السؤال حول حسم المعارك وتصفية جيوب القاعدة في السعودية، ولكن تأتي المواجهات اللاحقة لتؤكد عملياً عكس ذلك تماماً.

لقد كشفت مواجهات الرس عن أن منطقة القصيم باتت حاضنة طبيعية للجماعات المسلّحة حيث يتحصّن أفرادها داخل الاحياء السكنية ويعيشون بين الاهالي الذين لم يعد يفصلهم عن أفراد التنظيم سوى الترتيبات السرّية التي يعدّها افراد التنظيم من أجل التخطيط لعمليات خارج الاحياء او الاختباء فيها للاعداد والامداد.

إن الضربات التي تلقاها التنظيم الجهادي في المناطق الاخرى دفعت قيادة التنظيم للانتقال الى المركز، الى القصيم حيث الخزّان البشري واللوجستي الرئيسي الذي يستعين به التنظيم في تنفيذ عملياته. لم تكن مواجهة الرس عملية منفصلة كما أشاعت تقارير اجهزة الأمن، بل كانت حرب شوارع وإن على نطاق محدود، فالمنزل الذي قيل أنه كان حصناً لأفراد من تنظيم القاعدة قد انشق عن منازل أخرى كان فيها أعضاء من التنظيم يتحصنون فيها لمواجهة الاقتحامات المباغتة من قبل قوات الامن.. فعملية المداهمة التي جرت في صبيحة الثالث من ابريل أيقظت خلايا التنظيم في المواقع الأخرى كي تقوم بمهمة فرض حصار مضاد على قوات الأمن الأمر الذي أوقع اصابات بالغة فيها، وتبعاً له تراجعت قوات الامن عن قرار الاقتحام، بانتظار وصول فرق مساندة من طوارىء الرياض والمدينة المنورة وفرق من القوات الخاصة مما يؤكد بأن عملية المداهمة لم تكن بالسهولة التي صوّرتها تقارير وزارة الداخلية في بدء المواجهات.

من جهة ثانية، أوحت تصريحات وزارة الداخلية بأن ثمة نهاية وشيكة للحرب على الارهاب داخل المملكة، (والتي أودت بحياة ما ما يربو عن مائتي قتيل بينهم 92 مشبوهاً وتسعين مدنياً وأربعين من عناصر الأمن)، عن طريق تصفية قادة التنظيم وبخاصة زعيم القاعدة صالح العوفي وعدد من القيادات المركزية في التنظيم، ولكن تلك التصريحات تخففت تدريجياً واستبدلت بأخرى تفيد باحتمالية استمرار المواجهات المسلحة. لاشك أن المواجهة العسكرية في مدينة الرس كانت الأشرس في تاريخ المواجهات بين قوات الأمن والجماعات المسلّحة، وتأتي بعد فترة هدوء حذرة مشفوعة بتطمينات رسمية.. ولاشك أن ضراوة العمليات تلمح الى إصرار تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية على مواصلة عملياته داخل السعودية، وأن ما كشفت عنه المواجهات يؤكد بأن ثمة استعداداً تسليحياً لدى التنظيم الجهادي التابع لشبكة القاعدة.

لقد ظهرت في غضون الاكتشافات عن الاسلحة والذخيرة في مواقع يأوي اليها أفراد التنظيم ما يستحق التأمل. فمن بين ما تم العثور عليه في إحدى المساكن شيك بمبلغ عشرين مليون ريال، أثار معه علامات استفهام عديدة، حول هوية جهة الاصدار والشخص الذي قام بالتوقيع عليه من خلال حساب بأحد المصارف، ولحساب من تم تجييره.. أسئلة عديدة تتعلق بمصادر تمويل التنظيم في الداخل والمصرف الذي يتم التعامل معه والغطاء الذي جرى استعماله لتمرير مثل تلك المبالغ الطائلة. لقد حاولت أجهزة وزارة الداخلية نفي الخبر خشية تسرّب معلومات اخرى خلال سير التحقيق، ولكن يبقى سؤال الشيك قائماً، وقد يطيح برؤوس كبار!

وبصرف النظر عن نتائج مواجهات الرس، وعدد القتلى في صفوف الطرفين، فإن ما لم يمكن إغفاله بأن ليس هناك جهة أمنية أو حكومية قادرة على التنبؤ بمصير التنظيم الجهادي والمدى الزمني الذي ستستغرقه المواجهات المسلّحة من أجل وضع حد للعنف المسلّح.

وفيما تحاول الحكومة عبر أجهزة وزارة الداخلية إحداث شرخ داخل بنية التيار الديني السلفي لجهة احتواء التطرف، ودعم تيار يدين بالولاء والطاعة للعائلة المالكة، ويتبنى مواقف تتسم بالتسامح إزاء الحكومة بدرجة أساسية وإن ظل محتفظاً بمواقفه المتشددة تجاه المجتمع ـ غير السلفي، وحتى تجاه الثقافات والمجتمعات الاخرى غير الاسلامية، فإن نزعات التشدد مازالت تتنامى وتكتسب زخماً من خلال الطرح الاحادي الذي يحظى بتشجيع الحكومة فيما يتم تغييب الطروحات الاخرى حتى على المستوى المحلي، فضلاً عن استبدال النظرة القاتمه والاقتلاعية تجاه الثقافات الانسانية العالمية.

من الاسماء البارزة التي ظهرت خلال عملية الرس الشيخ حمد بن عبد الله بن إبراهيم الحميدي الذي يعتبر أحد منظري الجماعة المسلّحة، والذي يحمل أفكاراً متشددة من قبيل حرمة الالتحاق بالوظائف المدنية والعسكرية وكذا التحاق الابناء بالتعليم العام، وقد أوقف أول مرة في مكة المكرمة عام 1423هـ بتهمة نشر أفكار مناهضة للدولة وأخلي سبيله بعد توقيعه على تعهد بعدم العودة لنشر مثل تلك الافكار، ولكن تبيّن لاحقاً أن الرجل ظل متمسكاً بأفكاره، وهو عضو في اللجنة الشرعية التابعة للتنظيم الجهادي في الجزيرة العربية، فكان يسبغ مشروعية على أعمال الجماعات المسلّحة، وله فتاوى تؤيد العمل المسلّح ضد أجهزة الدولة وتحديداً الجهاز الأمني، الذي دخل في مواجهة مباشرة معه قبل أن يتم القاء القبض عليه. وقد لعب الحميدي دوراً كبيراً في إقناع مجموعة من الشباب من خلال شبكة الانترنت للانضمام لصفوف التنظيم. ويحتل الحميدي مكانة بارزة في التنظيم حيث يأتي في مرتبة قريبة إن لم تكن موازية للمشايخ الثلاثة الفهد والخالدي والخضير الذين تم القاء القبض عليهم في وقت سابق وتقديمهم في برنامج تلفزيوني بإدارة الشيخ عايض القرني. وقيل وقتها بأن الاعترافات التي أدلى بها المشايخ الثلاثة ستكون نهاية البداية للتنظيم، الا أن ما تكشّف لاحقاً عن وجود مشايخ آخرين يزوّدون التنظيم بجرعات الشرعية أطاحت بكل التوقعات المتفائلة وأن هناك مشايخ عديدين يدعمون التنظيم في الخفاء، فيما يكتفي البعض منهم بالدعم المعنوي أو المادي المحدود دفعاً لأية إشكاليات قد تهدد مراكزهم ومصادر عيشهم.

الحميدي الذي يصفه موقع (منبر التوحيد والجهاد) على شبكة الانترنت بأنه واحد من كبار المنظّرين صنّف بحثاً بعنوان (حين لا تسمح للجهاد منادياً) يتضمن دعوة بالتعبئة في صفوف المسلمين لمناصرة المجاهدين ضد أهل الكفر والبدع والضلال. وله بحث آخر بعنوان (أقوال أهل الاسلام في الحكم على الرافضة) والذي سرد فيه أقوال علماء المذهب السلفي وغيرهم في الشيعة والتي تصمهم بالكفر، بما فيها من دعوة ضمنية بالقتل. وكان الحميدي قد وجّه بياناً للمطلوبين للجهات الأمنية يحثهم فيها على المقاومة والدفاع عن النفس، بل وطالب المجتمع بمناصرتهم وايوائهم باعتبار أن ذلك (من أوجب الواجبات وأعظم القربات) فيما وصف قتال رجال المباحث بـ (دفع الصائل). إن قراءة متأنية في أبحاث الحميدي وبياناته تفيد بأنها تطوير لخطاب التيار السلفي المتشدد في السعودية الذي ظهر في بداية التسعينيات، وإن ما يميز خطاب الحميدي هو في الاسقاطات التي قام بها لدعم موقف التنظيم الجهادي الذي ينتمي اليه.

تجدر الاشارة هنا الى أن الفعالية الجهادية أضافت الى رموز التنظيم صفة دينية كما هو شأن زعيم تنظيم القاعدة الذي لم يلتحق بالمدارس الدينية ولكنه تحوّل الى رمز ديني بفعل دوره الجهادي بما يكسبه سلطة الافتاء ومنح المشروعية. هذا لا ينفي كون التنظيم الجهادي بمسيس الحاجة الى دعم الرموز الدينيين الكبار، والذين يملكون بصفة رسمية وشعبية سلطة إصدار الفتاوى المؤيدة أو المعارضة، فهم مهما يكن حائزون على سلطة روحية متميزة وسط جمهور الاتباع. صحيح، في الوقت نفسه، القول بأن تصدعاً كبيراً حصل في بنية المجتمع الديني السلفي والذي انشق عن ظهور تيار سلفي ناشط سياسياً اقتطع جزءا هاماً من سلطة العلماء الكبار وأصبح يمارس دورهم في الافتاء وامتلاك مكانة روحية متميزة، بل حتى هذا التيار انشق عن تيارات أخرى أقل حجماً ولكن ليست أقل تأثيراً على المستوى الشعبي، فقادة التنظيم الجهادي المتحدرون من التيار السلفي الناشط سياسياً باتوا رموزاً دينيين وسياسيين معاً.

الحميدي كما الرشود والعوفي لم يعودوا بحاجة الى مرجعية المشايخ مثل الحوالي والعمر والعودة وغيرهم، فهم يملكون أدوات التأثير ليس السياسي والاجتماعي فحسب بل والديني أيضاً، فهم لهم اجتهاداتهم الخاصة كما تنبىء عن ذلك كتاباتهم المنشورة على موقع لهم على شبكة الانترنت، وبالتالي فإن التطرف يولّد ذيولاً له ورموزاً.

من الملاحظات الجديرة بالالتفات في عملية الرس وعمليات المواجهة السابقة أن ثمة فاصلة نفسية بين أغلبية المجتمع والدولة. ففي الوقت الذي تبحث فيه العائلة المالكة عن مناصرين لها في دعم عملياتها ضد الجماعات المسلّحة، هناك عزوف شبه تام من قبل الطيف السياسي العام في البلاد عن إبداء موقف مناصر لمعركة العائلة المالكة. وتفسير ذلك واضح، فإن التيار الوطني الاصلاحي لا يرى في تلك المعركة سوى تعضيداً لنظام شمولي استبدادي يستقوي بالغير من أجل الانتصار لذاته، كيف وأن هذه الجماعات المسلّحة ولدت في رحم الدولة وتغذّت على مائدتها واستعانت بمصادرها على محاربة المجتمع ومن ثم الدولة.

ليس هناك من يرغب للحظة أن يصاب رجل أمن بأذى فضلاً عن المدنيين الابرياء، ولكن الثقافة التي أريد غرسها في المجتمع كانت معلولة وتقوم على التسليم المطلق للعائلة المالكة وإن أفضى ذلك الى ترسيخ الواحدية في الفكر والسلطة. إن التستّر خلف قيم سامية مثل الروح الوطنية والوحدة لا يجدي نفعاً حين ينعدم التأسيس الثقافي لتلك القيم، أضف الى ذلك أن هذه القيم قد جرى تشويهها عن عمد وأضفي عليها معانٍ أخرى، فليس الاحساس بالمواطنة يعني الانصياع التام للطبقة الحاكمة، فهذا الاحساس متصل بالوطن وليس بالسلطة، بعكس ما أرادته العائلة المالكة. تحاول الحكومة تحفيز المشاعر الوطنية حين تكون أمام أخطار تحدق بها، ولكنها تنبذ مثل تلك المشاعر حين يكون هناك استحقاقات وطنية على العائلة المالكة الاستجابة لها.

على أية حال، فمهما كانت مرئيات العائلة المالكة إزاء تلك القيم، فإن الواقع يجلّي حقائق غير قابلة للنقض، فالجمهور لا ينظر الى العائلة المالكة بوصفها رمزاً وطنياً بقدر ما هي رمزاً سلطوياً محضاً، وأن كل المواجهات التي تخوضها قوى الامن التابعة لوزارة الداخلية هي للدفاع عن السلطة وليس عن الوطن، وانعكس ذلك على كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، فليس هناك ما يمكن وصفه بمؤسسة وطنية. خذ اليك المؤسسة الدينية، التي تكاد تكون مؤسسة نجدية وهابية محضة، حيث لا تجد من بين أعضاء هيئة كبار العلماء من المذاهب الاخرى، ويتنزّل الأمر الى باقي الطبقات والمرافق التابعة لهذه المؤسسة. بل ينسحب الحال على وزارات الدولة التي اكتسبت صفة فئوية ومذهبية ومناطقية حيث يحتشد في داخل بعض الوزارات أفراد محسوبون على الوزير والمقربون منه. واذا كان الأمر كذلك فللعائلة المالكة شأنها وللوطن شأنه، وليدافع كل منهما عن شأنه.

الصفحة السابقة