الدولـة المقلـو بة

حين تنظر العائلة المالكة الى الاصلاح بوصفه تهديداً وليس علاجاً فذلك يعني أنها تعيش أزمة نفسية وفكرية.

وحين تنظر العائلة المالكة الى شعبها بوصفه كتلة من الاعداء وليس كتلة من الطاقات الخلاّقة والكفوءة فذلك يعني أنها تعيش أزمة ثقة بالذات، وخوفاً من الخطر، وفوق ذلك مأزقاً سياسياً عميقاً..

إن النزعة الخصامية التي تعيشها العائلة المالكة مع كل ما تعتبره مصدر تهديد لسلطتها يمثل جوهر أزمة الدولة برمتها، لأن المشكلة تغدو أكبر من كونها رؤية سياسية معينة لدى العائلة المالكة تدفعها لتبني مواقف مناهضة للاصلاح أو الانحباس في سياسة مصممة لكيفية ادارة الدولة والسلطة، وإنما تقترب المشكلة من كونها (فوبيا سياسية) تصيب العائلة المالكة بحالة من الهلع الشديد من التغيير بكافة أشكاله وصوره، الأمر الذي يسوقها الى الماضي، بكل متبنياته ونزوعاته الضيقة والحادة.

قد تتبنى العائلة المالكة مواقف ذات نكهة اصلاحية ولكنها لا تنم عن قناعة راسخة لدى اهل الحكم، وإنما هي استجابة قهرية لأوضاع خارجية لا تقوى على مجابهتها. وبالتالي فإن القرارات الصادرة عن صانعي السياسة العامة في الدولة مزمومة بعقيدة الاحتكار التام للسلطة باعتبار أن الاخيرة إمتياز خاص بطبقة.

وكما أن الدولة قامت على أسس مقلوبة، أي متعارضة تكوينياً مع مفهوم قيام الدولة الحديثة، فإن ماتلاها من مفاهيم أخرى مثل المواطنة والشراكة السياسية وحقوق الانسان والحريات الفردية والعامة جاءت هي الاخرى مقلوبة. إن ثمة الحاحاً لدى الطبقة الحاكمة على اعتبار الدولة مزرعة خاصة أو حقل صيد، وبالتالي فإن الحديث عن شراكة في السلطة او الاقرار بالحريات يتم النظر اليها باعتبارها تنازلاً عن حق خاص.

تنزع العائلة المالكة نحو مجابهة الشروط الموضوعية للتحوّل، فلا هي تنظر الى الظروف الداخلية والخارجية بواقعية تستلزم التعاطي معها بما تقتضيه من قرارات مناسبة، ولا هي تذعن الى الحقائق المجسّدة على الارض بما تتطلب رؤية جديدة، فالأمر في كل الاحوال سواء لأن التغيير مرفوض ابتداءً طالما يفضي في نهاية المطاف الى تهديد السلطة.

مجريات العامين الماضيين، كما في كل الفترات التي شهدت فيها البلاد نشاطات اصلاحية وطنية، تؤكد أن العائلة المالكة ضد التغيير بل هي تسير على عكس تيار الاصلاح، وإن بدت تصريحات الأمراء غير ذلك، فاللقاءات التي تمت بين رموز التيار الاصلاحي وولي العهد والامير نايف لم تستهدف رسم خطوط عريضة للاصلاح بقدر ما كانت ترمي الى تطويق العمل المطلبي واحتوائه. وليس من الغرابة في شيء أن يظهر ولي العهد رغبة معاكسة في تأييد المطلب الاصلاحي فيما يتولى الامير نايف مهمة قمع رموز التيار الاصلاحي الوطني، فتلك هي العادة المتبّعة لدى أهل الحكم، مع الالتفات الى هامش الخلاف بينهم فيما يرتبط بمنهج التعامل مع الاصلاحيين.

الاصلاح مرفوض، لأنه يتناقض مع مفهوم الدولة لدى العائلة المالكة، ولذلك فإن ما نقل عن الامير نايف قوله لوزير الاعلام الاسبق محمد عبده يماني بأن الانتخابات البلدية تافهة!! هو مصداق حقيقي لمفهوم الدولة في نظر العائلة المالكة وبخاصة الجناح السديري القابض على مفاصل الحكم، فكل مفهوم للسلطة يؤدي الى تفتيتها يصبح منبوذاً.

وإذا ما توسعنا في تناول المفاهيم الاخرى المتعلقة بالدولة فسنجد أنها لا تحتفظ بنفس مكوناتها المتفق عليها عالمياً، فالمواطنة، على سبيل المثال، لا تعني المساواة بين المواطنين والشراكة في السلطة والعدالة في توزيع الثروة بقدر ما تعني الولاء للسلطة، وبصورة أدق للعائلة المالكة. الوطن هو الآخر لا يعني الاطار الحاضن للدولة المؤسسة على روح مشتركة ومصير مشترك بقدر ما يعني إطاراً لتوحيد السلطة ومركزتها والاذعان التام للمواطنين بداخله للطبقة الحاكمة، وهكذا الحال بالنسبة للحريات العامة التي تفقد معناها بفعل إقحام التفسير الديني لجهة تقييدها او حجبها بالكامل، واعتبار كل حرية تمس بالسلطة مساساً بالدين!!

ولا يدور الأمر هنا حول احلال مفهوم سياسي محل آخر، بمعنى وجود فلسفة سياسية خاصة او نظام تأملي خاص بما يؤول الى تهديم مفهوم شائع وتشييد آخر، بل هي السلطة وحدها الركيزة والمحرّك لموقف العائلة المالكة والتي تدفعها لاحلال تفسير يتسم بالشخصنة التامة لا علاقة له بالرؤية الكونية او الفلسفة السياسية، ولذلك فإن هذا التفسير يأتي مقلوباً كونه لا ينسجم مع منطق الواقع وحركته. على سبيل المثال، بينما تبدأ مشاريع الاصلاح في العديد من الدول بالانطلاق من نقاط متقدمة لمواكبة حركة التحولات السائدة في العالم، فإن السعودية وحدها التي تبدأ تغييرها من نقطة متأخرة، متوارية خلف مسمى الانتخابات الذي أرادت به إسكات الاصوات المتصاعدة في الخارج والمطالبة بضرورة إدخال هذا البلد الى عالم الديمقراطية من أجل احتواء التطرف الديني.

ورغم ذلك، فقد كبُر على العائلة المالكة أن تقبل بطواعية خطوة ضئيلة كالانتخابات البلدية، فقد أرادتها عملية ميكانيكية صرفة لا روح فيها ولا حراك ثقافي وشعبي، بل وأفسحت الطريق للقوى المتزمتة والمعادية تكوينياً للديمقراطية أن تدخل الى حلبة المنافسة الانتخابية من أجل تخريبها، فالعائلة المالكة تدرك تماماً بأن هذه القوى لم تأت الى الانتخابات إيماناً منها بالديمقراطية فهي من سنخ العائلة المالكة ترفض قبول الآخر، وترى بأنها وحدها المالك الشرعي الوحيد لحق تقرير مصير البلاد والعباد، أي اعادة انتاج الاستبداد بشكل آخر.

نعلم بأن عدم اليقين والخوف من خطر الانقسام وانبثاق التناقضات الداخلية في الدولة من خلال المزاولة الديمقراطية تنذر العائلة المالكة للعجز وربما الزوال، ولكننا نعلم أيضاً بأن العائلة المالكة تحمل أفكاراً تناقض الواقع التاريخي وتحاول السير عكس اتجاهه، وهذا قد يؤدي بها الى الانقلاب رأساً على عقب.

الصفحة السابقة