بث صلاة الاستسقاء عبر روتانا

الثنائيات المتضادة في السعودية

سلسلة ثنائيات متراصّة تعمل متزامنة في الفضاء السعودي المفتوح وعلى الاثير مباشرة، وتمثل صورة لواقع يعكس اختلالاته بطريقة نابذة لحقائقه الكبرى.. فنحن نلقى أخلاطاً من الافكار المتعارضة ووسائل الاتصال الجماهيرية بإرتداداتها الثقافية المتضاربة تنطلق من نفس مصدر واحد وتشيع في وسط مجتمع واحد وغير موحد.. لا تعكس تلك الثنائية ظاهرة صحية كالتي نجدها في المجتمعات الديمقراطية، بوصفها تجسيداً للتعددية وتنوع الآراء والاتجاهات الايديولوجية والسياسية.. والسبب في ذلك، أنها لم تؤسس ثقافياً ولا حقوقياً، وإنما جاءت كجزء من عملية فوقية تمليها الحاجة الى سلطة مستقرة وسط مجتمع متشظي، كإنعاكس لحالة الدولة الشرقية، التي تؤمّن استقرارها عن طريق توفير مصادر الاضطراب والفوضى.

قد تفيدنا بعض المظاهر في استجلاء الرؤية حول طبيعة الاختلال الداخلي، فمصادر التمويل السعودية تمدّ محطة روتانا بمعجونها الطربي المتهابط تقابلها محطة المجد الدينية بكل افتعالاتها الخطابية الباهته، وكذا الحال، فإن محطة القرآن الكريم المغمورة وهجاً ولهجاً تقابلها إم بي سي إف إم بهجينها الترفيهي والاخباري السقيم.. هي ثنائيات باتت مقبولة وتعبِّر عن العناد المستمر على إبقاء إتجاهين متعارضين من الاصالة الدينية المستلبة والحداثة التكنولوجية المبتذلة. فهذا التماسك بين نزعتي المحافظة والتحديثوية لا يرجى منه تحقيق التوافق بين المجتمع والدولة فضلاً عن الاستجابة لشروط التحول الداخلي، بقدر ما هو توفير لمسوّغات التنافر في المجتمع لصالح استقرار السلطة.. فليس هناك ما يجلب السخط إزاء تلك المتضادات الثقافية والاتصالية، فسياسة إرضاء الاذواق كافة تبدو سمة أساسية في منهج الطبقة الحاكمة في التعامل مع تيارات فكرية واجتماعية متصارعة.

ليس هناك ما يتعرض للفناء في هذه البلاد فكل النزوعات المتطرفة تجد بيئتها الخصبة شاءت الدولة أم أبت، فالعائلة المالكة ترعى الشيء ونقيضه، فإن عجزت عن إحتضانه في الداخل زرعته خارج حدودها مع ضمان كل أشكال الحفاوة والرعاية، فالافكار وإن هاجرت خلف الحدود فإنها تعود ثانية كما لو أنها منتوجات محلية عالية الجودة.. فمازالت عملية التحديث حتى في شكلها الاغوائي تواجه مضاداتها في الداخل بما يحول دون مرورها عبر بوابة المحافظة الدينية المفتعلة، وكأن الدولة تقوم بتوفير تجهيزات انتقالها وتحوّلها في الخارج، حيث يصبح المجتمع المراد تأهيله للعيش ضمن ظروف التحول الداخلي للدولة يخوض دورة توجيه خارجية بتمويل محلي، فيما لا تزال الهياكل الداخلية أمينة على الاحتفاظ بخط سيرها المتثاقل.

التطرف والاعتدال، الاصالة والمعاصرة، كلها ثنائيات تجدها في مظاهر الحياة اليومية، ولا غرابة في ذلك، فالمكان الذي ينشيء مفكراً فريداً بحجم عبد الله القصيمي، الخارج من معقله السلفي بصرخة المتمرد، هو نفسه المكان الذي ينتج جيلاً من الانتحاريين المتشربين أفكار السلفية المتطرفة.. بنايات مدججة بآخر منتجات التكنولوجيا الحديثة مثل برج المملكة بالرياض تقع بالقرب من شواخص التقليدية الغارقة في ماضوية التراث المتجمد نصاً وقصداً.. هكذا هي تسير السعودية، تجتمع فيها كل الثنائيات المتضادة والمتفجرة بعنفوان غير مسبوق، تشترك جميعاً بطريقة غير مباشرة في تعضيد السلطة والانتصار لها.

في المستوى المذهبي نجد من يجادل واهماً بأن ثمة تعددية مذهبية تعكس قدراً من التعايش بين المعتقدات وربما تمثل وجهاً للتعددية المعترف بها، ولكنها غير ذلك على الاطلاق، فهذه التعددية ليست قراراً رسمياً بقدر كونها ممانعات جماعية إزاء محاولات الاضمحلال في واحدية مفروضة ومرفوضة من قبل الحليفين التقليديين الرسمي والديني.. لا يصح مقارنة حال السعودية بالنصرانية في أسبانيا في العصور الوسطى، مع أن تجربة الجيوش السلفية التي غزت المناطق في الجزيرة العربية من الحجاز غرباً الى الاحساء شرقاً كانت سيئة الصيت حيث كان إكراه السكان على تبديل عقائدهم والانضواء قهراً في العقيدة السلفية إحدى الوسائل التي إتبعها ابن سعود وجيوشه جنباً الى جنب السلاح الغاشم الذي فتك بأرواح الكثيرين، ولكن الممانعة الشديدة من قبل سكان المناطق ضد محاولات قلب المعتقدات أبقت الغلبة السعودية في حيزها العسكري. وبالتالي فإن هذه التعددية المذهبية لم تكن تمظهراً للتسامح الديني، بدليل بسيط أن المذاهب الاخرى لم تحظ بالحد الادنى من الحقوق الدينية في مقابل الانتشار السلفي الواسع والمهيمن على الحقول الدينية الرسمية: القضاء، التوجيه الديني العام، المساجد، الافتاء، القضاء، والهيئات الدينية العليا (هيئة كبار العلماء مثالاً).

كل ما جرى، أن الدولة حين عجزت عن استبدال عقائد السكان فرضت تدابير صارمة على طقوسهم الدينية، وجعلت الانتماء المذهبي مقياساً ليس في الانخراط في المؤسسات الدينية الرسمية فحسب بل والسياسية أيضاً.. إن وجود تمذهبات متنوعة في السعودية لا يمثل أكثر من واقع يصعب تجاوزه بسهولة. قد يحلو للبعض تسميتها بالانفتاح والقبول بالتعددية، أو حتى التعايش بين المعتقدات ولكنها غير ذلك بتاتاً.. وهي ذات الرؤية المعلولة التي تقوم على اعتبار الانسجام التام بين متطلبات الدين والدنيا والدولة واقعاً قائماً في هذا البلد. ولكن الحقيقة، أن ما يرى ليس أكثر من تشوهات خلقية تصيب عمليات التحول الاجتماعي والثقافي في بلد مازال يتمسك ـ بشراسة ـ بقواعده المهترئة على أمل الافادة من مصادر قوة وخبرات العالم لترسيخ سلطة تعرضت لاهتزازات عنيفة بأمواج الحداثة في غضون العقود الثلاثة الاخيرة.

ثنائية بوجوه عدّة قابلة للاستعمال بحسب ظروف المكان والزمان.. فقد كان وصول وفد نسائي سعودي الى جنيف لحضور اجتماعات حقوق الانسان العام الماضي ملفتاً في بلد لم يسمح فيه حتى الآن للمرأة بقيادة السيارة، تماماً كما هو الحال في ظهور نساء سعوديات بخبرات متقدمة في مؤتمر جدة الاقتصادي في بلد مازالت المؤسسة الدينية الرسمية تحسب صوت المرأة عورة والكشف عن وجهها حراماً.. المشاركة المفتعلة للمرأة السعودية في فعاليات اقتصادية وثقافية وأحياناً سياسية على المستوى الدولي يندرج في سياق عمليات الترميم المتواصلة لسمعة البلد الذي تحوّل بين عشية وضحاها الى وكر للارهاب.. فقد تحوّلت المرأة، كما أشياء كثيرة في هذا البلد، الى مبتذلات في مسلسل المساومة السياسية التي تقوم بها الحكومة في الخارج، دفعاً لتهمة باتت محسومة، واغلاقاً لملف قضية قد شارفت على إستكمال أوراقها الاخيرة، وخصوصاً مع استمرار مسلسل العنف في العراق، وتالياً تفجيرات لندن.

في السنتين الاخيرتين أضافت العائلة المالكة الى مسلسل ثنائياتها المشوّهة عدداً من اللجان الحقوقية والنقابية التي تصلح كواجهات كرتونية ومغرية في العلاقات الدولية، فهي ليست مصممة لتحقيق أغراضها الحقيقية بقدر ما تعكسه من تحوّلات مفبركة لواقع افتراضي في ذهنية الدولة. فهذه الواجهات تعمل كحكومة ظل وتمارس دوراً تضليلياً في المحافل التي تكون فيها المؤسسة الرسمية عاجزة عن الوصول اليها أو تلك التي لا تنسجم معها.

ولكونها تستهدف بعث رسائل متواصلة للخارج، فإن اللجان الحقوقية والنقابية كما الانتخابات البلدية المشلولة تعجز عن تقديم تفسيرات رصينة حول قضايا داخلية ومن أبرزها قضية الاصلاحيين الثلاثة التي فشلت الحكومة ولجنتها الحقوقية في التعامل معها بصورة مقنعة ومرضية. وفي حال كهذه، فإن الثنائية تمظهر ذاتها على هيئة داخل وخارج يكون فيها الاخير مطلوباً بدرجة أكبر، ولاريب أنها تعطي دلالات قوية على أن تلك اللجان الميّتة منشئاً هي مقوّضات لحركة التطور الطبيعي للمجتمع.

الثنائية ليست مجرد تشويه لواقع يلحّ السياسي على تجريده من مفاعيله الحركية، وإنما هي ضمانة مؤكدة لاستقرار السلطة. إن توليد الثنائيات من قبل الدولة يزيد في انقسام المجتمع ويزيد في ترسيخ أسس السلطة واستمرارها، فتجربة العمل السياسي الوطني التي خاضها الاصلاحيون المتحدرون من خطوط فكرية وسياسية متنوعة أثارت فزعاً متعاظماً لدى الطبقة الحاكمة، فهي تجربة فريدة من نوعها من حيث درجة التنسيق بين القوى الوطنية من مناطق ومدارس فكرية متعددة، فالتوحّد أفقياً يفضي الى إنقسام عمودي بصورة تلقائية، بمعنى ان تلاقي فئات إجتماعية متعددة على أرضية عمل مشترك وفي ضوء أهداف محددة يؤول في مؤدياته النهائية الى تشقق بنية السلطة وتصدّعها.

كل التحالفات الاجتماعية تثير الهلع لدى العائلة المالكة، لأنها تعيد توشيج المجتمع المراد إبقائه منقسماً، وستكون المشكلة أشد خطورة حين يتوشّج قسم من المجتمع على قاعدة حقوقية وسياسية، أي إستهداف مباشر للسلطة الحاكمة. وعلى ضوء هذه الخلفية المفزعة، تتحرك العائلة المالكة لفتح مجال الثنائيات على أفق واسع، كونها صمام أمان للنظام. إن التكاثر المتواصل لمحطات ومراكز ثقافية واعلامية متضاربة الاغراض والتوجّهات يبدو أحياناً مقصوداً لغيره، فهو تكاثر فطريات يلهي عن التفكير في محتوياتها، ولكنها في الوقت ذاته تشغل الجميع بالجميع، مع إخراج السلطة سالمة منها، ولها في ذلك نجاة، فحين تتحول الثنائيات الى ظاهرة مضرّة يكون القابض على زمام الأمر قادراً على اللعب بالمتناقضات وخلط الأوراق، كأن يصبح سلفياً متشدداً على طريقة الامير نايف الذي يكرر بلغة أمنية صارمة تمسك الدولة بالعقيدة السلفية، فيما يصبح ليبرالياً منفتحاً على طريقة الامير عبد الله الذي تعلّك مفردة الاصلاح بطريقة فطرية منزوعة المعنى. بل قد تجد في الامير نفسه صورة ثلاثية الابعاد، يكاد سنا برقها يذهب بالابصار، فهو سلفي وليبرالي بل وشيوعي أحياناً كما قال الامير عبد الله عن نفسه ذات لقاء مع أعضاء الحزب الشيوعي العائد من المهجر قبل عدة سنوات.

الثنائية السلوكية لم تعد موقفاً إستثنائياً أو ظرفياً، بل باتت سمة في طبقة الامراء الحاكمين، فالناسك المتهجد بالنهار يصبح فارساً ليلياً بإمتياز، فشخصيات السر والعلن تتصارع فيما بينها ولا يمكن تلاقيها، كونها من ضرورات القيادة والحكم.. لهجة الطهرانية الدينية أمام عدسات الكاميرا فريضة سياسية قبل كل شيء، وللجلسات المغلقة والبعيدة عن الاضواء لهجتها المقيته المشحونة سباً وبهتاناً. من يسمع الأمراء الكبار بدءا من الملك العليل وهم يلهجون بلسان عربي غير فصيح وتتخلل خطاباتهم آيات من الذكر وأحاديث نبوية مبتورة لا يصدّق أن من ذات الفم يتدفق سيل من الشتائم واللغة الهابطة أمام الحواشي وفي المجالس الخاصة، وكل ذلك محكوم بطبيعة الحال الى قاعدة (المجالس بالامانات) و(لكل مقام مقال) وباقي قائمة المسوّغات للخروج عن النص.

لكن السؤال ما هو المدى الزمني الافتراضي لبقاء هذه الثنائية المتضادة في ظل عمليات التحوّل الكبيرة التي تشهدها المجتمعات، والتي تعصف بكل البنى التحتية صعوداً الى البنى الفوقية؟

ما نلحظه منذ بدء حملة الانتقادات الواسعة ضد السلفية السعودية المتطرفة، أن تنامياً مضطرداً لنزوعات التشدد في الخطاب الديني المحلي، وهو أمر يدعو للتأمل. ثمة عزيمة راسخة على استئناف العمل بالثنائية المتضادة بشكل متطور، ويبدو كما لو أن التشويه الحاصل في الخطاب الديني المسرف في التشدد يعاد طلاؤه بألوان هادئة لغرض تعميمه واخراجه في صياغة مقبولة محلياً وعالمياً، تماماً كما أن التشويه الحاصل في الخطاب الاصلاحي الوطني يتم عن طريق صناعة هياكل محدّثة وسلب العناوين الاصلاحية من مضامينها.

نعلم مسبقاً بأن عملية كهذه محكومة بالفشل، إذ لا يمكن السير في إتجاهين متعاكسين في وقت واحد، حتى وإن بدا أنهما متوازيان، فالنموذج الديني السائد لا يتقاطع بحال مع إتجاه تطور الدولة ولا نموذجها الاصلي. وبالتالي فإن ما يقال عن توافقية الدالات الثلاث (دين ـ دنيا ـ دولة) هي مجرد فرضية وهمية، وخصوصاً بالنسبة للسعودية حيث الركون التام الى النصوص الساكنة والعودة الجماعية الى نموذج الدولة الدينية في القرن الهجري الاول ينقطع بالكامل عن تيار الحداثة الجارف، حيث لا يبقى شيء متماسكاً مهما بلغ مستوى ثبوته وثباته.

الصفحة السابقة