حريّة الرأي بداية الإصلاح

الملك الجديد يطلق سراح المعتقلين الإصلاحيين

اعتقل الإصلاحيون بدون جرم في مسرحية ساخرة، ولفقت لهم تهم تضحك الثكلى، وصدرت الأحكام من قبل أحبار الوهابية وفق توصيات الوزير المبجل نايف بن عبد العزيز. فكانت تلك الأحكام صدمة للموالين للنظام أكثر مما كان صدمة لمعارضيه؛ ذلك أن الموالين وجدوا بأن المسرحية الهزلية لسوء حبكها ولإيغالها في الظلم والتعنت والإفساد للمشايخ القضاة وغيرهم، تستفزّ المواطنين وتستفزّ حلفاء النظام من الأميركيين. أفيكون جرم من طالب في عريضة الحكومة بالإصلاح 5-7 سنوات سجناً؟! هذا مع أن ولي العهد ـ الملك الحالي ـ أيّد ما في العرائض، أو أحدها، فإذا بها تتحول الى تهمة. ترى ماذا كان سيحدث لو دعا هؤلاء الإصلاحيون الى المظاهرات والعصيان المدني ضد نظام فاسد في كل محتوياته السياسية والقضائية؟ ماذا كان مصيرهم؟!

ماذا بعد؟

لقد أنقذ موت الملك فهد النظام من مآزق قادمة لو استمر في اعتقال القيادات الإصلاحية.

لكن الماكنة الدعائية الحكومية أبت إلا أن تخرج النظام بشيء من حفظ ماء الوجه. فاعتبر اطلاق سراح المعتقلين (مكرمة) للعهد الجديد! مكرمة لأناس مظلومين، سجنوا بلا جرم، وعوقبوا بلا جريرة! ونجا المجرم الأكبر من الحساب والعقاب ـ ونقصد به وزير الداخلية.

لقد كان المعتقلون سجناء رأي ليس إلاّ، والضحيّة ـ حتى مع إطلاق سراح المعتقلين ـ هي حريّة الرأي، فهي مفتاح المشكلة وبداية الحلّ لأزمة البلاد السياسية.

إن إطلاق سراح القادة الإصلاحيين لن تكون له قيمة ذات معنى إلا بهامش واسع من حرية الرأي التي تسبق أي حريّة أخرى، بل هي مفتاح الحريات الأخرى، كحرية الإعلام، وحرية العمل السياسي، وحرية الإعتقاد، وحرية النشاط الإقتصادي حتى، وغير ذلك.

وحرية الرأي وإن تمت ممارستها فردياً، فإن منفعتها وضرورتها لا تتحقق إلا بالممارسة الجماعية لتلك الحرية، وإلا أصبح ممارسوها شاذين بين مجتمعهم، ينظر اليهم الآخرون كـ (متفلسفين ـ أدعياء علم ـ لا يحق لهم الخوض فيما يخوضون فيه ـ من أنت حتى تتكلم في هذا او غيره؟!) وهذا ما كان النظام وأدواته يقولونه للإصلاحيين. بل سينظر اليهم البعض نظرة حسد، لما أوتوا من شجاعة على نحو ما في قول رأيهم.

إذا مارس أفراد المجتمع حرية الرأي، سيشعر الجميع انهم متساوون فيما يطرحون، فكلام كل واحد منهم يقبل الصح والخطأ، وكلهم لن يشعروا بالحرج فيما لو أخطأوا في طرح رأيهم، لأنهم يعلمون ان غيرهم يخطيء أيضاً. وسيعرف كل واحد ايضاً ان الحق الكامل لا يستطيع احتكاره فرد او جماعة، فكل واحد له نصيب من الحقيقة، وليس كلها. وأهم ما سينتج عن ممارسة افراد المجتمع لحرية الرأي، ان يتقبل كل واحد ما يأتي به الآخر حتى ولو لم يؤمن به.. تلك هي فائدة الممارسة (الجمعية) لحرية الرأي، ولا تجدها عند ممارسة افراد قلائل لها. ولعل هذا يفتح لنا واحداً من أسباب الإعتداد بالرأي والتعصب له في مجتمعنا، حيث نرى كل واحد يعتقد انه يمتلك الحقيقة، وما عداه على باطل. او نجد الأكثرية الصامتة التي تدعم بصمتها القديم والاستبداد بالرأي والجمود والتي يسهل استخدامها ضد المصلحين ودعاة التغيير.

من طبيعة حرية الرأي، انها تعطي (رأياً) وليس بالضرورة (رأياً صحيحاً). والذين يعملون ضد (حرية الرأي) يستندون الى أن أحداً لا يجب ان يتحدث، ولا يجب ان يكتب، ولا أن يعلّم، ولا أن يبدي رأياً إلا إذا كان صحيحاً (من وجهة نظر هؤلاء) مائة بالمائة. وهذا الشرط يلغي في حقيقة الأمر (حرية الرأي) لأن أي رأي (بما هو رأي) قابل للخطأ والصواب، مهما بدت عليه الوجاهة والصحة، أو هو بتعبير أصح يحمل جانباً من الصحة وليس كلها.

إن (حرية الرأي) لا تعني بالضرورة (صحة الرأي).

وإن (حق إبداء الرأي) لا يعني (إلزام الآخرين به).

وإن (صحة الرأي) تحسب من وجهة نظر قائلها (لا المستمع اليها). فهو يؤمن بصحة ما يقول، وليس بالضرورة ان يؤمن بما يقوله المستمعون او المتحدثون والمناقشون.

في مجتمعنا فإن المستغرب والشذوذ هو الدعوة لأن تكون هناك حرية رأي، عكس هذا يوجد لدى الآخرين.. إن حرية الرأي والتعبير التي تدرس في المدارس وتمارس بالنسبة للطفل في البيت والمدرسة والجامعة والعمل والشارع، إضافة الى مواقعها الصحيحة في الإعلام.. هذه الحرية المتوفرة تقف اليوم أمام أعتى ديكتاتورية.. لا يمكن ان لا تكون هناك حرية رأي في الغرب، لأنها صارت جزءا من الحياة، بدونها لا تكون لها طعم ولا رائحة ولا معنى حتى.

بينما هي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ينظر اليها كترف عند البعض وكمرض عند البعض الآخر!

الأصل في الغرب حرية الرأي، وحرية الإعلام، وحرية الإعتقاد وحرية التفكير.. وهناك شذوذ لهذا الأصل او هذه القاعدة.

والأصل عندنا ـ خاصة في المملكة ـ هو الإستبداد بالرأي، واحتكار الإعلام، وفرض العقائد، وقمع التفكير.. وهناك شذود لهذا الأصل أو هذه القاعدة.

هذا ما نتحدث عنه يقع على ارض الواقع.

في الأصل انه ليست هناك حرية مطلقة في هذا الكون.. حتى الحريات التي ذكرناها ليست مطلقة. حدودها مصلحة الجماعة، أو مصلحة الأمة. فالإعلام حرّ في الغرب، ولكن ليس في المطلق. هناك رقابة ذاتية، وهناك ضغوط حكومية في بعض الأحيان، بالنسبة لموضوعات، او بالنسبة لبعض الدول، ولكن الظاهرة العامة، ان هامش الحرية في الغرب واسع، ولا يصح ان يأتي أحدهم فيتحدث عن حرية مزيفة، او قمع أو ما أشبه.. ويأتي ببعض الأمثلة النادرة فيعتبرها الاصل.

هناك من يريد ان يطعن في الحرية وفي قيمة الحرية، وهناك من يريد ان يجعلها مذمومة في أعين المبتلين بالديكتاتورية، فيقولون انظروا ماذا تصنع الحرية: جرائم قتل اغتصاب وما أشبه. هذه ليست مشكلة الحرية، هذه مشكلة بشر اجتماعية.

في كل مكان وجدت فيه الديكتاتورية وجد مجتمع مخصي لا يستطيع ان يدافع عن نفسه، لأن من لا يستطيع او لا يمتلك الجرأة في الدفاع عن رأيه لا يستطيع ان يدافع عن نفسه وعن أرضه وعن وطنه.

وإن من تمتهن كرامته لا يستطيع ان يحفظ كرامة غيره، ولا أن يبقي كرامة لوطنه، او يغار عليه من اعتداء الاعداء.

ميزة الإعلام في الغرب، انه ليس في تناقض مع مصلحة الشعب والحكومة. في الغالب هو ينتقدها بعنف في الشأن الداخلي، اما في الشأن الخارجي فهو قريب منها، يستمع اليها، يقدم لها الرأي والمعلومة، والحكومة نفسها تقدم لرجال الإعلام المعلومات وتسربها للصحافة. هناك توافق من نوع ما، هذا هو الأصل، اما الشاذ فلا يعتد به.

بالطبع أن فكرة (الدولة) وتوسع سلطان (الدولة) يأكل بعض الهامش من الحريات العامة، وهذه ضرورة للبشر فيما يبدو. ان هامش الحرية الموجود في الغرب أعلى مما نتخيل، وانه لولا الحرية ما حصل التقدم لديهم. وإن التشكيك في الحرية الموجودة في الغرب، أكاديمياً، وإعلامياً، وغيرها مما يقوله المتطرفون الوهابيون، يخشى ان تكون وراءه جهات تريد أن تقنعنا بفضائل الديكتاتورية، التي هي سبب بل سر تأخر وانحطاط العالم الإسلامي. نحن نريد حرية، او بالأصح نريد توسيع هامش الحرية، لرجل الإعلام ولرجل الدين، ولرجال البحث، ولرجال التاريخ، وللطلبة، والأساتذة والناس اجمعين، لأن هذا هو بالتحديد مفتاح التقدم.

زد هامش الحرية، يزدد المجتمع وعياً، ومسؤولية، وانتماءً، وثقافة، ومبادرة، وترتفع المعنويات والشعور بالثقة والكرامة وغير ذلك. اما التضييق فلا يزيد إلا في الرذائل.

بعض المواطنين، اذا ذكرت أمامه كلمة (الحرية) تصور معها: حرية الجنس، والتعري، او في احسن الفروض قد تعني له: الفوضى! وحرية الإلحاد!

هل هذا معنى الحرية في ذهن العامة عندنا، ومن اتى به اليهم؟! الى حد جعلهم يخشون من التفكير، من طرح الأسئلة المغلقة، بل وغير المغلقة. انهم يخافون: يخافون من سيف الدين، وسيف السلطان، وسيف المجتمع، وسيف الذات، يخشون ان يقال لهم ان فكرتهم خطأ، وأنه لا يحق لهم ان يسألوا مجرد السؤال.. ولذا هناك في داخل كل واحد منا اسئلة مكتومة، وآراء مكتومة، هو يظهر امام العالم والناس والمجتمع بشيء، ثم يمارس في بيته شيئاً آخر مغايراً لما يظهر به.

صارت حالة ازدواجية الشخصية شائعة في بلادنا.

فالناس تحيا حياتين، وتظهر بوجهين، وتؤمن بالشيء ونقيضة، او تؤمن بشيء وتعمل شيئاً آخر.

كلما زاد الضغط في مجتمع وجد النفاق والعمل السرّي ولغة التآمر وخطاب السلطنة، ومثل هذه الأمور لا توجد في المجتمعات الحرّة، التي يستطيع المرء فيها ان يمارس حرية الفكر والرأي والإعلام والإعتقاد وحرية التعبير والمشاركة السياسية وغيرها. في مثل هذه المجتمعات يتضاءل الى حد كبير الخوف ومن ثم النفاق.

المجتمع يضع قيوداً تؤدي الى ممارسة النفاق الإجتماعي.

العائلة تضع قيوداً تؤدي الى ممارسة النفاق الأسري.

الشلل والأصدقاء يضعون نفس القيود.

المؤسسات الدينية والسياسية تفعل نفس الشيء.

اذا اردت ان لا تكون هناك حاجة كبيرة للنفاق والمنافقين.. اعط حرية، ستجد ان الجميع يعلنون عن ألوانهم على السطح. ستراهم بلا مساحيق، وبلا أغطية.

وبسبب الضغوط والقيود تظهر على السطح في الأكثر آراء سقيمة، متلازمة مع احتكار ومصادرة الرأي.

يصبح ـ مثلاً ـ الدين محتكراً بيد جماعة، هي من يفسره، وهي من يفهم نصوصه، وهي من يعرف القرآن. اما الباقون فالقرآن لم ينزل اليهم، وهم جهلة لا يستطيعون التدبر في آياته، وهم بالتالي لا يحق لهم الحديث في موضوع الدين، او التاريخ، او غيره.

تصور لو ان كل جماعة قامت بمثل هذا النوع من الاحتكار (هذا لا يعني تخصصاً) ترى ماذا يحدث. يحدث ان الفرد العادي: لا يحق له الحديث في أمور الدين لأنه لا يفهم فيه، ولا في التاريخ لأن رجال التاريخ يقولون له: ومن أنت؟.، والجغرافيا، وعلم النفس، وعلم السياسة، والاقتصاد والتجارة، والزراعة والصناعة. ستجد الأكثرية نفسها مكممة الأفواه مركولة الى جانب (لا يحق) لها مجرد الحديث في مثل هذه الموضوعات. بينما نحن نقول ان حرية الكلام وحرية الرأي متاحة للجميع، اما قبول ما يقال فهو ليس خيار المتحدث وإنما خيار المستمع او (المتلقي).

والخلاصة.. إن حريّة الرأي هي الصخرة التي تبتنى عليها الإصلاحات المنشودة، وهي الضامن لمنع أمثال نايف وغيره من وضع المواطنين في السجون بلا سبب، وهي نفسها قادرة عبر النقد وغيره على تخويف وعاظ السلاطين من أحبار الوهابية قضاة كانوا أو غير ذلك من تجاوز ليس حدود الله فحسب بل وحدود المجتمع الذي سيعبّر عن غضبه وسخطه عليهم.

لقد أطلق سراح الإصلاحيين، ويجب أن يكرمهم المجتمع، وأن يحمل الراية معهم آخرون لمواصلة طريق الحرية والكرامة.

الصفحة السابقة