الـد ولـة الـطـامسـة

كل الشعوب تفخر بتراثها الحضاري وتنفق أموالاً طائلة من أجل الحفاظ على ما تركة العظماء وصانعو التاريخ والحضارة، وتدعو الزوّار في أرجاء المعمورة للإطلاع على المعالم الأثرية في بلدانها، كجزء من الاحساس بالمجد وكتعبير عن الوفاء للماضي التليد الى جانب المكسب المادي، وتعريف العالم بالمنجزات الحضارية..

من مصر الفرعونية الى اليونان الاغريقية الى العراق البابلية الى الصين الكنفوشيوسية ومروراً بالهند وبلدان الشرق الاسيوية البوذية الى الآثار الفينيقية في بلاد الشام.. شواهد حضارية لا حصر لها، عملت الشعوب على إحيائها والحفاظ عليها، وخصّصت مراكز بحث تعمل جاهدة لحماية الآثار والكشف عما غاب منها تحت الثرى من أجل إبرازه..

يغمر المرء العجب والاندهاش في جولة يقوم بها في متاحف العالم وهو يرمق آثاراً ضئيلة الحجم ولكنها كبيرة في المعنى والدلالة، وقد لايتوقف طويلاً عند مكحلة أو قطعة بالية من القماش او حتى ريشة جفّت الروح في أطرافها، ولكن بالتأكيد سيقف إجلالاً لأمة ترى في معالم ماضيها مجداً، وفي آثارها القديمة رمزاً.. هي بلاشك أمة تحترم ذاتها، وتدرك بأن من لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل. ومن لا يحترم ماضيه لا يقيم وزناً لحاضره ولا مستقبله.

كل الحضارات تترك شواهد لها في حياة الشعوب، ليس بطبيعة الحال من باب التغني بالماضي فحسب تكون لمعالم الحضارات صفة المقاومة لعوامل الزوال والاندثار، كما هو حال الاهرامات في مصر او تماثيل بوذا في الهند والصين وافغانستان، وإنما أيضاً لأنها تريد لأبنائها النشوء على قيمة الوفاء، وتربيّهم على معنى العطاء والانتاج..

إن الجزيرة العربية، التي ضمّت حسب كمال صليبي كل الديانات السماوية، شكّلت حاضنة نموذجية لتراث الماضين من أتباع تلك الديانات، وتجاوزت أيضاً الى غيرهم كما في مثال مدائن صالح في شمال الجزيرة العربية.. إن مصادر التاريخ تخبرنا عن مناشط معمارية لأتباع الديانات المسيحية واليهودية في الجزيرة العربية، ليست في هيئة كنائس ودير فحسب بل في هيئة أعمال زخرفية وحرفية وآثار معمارية، ولكنها إنطمست بفعل الاهمال والتخريب المتعمد.

وإذا كان لمعاول التدمير الخرساء أن تعزف عن البوح بسر الطمس الذي لحق بآثار أتباع الديانات الاخرى، فهل يخبرنا الحاملون لتلك المعاول منذ نشأة هذه الدولة عن سر طمس معالم ديننا وآثار أمتنا.. لقد أثاروا غباراً كثيفاً من وراء طعناتهم في مجدنا بحجة لا يقرّها شرع ولا عرف ولا خلق إنساني مجرد..

لم نسمع عن المصريين أنهم عبدوا الاهرامات أو أبو الهول حين أحيوا تراثهم الفرعوني، ولا تحوّلوا عن ديانة الاسلام الى عبادة فرعون، ولم نسمع عن شعوب أحيت آثارها لتعبدها أو تقرّبها الى الله زلفى، ولكن هي تعبير سامي عن الوفاء لمن آثروا وأثّروا، ووضعوا تركة تنبىء عن آثارهم الخالدة واعمالهم العظيمة.

منذ أن قامت لهذه الدولة قائمة ومعاول الدمار تعمل هدماً وخراباً في آثار الاسلام، ولم تسلم دار ولا مرقد ولا مكتبة ولا أثر للاسلام الا تم جرفه ومحوه تحت ذريعة إبعاد الناس عن عبادة غير الله وإزالة مبررات العودة الى الوثنية والشرك!! عجباً أيقال عن حفظ آثار المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من باب الشرك وعبادة الاوثان. فهل فعل الماضون كبيرة حين أبقوا على بيوتات النبي وأمهات المؤمنين وأهل بيته وصحابته الكرام، أم أن تلك البيوتات غدت دوراً لعبادة الاوثان؟!.

لقد آلى المتعصبون على أنفسهم الا دفن وطمس آثارٍ تمثّل عنوان مجد لهذه الامة ولمنجزاتها الخالدة، وأضاف الجشعون اليهم قوة غاشمة محفوفة بشرعية كاذبة كيما يصبح النهب المادي مستتراً بحجج دينية واهية. فقد إلتقت نزعتان: التعصب والجشع في هذه الدولة، فالعلماء بفتاوى توفّر الغطاء الديني والحكّام بشجعهم وقوة الدولة من ورائهم لتنفيذ مآرب خاصة وشخصية.

لقد زالت مساجد لعبادة الله تحت طائل التوسعة، وطمست بيوت لأولياء الله بحجة أنها قد تعبد من دون الله، ولم يُرعَ حق الله ولا العباد فيما جرى من تدمير لآثار هي علامات ترشد الناس الى عظمة الخالق، وعظمة الرسالة التي أنزلها على رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم.

إنها كارثة إنسانية حقاً بكل المعايير، فبينما تناضل مصر من أجل ملاحقة آثارها المسروقة منذ أيام الاستعمار الفرنسي والبريطاني واستعادتها، ومن أجل ذلك ترفع القضايا تلو القضايا على دول أوروبا التي سرقت من آثارها القديمة ووضعته في متاحفها، تقوم، في المقابل، معاول التعصب بهدم وطمس كل أثر لم يرق لأصحابه، وإذا من بين آثار الاسلام التي نسمع ونقرأ عنها في كتب التاريخ والآثار الاسلامية لم يتبق سوى قلة قدّرها المهندس المعماري المرموق سامي عنقاوي بعشرين بناءً يمثّلون ما نسبته 5 بالمئة من مجمل المباني التي يعود تاريخها الى زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وصحابته الكرام رضوان الله عليهم.

إنها عملية تخريب عمدية لا تنتمي الى دين ولا قيم إنسانية رفيعة، بل هي تعبير متخلف عن الجهل بالذات التاريخية وبالنور المنبعث من تلك الآثار منذ نزول الوحي على المصطفى وحتى قيام الساعة. ونختم هنا بما كتبته الدكتور مي يماني المتخصصة في تاريخ وآثار الحجاز في سياق تعليقها على مقالة (تدمير الاسلام) المنشورة في صحيفة الايندبندنت البريطانية في الثامن اغسطس للكاتب دانييل هودن التي نشرنا ترجمتها الى اللغة العربية في هذا العدد. تقول الدكتورة يماني:

يزعم حكام السعودية بأنهم خدّام للحرمين الشريفين، ولكنهم يدمّرون بصورة تامة الآثار المادية للتاريخ الثقافي للاسلام. إنهم ينفّذون قوانين صارمة وضعت من قبل شرطتهم الدينية، بإسم المذهب الأكثر تعصباً في الاسلام، أي المذهب الوهابي. وفي غضون ذلك، فإنهم يدمّرون المواقع التي تحتفظ بمعنى روحي عميق وتمثل الميراث الثقافي لأكثر من مليار مسلم يتّبعون شكلاً أكثر تسامحاً وتنوّعاً من الاسلام.

إن هذا التدمير المنظّم هو إساءة واضحة للسلطة من قبل الدولة السعودية. وفيما نرقب الاتجاهات الراديكالية والعنفية في مساجد الغرب، يجب أن لاننسى الارثوذكسية الخطرة التي تسيطر على مهد الاسلام، أي الحجاز.

الصفحة السابقة