السعودية: مقاتلو الفضائيات الجدد

د. مضاوي الرشيد

لا يستطيع أحد أن ينكر أن الصفقة التي رتّبها النظام السعودي مع معارضة التيار الصحوي قد بدأت تفرز ثمارها. فبعد عقد من المواجهة والسجن لأبرز رموز هذا التيار الاسلامي تبدل الحال خاصة بعد أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، وجد التيار الصحوي نفسه خارج السجن ولكنه كان من أبرز المتهمين في إفراز العنف وتضليل الشباب فبينما شغل الكثير من رموزه بتبرئة أنفسهم من هذه التهم حاول البعض لعب دور الوسيط بين الدولة ومن رفع السلاح ضدها. لسنا هنا في صدد تقييم هاتين المحاولتين ولكننا نستعرض الظاهرة الجديدة والتي تتبلور كل يوم على شاشات الفضائيات المحلية والعربية والتي أفرزتها حالة الكر والفر في التسعينات بين النظام والصحوة الاسلامية، هذه الظاهرة التي يصح تسميتها بظاهرة مقاتل الفضائيات.

هذا المقاتل هو شخصية جديدة قديمة في التسعينات كان مقاتلنا هذا يصب جام غضبه على الولايات المتحدة والنظام المحلي المساند والمنفد لسياستها في الجزيرة العربية. كان يهدد ويتوعد في حلقات الدرس والوعظ والارشاد ويدين الدولة التي أصبحت في نظره مسرحاً للقوات الغازية الاجنبية ومرتعا للمصالح الغربية. كان يحلم بنظام إسلامي يتجاوز مقولات تطبيق الشريعة الاسلامية والتي كان يرى كيف أن تطبيقها لا يتجاوز الشكليات. كان هذا الصحوي يتخيل دولة اسلامية تطبق أحكام الاسلام في مجال السياسة المحلية والاقتصاد والاجتماع والسياسة الخارجية والدفاعية. كتب الصحويون العرائض وقدموها لولاة الامر علهم يعقلون ويتراجعون عن سياسات براغماتية تتعارض مع ما يطمحون اليه. تسلحوا بجرأة أعتبرت شطحة من شطحات العمل المنظم في حينها وأنكروا المنكر علناً، اذ أنهم اعتبروا معاصي النظام من المعاصي العلنية التي يترتب عليها انكاراً علنياً وليس من نوع الهمسات الخفية.

دفع بعضهم الثمن وسجن الكثير. عندما خرج هؤلاء من السجن أستقبلوا إستقبال الابطال من قبل تيارهم وجمهورهم. ولكن منذ اكثر من ثلاث أو أربع سنوات نلاحظ بشكل واضح جداً مدى التغير الذي إستطاع هؤلاء أن يتبينوه بشكل تدريجي خفي وغير معلن. فبينما كانت توبة علماء الجهاد تحظى بالتلفزة والاهتمام الاعلامي نجد أن توبة الصحويون كانت تدريجية ومبرمجة. أهم ملامح هذه التوبة هي عدم إنتقاد النظام ورموزه علي أي منبر، فالنظام الذي إنتقده هؤلاء في بداية التسعينات أصبح اليوم في عداد الانظمة الرشيدة وولي الامر الذي كان في التسعينات في عداد من استهتر بالشريعة وتجاوزها هو اليوم الاب ونحن أسرته، والسياسة الاجتماعية المفسدة للمجتمع في التسعينات اصبحت اليوم متماشية مع العصر ومتطلباته، والاقتصاد الربوي سابقا هو اليوم من ضروريات العولمة المفروضة ضمن شروط الانضمام الي مؤسسة التجارة العالمية. وان كان لهؤلاء مآخذ على ما يعيشونه فالسبب هو تخلف المجتمع وتركيبته القبلية أو حتى كيانه الكلي.

يراهن الصحويون على برامجهم التعليمية وحلقاتهم الوعظية كي يصلوا الى الدولة الاسلامية التي يرجونها، ولكن هناك علامة إستفهام كبيرة تطرح على العلاقة بين المجتمع المنضبط إسلاميا وفرص إقامة الدولة الحلم. وربما يتساءل البعض عن فرص نجاح مشروع أسلمة المجتمع في بيئة سياسية بدأ يتضح أنها تسير وفق مخطط معروف الملامح بدأ يضيق على مظاهر ومنابر وممارسة العمل الاسلامي. بعد تحول الصحوة من تيار معارض خارج السلطة الى تيار مندمج بها بل حتى مقيد من قبلها لم يبق لهذا التيار سوى منبر الفضائيات حيث تحولت شاشات التلفزيون الى ساحات وغى يرابط فيها هؤلاء لا ليبينوا للمشاهد الخطوط العريضة لسياستهم وبرنامجهم المستقبلي ان كان لهم برنامج، بل ليصبوا جام غضبهم على الولايات المتحدة وسياستها في العالم العربي.

منذ فترة قصيرة ظهر علينا أحد مقاتلي الفضائيات الجدد علي شاشة الجزيرة في برنامج معروف. جاء هذا المقاتل الى استديوهات الجزيرة في الدوحة متسلحا بحزام ناسف من الصور المثيرة التي تشمئز منها النفوس والمقالات العنيفة التي تهز طبلة الاذن ليستعرض جرائم الولايات المتحدة، وانتقل مقاتلنا هذا من اهرام الاجساد العارية في سجن ابوغريب الى اشلاء الاطفال المتناثرة، ومن ثم عرج على الرقاب المربوطة بحبال تجرها المجندات اللاتي يمارسن التعذيب وكأنهن في مسرحية سادية او فيلم رعب من انتاج استوديوهات هوليوود.

استعرض مقاتلنا الصحوي هذه السياسة الاستعمارية للولايات المتحدة وهيمنتها على المنطقة، ونادى شباب الامة واستنهض حميتهم لمواجهة العدوان، واعتقد أنه انتصر في معركته الاعلامية على عربي بقي في استديوهات واشنطن كان يدافع باستحياء عن سياسة الولايات المتحدة ويبرر إحتلالها للعراق ويبني أحلاما مستقبلية قائمة كلها على فرص نجاح التجربة العراقية. ألقم مقاتل الفضائيات الصحوي العربي الآخر حجراً كبيراً متسلحاً بقواعد سيبويه ومتتترسا خلف سلسلة طويلة من الآيات والاحاديث.

انتهت الحلقة وعاد المقاتل الى دياره فاستقبلته اقلام المعجبين بحفاوة واطراء خاصة بعد هذا الفتح الاعلامي المبين والنصر الساحق على الاعداء والمتربصين. شعر هؤلاء براحة نفسية عميقة وسكينة روحية خاصة بعد ان تفاعلوا مع مقاتل الفضائيات هذا وكيف لا؟ وقد نطق باسم الامة وهزم اعدائها خاصة اولئك المغتربين المغرر بهم الذين باعوا أوطانهم وهاجروا الى ديار الكفر والرذيلة، بل أصبحوا أبواقاً للمستعمر وجسراً تعبره الطائرات الامريكية المقاتلة ولساناً يترجم للمستعمر ويسهل استعماره الجديد.

بعد حلقة عرض العضلات اللسانية والمعصمية ومشاهد التعذيب والتنكيل الجسدية بشرائح عربية (عراقية وفلسطينية) وصل مقاتل الفضائيات هذا الى دياره سالما فلم تعتقله الآلة القمعية، ولم تستجوبه عيون وآذان السلطة خاصة، وأنه خرق القانون غير المكتوب والذي ينص على تحفظات في خصوص مقابلات مع قناة الجزيرة، انتهت الغزوة ورفعت راية النصر.

بعد مشاهدتنا لهذه المسرحية الاعلامية لا يسعنا الا ان نسجل بعض الملاحظات على ظاهرة مقاتلي الفضائيات الصحويين.

بعد أن مني هؤلاء بهزيمة واضحة للعيان في مشروع إصلاح دولتهم، وولي أمرها نراهم اليوم يسلطون غضبهم على الولايات المتحدة فلم يعد هذا التحول الاستراتيجي من الممنوعات في السعودية بل هو من المسموح به، ولم لا؟ ومثل هذا الزئير يمتص غضب الشعوب المقهورة المكسورة الارادة المبتلية بقيادة مشلولة تجاه السوط الامريكي المفروض عليها والمسلط على رقبتها. لم ينطق مقاتلنا الصحوي بكلمة توضح للمشاهد مدى إنخراط نظامه في المشروع التعذيبي الاستعماري الامريكي، ومدى إستعداد دولته العتيدة للانجرار وراء هذا المشروع، خاصة وأن مثل هذا الاستعداد يضمن الجلوس باسترخاء على كراسي الحكم الى أجل غير مسمى أو بالاصح حتى اشعار بوشي آخر.

لماذا لم يحدثنا مقاتل الفضائيات الصحوي هذا عن أجهزة المخابرات المحلية والتي لم تتوقف رحلاتها الى معتقلات غوانتانامو وغيرها إذ أنها تختص بأساليب تعذيب محلية لن تستطيع المجندات الامريكيات ربما أن تنافسها في قدرتها على انتزاع الحقائق؟ لماذا لم يحدثنا مقاتل الفضائيات عن خدمات الترجمة التي توفرها المصادر المحلية في مثل هذه الحالات خاصة وأنها أعلم باللهجة المحلية والثقافة الخاصة بمساجين غوانتانامو؟ لماذا لم يحدثنا المقاتل الصحوي عن القواعد العسكرية المنتشرة في عرض البلاد وطولها؟ لماذا لم يحدثنا عن صفقات الاسلحة الجديدة مع الولايات المتحدة وبريطانيا والتي تستنزف الثروة الوطنية وتنعش اقتصاد الشركات المختصة في تطوير الات القتل والدمار؟

لماذا لم يحدثنا عن الانفتاح الاقتصادي الذي سيجلب الشركات العالمية لتبيعه صكوك تأمين على حياته وسيارته وربما زوجته وأطفاله؟ لماذا لا يحدثنا عن الانهيار القادم للاقتصاد الخاص الصغير وأصحاب الشركات المتواضعة التي ستجرفهم التجارة العالمية أو تبتلعهم كما ابتلعت غيرهم في مناطق أخرى من العالم؟ لماذا لا يحدثنا مقاتل الفضائيات عن ينابيع النفط التي تستنزف يوميا من أجل تفادي ضائقة اقتصادية لا سمح الله قد يتعرض لها الاقتصاد الغربي أو حتى الهندي او الصيني او الياباني؟ لماذا لا يحدثنا مقاتل الصحوة عن الانفتاح الاقتصادي ومن سيستفيد منه؟ هل يا ترى سيكون المستفيد منه خريج كلية الشريعة المحلية والتي اثبتت انها لا تهيئه للعمل في شركة كهرباء أو إتصالات أو تأمين، بل تهيئه لغزوات فضائية مستقبلية تهيج السباب دون أن تبين لهم بوضوح جلي العلاقة بين المستعمر الذي يتصرف حسب ما تمليه عليه مصالحه الخاصة وبين القادة المحليين المنبطحين في سبيل استمرارية عروشهم.

لا يدري مقاتل الفضائية هذا انه يقدم اكبر خدمة لحليف الاستعمار، هذا الحليف سيستغله هو اذ أن المقاتل الصحوي ورقة ضغط ليس اكثر ولا أقل يستعملها النظام ويلوح بها في وجه حليفه الامريكي. المقاتل هذا عينة من شريحة كبيرة يسمح لها بالزئير بين الحين والحين اولاً لتفرغ ما في جعبتها، وثانيا لتظهر للعالم الخارجي كيف ان النظام هو الوحيد القادر علي كبح جماح هذا الزخم العاطفي المشحون، وثالثا لامتصاص غضب الجمهور المعطل فكرياً والمشلول عملياً، ورابعا لكسب المزيد من ود الولايات المتحدة الطامحة لمثل عملية الكبح هذه. مقابل هذه الخدمات الجليلة التي يقدمها مقاتل الفضائيات نراه يكافأ من قبل الجمهور والنظام معا، ولن ندخل في تفاصيل المكافأة بل نذكر فقط بأن خدماته الجليلة هذه ما هي الا تنفيس مؤقت ومرحلي، فاحتقان العالم العربي اليوم وغضبه من سياسات خارجية لم يتم لها النجاح لولا مساعدة الايادي المحلية لا تبدده غزوة فضائية يقوم بها مقاتلون مرابطون عند ثغور استديوهات الجزيرة.

رغم أهمية الاعلام المضلل أو المنور ورغم أن السياسات تضعها آلة الاعلام في عصر العولمة لن ينقلب الوضع في المنطقة ولن تحصل الشعوب علي سيادتها بمجرد إستفزاز مشاعر المشاهد العربي الذي بدأ يشعر بالغثيان من كثرة مشاهد القتل والدمار اللذين يتعرض لهما أخوته في كل مكان للولايات المتحدة مربط خيل فيه. نذكر مقاتلي الفضائيات أنه عندما قرر نابليون غزو مصر جاء ومعه حفنة صغيرة من المترجمين من أبناء جلدتنا ولكن عندما قررت الولايات المتحدة غزونا تحت شعار تحريرنا من الاستبداد ودمقرطتنا جاءت ومعها قوافل من أهلنا لتحل في بلد كالعراق. اما عندما هيمنت علينا في بلد كالسعودية مطبقة الاستعمار غير المباشر فقد حلت علينا كضيف غال نستقبله في قصور ولاة أمرنا ونفرش له السجاد الاحمر ونبرهن له اننا أكرم من حاتم الطائي. فقدنا كل سيادة بين الضيف والمضيف ولم يبق لنا سوى حيز الفضائيات وغزواتها المتكررة والمبتذلة.

وقبل أن نحاسب الولايات المتحدة لانها تملك قيادة تعتبر نفسها مدافعة عن مصالح بلادها لماذا لا نحاسب حكامنا الذين ما زالوا يبنون السياسة الخارجية من منطق المصلحة الخاصة بهم وحدهم ومصالح أبنائهم وأحفادهم من بعدهم متناسين مستقبل الملايين من الشباب الذي لن تتحقق أحلامه بالسيادة والكرامة والعيش الرغيد طالما انه مهمش ومعطل حولته الانظمة الى مشاهد للحدث وليس صانعا له.

لقد اكتفينا غزوات فضائية وقد حان الاوان لخطاب أقل عاطفية وردحية ضد الهيمنة الخارجية والتي لم تكن لتحقق من الانجازات ضدنا ما حققت لولا أصحاب الكراسي والسمو والمعالي. عندما نرى بأم أعيننا العلاقة الحميمة بين المحتل الغاشم وذلك المتربع على خيراتنا يسخرها لخدمة مصلحته هو ومصلحة الخارج نكون بالفعل قد صحونا من غفوة طويلة تخللتها سلسلة من الكوابيس المزعجة.

القدس العربي 7 نوفمبر 2005

الصفحة السابقة