هل تخاف السعودية جارتها الشمالية؟

السعودية والعراق الديمقراطي الفيدرالي القادم

ما يجري في العراق اليوم لا يقلق الحكومة السعودية كثيراً.

لقد كان القلق الأكبر يتمركز في نقطة ذات أهمية كبيرة وهي تواجد قوات أميركية كبيرة على جانب الحدود السعودية مع وجود استعداد نفسي وسياسي لدى الإدارة الأميركية لاختراق المتعارف عليه في علاقاتها مع السعودية عبر الضغط عليها وتهديدها من أجل تنفيذ الأجندة الأميركية، أو انتقاماً لأحداث 11/9.

هذا القلق تبدد في السعودية كما تبدد لدى دول الجوار العراقي: سوريا وإيران.

أسباب التبدّد كثيرة، بعضها يرتبط بالولايات المتحدة والآخر يرتبط بالسعودية نفسها.

فيما يتعلق بالجانب الأميركي، فقد تحطّمت العنجهية الأميركية في العراق، من خلال خسائرها المتزايدة عسكرياً ومادياً؛ وتحطمت نفسية الجندي الأميركي الراغب في العودة الى وطنه سالماً؛ وتحطمت الرغبة والقدرة الأميركية على شن حرب مماثلة بسبب تصاعد المعارضة الأميركية والعالمية ضد الحرب والإحتلال؛ بل وتشوهت سمعة أميركا في كل العالم على نحو غير مسبوق.

الشيء الذي لا يمكن الجزم به حتى الآن، هو أن المشروع الأميركي (السياسي) في العراق لم يفشل بعد وإن واجه مصاعب جمّة.. ولا يبدو في الأفق أن دول الغرب كلها وليست الولايات المتحدة وحدها ستسمح بفشل المشروع السياسي، ولا يبدو أنها ستخرج بأقل من قيام نظام شبه ديمقراطي فيه. وحتى لو حصل هذا، فإن الديمقراطية العراقية المنتظرة ستكون لها أسنان تتطور حدّتها وقاطعيتها يوماً بعد آخر، بالشكل الذي لن تكون فيه أميركا السيدة فيه، او الحاكمة على تصرفاته، وهي وإن رعت الديمقراطية الوليدة، فإن الديمقراطيون الجدد في العراق لن يكونوا عملاء كخاتم في إصبعها.

إذن السعودية تستطيع أن تطمئن أن لا حرب بعد العراق، على الأقل في المدى المنظور.

وتستطيع أن تطمئن الى أن الولايات المتحدة غير قادرة على استخدام قوتها العسكرية ضدها لتغيير النظام الملكي المستبد فيها، إن كانت هناك نية تجاه ذلك عند بعض اليمين المسيحي الحاكم في واشنطن.

وتستطيع المملكة أن تطمئن أيضاً الى أن حاجة أميركا اليها باتت اليوم أكثر مما كان البعض يتصوره قبل عامين من جهة المساعدة على توفير الأمن في العراق (عبر تهدئة السنة العرب) وعلى حشد الدول العربية والإسلامية لمكافحة الإرهاب والتعصب وهو مشروع أميركي جديد تم تبنيه بعد 11/9.

الأمر الآخر، ويتعلق بالتطور الحاصل في السعودية، فقد حدث أمران هامان: الأول، أن الحكومة نجحت ـ الى حين ـ في قمع المطالبين بالإصلاحات السياسية، ونجحت ـ والى حين أيضاً ـ في قمع العنفيين الذين يقومون بالتفجيرات الهوجاء من أنصار القاعدة. أما الأمر الثاني، فإن المملكة وخلال العامين الماضيين تحصلت على وفرة مالية غير مسبوقة جراء تصاعد أسعار النفط، الأمر الذي أتاح لها هامش مناورة محلي ودولي. محلياً صار بإمكان العائلة المالكة أن (ترشي) مواطنيها، وخارجياً صار بإمكانها أن (ترشي) حلفاءها القدامى/ الجديد (بريطانيا وفرنسا وأميركا) عبر صفقات أسلحة وعقود إنشاء، وإعادة تدوير أموال النفط الكثيرة لتعمل من جديد في خزائن البلدان الغربية، خاصة الأميركية. إغراء عوائد النفط المتصاعدة أخرست الحكومات الغربية عن دعوات الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتصاعد أسعار النفط، صاراً هاجساً لا يمكن لجمه ـ ولو مؤقتاً ـ إلا عبر السعودية التي ضخت نفطاً هائلاً وصل في بعض الأحيان الى 12 مليون برميل يومياً.

الحاجة الأميركية والغربية الى السعودية، واستعداد الأخيرة لتطييب خواطر الأميركيين في مرحلة ما بعد 11/9، أزاح عن آل سعود هواجس التغيير السياسي، وخفف عنهم الضغوط، وإن كانت لاتزال هناك بقية منها.

العراق الديمقراطي

لكن المشكلة الآن قد تأتي من العراق نفسه. فهل عراق ديمقراطي يخيف السعودية؟ وهل عراق ذو هوية شيعية يخيف السعودية؟ وهل عراق فيدرالي يخيف السعودية؟ وهل تخلص العراق من نزعته العسكرية الهجومية على جيرانه؟ وهل النفوذ الإيراني يشكل هاجساً للسعودية؟ وهل الطاقم الحاكم ـ ذي المسحة الدينية ـ في العراقي يؤلم السعوديين؟ وهل السعودية مستعدة أو راغبة في النفوذ في العراق من أجل تغيير هيكلي فيه؟ وهل تثق الحكومة السعودية في الحكام الجدد في العراق؟ بل هل يمكن أن يحتوى العراق في المظلة العربية والمظلة الخليجية؟

وفوق هذا، ماذا عن العنف في العراق، هل يتوقف، وإذا توقف هل ينتشر الى دول الجوار وبينها المملكة التي صدّرت شبابها الى هناك لقتال الأميركيين والشيعة والأكراد؟

الأسئلة كثيرة، ولكن يمكن الإجابة عليها على النحو التالي:

(أولاً) وجود عراق ديمقراطي الى جانب الحدود السعودية غير مريح، ولكن يمكن التعايش معه، وهذا من وجهة النظر السعودية أفضل من عراق على الشاكلة الصدامية. ويعتقد آل سعود بأن عراق ديمقراطي لا يؤثر كثيراً على منهجها السياسي الداخلي، بعكس ما يعتقده الكثيرون. فقد جرت تحولات شديدة في المنطقة وبين دول الخليج باتجاه الحريات والديمقراطية والإنتخابات ولكنها لم تؤثر في السعودية شيئاً ذا أهمية. فالمعادلة السياسية السعودية الداخلية قائمة على نظرية (الإحتلال الداخلي) أو (الإستعمار الداخلي) أي أن تقوم فئة من المجتمع (نجد) باختطاف قرار ومصالح الأكثرية عبر القوة العسكرية، ومثل هذا النوع من الأنظمة لا يتأثر بما يجري حوله كثيراً، وإن كان الضحايا يتأثرون. فالمشكلة ليست بين نظام العائلة المالكة والشعب فحسب، بل هي أيضاً بين الشعب في مجملة وبين أقلية حاكمة الى جانب آل سعود.

لقد تغيرت البحرين الى الأحسن والإمارات في الطريق وقبلهما الكويت واليمن والأردن، والمغرب والى حد ما الجزائر والسودان والآن هناك بواد تغيير صغيرة في مصر. السعودية توقفت عند كل هذا، موحية لحلفائها المحليين أنها لا تتغير ولا يجب أن تتغير، لأن (السعودية حالة خاصة) أو لنقل حالة شاذّة عن كل ما يجري في العالم ولا تجري عليها سنن الأولين والآخرين!

الديمقراطية في العراق ليست محبّذة إذن، ولكن يمكن التعايش معها. أما المتأثرون بها محلياً (اي في السعودية) فبالإمكان إخضاعهم بالمال أو بالقوة أو بهما معاً.

ويعتقد السعوديون ـ وهذا صحيح الى حد بعيد ـ بأن التجربة العراقية ليست مغرية حتى الآن، وهي تحتاج الى سنوات عديدة لكي تنضج. وفضلاً عن هذا نحن نعلم أن شعوب العالم العربي عموماً لا تنظر بعين منصفة لما يجري في العراق، وهي موتورة مما يجري، وباختصار العراق ليس نموذجاً يقتدى حتى الآن، وهناك صورة نمطية سلبية عنه تحتاج الى سنوات كيما تتغير.

(ثانياً) السعودية وكما أعلن أكثر من مسؤول ـ ولي العهد سلطان مثلاً ـ قالت أنها تحترم خيار الشعب العراقي، وأن أهم شيء هو أن يبقى العراق بلداً موحداً. لا تخفي السعودية قلقها من الفيدرالية، لأن الحل الذي ينتظر السعوديين هو واحد من إثنين: إبقاء السعودية دولة موحدة عبر اصلاحات سياسية وشراكة شعبية حقيقية لكافة فئات الشعب؛ او الإنفصال وتفكيك الدولة الى ما كانت عليه قبل قيام دولة السعوديين. ولأن الإصلاحات مستبعدة حتى الآن، فخيار الإنفصال هو الأقوى، وهو يدغدغ أحلام الكثيرين من القيادات في الحجاز ولدى الشيعة في الشرق. ومما لا شك فيه أن قيام فيدراليات في العراق ـ مهما كانت حسنة من وجهة دعاتها هناك ـ ستترك أثراً كبيراً أكبر من الديمقراطية نفسها، خاصة في الوسط الشيعي في المملكة.

إن قيام نظام سياسي يهيمن عليه الشيعة في العراق بحكم أكثريتهم ووفق معطيات الديمقراطية، إضافة الى قيام فيدرالية شيعية في الجنوب ـ كما هو مرجح ـ إن هذا سيترك أثراً كبيراً في تفكير المواطنين الشيعة في المنطقة الشرقية الذين عانوا من الحرمان منذ قيام الدولة السعودية الحديثة.

وبالمختصر المفيد، فإن الفيدرالية في العراق غير محبّذة لدى ال سعود للأسباب التي أشرنا اليها، ولكنهم في الوقت نفسه يرون أن الفيدرالية أقل ضرراً من تقسيم العراق وقيام حرب أهلية ستكون السعودية أول انعكاس لها على الأرض. أما سيطرة الشيعة على الحكم في العراق، حتى وإن كان عبر الإنتخاب، فالسعوديون وقبل أن تقدم القوات الأميركية على احتلالها للعراق، وتفادياً لسيطرة الأكثرية، نصحوا الولايات المتحدة بالقيام بانقلاب عسكري يطيح بصدام، وبهذا لا تقوم ديمقراطية ويبقى السنّة العرب سادة اللعبة السياسية منذ فجر الدولة القطرية العراقية. لكن هذا المقترح لم يؤخذ به.

لكننا ينبغي التأكيد على حقيقة أن المملكة حاولت بشكل منقطع التواصل مع القوى الشيعية: الحكيم، الجلبي، علاوي، الجعفري وغيرهم، وذلك قبل سقوط صدام، وبعد سقوطه أيضاً. والسعودية وإن كانت الآن قد سلّمت بحقيقة أن الديمقراطية ستأتي بأكثرية شيعية في الحكم، فإنها اليوم تحبّذ (علمانيي الشيعة) وليس متديّنيهم (حزب الدعوة/ الجعفري، والمجلس الأعلى/ الحكيم). ولازال رهانها على هذا، مع ابداء استعدادها للتعامل مع أي حكومة تأتي بها الإنتخابات. وهذا الموقف هو موقف الدول العربية المجاورة التي تؤيد علاوي، وكذلك الحكومات الغربية (بريطانيا وأميركا). مع أن كل هذه الدول، إذا ما جدّ الجدّ ووصل (الإسلاميون الشيعة) الى الحكم، فإنهم سيقبلون بخيار الشعب العراقي، وهم يعتقدون أن ذلك لو حدث فسيكون خياراً مؤقتاً وقد ينقلب المزاج الشعبي في المستقبل.

لا غرو إذن، أن تدعم أميركا وبريطانيا والسعودية والأردن وحتى السنّة العرب علاوي كمرشح لرئاسة الوزراء في الحكومة القادمة، مع أن احتمال فوزه ضعيف. إن الدعاية السعودية والأموال السعودية تجري بسلاسة لدعم علاوي، ولكن المملكة تتخذ من الكتمان وسيلة لتحقيق غايتها، لأنها لا تريد أن ينظر اليها على أنها عدوة الفئات الأخرى الإسلامية الشيعية، بل انه في حال عُلم وكُشف هذا الدعم، فإنه سيؤثر على الإنتخابات بشكل عكسي، لأن المزاج الشيعي والكردي في العراق ضد السعودية والوهابية كونها صدّرت الإنتحاريين ليقتلوا المدنيين في الشوارع والمساجد والأسواق.

(ثالثاً) من جهة أخرى، لا يبدو أن هناك خشية من أن يؤدي استقرار العراق الى بروز حكومة عراقية متنمّرة جديدة تعيد عسكرة العراق وتزج به في حروب جديدة مع جيرانه. لقد ودّع العراق عهد الحرب النظامية، ولا تبدو النخب العراقية الحاكمة بمختلف أطيافها أن لها أية رغبة لتوتير علاقاتها مع الجيران، فهي لم تفعل ذلك لا مع السعودية التي يأتي منها معظم الإنتحاريين، ولم تفعل الأمر ذاته مع الأردن الذي يعتبر خزان الدعم لصدام وأتباعه، كما أنها لم تفعل شيئاً لسوريا التي صدرت الذباحين والقتلة، مع أن الأخيرة حصلت على بعض الشتائم والتهديدات من بعض المسؤولين العراقيين، ولكن الصورة العامة للوضع العراقي لا تشي برغبة للعراك كما كان الوضع في عهد صدام.

لكن، ما يقلق السعوديين ليس هذا؛ ما يقلقهم أن استتباب الأمن سيؤدي بصورة تلقائية الى خروج من يتبقى من العناصر السلفية الأجنبية الى بلدانها، وبذا يكون كل بلد معرضا للأزمة على غرار ما حدث مع (الأفغان العرب). ولقد أبدى الأمير نايف، وزير الداخلية، خشيته من عودة السعوديين المقاتلين في العراق الى المملكة ليعيثوا فيها عنفاً ودموية. وقال أن وزارته مستعدة لذلك؛ ولكن أنّى كان الإستعداد، فموجة عنف صغيرة أم كبيرة ستكون واحدة من أهم نتائج استتباب الوضع العراقي. وستشمل عدداً من البلدان غير السعودية، ولعل ما يجري في سوريا اليوم وكذلك الأردن دليل على ما نقول.

(رابعاً) بقيت مسألة النفوذ الإيراني في العراق، وهو نفوذ واضح ولكن بدون منافسة أيضاً. الدول العربية تراجعت وتلكأت في الاعتراف بالوضع الجديد، ولعل مؤتمر القاهرة الأخير يعيد الدول العربية الى العراق ويعيد الأخير الى جيرانه. النفوذ الإيراني لن يكون قوياً إذا ما قامت حكومة قوية. والمنافسة مع إيران يجب أن تعتمد على مقدار الدعم المادي والسياسي الذي تقدمه الدول الى العراق. أما ما قامت به الدول العربية فقد كان دافعاً لزيادة وتشجيع النفوذ الإيراني. السعودية إن كانت متضايقة من ذلك النفوذ، فعليها أن تفتح أبوابها وشبابيكها لكل أطياف العراق، وعليها أن تحتضنهم وتعينهم وتمنحهم التقدير وتساعدهم في الإستقرار. بدون ذلك لن تستطيع الدول العربية ـ وان اجتمعت كافة ـ أن تغير المعادلة.

حتى إذا ما انسحب الأميركيون، فإنه لا يرجح أن يزداد النفوذ الإيراني، فهذا النفوذ يواجه محلياً بمعارضة قوية، ومما لا شك فيه أن الإنتخابات القادمة ستجعل من صانع القرار السياسي العراق والحكومة العراقية المنتخبة أقوى على الأرض وأقوى في علاقاتها السياسية حتى مع أصدقائها.

ثم إن النفوذ الإيراني في العراق، بالحدّ الذي نشهده، لا يمثل تهديداً حقيقياً للسعودية. إنها مجرد سقوط منافسة في كسب ود العراقيين. والسعوديون قادرون على تخفيف النفوذ الإيراني عبر الدعم المالي والسياسي وقلب المعادلة. ولعل أفضل وسيلة تكمن في احتضان العراق ضمن منظومة مجلس التعاون الخليجي، وتأسيس صندوق لمساعدته في بناء بنيته التحتية، وإيجاد مظلة أمنية مشتركة مع دول الخليج حتى لا يستشعر الوحدة ولا يفكر في دعم خارج المنظومة العربية.

الصفحة السابقة