دولـة التـرقــُّب

الكل كان في حالة ترقّب منذ وصول عبد الله الى العرش، فهناك من يبلغ به الأمل حداً فارطاً فيرى في الملك الجديد بقية الأمل المغدور كيما يغير الوجه الكالح للدولة بعد أن هدمت أركان الاصلاح قبل أكثر من عام، وهناك من كان يترقب بزوغ شعاع الاصلاح من أجل رؤية دولة حديثة تصاغ من جديد بفعل تظافر إرادات ومجهودات متنوعة.

ولكن حالة الترقّب المشوبة بالحذر الشديد قد تضاءلت تدريجياً، ليس بسبب تأخر قطار الاصلاح، ولكن لأن ثمة متغيرات ظرفية ساهمت في وقف مسيرة الاصلاح، وبالتالي فإننا بحاجة الى وقفة لقراءة تلك المتغيرات وخطورتها ليس على مسيرة الاصلاح فحسب بل وعلى الدولة نفسها.

لقد نجحت العائلة المالكة خلال السنتين الماضيتين في التعامل مع كثير من الملفات الداخلية والخارجية، بفعل إستعادة ثقلها الاقتصادي وشبكة علاقاتها الدبلوماسية، وإستردّت تبعاً لذلك مكانتها الاقليمية والدولية، فقد رممت تحالفاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وإن بقيت بعض الثغرات التي يجري النفوذ منها تبعاً لمنطق التجاذبات السياسية المعروفة، كما نجحت في صناعة مبادرات هامة ومنها مبادرة عقد المصالحة بين القوى السياسية في العراق بغرض سحب جزء من البساط الايراني، ونجحت أيضاً في تفويت ضربة قاصمة ضد سوريا عن طريق وساطة قامت بها لاقناع القيادة السورية بالسماح للجنة التحقيق الدولية باستجواب عدد من المسؤولين السوريين في فيينا، الى جانب نجاحات أخرى في مجال النفط الذي شهد اهتزازاً خطيراً في السنتين الماضيتين، واخيراً النجاح في احتضان القمة الاسلامية بمكة المكرمة مؤخراً. اما على المستوى الداخلي، فمازالت عملية تكسير جماعة العنف مستمرة، وهناك ما يدعو للقول بأن العائلة المالكة تشعر بالزهو في أنها نجحت في تقليص خطر الارهاب بدرجة كبيرة رغم الارتيابات المحيطة بذلك النجاح، يضاف اليه تبديد شمل التيار الاصلاحي الذي يتطلب نهوضه عملاً استثنائياً يعيد توازنه وثقله السياسي من جديدة ليستأنف ما بدأه أول مرة.

ولكن في مقابل تلك النجاحات يبقى عامل الزمن المهمل في الحسابات السياسية والاستراتيجية للدولة، فتلك النجاحات تحققت في مجال القضاء على أعراض الأزمة ولم تطل الأزمة ذاتها، وبالتالي فإن المراهنة تظل دائماً هي على المدى الزمني الذي تصل اليه وتستفرغه تلك النجاحات. وما ندركه جميعاً أن عامل الوقت بلحاظ المتغيرات الاقليمية والدولية لا يسير لصالح الدولة السعودية، فكل شيء يخضع للتبدل وأن سُحُب الاصلاح مثقلة بمتغيرات جوهرية في دول الجوار وعلى مستوى العالم.

إن مشكلة الدولة تكمن في قصور آلياتها وجمودها الأمر الذي يجعلها غير قادرة على التعاطي بمرونة كافية مع متغيرات الزمن، وإن هذا الجمود وإن أنقذ الدولة بفعل آلتي البطش والعطاء السخي في مرحلة سابقة، فإنه بالتأكيد ليس مضمون التأثير والفاعلية بالدرجة المتخيّلة في ظل انثيال إقليمي وعالمي نحو عولمة شاملة، يكون الاصلاح السياسي من أبرز أركانها ومعالمها.

إن إسلوب وأد الارادات العامة أو تفتيتها لجهة السير بالدولة على خط قديم لم يعد صالحاً للاستعمال ليس منجياً على المدى البعيد، فقد يوصل الى الهاوية، كما حصل في بلدان أوروبا الشرقية، وإن منطق الصمود أمام الاصلاح ورفض تقديم التنازلات لا يعدُّ خياراً محموداً لأن ذلك يوصل الجميع الى قناعة بأن لا أمل في إصلاح الدولة ذاتياً، بما يفتح الباب أمام كل الخيارات داخلية كانت أم خارجية، تماماً كما حصل في العراق وقد نجد من يأمل تكراره في مناطق أخرى..

وحتى بالمنطق المادي المحض، فإن العائلة المالكة التي دخلت في مقايضات ومساومات سياسية مع الغرب من أجل وقف هدير الانتقادات الموجّهة اليها وتهديد سمعتها على مستوى العالم، كان بإمكانها نقل التجربة مع شعبها وهو منطق ليس ضاراً إذا تحررت العائلة المالكة من عقدة الحق التاريخي، وقبلت بالقسمة العادلة أو حتى المقبولة بينها وبين شعبها.

لقد بات الجميع مدركاً الى حقيقة جديدة أنجبتها حوادث الحادي عشر من سبتمبر، وهي ان المملكة السعودية لم تعد أثيرة بالدرجة الكافية كما كانت عليه في الماضي، خصوصاً مع التبدّل الكبير في العقل الاستراتيجي الاميركي الذي بات يؤمن البمبدأ القائل بأن حماية المصالح الاميركية في المنطقة تتوقف على إصلاح الحكومات العربية بل وفي حالات ما تغييرها، مما يعني أن الولايات المتحدة ليست مكترثة بدرجة كبيرة باستقرار الحكومات العربية إذا كان يعني الاستقرار تهديد المصالح الحيوية الاميركية وأمن اسرائيل. واذا كانت الولايات المتحدة تضغط حالياً على السعودية وغيرها من أجل إعانتها على مشاكلها في العراق وخدمة مخططها الاقليمي، فإن المستقبل يحمل نذير سوء لكل دول الجوار، وبخاصة تلك التي تورطت في الوحل العراقي.

لقد بات الجميع مدركاً الى حقيقة جديدة أنجبتها حوادث الحادي عشر من سبتمبر، وهي ان المملكة السعودية لم تعد أثيرة بالدرجة الكافية كما كانت عليه في الماضي، خصوصاً مع التبدّل الكبير في العقل الاستراتيجي الاميركي الذي بات يؤمن البمبدأ القائل بأن حماية المصالح الاميركية في المنطقة تتوقف على إصلاح الحكومات العربية بل وفي حالات ما تغييرها، مما يعني أن الولايات المتحدة ليست مكترثة بدرجة كبيرة باستقرار الحكومات العربية إذا كان يعني الاستقرار تهديد المصالح الحيوية الاميركية وأمن اسرائيل. واذا كانت الولايات المتحدة تضغط حالياً على السعودية وغيرها من أجل إعانتها على مشاكلها في العراق وخدمة مخططها الاقليمي، فإن المستقبل يحمل نذير سوء لكل دول الجوار، وبخاصة تلك التي تورطت في الوحل العراقي.

بل أن هناك ما يجب الالتفات إليه أيضاً، فإن سياسة المساومات تبدو فاعلة حين يكون الطرف الاخير غير قادر على تحصيل كل ما يطمح في الحصول عليه، فهنا تصبح المقايضة خياراً أفضل وربما وحيداً، ولكن حين يكون الطرف الأقوى قادراً على الحصول على كل ما يشاء، فإن خيار المقايضة يبدو ساقطاً، حيث يملي الطرف الاقوى شروطه دون تنازل. وهناك مثالان صالحان للاستعمال هنا: التجاذب بين سوريا والولايات المتحدة، حيث ترفض الاخيرة مبدأ المقايضة مع سوريا وتحاصرها بقائمة مطالب، فإما تلبيتها جميعاً أو مواجهة الخيار العسكري، وهو أمر استوعبته القيادة السورية جيداً بما أدى الى تدخل أطراف إقليمية خوفاً على مصالحها، بينما لايزال خيار المقايضة بين ايران والولايات المتحدة والغرب عموماً فاعلاً.

إن مثل هذه النماذج تخبرنا بأن ثمة إمكانية متاحة أمام العائلة المالكة لاستعمال مبدأ المقايضة بطريقة مختلتفة من أجل اعادة تصحيح العلاقة في الداخل وترسيخ سلطتها على قاعدة تفاهم حقيقية مع الشعب عبر فتح باب المشاركة السياسية، واطلاق الحريات العامة، واعتماد مبدأ الحوار والشفافية كوسيلة تفاهم لتسوية الأزمة المزمنة بين الدولة والمجتمع، فهل تنجح.. نأمل ذلك.

الصفحة السابقة