ولي العهد ينفي التغيير

رؤى في الـ (لا إصلاح)

التكهنات بحصول تغييرات في السعودية لم تتوقف قبل وبعد وصول عبد الله الى العرش، فبعضها كان يميل الى التكهن بحصول تغييرات في تركيبة الحكم وفي تقاسم السلطة داخل العائلة المالكة، والبعض الآخر المتفائل رأى بأن زيادة كبيرة وغير مسبوقة ستتم في نسبة المشاركة السياسية فيما يتكهن البعض بأن التغيير لا يعدو أن يكون إعادة تموضع للاجنحة الرئيسية استعداداً لمرحلة مقبلة ستكون مليئة بمخاضات عسيرة وربما توترات داخل وخارج بيت الحكم.

تحالف مع الملك من أجل الملك

على مستوى السياسات العامة للدولة أيضاً، كانت هناك تكهنات بعضها ذو طابع تشاؤمي وأخرى متفائلة ولكن محفوفة بالحذر البالغ سيما مع مرور وقت اختبار كافٍ لقدرة أو بالاحرى لارادة التغيير لدى الملك عبد الله، الذي لا يبدو أنه سميط اللثام عن مشروع اصلاحي من أي نوع، فقد طوى الاصلاحيون أشرعة الأمل رغم تبعثرهم المخيّب، ولا الملك أطلق رسالته المنتظرة في الاصلاح، بل جاءت التدابير اللاحقة لتنفي وجود نيّة اصلاحية فضلاً عن رسالة لها.

والحال، إن الحديث عن التغيير في تركيبة السلطة وكذا في سياسات الدولة إنما يجري الآن في سياق تحسّن إقتصادي تراهن العائلة المالكة على استمراره واستقراره بما يخفف بدرجة كبيرة وطأة الضغوط وكذا الاستحقاقات المفروضة عليها داخلياً وربما دولياً. لا شك أن الاوضاع الاقتصادية الراهنة قد منحت العائلة المالكة فرصة الافلات من التزاماتها السياسية، كما أن هذه الاوضاع قد دفعت الى الوراء الميول الاصلاحية ليس للعائلة المالكة فحسب بل ولقطاع من المجتمع، حيث تجتذب سوق الاسهم كمؤشر على الانتعاش الاقتصادي الداخلي قطاعاً كبيراً من المواطنين وهو ما تراهن العائلة المالكة على إدامته لأجل طويل، بل وتسعى لتوفير فرص إبقاء المجتمع منهوباً بصورة كاملة.

وبالرغم من أن عملية الانتقال الهادىء بالسلطة قد تمت وبحسب مقاسات العائلة المالكة، فإن فرص الاصلاح ايضاً مازالت مؤاتية، حيث تصبح الموازنة ممكنة بين التغيير السياسي والاداري والتحول الاقتصادي وتحسين أوضاع حقوق الانسان وفتح باب المشاركة الشعبية. ولكن لا يبدو، حتى الآن على الاقل، أن العائلة المالكة وتحديداً الاقطاب الكبار فيها ينزعون الى تبني رؤية في التغيير تختلف عن السابق، فمازالوا متمسكين بعقيدة تقليدية في الحكم تجنح الى رفض التغيير المفضية الى إشراك الشعب في صناعة القرار، فالتداول السلمي للسلطة يتم داخل العائلة المالكة وليس خارجها، فمبدأ تداول السلطة يجري استعماله بطريقة مختلفة، وما قام به الملك عبد الله منذ توليه العرش في أغسطس الماضي كان بغرض إجراء عملية قسمة مرضية داخل العائلة المالكة تستهدف إرضاء كافة الاطراف مع ضمان توازن صلب لسلطة يريد ادارتها بقدر كبير من الكفاءة والثقة.

ومع أن التكهنات في الاونة الاخيرة قد تركزت حول التغييرات الوزارية المرتقبة اضافة الى تغيير امراء المناطق بعد سريان أنباء واسعة النطاق في هذا الصدد، الا أن تلك التكهنات بدأت في التبدد تدريجياً مع طول الانتظار وقرب انتهاء فترة الترقّب والاختبار الممنوحة للملك عبد الله. ثم جاءت تصريحات ولي العهد الامير سلطان لتضع حداً حاسماً لكل التوقعات السابقة. فقد نفى الامير سلطان في مؤتمر صحافي في الخامس والعشرين من ديسمبر الماضي وجود نية لدى الحكومة في إجراء تعديل وزاري أو نقل في مواقع بعض أمراء المناطق، حيث تحدثت أنباء عن تغييرات في وزارات الخارجية والنفط والدفاع، وكذا عزل بعض أمراء المناطق مثل امير المنطقة الشرقية الامير محمد بن فهد. الامير سلطان الذي لا يزال محتفظاً بحقيبة الدفاع التي دار حولها كثير من التساؤلات حول المرشح القادم لتولي هذه الحقيبة من أبناء سلطان، يحاول وضع حد للتساؤلات حول منصبه كوزير للدفاع. ولايبدو أن مقايضة متوقعة بين الدفاع ومنصب النائب الثاني، حيث تلحّ أجنحة أخرى على اعطاء إما الدفاع أو المنصب النائب الثاني لشخصية غير سديرية، سيما مع تولي الامير بندر بن سلطان رئاسة المجلس الاعلى للامن الوطني والذي قد لا يملك دوراً استراتيجياً في الامن الوطني في ظل وجود وزير داخلية نافذ ولكنه قد يحمل في طياته مغزى خاص لدى الامير نايف، حيث ظهرت مؤشرات قوية في الاونة الاخيرة على تقارب بين الملك وولي العهد وهو تقارب يضرّ بطموحات الامير نايف في السلطة، الذي مازال يسعى للفوز بمنصب النائب الثاني كي يضمن دوره في نظام التوارث.

وفيما يبدو فإن الامير سلطان يراهن على تقارب مع الملك عبد الله لترتيب وضعه كملك قادم، دون حساب للتحالف العصبوي السديري الذي بدأت تغزوه النزوعات الشخصية المتضخمة، فالاشقاء باتوا أقرب الى نقطة التصادم مع تورم أدوارهم وتطلعاتهم. لقد نجح الامير سلطان حتى الآن في كسب ودّ الملك، الذي هو الآخر بحاجة الى شخصية قوية كالأمير سلطان تكبح جموح أشقائه السديريين وتقف معه أيضاً طيلة المرحلة الانتقالية لترتيب اوضاع الحكم وتصفية الملفات الداخلية والخارجية.

ساهم الامير سلطان في إنجاح فكرة الملك في إغلاق ملف درع الجزيرة بطريقة مرضية ومريحة، حيث كان هذا الملف مورد تجاذب على مدار سنين طويلة بسبب رفض دول الخليج الاستمرار فيه لعدم جدوائيته ولأنه يمثل هاجساً لدول الخليج التي مافتأت تشعر بهيمنة الشقيقة الكبرى والتي كان ينتظر منها اغلاق ملف درع الجزيرة بصورة نهائية وحاسمة. قوات درع الجزيرة التي نشأت عام 1984، وتتمركز في حفر الباطن، في ظروف سياسية كان فيها الخليج يشعر بالتهديد العسكري والامني المتصاعد خلال الحرب العراقية الايرانية، وكذا عدم وجود عسكري اميركي في دول الخليج، ولكن التحولات السياسية التي جرت في المنطقة منذ التسعينيات وخصوصاً بعد حرب تحرير الكويت والتي أعقبها ابرام اتفاقيات تعاون عسكري بصفة ثنائية مع الولايات المتحدة ثم سقوط الدولة في العراق ونزوع دول الخليج الى الاستقلال عسكرياً وأمنياً قد أسقط من الناحية العملية مبرر وجود إطارات تحالفية عسكرية وأمنية.

وقد خضعت السعودية في السنوات الماضية تحت ضغط قرار اعلان من جانب واحد عن نهاية قوات درع الجزيرة باعتبارها الحاضنة لها والمستفيدة الرئيسية منها. إن المخرج الذي أشار اليه الامير سلطان في مؤتمره الصحفي كان تلطيفياً يراد منه حفظ ماء الوجه، وبخاصة تصريحه بأن (دعم قوات درع الجزيرة ) يتم على أساس (أن تتولى كل دولة قوتها المخصصة لدرع الجزيرة في بلادها وأن تتكون قيادة مشتركة بالأمانة العامة لها قيادة ولها ضباط ولها مسؤولون وتقوم بمناورات مستمرة من البرية والجوية والدفاع الجوي والبحرية فلذلك تكون هناك قوات ايجابية تحت إشراف كل دولة وكل دولة معنية في مراعاة قواتها التي لديها) وهذا يعني في حقيقة الأمر اعلان بداية نهاية قوات درع الجزيرة وإن حاول الامير سلطان الابقاء على المسمى، وتحويل هذه القوات الى ما يشبه جيش طوارىء او قوات تدخل سريع تتشكل في ظروف استثنائية كالحروب دون أن يفصح عن هويتها وقيادتها.

قضية اخرى تحدث عنها الامير سلطان وهي متعلقة بانتخاب أعضاء مجلس الشورى، وكان في كلامه ما يثير الغرابة، وسيكون أغرب لو كان معبّراً عن موقف الملك، الذي لم يتخلَ حتى الآن عن ردائه الاصلاحي. يقول الامير سلطان ما نصه:(نحن لسنا ضد الانتخابات ولسنا أقل من الدول التي لديها إنتخابات ولكن المصلحة العامة في انضمام الشعب إلى قيادته الحكيمة في دينه ودنياه ويسير في أحسن طريق وأحسن سلام .. وعلى كل حال لنا تجربة في انتخابات مجالس البلدية ومن سار على الدرب وصل).

هذا التصريح بكل مفرداته الملتبسة ومضامينه المتناقضة لا يحمل جديداً، وأن تلبيسه رداءً دينياً لا يغير من الموقف التقليدي الذي اعتاد الرأي العام المحلي والعالمي على سماعه. إن وضع الانتخابات في مقابل المصلحة العامة والتي تعني كما يعبّر عنها الامير سلطان في انضمام الشعب الى قيادته يعكس الى حد كبير القلق المستور لدى العائلة المالكة من العملية الاصلاحية في معناها الشامل، فالانتخابات كمفردة اصلاحية تنطوي على محاذير متعلقة بالاحتفاظ بتمامية السلطة، حيث أن الانتخابات تتطلب اقتطاع جزء من السلطة تمهيداً لاشراك قوى اخرى من خارج العائلة المالكة في عملية صناعة القرار وتقرير السياسات العامة وهو أمر يثير قلقاً دائماً.

في تصريح الامير سلطان إشارة قوية الدلالة على أن الانتخابات ليست مائزاً بين الدول، وبالتالي فهي ليست ضرورة، وأن مجرد اعتمادها لا يغير من طبيعة الدولة وقيمتها، طالما أن الهدف الاعلى هو حفظ المصلحة العامة التي تملي على المحكومين طاعة القيادة والالتحام بها. ويعيد الامير سلطان التذكير بغائية الدولة الدينية، فهي ليست دولة يراد منها تنظيم عملية تداولة السلطة، وحفظ المصالح العامة، وردع العداوان من أي فرد أو جهة وإنما هي كيان ايديولوجي تتحقق فيه غاية ترسيخ مبدأ طاعة الحاكم الذي يتولى السلطة لتطبيق أحكام الشريعة، وهي لغة محمّلة بكل عناصر الاغراء والتطمين لقطاع من المجتمع مازال متمسكاً بنموذج الدولة الدينية. وفي تصريح الامير سلطان ما يلمح الى موقف موارب من مبدأ الانتخابات، مع أن ثمة إشارة في كلامه الى التدرّج في الاصلاح، والذي مازال يثير المزيد من الاسئلة المنكرة، كون هذا التدرّج لم يثمر حتى وفق الدعوى المعلنة من قبل العائلة المالكة في تغييرات جوهرية ملحوظة. فالمجالس البلدية على سبيل المثال والتي مضى على انتخاب نصف اعضائها نحو عام لم تعقد جلساتها الاولى حتى الآن، فضلاً عن تحديد صلاحياتها ومبانيها وأهدافها، فإذا كان هذا حال المجالس البلدية فبإمكان المرء تخيل كيف سيكون حال العملية الاصلاحية المراد السير فيها بصورة تدريجية.

في السياق نفسه يأتي الحديث عن دور المرأة في الحياة العامة، فكلام ولي العهد الامير سلطان عن هذا الدور لا شك أنه يبعث على الاحباط، فقد تجاوز حقوق المرأة المطروحة للنقاش والتداول في المشاركة السياسية والاضطلاع بأدوار اجتماعية وثقافية فاعلة واكتفى بترديد كلام عام اعلامي وقال (المرأة تتكلم دائما سواء في الفضائيات أو في الإعلام أو في الوظائف أو في كل مجال .. فالمرأة الأم والمرأة الأخت والمرأة الزوجة والمرأة البنت فليس هناك عندنا مكانا نعطيه المرأة أبدا فالمرأة أعطاها الإسلام كل حقوقها ولن نبخسها حقها في الإسلام ابداً)، وإذا ما اعتمد التفسير السلفي للاسلام، فإن حقوق المرأة تصبح مسألة محسومة، فهناك يصبح محددان حاكمان: النص الديني والمجتمع الخاضع لممليات النص، ووفق هذين المحددين يمكن فهم تصريح الامير سلطان حول قيادة المرأة للسيارة بما نصه:(متى طلب منا الآباء والأزواج والإخوان أن المرأة تسوق ننظر في ذلك.. وإذا هم يطلبون عكس ذلك نحن ما نجبرهم عليه)، في إشارة إلى أن إقرار قيادة المرأة للسيارة ليس بيد الدولة وحده بل بيد المجتمع الديني السلفي، الذي يتبنى موقفاً رافضاً متطرفاً.

رؤى الامير سلطان في الـ (لا إصلاح) تعيد الجميع الى نقطة الصفر، فلا إصلاح ولا تغيير وهي رسالة يطلقها الامير سلطان نيابة عن العائلة المالكة وموجّهة للداخل والخارج.

الصفحة السابقة