(1 - 3)

زمـن الـسـجـن.. أزمـنـة لـلـحـريـة

علي الدميني

لا تنحصر استفادتي من السجن في امتلاكي الوقت، الزائد عن الحاجة، للإختلاء بالذات، وإنما لتأمل ما يتحق التسجيل أو النسيان على السواء. وقد وجدتني أمام ذكريات متشعّبة تحتاج الى كثير من إعادة الترتيب، وهو ما يصعب عليّ، ولذا وجدتُ أن تحويلها الى شكل من أشكال السرد سيحرّرني منها، ويفتح الباب أمامي لكتابتها.

من أين ابدأ؟

من اللحظات الأولى للحادثة، أم من نهايتها التي لم تكتمل بعد!

وبعد محاولات كثيرة للعثور على لحظة التدوين، وجدتُ أن اختيار هذا اليوم، سيمكنني من مرواحة التنقل بين أزمة وأمكنة عديدة، ولذا اخترته للبدء.

في مساء هذا اليوم، أكون قد اكملت مدة 26 يوماً في سجن المباحث (الكائن في سجن الدمام القديم) وهي مدة كافية لمثلي لتجاوز مرحلة التحقيق والتكيّف مع مناخ المعتقل الإنفرادي.

واليوم هو السبت 12/4/2004 بداية الأسبوع، وعودة الطلاب والموظفين الى أعمالهم، وما يبعث في النفس آمال تحريك قضية اعتقالي من جديد، وكنتُ أتقلّب على فراشي في غرفة السجن الثانية، التي تمّ تحويلي اليها منذ أسبوع، بعد أن اتضح للمحققين ـ حينها ـ عدم قبولي بكتابة تعهد يلزمني بالتوقف عن ممارسة أي نشاط يتعلق بالمطالبة بالإصلاح السياسي والدستوري في المملكة.

داعبني قلق متشعب طرد احتمالات النوم بعد أن أيقظني الحارس لصلاة الصبح، وحين رأيتُ الاّ فائدة من الإلتفاف بالبطانية، نهضت في السابعة لتناول الفطور الملقى أمام الباب، وأردفته بتناول أدوية (السكر) والفيتامين وكوب الشاي، ووضعت الجرائد أمامي لبدء يوم جديد.

ـ البس ثيابك، قالها الحارس مستعجلاً، ولم أسأله الى أين؟

أخذني ومرافقه عبر ممرات لم أتعرف عليها من قبل حتى دخلنا بهواً معبأً بالحياة: استوديو تصوير، مستودع ملئ بالمعلبات والكراتين، وكانت مكاتب عديدة تفتح على هذا الفناء المستدير والأنيق في نفس الوقت.

لم أتمكن من التمتع بهذا الفضاء حتى أدخلني الحارس الى غرفة التصوير.

وضعوا (العقال) على الرأس، ونزعوه، ثم أزاحوا (الغترة)، أداروني يميناً وشمالاً، مرة بالنظارة، وأخرى بدونها، ورحتُ أتساءل عن نهاية هذه الحفلة من التصوير التي لم أجدها حتى في الأستوديوهات المتخصصة، حين كنتُ أحرص على الحصول على صورة ملائمة أرسلها للصحف لتنشر مع قصائدي أو كتاباتي!

وبعدما أعشت عيناي فلاشات الكاميرا، أخرجني الحارس ومضي بي الى قسم البصمات، فأبلغتهم أنهم قد أخذوا بصماتي خلال اعتقالي الأول في نهاية عام 1982م، لكنهم قالوا إن تلك البصمات تخصّ قضية أخرى.

تولى أحدهم تقليب الأصابع العشر في الحبر الأسود وتثبيتها على كروت صغيرة، بلغت عشراً، لكن بعضاً لم يكن واضحاً، فأعدناها حتى امتلأت اليدان والثوب بسواد الحبر.

أحسستُ بالضيق والمرارة، وقلت لهم بأنني لستُ إرهابياً، وإنما أنا واحد من دعاة الإصلاح السياسي، الذين اختطوا الطريق السلمي لمطالبة القيادة بإصلاح أوضاعنا قبل أن تغرق السفينة ومَنْ عليها.

قال أحدهم: هذه أوامر ولا بدّ من تنفيذها.

فقلتُ له: أتمنى لو أنكم وفرتم جهودكم هذه لمن يستحقها، أما أنا فلم أحمل السلاح، ولا أعرف كيف أستخدمه، ولم أطلق في حياتي إلا رصاصة واحدة نحو الفضاء في حفل زواج في قريتنا، أما الطلقة الثانية فقد علقت في قصبة المسدس الصغير وسببت لي حرجاً أمام والدي وأمام المحتفلين بتلك المناسبة، ومنذ ذلك اليوم، الذي كان عمري فيه لم يتجاوز الثانية عشرة، (غسلتُ يدي) من السلاح!

ابتسم الحارس، وكدتُ أقول له، إنني انتميت الى حزب سياسي، ولكن ذلك الحزب لم يكن يتوسل في نضاله بالحرب الشعبية، وإنما يراهن على حركة الجماهير، ولو أنه تبنّى (الكفاح المسلّح) سبيلاً للتغيير لكنتُ أول من يخرج منه، بل وكنتُ أول من يقف ضدّه.

أبقيتُ كلماتي في صدري وكان الحارس يعيدني الى غرفتي قائلاً: لا تغضب فهذه الإجراءات علامات على الإفراج عنك!

ـ بدون تعهد!

أجاب، لا أدري.

ـ هذه ليست علامات إفراج وإنما نقل من هذا السجن الى آخر، وقبل أن أكمل الجملة، أطلّ ضابط التحقيق من آخر الممر وقال بصوت عال: عجّل في تجميع أغراضك لأننا سنذهب الى الرياض.

يا للأغراض! كتب قديمة منها الجزء الرابع من (الأغاني) وجزء من العقد الفريد، والمفضليات، والنقد المنهجي عند العرب. وكنتُ قد حددتها لزوجتي لكي يُسمح بدخولها للسجن، ولكن الأهم، هو حزمة من الصحف احتفظت بها منذ أن سمح لي بالجرائد في اليوم الثالث للإعتقال، وقد بدأتُ بوضع أرشيف وخلاصات مقتضبة، دونتها في كراس صغير لأهم تلك المواضيع.

تعلمت توطين نفسي ـ منذ انتقالي من الغرفة الأولى الى هذه ـ على السجن الطويل، وتقبّل الأمر الواقع، ومحاولة الإستفاد من الوقت في الرياضة بالمشي في الغرفة أو بالقراءة وحفظ بعض المقاطع الشعرية.

وقد أعجبتني مقالة احتفائية بشعر نزار قباني نشرت في صحيفة الجزيرة، وأوردت بعض مقتطفات من قصائده لم أكن قد قرأتها من قبل. وفي زمن العزلة والتأمل ازددتُ إعجاباً بشاعرية هذا العملاق الذي أتقن امتلاك أسرار أناقة الكلام، والتعامل مع اللغة كامرأة غمست قامتها في عبق التاريخ وخرجت منه الى صخب الحاضر، وهي تركض على رمل الشواطئ، عارية القدمين، وصدرها متشح بجمر الحنين وبهجة الحياة، وحفظت بعض تلك الأبيات ومنها:

فرشت فوق ثراك الطاهر الهدُبا

فيا (دمشق) لماذا نبدأ العتبا؟

حبيبتي أنتِ.. ميلي مثل أغنية

على ذراعي ولا تستوضحي السببا

شآم أين هما عينا معاويةٍ

واين من زاحموا بالمنكب الشهبا

فلا خيول بني حمدان راقصة

زهواً، ولا المتنبي مالئٌ حلبا

قمتُ أبحث فيما أخترته ـ خلال ستة وعشرين يوماً من جرائد ـ للأرشفة، فاكتشفت أن العجلة، ومطالبة المحقق بالإسراع حرمتني من اصطحاب بعض ما وددتُ الإحتفاظ به، ولا سيما ما يتعلق بأخبار قضية اعتقالنا، ولم يكن هناك من الوقت ما يكفي للإختيار، فانتزعتُ بعضها ووضعته في كيس ملابسي وأدويتي، ومضيتُ خلفه الى السيارة الواقفة أمام باب العنبر.

ركبتُ في صندوق السيارة، وبقيت محدقاً في الباب الذي خرجتُ منه.

اتذكرهُ جيداً، لأنه أول باب رمادي أقابله حين عبرتُ الى داخل سور السجن، بصحبة النقيب سعيد الزهراني واثنين من زملائه في الساعة الثانية عشرة ظهراً من يوم الثلاثاء 16/3/2004م. وحين رأيتُ السجن الكبير من الخارج دارت عجلة التذكار. إنه سجن الدمام المركزي الذي بني معزولاً على راس تلّة تطل على سهوب صحراوية تؤدي من جهة الشمال الى أطراف الدمام القديمة، وقد عرفت أن الكثير من المعتقلين والمطالبين بالإصلاح قد قضوا فيه سنوات طويلة من أعمارهم، مثل الشيخ الأديب عبدالكريم الجهيمان الذي أمضى فيه مدة قاربت أربع سنوات، وقد شاركه جزءاً منها الأديب الوطني عابد خزندار، وعدد من المعتقلين السياسيين من قيادات الحركة العمالية الذين أمضوا جزءاً من مدة سجنهم في سجن العبيد بالأحساء، واستكملوا المدة المتبقية هنا. ومنهم المرحوم سيد علي العوامي، الذي أمضى في السجنين، وفي سجن جدة مدة تفوق عشر سنوات متواصلة، وكذلك يوسف الشيخ يعقوب وعبد الرحمن البهيجان والمناضل البحريني خليفة الخلفات وصالح الزيد حيث مكثوا في السجنين مدداً تتراوح بين الثلاث والعشر سنوات. أما المناضل العمالي محمد ربيع فقد توفي في سجن العبيد بالأحساء عام 1953م، حيث تركت جثته مسجاة لمدة يومين حتى عمّت الرائحة المكان.

ولخليفة الخلفان قصة طريفة تذكر أنه كان أحد المناضلين في صفوف الحركة الوطنية البحرينية، وقد طرد من البحرين، ومنع من العودة إليها، فسافر الى الشام، وبعد مدة عاد الى (الخبر) لكي يكون قريباً من البحرين، منتظراً الوقت الملائم لاستقبال تباشير إمكانية العودة الى الوطن. ولكنه تعرف في الخبر على بعض أعضاء الحركة العمالية ومشاركيهم في نشاطهم السياسي، واندمج في العمل معهم، وتمّ اعتقاله لمدة عشرة أعوام متصلة، إلا أن تراجيديا قوانين (دلمون) آنذاك منعته من العودة الى بلاده.

ومذ رأيت هذا الباب الرمادي، قبل دخولي على مدير قسم المباحث (في مقر السجن القديم) تأكدت بأن الأمر ليس عادياً، وان احتمال بقائي عندهم أمر مرجح، وعليّ أن أكون مستعداً لذلك، وفي الحقيقة فإن طريقة اعتقالي من مكتبي في البنك، قد وضعتني منذ البداية أمام احتمالات السجن، لأنها تمت بأسلوب محترم لا يستخدم عادة مع مثقف، يخاطب القيادة مع المئات من المواطنين، بكل تقدير واحترام، بل أن ذلك الأسلوب، لا يتسق مع مجريات اللقاء الذي تمّ بيني وبين سمو الأمير محمد بن نايف في مكتبه بوزارة الداخلية بالرياض، قبل اسبوع من يوم الإعتقال.

كان لهذا اليوم طعم مرّ تلمستهُ في الطريق الى العمل، وفي زحام السيارات داخل الدمام، وكنتُ قد عدتُ الى مكتبي من زيارة عمل في حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً. وحينما جلستُ وبدأتُ أتصفّحُ بعض الأوراق الملقاة على طاولتي، دخل عليّ شخص لا أعرفه، فسلّم وجلس على الكرسي بجوار المكتب، وقبل أن أبادله التحية، أخرج بطاقته وقال: أنا النقيب سعيد الزهراني، من المباحث، وأطلب منك مرافقتنا الى الإدارة لحديث قصير.

أجبته بالموافقة وقلتُ له: لماذا تضيعون وقتكم في استدعائي، ولو أنكم اتصلتم بي هاتفياً لحضرتُ الى مقرّكم بدون تردد.

كانت المكاتب القريبة مني خالية من الزملاء، وكنتُ أشعر بالرغبة في التبوّل وأبلغته بأنني سأذهب الى الحمام. وافق على ذلك ولكنه تبعني، وحين خرجت من الحمام هاتفت الصديق نجيب الخنيزي، وسألته: هل اتصلت بمكتب الأمير محمد، فأجابني بأن لا أحد يرد على الهاتف الذي أعطاه له سمو الأمير حينما قابله في مكتبه قبل أسبوع. وهنا تدخل النقيب وطلب مني إقفال الجوال، فقلت لنجيب إنني لا أستطيع الكلام لأنني ذاهب في زيارة مهمة.

فهم نجيب أنني ذاهب لإدارة المباحث، ولكنه لم يستمتع بهذا الفهم، حيث اعتقلته مباحث القطيف وهو يرتشف الشاي والشيشة (الجراك) في المقهى بعد عشر دقائق من مكالمتي.

هبطنا الدرج، ولم أصادف أحداً من زملائي لأبلغه بأنني ذاهب الى المباحث، وهنا تساءلت: كيف استطاع المقدم تهيئة المكان والزمان للقبض عليّ، في غياب زملائي عن مكاتبهم؟

وتذكرت أن أعوانهم موجودون في كل مكان، وكنتُ أسمع عن أن زميلاً في نفس المبنى يعمل معهم، وقد كنتُ أستبعدُ ذلك، أما الآن فقد أيقنتُ أنه هو الذي ساعدهم على إنجاح المهمة الصامتة، لأنني رأيته بعد خروجي من الحمام وهو يقف في آخر الممر!

حسناً، هذه وظيفة، وعلى الموظف أن يؤديها على أكمل وجه، بيد أنني أتساءل عن سر نجاحهم في إلقاء القبض على أحد عشر مثقفاً من المهتمين بالشأن العام في نفس اليوم والساعة، وعن عدم نجاحهم مع الإرهابيين؟

في الطريق الى سجن المباحث، طمأن المقدم رؤساءه على نجاح المهمة، وأثنى على تعاملي معهم (مصائب قوم عند قوم فوائد) وتذكرتُ روايتي (الغيمة الرصاصية) حين زار (مسعود الهمداني) (سهل الجبلي) كاتب النص في نفس المكتب الذي كنت أجلس عليه اليوم، وطلب منه قرضاً، وصحبه الى خارج المبنى، ثم اقتاده خلفه صوب غرب الدمام، ومنها الى وادي العيون حيث أمضى فيه وفي مغاراته أكثر من عشر سنوات.

يا للرواية المنحوسة!

اتجهنا الى غرب الدمام أيضاً، وعبرنا تقاطع شارع ابن خلدون، ومضينا في شارع الأمير نايف الذي تقع على جهته الشرقية كليات البنات، وكانت لوحة صغيرة في آخره، تطل علينا بسخرية وقد كُتب على سهمها المدبّب (الى السجن)!

دلفنا الى مكتب المدير، فاستقبلني بحفاوة، وكان رجلاً بشوش الوجه، ويتمتع بصفات التهذيب والتفهم والإصغاء، غير أنني لم أتعرف على اسمه. وحين سألت عن ذلك في الأيام التالية، قيل لي أنه (ابو محمد) ولم أحرص كثيراً على الإسم لأنني أخشى أن يسكن الذاكرة كما سكنها في سجني الأول عام 1982م، (أبو ناصر) و (أبو منصور) والذين عرفت فيما بعد أن اسم الأول هو (أحمد ناهر) والثاني هو (سراح الرويلي) ولعلهما قد تقاعدا الآن، غير أنهما مازالا يشغلان حيزهما الرمزي العنيف في ذاكرتي.

رحب بي (أبو محمد) وتحدث عن انشغالهم بمكافحة الإرهابيين وعدم تفرغهم للحديث معنا حول الخطابات والبيانات التي رفعناها للقيادة، وضرورة التوقف عنها نظراً لما تمرّ به البلاد من أزمة أمنيّة.

وقلت له إننا لم نقم بأكثر من واجبنا في التعبير عن آرائنا حيال الأزمات التي نعيشها، وقد أوضحت رأيي لسمو الأمير محمد نائب وزير الداخلية للشؤون الأمنية، ولكنني أستغرب منهم اعتقالي بهذه الطريقة، ووضع اسمي على قائمة الممنوعين من السفر، وكأن لا توجد بينكم وبين المسؤولين اتصالات واضحة.

- وكيف عرفت بأنك على قائمة الممنوعين، قالها مبتسماً.

أجبته: سأحدثك عن هذا الأمر بالتفصيل: اتصل بي شخص لا أعرفه وقال لي أنه من طرف الأخ نجيب الخنيزي ويودّ أن يقابلني، فحددتُ معه موعداً في مكتبي الساعة الواحدة بعد ظهر اليوم التالي.

وقد أحسست أنه من طرف المباحث، لأنني تلقيت مكالمة مشابهة في الأسبوع الماضي في حوالي التاسعة مساءً، من شخص إدّعى أنه من طرف الدكتور متروك الفالح، وعبّر لي عن رغبته في مقابلتي، فاعتذرتُ منه بكل أسف، وأبلغته أنني ذاهب للرياض، وسأرى الدكتور متروك هناك على كل حال. وحين قابلت الدكتور متروك في الرياض، نفى أن يكون قد طلب من أي شخص مقابلتي، ولذا ذهبنا بالرأي الى أنه من المباحث.

وقد استغربتُ استخدام المباحث لهذا الأسلوب، لأنني اعتدتُ منهم أن يتصلوا بي مباشرة، ويطلبوا حضوري إليهم في موعد محدد، كنتُ حريصاً باستمرار على الوفاء به في الوقت المطلوب!

وواصلتُ حديثي: المهم إنني انتظرتُ صاحبكم الآخر من الواحدة حتى الثانية، وبعدها تركتُ مكتبي لإنجاز بعض مهامي العملية، وحين أقلقني هذا الإتصال المريب، قررتُ الذهاب للبحرين لاكتشاف إن كان إسمي قد وضع على لائحة الممنوعين من السفر، وحين بلغت نقطة الجوازات على جسر الملك فهد، طلبوا مني توقيف السيارة خارج مسارات السيارات ومقابلة المسؤول، وحينذاك علمتُ من موظف الجوازات بأنني قد منعت من السفر لمدة خمسة أعوام، وطلبوا مني توقيع تعهد بعدم محاولة السفر من أي منفذ بري أو جوي، ولكنني رفضت التوقيع بحجة، ماذا سأفعل إن حدثت كارثة اضطرتني الى ذلك، وأن عليكم أن تقوموا بواجبكم في تنفيذ أوامر منعي من السفر، ولذا سحبوا جوازي وطلبوا مني مراجعة الإمارة في صباح اليوم التالي، الإثنين.

لم أكن أملك الوقت الكافي لمراجعة الإمارة صباح ذلك اليوم، وتكفل النقيب الزهراني بمهام اعتقالي وإحضاري اليكم، اليوم، كأي إرهابي خطير. وإنني لاستغرب منكم تنفيذ هذه الإجراءات بعد أن خرجت من مكتب سمو الأمير محمد بن نايف معزّزاً مكرّماً قبل أسبوع!

علّق على كلامي: لا عليك من المنع من السفر، فهذه إجراءات روتينية احترازية، وقاطعته: حتماً أنت لم تطلع على حديثي مع سمو الأمير محمد بن نايف، وإلا ما قمت باعتقالي.

قال بشيء من الغضب: ربما لم أطلع على التفاصيل، ولكن حدثني عما جرى في اللقاء.

قلتُ كمن يحمل سرّاً ضخماً: لن أحدثك قبل أن آكل شيئاً، حيث أنني أخذت دوائي ولا بد من الأكل.

ابتسم وأمر لي بغداء، لم يختلف عن غداء مباحث الثقبة، التي اعتقلتني في عام 1982، حيث لم يكن سوى (ساندويتش) وكوب شاي.

تجاذبنا أطراف الحديث، وأشرتُ الى أن حرية التعبير مكفولة للمواطنين في كل دول العالم، وما عبرنا عنه في خطاباتنا للقيادة لم يكن إلا صدى لمعاناة المواطنين، وعليكم أن تشكرونا على ذلك، لا أن تستدعونا بهذه الطريقة الى المباحث.

حاول تهدئتي لكي أكمل الساندويتش، وذكر أنه كان في دورة في بريطانيا، وأنهم كانوا يركزون على ضورة معرفة الحكومة لآراء الناس في الصحف والمنابر وحتى من خلال المظاهرات.

وبعد أن فرغت من غدائي، تهيّأتُ للحديث عن تفاصيل لقائي مع الأمير محمد بن نايف.

استعد للإستماع، فبدأت:

كنتُ في الرياض، أحضر ندوة في المعهد المصرفي عن التمويل الإسلامي ومشكلاته، وفي يوم الأربعاء 26/2/2004م، جاءتني مكالمة من مكتب سمو الأمير محمد بن نايف، وحدد لي مدير مكتبه لقاء مع سموه في الثانية بعد ظهر نفس اليوم.

قطعت الندوة وذهبت في الموعد المحدد الى وزارة الدخلية، وحين دخلت مكتب الأمير كان واقفاً لاستقبالي بالعناق والتحايا الودودة، ودعاني للجلوس في صالون المكتب. كان اللقاء حميماً وتحدث الأمير معي كصديق يثق فيه، وكنتُ أسمع عن تواضعه وحنكته، لكنني لم أتوقع أن أجده على تلك السماحة والود.

وبعد السؤال عن الأحوال والأهل والإخوان، انطلق سموه في الحديث، وألخص لك هنا المعنى العام، لا النص الحرفي، حيث قال لي سموه:

إن ثقتي وثقة القيادة فيكم كبيرة، وأنت وأبوك وأجدادك معروفون بولائكم، وليس لدينا شك في ذلك، والقيادة ماضية في طريق الإصلاح، ولعلكم لاحظتم مستوى حرية الصحافة في الأعوام الأخيرة، والخطوات التي بدأت مثل ملتقى الحوار الوطني والإنتخابات البلدية وما سيتبعها من خطوات في الطريق. كما أود أن أطمأنكم الى أن اخوانكم رجال الأمن قادرون على مواجهة الأعمال الإرهابية التي تتعرض لها بلادنا، وانهم قد قضوا على جزء كبير منها، ولكننا ندرك أن المعالجة الأمنية ليست كافية لوحدها، بل لا بد من التعاون من الجميع في ذلك من البيت الى المدرسة الى الصحيفة الى الكتاب والمثقفين. كل له دوره وعليه مسؤولية ذلك الدور.

وتوقف سموه قليلاً وتطلع إليّ وقال: إن القيادة تتفهم ما تضمنته خطاباتكم، وهي تعمل باستمرار على معالجة كافة الأمور، ولكن القيادة تطلب منكم التوقف عن هذه الخطابات والبيانات، نظراً للظروف التي تمرّ بها بلادنا والتحديات التي تواجهها.

صمت قليلاً ثم قال: نحن نعرف تاريخك السياسي القديم، وقد تجاوزناه، ولعلنا قد قسونا عليكم أيضاً، لكن ذلك أمرٌ قد طواه الزمن.

وعقبت على كلامه بالقول: إنني أشكر لسموك ما غمرتني به من حسن الإستقبال، وإنني لا أكنّ أية مشاعر عدائية تجاه رجال المباحث، الذين كانون يؤدون أدوارهم كموظفين، ولم يكونوا يستخدمون وسائل التعذيب إلا حين تكون القرائن أمامهم، وقد ذكرت ذلك في روايتي (الغيمة الرصاصية)، كما أنني أتفق مع ما تفضلتم به بشأن معالجة الإرهاب، ولكن خطابات المطالب التي رفعناها للقيادة هي تعبير سلمي وحضاري عن الرأي، كما أن دورنا فيها لم يتعد صياغة ما يعبر عنه المواطنون، وما يتداوله الكتاب في الصحافة. وإن طلبكم منا بالتوقف عن تقديم تلك الخطابات ومعالجة قضايا الإصلاح سوف يرسل رسالتين لهما تأثير سلبي لا يخدم المصلحة العليا لبلادنا. فالرسالة الأولى ستعمل على غلق باب الأمل أمام المواطنين، الذين تفاءلوا خيراً حينما رأوا أن الحوار العلني حول مطالبهم قد تم إيصاله الى القيادة. أما إقفال الباب أمام هذه المطالب الإصلاحية، فإنه سيدفع الناس الى الإحباط واليأس، وسيجعلهم يقفون كالمتفرجين على معركة أجهزة الدولة الأمنية مع الإرهابيين، بل أنه سيدفع بعضهم الى الصمت او التشفي، والذهاب الى موقع اليائس الذي سيرى أن لا فائدة من هذه الخطابات، وأن الدولة لن تمضي في طريق الإصلاح. ولن أقول لك إنني وغيري من المهتمين بالشأن العام سنذهب الى مساندة الإرهاب، لأننا ندين الإرهاب من حيث المبدأ كتعبير عن المطالبة بالإصلاح، كما أننا نحب الحياة، ولكننا سنصاب باليأس، ويغدو الأفق أمامنا مسدوداً.

أما الرسالة السلبية الثانية، فإنها ستتجه للخارج، وسيجد فيها الكثيرون شهادة حية على أن المملكة لا تريد الإصلاح ولا تمضي على طريقه، مهما اتخذت من مبادرات، لأن حرية التعبير هي المؤشر الحقيقي الأول على جدية أي نظام يسعى الى الإصلاح.

كنتُ أوجز خلاصة هذا الجزء من لقائي مع الأمير محمد، وكان مدير المباحث في سجن الدمام (أبو محمد) يصغي إليّ بانتباه شديد، حتى دخل شخص متجهم الوجه، أصبح فيما بعد ضابط التحقيق معي في الدمام، وانحنى على المدير، وأسرّ له ببعض الكلام، فأشار له (أبو محمد) بالإنتظار في المكتب المجاور، وتطلّع إليّ كمن يتساءل: وماذا بعد؟

عاودتُ الحديث قائلاً: لقد عقب الأمير محمد على كلامي السابق بإبداء موافقته على الآثار السلبية التي ستترتب على إيقافنا عن متابعة المطالبة بالإصلاح السياسي الشامل، ولكن سموه أكد على ضرورة الإلتزام بما تراه القيادة، وكرّر تساؤله: وضحت الرسالة؟ فأجبته: نعم، لقد وضحت فأنتم تريدوننا أن نتوقف عن كتابة الخطابات المطلبية للقيادة، ولكن هذا الطلب سيفقدكم ثقة المثقفين والمهتمين بالشأن العام الذين يشكلون سياجاً أمنيّاً ثقافياً لبلادنا، حيث يعملون على تصليب الوحدة الوطنية، وإدانة الإرهاب، ورفض التدخلات الأجنبية، ويعملون على تشكيل وتقوية رأي عام يلتف حول القيادة على ضوء مضيها في طريق الإصلاح.

كما أوضحت لسموّه بأنني أنطلق من قناعة صادقة وعميقة حين أؤكد على مبدأ الوحدة الوطنية، والإلتفاف حول القيادة، ولا أصدر في ذلك من حس ثقافي وحسب، ولكن من قناعة اقتصادية واجتماعية. فالوحدة الوطنية التي أرسى دعائمها المغفور له الملك عبد العزيز، صنعت للمواطنين كيان دولة قوية، وتحت خيمتها تمّ إنجاز مكتسبات اقتصادية واجتماعية لا يمكن التفريط فيها. وأنه حين يتم التعبير عن (الملكية الدستورية) التي تضمنها خطاب (الدستور أولاً) فإن ذلك يصبح تتويجاً لحديثنا عن الوحدة الوطنية والإلتفاف حول القيادة، وهو ما يعزز شرعية هذه القيادة التاريخية ويؤكد حقها في قيادة الأمة، ويرسخ الإستمرارية والإستقرار والمشاركة الشعبية، ويقطع على القوى المتطرفة والإرهابية حبال الوهم بإقامة دولة (طالبان) أو على أي قوة عسكرية تنازع العائلة المالكة حقها في زعامة البلاد.

وكان سموه يستمع إليّ بتركيز، غير أنه لم يعلق على كلامي، وانتقل الى القول: إن القيادة كانت وما تزال سائرة على خط التطوير والإصلاح، وان ما صدر ويصدر من تنظيمات وقوانين خير تعبير عن هذا النهج، ولعلنا لم ننجح في الإعلان عنها بالكشل الكافي، وهناك الكثير من الإصلاحات قيد الدرس، وسأبذل جهدي للسعي في عقد لقاءات شهرية بين أحد أعضاء القيادة والمثقفين، لإطلاعهم على خطوات الإصلاح والإستماع الى آرائهم في ذلك، وساعمل على إشراك كافة الشرائح الإجتماعية من كل المناطق في هذه اللقاءات.

فقلت له: هذا مخرج جيد، ولكنني أرى أنه ينبغي كفالة حق التعبير الفردي لكافة الأفراد ومن مختلف الأطياف الثقافية والدينية، بما فيه المتطرفين. قاطعني: ليس لمن يحمل السلاح مجال في الحوار، فقلت له لا أقصد من نسميهم (بالإرهابيين) ولكنني أقصد أصحاب الفكر والرأي المتشدد الذين يعبرون عن آرائهم بطريقة سلمية.

تململ في قعدته، وكأنه يريد إنهاء المقابلة، فقلت له: لقد كبّلتني يا سمو الأمير بلطف مقابلتك وبهذا الطلب، ولكنني أرجو أن تبلغ هذه الرسالة عدداً أكبر من المهتمين بالشأن العام، لأنني وحيداً، لا أستطيع إيصاله للآخرين.

نظر إليّ الأمير للمرة الأخيرة وقال: أرجو ان تكون الرسالة قد وصلت. ونهض وهو يكمل حديثه... بأنه لا يريد تعطيلي عن عملي، وودعني على باب مكتبه بالعناق الحار.

وها أنتم يا (أبو محمد) تجهضون كل مشاعر التقدير التي حملتها لسموه طيلة الأسبوعين الماضيين، بمنعي من السفر واعتقالي من مكتبي!

نهض (أبو محمد) من كرسيه وقال: على كل حال نريد منك إيضاح هذه الأمور للمحقق، وأنا واثق بأن الأمور ستمضي على خير.

ودعته ودلفت الى المكتب المجاور حيث ينتظرني ضابط التحقيق.

أصبحتُ الآن في عهدة (المحقق) ولم أسأله عن اسمه، غير أنني أتذكر دائماً ملامحه الجهمة التي تنم عما يخبئه من عنف، لكنني لم أكترث، فليس لدي ما أخافه، وأوراقي معروفة لديه، بل إنني مصرّ على تعريفه بها، وذهبنا لمكتب آخر يمر الطريق إليه من أمام باب الزنازين الرمادية الكالحة، وانضمّ الينا محقق آخر.

تحدثنا طويلاً عن الخطابات المطلبية، والأسباب التي دعتنا لكتابتها وعن أوضاع البلاد وتفاقم الإرهاب والمشاكل الحياتية التي يعانيها المواطنون، وعن غياب دولة المؤسسات والقانون وحرية التعبير.

وبعد ذلك، فتح دفتر التحقيق أمامي وطلب مني تعبئة كل البنود المطبوعة في صفحته الأولى.

اقتربت من طاولته وامتشقت قلمي وعبأت الفراغات بدون عناء، فقد اعتدت عليها في سجني الأول.

وكتب سؤاله الأول، بعد أن قرأ أوراقا حاول إخفاءها تحت الطاولة. قلت وأنا أهمّ بالإجابة على السؤال: (أتينا الى البدء) وسردت إجابتي الطويلة حول مجمل مشاركاتي في البيانات والخطابات المطلبية، وما يتعلق بمطالب الإصلاح السياسي من حوارات على الإنترنت وإذاعة مونت كارلو.

كان المحقق يكتب سؤاله ثم يخرج بسرعة ولا يعود حتى أبلغ الحارس الواقف بجواري، بانتهائي من الإجابة.

وحينما عاد في إحدى المرات، سألني غاضباً: لماذا تشتم البدو، وتشتمي في بداية حديثك؟

حاولت أن أتذكر شيئاً من هذا الكلام فلم أجد في حواري الشفهي ولا كتابتي المدونة، ما يدلّ على ذلك، وقلت له هذا اختلاق منك، فأنا أعتزّ بأنني قروي وبدوي في نفس الوقت. وقد عشتُ في طفولتي في البادية راعياً لأغنام جدي رحمه الله، وكانت بعض القيم البدوية، مثل الكرم والشجاعة والإعتداد بالذات، مصدر إثراء لذاكرتي الثقافية حيث حفلت بعض قصائدي، باستعادة تلك القيم النبيلة. وقد قلت في ذلك كمثال فقط:

يقف الفارس البدوي على بابك (الخشبي)،

ويسلّمْ

كيف حالك يا أخت

كيف حال الجميلة في زهوة الماء؟

يهمز الفارس البدوي جواده

والجميلة تسمع صوت القلادة

إن عاشقها مرغم أن يغادر ليلاً بلاده

قال لي: لقد قلت ذلك عندما بدأت الكتابة في الدفتر. وهنا تذكرت. لقد اعادني مرأى دفتر التحقيقات الى الماضي البعيد الى ماضي القمع وبطش المحقق بالمتهم، والى أحلام الأحزاب السرية وتبعات الإنتماء اليها.

وهنا ضحكت، وأوضحت له تداعيات الذكرى، وأنني قلت: (أتينا الى البدء)، ولم أذكر البدو يا صاحبي.

لو أن المحقق كان (أبو منصور) لاقتصّ مني، ولكن الظروف تغيرت، والقضية اختلفت، فلا حزباً سرياً أخشى الإعتراف على اعضائه، ولا أسماء حركية لا أعرف شخصيات اصحابها، وإنما أنا شريك في قضية علنية عادلة، يتفق معي على مصداقيتها الفقير والطالب وربة البيت والتاجر والمثقف والكثيرون من مؤيدي الإصلاح السياسي في كافة مرافق الدولة، بل وفي سدة الحكم أيضاً. ولذا فإنني أحاكم (المحقق) بها ولا يحاكمني عليها، ويشاركني في ذلك أكثر من ألف شخص من نساء ورجال بلادنا، ساهموا في إعداد الخطابات ووقعوا عليها، وتمّ نشر أسمائهم في كل المنابر الإعلامية!

ولكنني، بموافقتي على هذا التحقيق قد ارتكبت خطأين:

أولهما: أنني لم أكن مطلعاً على نظام (الإجراءات الجزائية) الذي أصدرته وزارة الداخلية ـ نفسها ـ فلم أكن أعرف أن من حقي رفض تحقيق ضابط المباحث معي بدون حضور المحامي.

وثانيهما: يكمن في حصر إعداد الخطابات والبيانات بذاتي شخصياً، أو مع شخص آخر. وكنتُ في ذلك وريثاً أميناً لتجربة العمل السري، التي تقتضي حصر الإعتراف ـ إن وقع ـ بالشخص نفسه، دون ذكر أسماء الآخرين، حفاظاً على سرية واستمرارية التنظيم. ولم أكن قد حددت بعد الفرق بين العمل السري والعمل العلني. فالعمل السري يقتضي منك عدم الإفصاح عن أسماء الرفاق للحفاظ على زخم نشاطهم وفعاليته في المستقبل، بينما يستدعي العمل العلني الإفصاح عن كل الأسماء المشاركة، لأن هذا جزء من فاعلية العلانية، ومصدر من مصادر قوتها لأنها تراهن على فاعلية الحضور الآني، والمستقبلي معاً، ولا تتكئ على أحلام الكمون المستقبلي. لذا فقد اعتبرني المحقق والإدعاء العام متزعماً لإصدار تلك البيانات والخطابات. وقد غاب عني، أن طبيعة المرحلة وطبيعة هذا النشاط تستدعي إشراك المساهمين في الإعداد لأي عمل جماعي، إذ أن من شأن هذه الشراكة، أن تخفف من تبعات الحكم على الفرد بذريعة (النشاط) ، كما أنها ـ وذلك هو الأهم ـ تشجع السلطة على اعتقال كل المساهمين في تفاصيل الفاعلية المطلبية، وهذا هو المطلوب، لأن ذلك يخلق حالة عامة وواسعة من تعاطف الجماهير، ويمنح القضية مصداقيتها ومشروعيتها، وإكسابها الزخم الإعلامي اللازم في الداخل والخارج.

استمرّ التحقيق الكتابي معي من الثانية ظهراً، وعند السادسة مساء، طلبت من المحقق أن يبلغ أهلي بوجودي لديهم، ولكنه رفض ذلك، واستمر في التحقيق معي حتى السابعة مساء. أما الأسئلة فقد تضمنت الكثير من التهم التي أوردها فيما بعد محامي الإدعاء العام السيد (عوض الأحمري) في أول جلسة علنية للمحاكمة بالرياض بتاريخ 9/8/2004م، وقد أصبحت معروفة للقاصي والداني.

وقد أضاف المحقق تهمة أخرى مفادها أنني أخلّيت بالإلتزام الذي قطعته على نفسي في لقائي بالأمير محمد بن نايف، حين حضرت اجتماع المهتمين بالشأن العام الذي انعقد في فندق الفهد كراون بالرياض يوم الأربعاء 26/2/2004م، أي نفس يوم اللقاء مع الأمير. وهنا سأمنح نفسي مساحة للحديث عن ذلك اللقاء، مما لم يجر التفصيل فيه خلال التحقيق.

وفي الواقع، فإن فكرة عقد لقاء تشاوري بين المهتمين بالشأن العام من مختلف مكونات المجتمع وشرائحه ومناطقه حول الخطوات العملية التالية، قد طرحت عقب لقاء الموقعين على وثيقة (رؤية) بسمو ولي العهد؛ في ذلك الإجتماع المبارك توجه سموه بالقول (إن رؤيتكم هي مشروعي) مما طمأن الجميع بأن باب الأمل في الإصلاح السياسي الشامل بات وشيكاً وممكناً أيضاً.

وللحقيقة: أسجل أن الحراك الإجتماعي المطلبي الذي ساهمت فيه نخب ثقافية عديدة، قد ولد بشكل عفوي، واستمر العمل عليه بنفس الطريقة، إلا أن بعض المساهمين فيه قد تنبهوا الى أن البدايات العفوية لأي عمل قد تضع نهاياته المفتوحة على أبواب الريح، ولذا اقترحوا لقاءً مبكراً لمختلف ألوان الطيف الثقافي المشارك في التوقيع على وثيقة (رؤية) لوضع تصور مشترك لمسيرة المطالب الإصلاحية وتعزيز فاعليتها في الوسط الثقافي والإجتماعي.

وقد جرت مشاورات عديدة لعقد اجتماع للمهتمين بالشأن العام، وخاصة من الأغلبية الموقعة على (وثيقة رؤية) والمعبرين عن التيار الليبرالي، ولكن بعضاً من تيار التنوير الإسلامي خشوا من تصدر التيار الليبرالي لعملية التنسيق، فساهموا في عرقلة الإجتماع وتأجيله، وحين رأى الليبراليون مسألة الإجتماع ولجنة التنسيق ستكرّس الإنقسام المبكر، وافقوا على مضض بتأجيل الفكرة، بل ونسيانها تماماً.

وقد انعكست هذه الإختلافات على نشاط المجموعة، وبدأت نُذُر الإفتراق تذر قرنها بين الفريقين، ونجم عن ذلك عدم مشاركة البعض في التوقيع على خطاب (دفاعاً عن الوطن) و (معاً على طريق الإصلاح) وبالمقابل فقد ذهب في نفس طريق المقاطعة طيف واسع من الليبراليين من الشرقية والرياض وجدة، ولم يوقعوا على خطاب (نداء الى القيادة.. نداء الى الشعب).

وبعد أن نجح الدكتور الحامد والدكتور الفالح في جمع عدد يتجاوز الثلاثين من التيار الإسلامي المستنير من مختلف المناطق، إضافة الى طيف واسع من الليبراليين، من الغربية والرياض للتوقيع على خطاب (نداء الى القيادة.. نداء الى الشعب) أحسّ بأن هناك توازناً ملائماً في نسب التيارين، فتمّت الدعوة للقاء فندق (الفهد كراون).

وقد دعيتُ مع محدود من الليبراليين في الشرقية لحضور هذا اللقاء بينما تمّ استبعاد عدد كبير منهم في الرياض من المشاركة فيه.

وبعد مداولات ووساطات شخصية، تمت دعوة بعض الليبراليين من الرياض الى لقاء فندق (الفهد كراون) ولكننا فوجئنا عند بدء الإجتماع بمشروع معد للتوقيع دون استشارتنا، كما قال أحد الداعين، بأننا نعتبركم مجرد ضيوف. وهنا اخذ الحوار مجرى مغايراً تمحور حول ضرورة الإتفاق أولاً على اعتماد المشتركات، لتكون مرجعية لكافة الأطراف، وتمّ تحديد موعد آخر بعد شهر للقاء واختيار لجنة التنسيق!

ولكن أجهزة المباحث تدخلت لإنهاء اللقاء في الفندق، ويبدو أنها حددت ساعة الصفر لإلقاء القبض على دعاة الإصلاح السياسي، منذ تلك الليلة.

ولعلّ دورة مخرجات الحرية ومخرجات القمع تعيد إنتاج ذاتها في بلادنا بشكل مستمر منذ الخمسينات وحتى اليوم، فكلما تنفس المثقفون والمهتمون بالشأن العام شيئاً يسيراً من هواء الحرية، وعبّروا عن مطالبهم الإصلاحية بطريق سلمي، هبّت عواصف خنق الأنفاس، وانثال حنين زنازن المباحث لأجسادهم من جديد.

ولسوف نرى ان ظروف الإنفراج التي لمسناها، من خلال ارتفاع سقف حرية التعبير في الصحافة المحلية، وما رافقها من مناخ شجاعة الكلمة عبر الفضائيات والإنترنت، عقب أحداث سبتمبر من عام 2001م، قد تبعته حركة ثقافية سريعة ومضادة لذلك التوجه.

وسنجد أشباه هذا الإرتداد على مناخات الحرية النسبية في حالات قديمة ـ ولكنها حية ـ مرت بها أشكال الحراك المطلبي في المملكة منذ الخمسينات الميلادية. ويشير التاريخ غير المدون الى المطالب الإصلاحية للنخب الثقافية في مختلف منطاق المملكة، التي نادت بضرورة تشريع مناخات حرية التعبير، وحرية العمل النقابي والسياسي منذ 1948م، كما عبرت الحركة العمالية في الشرقية، من خلال مطالباتها وإضراباتها ومظاهراتها منذ 1952، بتحسين أوضاع العمال في أرامكو، باعتبارها أوسع محضن للحركة العمالية النامية، ثم تطور منظور نخبها الواعية واتسع مجال رؤيتها ليشمل المهام الوطنية والقومية، فطالبت عبر حركتها السياسية والشعبية في أعوام 1956، 1958، 1961، 1966، 1967، بضمان الحريات العامة، وحرية تشكيل النقابات والأحزاب السياسية، وإلغاء القواعد العسكرية والنفوذ الأميركي، والإبتعاد عن سياسة المحاور الموجهة ضد مسيرة التحرر الوطني العربي، ونادت بالتضامن مع كفاح ونضال الشعوب العربية، ووقفت ضد قيام اسرائيل على أرض الشعب الفلسطيني، وضد العدوان الثلاثي على مصر، ونادت بالوقوف مع الثورة الجزائرية، ونظمت المظاهرات في كل تلك المناسبات، وكان آخرها مظاهرات عام 1967م، ضد العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن، حين رفعت شعار قطع البترول عن أمريكا والدول الغربية الداعمة لإسرائيل. وقد عمّت تلك المظاهرات المنطقة الشرقية والرياض مما شجع الحكومة على قطع البترول عن الدول الغربية وأمريكا لمدة ثلاثة أشهر.

وحين نتوقف أمام مناسبة التقاء المثقفين من دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري في فندق (الفهد كراون) بالرياض لمناقشة وسائل تدعيم الحوار مع القيادة السياسية، وما تلاها من اعتقالات لبعض ناشطي الحراك الإجتماعي في المملكة، فإن (سيناريو) هذه الحادثة يذكّرنا بحادثة مشابهة جرت وقائعها في المنطقة الشرقية في عام 1958. ويتفق الواقفون على تفاصيلها بتلخيصها كالتالي:

تمخض نشاط اللجنة العمالية عن الإسهام في تحقيق الكثير من المطالب للعمال السعوديين في أرامكو، وشجعهم ذلك على بلورة مطالب وطنية عامة، دعوا القيادة لتحقيقها من خلال الكتابة في الصحف، واصدار البيانات، وكوّنوا تجمّعاً باسم (لجنة الإصلاح الوطني) وطالبوا بالغاء وجود القواعد العسكرية الأميركية، وبتأميم النفط، وبتطوير التعليم، والخدمات الأساسية للمواطنين، وبتشريع حق العمل النقابي والسياسي.

وقد التقت مجموعة من المثقفين ومن اللجنة العمالية والمهتمين بالشأن العام من منختلف أرجاء البلاد، التقت بالقطيف في مزرعة (منصور أخوان) أحد أعضاء لجنة الإصلاح الوطني، وتبادل المجتمعون الرأي في شأن تطوير العمل الوطني المطلبي، وتحفل الذاكرة بأسماء بعض الذين حضروا ذلك الإجتماع مثل: عبدالعزيز بن معمر، عبدالعزيز السنيد، ناصر السعيد، حمد السعيد، عبد الرحمن البهيجان، صالح الزيد، سيد علي العوامي، يوسف الشيخ يعقوب، محمد الربيع، علي الغنام، جعفر النصر، عبدالله سلطان، عبد الرحمن المنصور وآخرون.

وقد تم اعتقال هؤلاء بعد هذا اللقاء، ومكثوا في السجن مدد مختلفة، ويرجع بعض المشاركين موضوع اعتقالهم الى وجود ناصر السعيد الذي كان مراقباً من الأجهزة الأمنية، فهل نستخدم نفس منطق التأويل السابق للقول بأن أسباب اعتقالنا بعد اجتماع فندق (الفهد كراون) يعود الى حضور محمد سعيد طيب، الذي يتمتع بشرف المراقبة الأمنية لسنين طويلة!

لا أدري، ولكنني سأقلل من شأن التأويلين السابقين، لتأكيد سمة المراقبة الأمنية لجميع الناشطين وإن بدرجات متفاوتة، ولا تعدو الإجتماعات أن تكون مجرد حجة لاقتياد اكبر عدد ممكن منهم الى المعتقلات.

وكما للإنفراج مخرجاته الإيجابية التي تستفيد منها الحكومة في السماح لمراجل الغليان بالتنفيس الذاتي عن احتباسها، والتعرف على مؤشرات التوجهات العامة لمطالب المثقفين والجماهير، بغية تحقيق الحد الأدنى منها، حفاظاً على الولاء، وضماناً للسلم الإجتماعي، فإن للقمع مخرجاته أيضاً، لأن تكريس اليأس ومظاهر الأمن السياسي للبلاد، تعمل على زيادة وتائر النقمة الشعبية التي لا بد لها من البحث عن مخارج أكثر حدة وراديكالية للتعبير عن تطلعات الشعب.

وقد حدث ذلك في أكثر من مرحلة من مراحل التأزم السياسي في بلادنا، ونذكر هنا أحد أبرز ردود الفعل على مخرجات القمع والاستلاب وحظر النشاط السلمي السياسي والعلني، والذي أدى الى اضطرار المهتمين بالشأن العام لانشاء أحزاب سرية راديكالية، عقب اعتقالات القيادات العمالية ولجنة الإصلاح الوطني في 1954م.

وقد تم تأسيس (جبهة الإصلاح الوطني) على يدي عدد من المثقفين الذين اعتقلوا على خلفية اجتماع مزرعة القطيف المشار اليها آنفاً، وقد افترق عنهم فيما بعد، علي غنام، حين أسس (حزب البعث العربي الإشتراكي)، كما خرج من الجبهة ناصر السعيد وشكل حزباً آخر، باسم (اتحاد شعب الجزيرة العربية)، كما شكل (جواد الفاسي) في الحجاز (جبهة تحرير الجزيرة) التي اعتقل على خلفيتها الدكتور صالح أمبه من عام 1969 وحتى 1972م.

وكما نرى، فقد ساهمت تلك الإجراءات القمعية في تشكيل الأحزاب الناصرية والبعثية والقومية، أما بقية المنتمين لـ (جبهة الإصلاح الوطني)، فقد تبلور طريقهم كحزب للطبقة العمالية، وتبنوا الفكر الاشتراكي، من خلال تكوين (جبهة التحرر الوطني) في عام 1958م.

وتأكيداً على دور مخرجات القمع في دفع المواطنين لتبني الخيارات الراديكالية، فقد غيرت الجبهة مسماها الى (الحزب الشيوعي في السعودية) في عام 1975م. ورغم ما يبدو من ملامح التسمية من راديكالية، فإن الحزب الشيوعي هو الوحيد من بين الأحزاب الوطنية السرية الأخرى، الذي أقرّ بالظرف الموضوعي، وبحقيقة أن السعودية كيان ودولة مستقلة معترف بها من دول العالم، بينما كانت كل الأحزاب تنعت مرجعية مكانها بمسمى (الجزيرة العربية).

ويمكن لنا بنفس الدرجة من التحليل أن نشير الى مناخ وأد الحريات العامة الذي أدّى الى اعتقال مؤسسي (لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية) في عام 1993، وبعد الإفراج عنهم سافر الدكتور محمد المسعري والدكتور سعد الفقيه الى لندن، وقاما بتأسيس حركة معارضة راديكالية في الخارج.

إن الحق (يغدو أباً) للبشر، والحرية (أمّاً) لهم، كما قال أحد الحكماء. ولذا فإن الحرية ليست مطلباً ولا شعاراً ثقافياً، ولكنها ضرورة وجود وحياة، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه منذ اربعة عشر قرناً: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. وإن ضمان الحد الأدنى من حريات التعبير السلمي، بالقول والكتابة والتظاهر، تشكّل صمام أمان لاستقرار الوطن وإصلاح شؤونه وتعزيز سلمه الإجتماعي، وهو ما تنبني عليه شرعية البيعة، والتعاقد بين القيادة والشعب، وعبره يتم تكريس مشاعر التمسك بالوحدة الوطنية، والشعور بالأمان النفسي والوظيفي والإلتفاف الطوعي حول القيادة.

وفي الوقت الذي كان فيه المواطنون ينتظرون انفراجاً حقيقياً في مجال حرية التعبير عن الرأي، ليتنفسوا من خلاله بعض نسائم الحرية، ومشاعر الأمان الثقافي والإجتماعي، فإن الحكومة تذهب في الإتجاه المعاكس لكل الاستحقاقات والتوقعات، فتصدر قراراً من مجلس الوزراء بتاريخ 13/9/2004 يحرم إبداء الرأي، ويعتبره عملاً مناهضاً للدولة، حيث يتوعد القرار المواطنين في جزء منه قائلاً: (تطبيق النصوص النظامية ذات الصلة في حق أي موظف يخل بواجب الحياد والولاء للوظيفة العامة مهما كانت طبيعتها، مدنية أو عسكرية، وذلك بمناهضته لسياسات الدولة أو برامجها من خلال المشاركة بشكل مباشر أو غير مباشر في إعداد أي بيان أو مذكرة أو خطاب، بشكل جماعي، أو التوقيع على أي من ذلك أو من خلال المشاركة في أي حوار عبر وسائل الإعلام، أو الإتصال بوسائل الإعلام الداخلية أو الخارجية، أو المشاركة في أي اجتماعات أو التستر على هذه المشاركة...الخ).

ولذا فإن اعتقال دعاة الإصلاح السياسي في الربع الأول من عام 2004م، كان إنذاراً مبكراً للمهتمين بالشأن العام في بلادنا، وعلى ضوئه يغدو إخضاعي للتحقيق أمام هذا المحقق الجهم، مسوّغاً بقانون سيصدر لاحقاً، وسيذكرني وجهه بوجوه المحققين القدامى، فالمحققون لهم وجه واحد، ولن أسأله عن اسمه (الحركي) أو الحقيقي، حيث يكفي ذاكرتي مداواة ما علق بها من جراح لا تمحى على أيدي (أبو ناصر وأبو منصور) (أحمد ناهر، وسراح الرويلي) في عام 1982م.

وكان أبو ناصر قد اعتقلني في غرفة نومي، وابقاني واقفاً على الجدار لمدة ساعة وليس عليّ إلا السروال، حتى فرغ من تفتيش غرفة النوم والكتب، وحين عادت زوجتي من المدرسة دخلت الى الغرفة، فطلب منها أن تبقى واقفة على الجدار أيضاً، ولكن (فوزية) رفضت، ولم تستجب للطلب، فسمح لها بالخروج وكلف أحد رجاله بمتابعتها في المطبخ.

ولعل أبو ناصر قد توهم لي دوراً كبيراً في تنظيم الحزب الشيوعي، نظراً لسمعتي الثقافية، كشاعر ومسؤول عن الملحق الأدبي في جريدة اليوم (المربد) ولأنه لم يجدني في البيت حين حانت ساعة الصفر لاعتقال عدد كبير من المثقفين الذين يشتبه في علاقتهم بالتنظيم.

وقد رافقت تلك الساعة المشؤومة، الموافقة للتاسعة من مساء الثلاثاء مباراة منتخب المملكة مع منتخب الكويت في العاصمة الرياض. ولشدة حرصي على الإستمتاع بهذه المباراة، فقد تركت منزلي لأن (فوزية) لا تحب المباريات، وذهبت الى أرامكو لمشاهدتها مع صديقي (دبّي الحربي).

لم أستمتع بتلك المباراة رغم فوز منتخبنا، لأن صديقي مغرم بالحديث في السياسة وعلم الإجتماع، فواصل الكلام معي ومع نفسه حتى انتهت المباراة. وحين هممت بالعودة الى البيت اتصلت فوزية، وقالت: طرق الباب عدة مرات أناس لا أعرفهم، وأظنهم من الربع!. وافقتها على ما ذهبت اليه، لأننا كنا نتوقع الإعتقال منذ ثلاثة أشهر حين القت المباحث القبض على اثنين من رفاقنا، بعد أن طالت الإعتقالات الكثيرين من أعضاء (حزب العمل الاشتراكي) منذ ستة أشهر.

تواصلت سهرتي (العرمرمية) مع (دبي) في أحاديث لا أول لها ولا آخر، وكان صديقي لا يعرف شيئاً عن انتمائي الحزبي، ولذا استمرّ في حديثه القوموي، وطلب مني مرافقته لزيارة الكويت، والتعرف على الدكتور أحمد الخطيب، فوافقته على طلبه، وحددنا موعداً في الأسبوع القادم. وقد رأيت أن استغل الفرصة للتحدث معه في الطريق، عن الحزب الشيوعي، وعن إمكانية انضمامه إليه.

رنّ جرس الهاتف في الواحدة فجراً، وكانت فوزية على الخط تبلغني انهم مازالوا يسألون عني، فأبلغتها أن تقوم بإحراق الكتب الماركسية الأربعة، وأنني سأنام عند صديقي.

كان رجال المباحث يقتعدون أمكنتهم طوال الليل في منزل تحت الإنشاء يطل على منزلنا، ولعلهم لاحظوا الدخان يتصاعد من حمام المنزل، فزادهم ذلك إصراراً على القبض عليّ.

نمتُ في منزل صديقي قريباً من الفجر، ولم نذهب للعمل في (مجلة القافلة) (غافلة الزيت بأرامكو) بحسب لهجة (دبي) الكويتي العذبة.. وحين صحوت في العاشرة، وكنت ألبس بنطلوناً، عدت الى البيت لكي أبدل ملابسي، وإذ هممتُ بارتداء ثوبي، دخل الغرفة بعنف ضابط مباحث المطار ومرافقوه، وأبقوني بالملابس الداخلي حتى وصل (أحمد ناهر).

حملوا كتبي وأوراقي في حقائب كبيرة، وحين طلبوا مفتاح مكتبتي لإغلاقها بهدف العودة إليها لاحقاً، رفضت فوزية وطالبتهم بحمل ما يشاؤون الآن، وأنها ليست على استعداد لاستقبالهم كلما شاؤوا، كما أنها تستخدم غرفة المكتبة في تحضير دروس الطالبات، فاستجابوا لطلبها، وسألني أبو ناصر: أين كنت البارحة، فأجبته عند صديقي دبّي الحربي.

خرجنا من البيت وكان عادل ابن ستة أشهر يتعلق بي باكياً، فأبدى ضابط مباحث المطار تعاطفه مع الحالة، وقال: ليتني لم أشاهد هذا المنظر!

حين كنا نقترب من (الثقبة) كانت الساعة تقترب من الثالثة عصراً، ولم أكن قد تناولت طعام الغداء، كما أنني لم أكن أحمل نقوداً، فتكرّم الضابط عليّ بـ (ساندويتش) مازلت أتجرع مرارته حتى اليوم.

وقبل الرابعة طلبوا مني، بعد أن وضعوا القيد في معصمي، مرافقتهم الى أرامكو للتأكد من أنني كنتُ عند صديقي (دبّي) ليلة البارحة.

يا للمصيبة.. لماذا لم أخترع سبباً آخر أو مكاناً آخر كالبحر مثلاً، وكيف أجرجر صديقي الى مشكلة لا ناقة له فيها ولا بعير؟

لقد هزموني مبكراً.

أعرف أنه لا يخبئ في منزله ما يدعو الى القلق عليه، ولكن من يقنعهم بذلك؟

كانت قاطرات سيارات الموظفين تخرج بعد الرابعة من البوابة العتيدة في أرامكو، وكنتُ أبحث عن مخرج فوجدته بعد عناء.

قلت لهم، لا أعرف بيته ولا أحفظ رقمه، ولكنني أعرف المنطقة التي يقع فيها، ومضينا ندور في الشوارع الصغيرة ومنحنياتها حتى تعبوا بدون جدوى فأعادوني الى مباحث الثقبة في حوالي السادسة مساء. تماسكت وسكنت الطمأنينة قلبي، وغسلت الهزيمة سريعاً، وحملوني الى مبنى مباحث الدمام القريب من البحر.

مكثت في مكتب الإستقبال ساعتين حيث لم يجدوا لي مكاناً، فقد سبقني الكثيرون منذ البارحة الى زنازين السجن، ولما أعيتهم الحيلة أخذوني الى أحد مستودعات الأثاث الممزق، وكلفوا حارساً بالجلوس معي فيه.

- وش تهمتك يا ولد، سألني الحارس؟

ـ لا أدري ولعلهم يرتّبون لي واحدة!

ـ لا.. ما يجيبون أحد إلا بتهمة، ولكن جهّز نفسك للتعذيب. والله أني جيت (هالحين) من عند مسجونين يُعلقون في المراوح، ويُضربون بالكرابيج، ويُعذبون بالكهرباء.

تماسكت نفسي، وتثاءبت لكيلا يلحظ خوفي، وكانت الذاكرة عامرة بسماع هذه الممارسات الوحشية التي تمارسها أجهزة المباحث في كل دول العالم، واستذكرت رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف، ورواية (الكراديب) لتركي الحمد، ومناخاتها الدموية التي تقشعر لتخيلها الأبدان. كما استعادت الذاكرة بعض ما وعته عن معتقلين سياسيين سابقين، إذ يصف لنا المرحوم سيد علي العوامي، رحلتهم في (الونيت) المكشوف من الظهران الى سجن الأحساء، حيث يتناوب العسكر على ضربهم في الونيت حتى أغمي على أكثرهم، كما يذكر عبد الرحمن البهيجان أن العسكر في السجن كانوا يبصقون عليه ويقذفونه بأبشع كلمات السباب، كلما مروا من أمام زنزانته. ولم يعرف سر تلك المعاملة القاسية إلا متأخراً، حين أوضح له أحد الحراس بأن المحققين أشاعوا عنه أنه...

ـ إن كان عندك تهمة اعترف أحسن لك، قالها الحارس بصوت عال.

ـ لا، ليس لديّ اي مشكلة مع الحكومة، فأنا مجرد كاتب وشاعر.

ـ بالله تقول القصيد، وراك ما تسمعنا واحدة هالحين؟

ـ قلت له قصائدي بالفصحى وليست سهلة التذوق.

ـ قال الله يعينك.. (يجيلك) ليل ما شفته من قبل، أنت وقصيدك.

لزمت الصمت، فانسحب الحارس الى خارج غرفة المستودع، وحين قاربت التاسعة مساءً، قادني خلفه الى السيارة، ومضينا الى مبنى آخر تمّ فيه تصويري بالغترة فقط، وأخذ بصماتي، وبعدها نقلوني الى مبنى حديث للمباحث الإدارية في حي الإتصالات، ويقع الآن خلف عمارة المعجل التي لم تكن قد قامت بعد.

دخلت المبنى فوجدت مجموعة كبيرة من رجال المباحث في مدخل المبنى وهم يفتشون أوراقي وكتبي وبعض خصوصياتي، فكاد قلبي أن يتمزق لهذه الكتب التي جمعتها من الباحة الى جدة الى كلية البترول وأرامكو وحي الدوحة في الظهران، وأضفت عليها الكثير خلال رحلاتي من الكويت الى بغداد والى عمان ودمشق والقاهرة.

إنها خلاصة دأب خالص، ورفقة عمر طويل، دوّنت في حواشيها ملاحظاتي، ولخصت بعضها في أوراقي المبعثرة أمامهم، وهاهي الآن ملقاة في حوش المباحث. من يضمن عودتها لي؟ وقد تذكرت ما قاله لي خليفة الدوسري ـ رئيس خليتي ومعلمي السياسي: يا حظّ ضابط المباحث الذي سيعتقلك لأنه سيمتلك الكثير من الكتب بدون عناء!

اقتادوني الى (القبو) ولاحظت كثرة العبارات المكتوبة على لوحات معلقة على درج الهبوط إليه مثل: (اعترف تنج)، (قل الصدق تسلم) وكان القبو يفوح بالرطوبة والحر، رغم أننا كنا في بداية فصل الخريف، وكان الحراس يجمعون المياة المتدفقة من قاعه ويحملونها في جوالين الى خارج المبنى لكيلا تغرقنا.

وفي الواحدة بعد منتصف الليل اقتادني الحارس الى غرفة التحقيق! كان المحقق هو (أحمد ناهر) وكان هادئاً ويتمتع بموهبة طرح السؤال ومفاجأتك وأنت في منتصف الإجابة، بسؤال آخر كان قد أعده بعناية.

وبالرغم من استفادته من عنصر المفاجأة إلا أنني كنت افرح بالسؤال لأنه يخرجني من تفاصيل لا أود التطرق إليها.

وبعد أن فرغ من كل الأسئلة التي يمكن أن تخطر على بال المعتقل، توقف عند السؤال الشائك الذي يثير الرعب في نفسي: من هو (خليفة الدوسري)؟ الذي يزورك في منزلك بأرامكو والذي تخاصم مع عبد القادر المنقوش في سهرة الأصدقاء في منزلك؟

كان سؤاله صحيحاً، ولكنني اتفقت قبل الإعتقال مع خليفة، رئيسي في الخلية، بإنكار معرفتنا ببعض! ولذا أنكرت معرفتي له.

عرفت مصدر معلومات المحقق، لكنني مصرّ على موقفي رغم محاولاته.

وفي حوالي الثالثة فجراً سألني عن المنشورات التي وجدوها في مكتبتي!

فأجبته: هل يمكن إطلاعي عليها لكي أجيبكم على السؤال؟

ولحظتها، إغلق دفتر التحقيق وأمر العسكري بإعادتي الى الزنزانة.

تنفست الصعداء، وداخلني رضى عميق غسل إحساسي بالألم تجاه صديقي (دبّي) ورأيت أن رجال المباحث كانوا من الحكمة بحيث لم يزجوا بشخص الى السجن بدون تهمة واضحة، ومنذ تلك الليلة لم أر أحمد ناهر إلا في ليلة سوداء، في سجن وزارة الداخلية بالرياض بعد وصولي إليها بحوالي الشهرين، حيث كان قد تولاني نيابة عنه، في الدمام والرياض (أبو منصور).

نمتُ ذلك الفجر ـ بعد أن خرجت من شباك أحمد ناهر ـ نومة لا أنسى طعم انسها، حيث لم أذقه بعدها، ولم أفتح عيني إلا على صوت محمد العلي، ومبارك الحمود، وهما يتنحنحان في زنازن القبو المجاور، قبيل الظهر.

كان مبارك الحمود مثقفاً وطنياً، ولكن لم تكن له علاقة بالحزب، ولذا بدا مرتاحاً، وتركزت مشاكساته مع العسكري حول تشغيل المكيف بشكل مستمر. وكانت الزنازن الثلاث الصغيرة بأبواب على شاكلة أعمدة من الحديد، تفتح على ممر طويل عُلّق المكيف في وسطه. شكوتُ للعسكري من شدة البرد، فأقفل المكيف. ولم نستغرق أكثر من ربع ساعة حتى صاح مبارك الحمود: شغلوا المكيف وإلا سأخرج من السجن، فيصاب العسكري بالخوف ويذهب لتشغيل المكيف. وبعد مدة قصيرة أصيح بالعسكري ليطفئ التكييف، وكان يتعاطف معي بسبب البرد، ولأنه زهراني، فيعمد الى إقفال التكييف والذهاب الى الزنزانات الأخرى هرباً من مبارك الحمود.

كنا قبل الإعتقال (مبارك وأنا) في القاهرة، وسكنا في شقة واحدة في المعادي، وقد اختصمنا حول التكييف، فصرخت فيه: يا مبارك فكنا من شرّك، تلاحقنا بالبرد من القاهرة الى السجن. والله انك أنت السجن! ضحك مبارك الحمود طويلاً وقال: (وأنا لا شفت زلقومك) تكدّرت وافلح نص عمري (زلقومك تعني باللهجة المحلية الجنوبية: الوجه الطويل الذي تبرز عظامه).

استجبت لمداعبته وقلت: من أجل عبد العزيز مشري، وهذه العبارة التي كان يرددها كلما ضاقت به الأحوال مع زوجته، سأدعو العسكري لتشغيل المكيف!

حضر وجه عبد العزيز في الزنزانة وفي محضر التحقيق الذي تم مع (ابو منصور) في الليلة الثانية بالدمام، وأكدت للمحقق أنه مريض وأنني وعبد العزيز لا ننتمي الى أي تنظيم. وقد ركز ابو منصور اسئلته حول علاقاتاتي بالتنظيم وعلاقتني بـ (خليفة الدوسري)، ويبدو انه حاول التأكد من معلوماته وايقن بوجود علاقة ما تربطني به، لذا هددني باستخدام وسائل التعذيب، وكانت العصا الغليظة الى جواره، غير أنني أنكرت معرفتي بـ (خليفة) واية علاقة لي أو عبد العزيز مشري بالتنظيم، فأمر بإعادتي الى الزنزانة.

جلستُ في الزنزانة وأنا أتأمل وجه (خليفة) واتخيل أنه لا يمكن إلقاء القبض عليه، إذ انه ورغم علاقتي الطويلة به والتي تجاوزت خمس سنوات، لم أتعرف خلالها على اسمه الحقيقي، ولا على عمله أو عنوان بيته، وكان أنموذجاً في الإنضباط والسرية، وكانت الأحلام تراودني بأنه قد هرب الى خارج الوطن، وقد سألني (خليفة) في مرات عديدة، عن إمكانية انضمام عبد العزيز مشري الى الحزب، وكنتُ أجيبه بأن عبد العزيز، مثقف وطني وتقدمي، ويمتلك مواهب متنوعة وغنية، ويتوفر على شجاعة نادرة، وقدرة في التأثير على الآخرين، ولكنني أخشى عليه من أمراضه الكثيرة التي يمكن أن تفتك به لو تم اعتقاله. ولذا بقي عبد العزيز صديقاً يحظى باحترام الجميع، لكنه لم ينتسب الى الحزب، ولا الى حزب العمل الاشتراكي، رغم محاولاتهم ضمّه إليهم، وهذه مشكلة أخرى تجدر الإشارة إليها، لأن تنافس الحزبين على ضم نفس الأشخاص أسهم في توليد مشاكل اختراق وكشف للعناصر، وانتقال من تنظيم الى الآخر، مما سهل ضرب كليهما في حالة انكشاف الاخر، وذلك ما حدث في عام 1982م.

بقينا في سجن المباحث الإدارية بالدمام خسمة أيام، غاب فيها المحققون عنا، وتفرغت لمشاغبة مبارك الحمود بالطلب من العسكري إقفال جهاز التكييف. وفي الحقيقة فإن اسم مبارك سبب لي مشكلة مربكة، لأن اسمي الحركي كان (مبارك) ولذلك فقد كنتُ ارتبك عند مناداة العسكري باسم مبارك!

وقد أرهقني هذا الأسم منذ كنت مع مبارك الحمود في القاهرة، حيث كنت أجيب الشغالة ومرافقاتها بـ (نعم) حينما يتبادلن بدلال مناداته باسمه. وحين خشيتُ من دلالات التباس التسمية تركت الشقة له، واستأجرت غيرها بعيداً عنه، وها هو النحس يصاحبني الآن حتى في الزنازين، ولم أتحرر من هذا العبء إلا حين نقلونا الى وزارة الداخلية في الرياض، ومنحوا كلاً منا رقماً خاصاً، فأصبح اسمي منذ دخولي زنزانة منفردة في الوزارة 139/9.

سكن مبارك في زنزانة تقع في الصف المقابل، وحمدت الله أن الزنزانة التي أمضيت فيها ما ينيف عن ستة أشهر، غير مزودة بالتكييف أو المراوح، والتي أصبحت في أول الصيف شبيهة بفرن واسع، لا تخضع لتدخلات مبارك الحمود!

كنتُ أتعامل مع الحراس باحترام فائق، وأتودد لبعضهم لكي يعطيني الفرصة للذهاب الى الحمام في أوقات الذروة، أو للحصول على عود كبريت أشعل به سيجارتي، وأكتب بجزئه المحترق ايامي على جدار الزنزانة، فلا أحد يحسب الأيام كما تحسب على جدار السجن. غير أن أكثرهم تشدداً معي كانوا أبناء قبيلتي، وحين يسألني أحدهم للتأكد من اسمي، قبل اقتيادي للتحقيق، أجيبهم بأن اسمي علي الغامدي، لكي يتعاطفوا معي، ولكنهم يسكتون عن ذكر اسم القبيلة، ويسألون: هل أنت علي الدميني، فأجيبهم بنعم، وأمضي الى حفلات التحقيق والضرب بين يدي (أبو منصور).

وقد عرفتُ اسمه بالصدفة حين صبّ الحراس عليّ الماء البارد وأنا نائم في فجر إحدى الليالي، وقال لي أحدهم: قم اطلب الله يا ولد غرم الله، سرح عليك سراح الرويلي!

الصفحة السابقة