مجادلات الكاريكاتور الدنماركي

النمطية الموروثة، الحرية، الديني والسياسي

ليست قباحات الرسوم الكاريكاتورية في الصحيفة الدنماركية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إفشاءً للمختزن النفسي والايديولوجي الغربي كما عبّر عن نفسه في هيئة عناد تضامني من قبل صحف أوروبية أخرى قامت بإعادة نشر الكاريكاتوريات، وإن كانت تلك القباحات تمثل جانباً من الاستدعاء المتكرر للصورة النمطية عن الاسلام في الغرب وعن الاديان إجمالاً باعتبارها المناهض التكويني لحركة الحداثة، التي نشأت لاحلال العقل محل الميتافيزيقا، وهي حركة بكل إشتقاقاتها وشُعبها الفكرية لم تفلح في تشييد عالم مفصول عن الروح الدينية المتنامية، فضلاً عن كونها فشلت في تحقيق أهدافها بعد أن أصيبت بخيبة أمل في استعادة وهجها التاريخي والمحافظة على خط سيرها المعرفي الذي دشّنه فلاسفة الانوار ثم الاجيال الحداثية اللاحقة لينتهي المطاف بكل تلك الحركة التاريخية الى حداثة مشوّهة صادرت كل منجزات الحداثة الغربية وأقصت كل رموزها وأقطابها ليكون للعقل الاداتي المتحرك على وقع المنفعة المادية وحده الحاسم في الأمر.

لقد خلطت الحداثة الغربية بجنوحها المادي المتطرف بمبادىء ناضلت شعوب أوروبا من أجل تحويلها الى حقوق مشروعة، فجاءت النتائج مختلطة مع فقدان مقاييس واضحة وحدود مقررة لتلك المبادىء مثل الحرية وتقاطعاتها والنقاط القصوى التي يمكن أن تصل اليها، وهنا يقع التشابك بين حرية المعتقد وحرية التعبير، أي بكلام آخر حرية الافراد في اعتناق الدين والايديولوجيا التي يشاؤون بملء إراداتهم وقناعاتهم في مقابل حرية التعبير المكفولة للافراد بما يتضمن نقد المعتقدات بصورة مطلقة وبلا حدود. لاشك أن الذاكرة الثقافية الاوروبية مثقلة بكل المناظرات الفكرية والمعرفية التي جرت بين الفلاسفة الاوروبيين حول الذات والعقل، منذ انكسار المقدس على يد نيتشه الذي أعلن موت الاله، ليفتح الجدل على أفق واسع في تمظهرات عدمية بالغة الشراسة حيث أصبح كل شيء قابل للزوال والازالة.

إن انكماش فضاء المقدس في الغرب على مدار أربعة قرون، أي منذ عصر الانوار وصولاً الى عصر مابعد الحداثة هي بعكس ما يتصور الكثيرون ليست بالضرورة تعبيراً عن حركة متوالية ومنظّمة لتحرير العقل وتحطيم الاصنام الذهنية، فالعقل لم يصل الى مداه المعرفي المأمول، ولا الاصنام الذهنية بالتعبير الحداثي بنزعته الالحادية تحديداً تحطمت.

ثمة نزعة استبدادية مستورة في حركة الحداثة الاوروبية تستعلن نفسها أحياناً في هيئة أفكار شوفينية شديدة التطرف، كما عكستها في مراحل لاحقة في المركزة الاوربية (يوروسنتريك) واخيراً تفجّرت في صورة مشاريع استعمارية انطلقت من عواصم أوروبا لغزو العالم. لم تكن النزعة، مهما حاول بعض المسحورين بوهج المنجز الحداثي إبلاغنا، مفصولة عن حركة الافكار في أوروبا، فالاستعمار كان يتشرعن عبر كوكبة معرفية وحضارية كانت ترسي له مسوغات التفوق العنصري، والاحساس المتضخم بالوصائية على العالم.

لم تكن الرسومات الكاريكاتورية بمثابة رصاصة طائشة في الهواء، وسيبقى الغرب أسير أحكامه المعرفية الناشئة خلال حركة الحداثة الاوروبية، التي انطلقت معتدلة وانتهت الى متطرفة وإلحادية أحياناً. إن الركون حد التقوقع الى قائمة الحريات العامة لا تعني تدمير الحدود والقفز الى داخل المجالات السيادية للآخر، الذي قد لا يرتضي ولا يتبنى ذات المقاسات من الحريات العامة. هل يعني ذلك، أن الآخر هو من يقرر حدود حرية الأنا؟ بالطبع كلا، مالم تكن الحرية تتضمن انتهاكاً وتعدياً على حرية الآخر، وقد قيل بأن حريتي تبدأ حيث تنتهي حرية الآخر.

إن الزعم بأن القوانين الدنماركية لا تتعارض مع نشر رسوم كاريكاتورية ساخرة من نبي الاسلام صلى الله عليه وسلم، لا يكفي لتصحيح الفعل، بل ثمة ما يلفت الى الخلفية المعرفية للقوانين والتي تغفل الاعتبارات الأخرى التي يجب مراعاتها في حال وضع تشريعات لها صلة بحقوق وحريات آخرين. فهل يجوز أن تضع دولة ما قوانين تجيز التحريض على الارهاب باعتباره موضوعاً ملتهباً في المرحلة الراهنة؟!.

ندرك من واقع التجربة الاوروبية أيضاً أن قائمة محرّمات (تابو) مازالت مفروضة على وسائل الاعلام رغم ما يقال عن حرية التعبير المكفولة من قبل الدستور. فالتحقيق في قضية المحارق النازية لليهود او الهولوكوست قضية محرمة ولن يكون بمقدور أحد أن يفلت من العقاب المادي او المعنوي في حال تجرأ في الحديث عن هذه القضية.. كانت المناكفة الايرانية إختباراً ذكياً لقدرة تحمّل الغرب الحداثي على نبش ملف الهولوكوست.

إن التصعيد المتواصل في الشرق والغرب حول الرسوم الكاريكاتورية قد يصل ذروة التفجّر وقد يفضي الى تمزقات سياسية واقتصادية وأشكال مواجهة مسلّحة، ولكن ليس بهكذا ردود فعل وردود فعل مضادة يمكن أن تسوّى الخلافات. فبين إصرار الصحيفة والمتضامنين معها على أنها لم تخرق قانوناً أو تنتهك تشريعاً داخلياً، ورد الفعل الاسلامي الغاضب الذي امتد من طنجة الى جاكرتا وانتقل الى بعض أجزاء من أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا، وربما غمر الكرة الارضية في لحظة ما، هناك يتحرى العقل دوره المنشود في تسوية التشابكات بأبعادها الحقيقية والمفتعلة.

وفيما يبدو، فإن ثمة إتفاقاً بدأت ترتفع إشارته من الشرق والغرب على الحاجة الى وضع قواعد أخلاقية رصينة ومقبولة دولياً على الكف عن النيل من المعتقدات الدينية بطريقة ساخرة وقدحية، بما يشمل أيضاً احترام مقام الانبياء والرموز الدينيين الكبار، بما يشمل كافة الاديان السماوية، أو المصنّفة في قائمة المعتقدات الدينية.

إن الجدالات الفكرية والعقدية بطبيعة الحال لاتندرج ضمن هذا المحدد ـ الاتفاق، ولكن ما يقصد منه هو النيل المتسافل والدنيء من الاديان والانبياء، والتي تنم عن عقلية إقصائية إعتلائية ترى في الآخر مجرد سفيه وبدائي.

الوجه للآخر للغضب العارم

بعد أن قاربنا الخلفية المعرفية للرسوم الكاريكاتورية القبيحة والمشينة بحق رسول الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم، لا بد أن نقدم هنا رؤية متوازنة أيضاً حول انفجار الغضب المتأخر في العالم الاسلامي انطلاقاً من السعودية وانتشاراً في كل بقعة من بقاع العالم الاسلامي وتصعيداً خطيراً في سوريا ولبنان بحرق السفارات وتجاوزاً على دور العبادة والكنائس. هل ثمة غضبة إسلامية خالصة تلك التي تفجرت بعد عدة أشهر من نشر الرسوم الكاريكاتورية والتي أوصلها شخص ما الى المفتي السعودي عبد العزيز آل الشيخ فأطلق صفارة الهجوم الشعبي على الدنمارك، فهل هو مجرد الضمير الديني الخالص والاحترام الكبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم الدافع من وراء كل ذلك؟

بالنسبة للمسلمين فإن تصويراً كاريكاتورياً بشعاً وسخيفاً عن المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم ليس أقل جرماً من إزالة آثاره ومحو تراثه وكل ما يمت اليه بصلة من بيوت زوجاته وأهل بيته، وكل معلم كان له فيه مشهد يدل على أثره في الاسلام الخالد وكذا صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. لقد أزيلت آثار الاسلام ودُمِّرت آثار النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق من تلك الآثار حسب الخبراء الا أقل من 5 بالمئة ولم نسمع من يغضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس القدر الذي نسمعه الآن، ما لم نستدعِ المثل القائل (بيدي لا بيد عمرو)، فأن ينال غير المسلم الكافر الملحد من رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاريكاتور يصبح قضية إسلامية مصيرية، ويجب أن تنطبق السماء على الارض لعظيم فعلة الصحيفة الدنماركية وأن يجري عليها وعلى الدولة التي تصدر منها أشد ألوان العقاب، ولكن أن تدمر بيوت الرسالة ويمحى كل أثر للنبي وأصحابه في مكة والمدينة بحيث لا يبقى من هذه الآثار الا الحرمين الشريفين مع تبدّل في هيئتهما ومعالمها والآثار الملتصقة بهما، فكل ذلك يسكت عنه، فأين هو الحرص على الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهل تكريم رسول الاسلام يتم عبر تدمير آثاره أو صيانتها، وهل الحفاظ على بيضة الاسلام يقوم على محو تلك الشواهد المسجّلة على الجبال والتلال والسهول والتراب والماء، لنقول بعد أن أنهت آلة التدمير مهمتها بنجاح منقطع النظير بأن ذلك حفظ للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم!!

من جهة ثانية، فإن توقيت رد الفعل لابد أن يبعث تساؤلاً خصوصاً وأن الرسوم الكاريكاتورية نشرت قبل عدة أشهر، بل وأكثر من ذلك فقد نشرت كتب وأحاديث ساخرة في الغرب ولكنها لم تثر هذا الغضب العارم الذي اجتاح العالم الاسلامي انطلاقاً من السعودية، حتى بتنا نشهد تعبئة شاملة غمرت الفضاء وشارك فيها الرجال والنساء والاطفال، والخطباء والكتاب والادباء والفقهاء، ولا يكاد يستثنى من تلك الحملة الدولية أحد، حتى المحسوبين على الحكومات غير الاسلامية مثل سوريا ولبنان.

لاشك أن العاطفة الدينية للأكثرية المسلمة في العالم هي المحرّك الرئيسي وربما الوحيد وراء رد الفعل الغاضب العبّر عنه في مقاطعة المنتجات الدنماركية والنرويجية، وهو رد فعل يعكس الضمير الديني النشط والمتحفز للدفاع عن الهوية والكرامة والمعتقد الديني الممثل في تقدير خالص لنبي الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم. ولا غرابة في ذلك الموقف، فقد أصابت الرسوم الكاريكاتورية بسهامها النارية الضمير الديني للمسلمين ومن الخطأ الفادح التمادي الى أبعد من ذلك من قبل الصحيفة أو من تضامن معها وأعاد نشر صورها القبيحة.

غير أن خلف تلك العاطفة الدينية النقية تقبع أهداف أخرى تغذت على تلك العاطفة، فثمة أغراض سياسية وراء ذلك لدى بعض الحكومات والجهات الدينية. فبالنسبة للتيار السلفي والمؤسسة الدينية الرسمية في السعودية، فإن مثل هذه المناسبة تحقق دون شك تعبئة داخلية واعادة اصطفاف لفلول التيار الذي تمزق على مدار خمس سنوات على وقع أحداث عنف وتوترات اجتماعية وسياسية وفكرية ضربت صميم المؤسسة الدينية والسلطة معاً. إن هذه الحادثة جاءت لترمم التصدعات الخطيرة في بنية التيار السلفي الناشط، الذي حاول الافادة من الحدث حد السفه من أجل إستعادة الاصطفاف الداخلي وتنظيم المجتمع السلفي تحت قيادة العلماء. ثمة إشارة لافتة هنا تتمثل في أن المبادرة الغاضبة انطلقت هذه المرة من رأس المؤسسة الدينية، أي المفتي، وكأن الفعالية الاجتماعية تنبىء عن دور يراد للمفتي أن يلعبه من داخل رواق الدولة لسحب الاضواء من التيار السلفي الخارج عن نطاق السيطرة الكاملة للسلطة، فهنا تصبح مقولة خضوع العلماء وانقيادهم لممليات السلطة موضع شك داخل الفريق السلفي الآخر الذي تمرد على خلفية نزعة الانعتاق من هيمنة السلطة على نشاط العلماء.

هل خطف الاضواء من التيارات الدينية المتطرفة مكوّن من مكوّنات الحملة التي يقودها خليط من العلماء التقليديين وأنصاف التقليديين؟ ربما، فهي مناسبة لسحب الاضواء من التيار الخاطف للاسلام لسنوات طويلة، وقد تعدّل المجاذبة الداخلية من ميزان القوى داخل المجتمع الديني الذي يشعر بأن موقعه قد أصيب في مقتل منذ بروز شبكة القاعدة وتفريعاتها بمنظومة أفكار ورموز وقيادات أطاحت تلقائياً بالمنظومة التقليدية منذ حوادث الحادي عشر من سبتمر.

ردود الفعل الشعبية لا تخلو هي الاخرى من لفتات على درجة كبيرة من الاهمية، فبين مقاطعة البضائع الدنماركية وهو رد فعل إلتقت عليه الأغلبية في السعودية ودول الخليج عموماً، وهناك ردود فعل أخرى أخذت منحى أشد تطرفاً من قبيل أحراق السفارات في كل من سوريا ولبنان، وتجاوزاً الكنائس في المناطق المسيحية في بيروت، وقد قرأنا عن فتاوى إهدار دم رسّام الكاريكاتير الدنماركي. وفي الوقت الذي يصعب فيه التنبوء بمسلسل ردود الفعل الشعبية، فإن ثمة حاجة الى الفصل بين الديني والسياسي، فليس كل ما يعتمل داخل العاطفة الدينية متحرراً من مفاعيل السياسة ومحرّضاتها، فالجمهور العام من المسلمين يبقى خاضعاً تحت تأثير هيمنة الساسة أو من يندرجون في قائمة الساسة وإن تستروا بعناوين دينية. إن الكلام الكثير الذي قيل حول تحريض بعض الحكومات للجمهور الغاضب على الاحراق والتخريب لقنصليات ومصالح دانماراكية ونرويجية وربما غربية يبدو في بعضها الكثير صحيح. فقد أريد من هذا (التغضيب) للشارع تحقيق أغراض سياسية، وهناك رسالة ما يراد إيصالها الى جهات ما في الغرب. وهناك دون شك رابطة ما بين ذلك كله والتجاذبات السياسية في المنطقة سواء في العراق والمواجهة بين سوريا والولايات المتحدة، الى جانب الاوضاع الداخلية التي يراد معالجتها بطريقة خاصة، كما يفعل الآن التيار السلفي في السعودية، وكذا باقي التيارات الدينية التي تحاول توظيف الحدث لتحقيق المزيد من المكاسب والمساحات الفارغة.

ما نخلص من كل ماسبق ذكره، أن النيل من رسول الله صلى الله عليه والسلام كان خطئاً كبيراً يجب أن تدفع الصحيفة ثمنه، ولكن ليس عن طريق إهدار الدم كما فعل البعض، وأن ثمة حاجة الآن لوضع حد للنيل من الانبياء بطريقة ساخرة وازدرائية، وفي الوقت نفسه فإن معاقبة الدنمارك كدولة قد يبدو منطقياً لدى البعض من باب ممارسة دور اللوبي، ولكن ليس الى حد شن حملة عقاب جماعية ضد كل ما يخص مصالح الشعب الدنماركي، لأن ذلك فيه تعريض بسماحة الاسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت ذاته يجب الالتفات الى الاجندة السياسية التي تقف خلف هذه التظاهرة الاحتجاجية واسعة النطاق التي قد يكون سوء حظ الدنمارك أن تقع في هذا المطب لتكون كبش فداء ودرعاً يتلقى ضربات موجّهة لغيرها.

الصفحة السابقة