د. مضاوي الرشيد

الملك عبد الله

مـخـبـأ للـجـنـاح السـديـري

في مقابلة مع (المشاهد السياسي) تحلل الدكتورة مضاوي الرشيد، الباحثة والمحاضرة في كلية كنجز كوليج بجامعة لندن بنية النظام السياسي في عهد الملك عبد الله، في سياق تشخيص حالة المنافرة المتزايدة بين السلطة والمجتمع. وترى الرشيد بأن ولاية الملك عبد الله مؤقتة، ولن يكتب لها الدوام لفترة طويلة، بسبب تقدّمه في السن. وتنبّه على أن الملك عبد الله يمثّل واجهة جيّدة ومخبئاً ممتازاً لعناصر أخرى في العائلة المالكة، والتي هي تدير من الناحية الفعلية القرارات السياسية الداخلية. وتصف الرشيد الملك الحالي بأنه نافذة تطلّ بها السعودية على العالم، ولكن ليس لعبد الله القدرة أو الرؤية المستقبلية، التي يتطوّر نظام الحكم على أساسها باتجاه المشاركة الشعبية، واستقلالية المؤسسات.

وفي سؤال حول الدور الاميركي في هندسة الحكم السعودي، ترى الدكتورة الرشيدة بأن الولايات المتحدة تنظر للعائلة الحاكمة، وكأنها الدرع الأول والأخير في مواجهة التطرّف والارهاب، وفي حماية مصالحها النفطية والاستراتيجية في الجزيرة العربية. لا توجد فئة أو مجموعة سعودية محلّية، تستطيع أن تلعب هذا الدور المهم، من وجهة نظر الولايات المتحدة. لذلك، فإنها لا تطالب إلا بإصلاحات سطحية، تجعل النظام السعودي أقلّ إحراجاً للادارات الأميركية في الداخل الأميركي. فلو سمح النظام السعودي للمرأة أن تسوق السيارة، أو سمح ببعض الحرّيات الدينية للأقليات غير المسلمة، فستفرح الولايات المتحدة، لأنها ستقول لجمهورها الأميركي، أنها لا تساند أنظمة دكتاتورية تقمع حقوق الإنسان المعترف بها دولياً.

وفي السياق نفسه، فإن السعودية تعتمد اعتماداً كلّياً على طاقم أكاديمي وصحفي غربي، من أجل أن يلمّع صورتها عند الجمهور الغربي، كما تصرف الملايين على المؤتمرات التي تخاطب الغرب، وتقرّب السعودية إلى قلبه. ومع الأسف، فإن معظم هذه المحاولات تهدف إلى تحسين صورة النظام وليس المجتمع، وحتى هذه الأبحاث والكتابات والمؤتمرات، التي تحصل في جامعات الغرب، وبتمويل سعودي بحت، يكون هدفها الأول والأخير إظهار مدى تقدّم الأسرة الحاكمة وتخلّف المجتمع وتطرّفه. وتنقل الرشيد تجربة شخصية لها وتقول: لقد حضرت أنا شخصياً مثل هذه المؤتمرات، وأصبحت بحالة غثيان من كثرة الاطراء والمديح، المنصبّين على سياسات النظام، والقدح بالمجتمع، والذي يصفه أزلام النظام، وكأنه بؤرة للتطرّف والتخلّف. وتهدف هذه المؤتمرات، حسب الرشيد، إلى نتيجة واحدة مسبقة، وهي إظهار الدور الحضاري للنظام في بيئة متخلفة.

وحول ما يسمى بالحرب على الارهاب التي تشنّها الحكومة في الداخل بالنظر الى إستمرار تسرّب أعداد من الشباب الى محرقة الموت في العراق، تذكّر الدكتورة الرشيد بأن الجهاد الأفغاني امتصّ حالة الاحتقان التي شهدتها السعودية خلال الثمانينيات؛ وكذلك اليوم، نجد أن المحرقة العراقية بإمكانها أن تستوعب الاحتقان الحالي. السعودية تحاول دائماً كنظام، أن تتملص من مسؤوليتها عن سياستها الخارجية الخاطئة، ولكنها ستدفع الثمن، على صعيد النظام، لهذه السياسات، التي هي بالأساس مبنية على مصالح شخصية، وليس على مصالح الوطن ككل. وفيما تبدو مصادر تمويل وتشجيع الشباب للذهاب للعراق مجهولة يبدو، حسب الرشيد، أن النظام لا يمانع بشكل جدّي وعلني، من أن يذهب شبابه الغاضب إلى العراق، رغم كل التصريحات المعلنة. ولكن الخطر القادم أعظم، ففي يوم ما سيعود هؤلاء الشباب إلى أرض الوطن، وستكون العاقبة وخيمة.

سعود الفيصل: تصريحات مثيرة حول الملف الإيراني

وبطبيعة الحال، فإن ثمة سؤالاً متوقعاً لابد من طرحه حول دور المؤسسة الدينية في عهد الملك عبد الله، حيث ترى الدكتورة الرشيد بأن المؤسسة الدينية التقليدية موالية للنظام وتعتبر طاعة وليّ الأمر عبادة، وتنأى بنفسها عن التدخل في السياسة، إذ أنها تقرّ بأن تترك ما لقيصر لقيصر، وتحتفظ السعودية بهذه المؤسسة من مبدأ التزام تكريمها ومكافأتها، مقابل جهودها العظيمة في تخدير المجتمع، لمدة تزيد على قرن كامل. لهذه المؤسسة، كما تقول الدكتورة الرشيد، تخصّص كبير في فقه العبادات، ولكنها عقيمة فكرياً في مجال السياسة، فليس لها أي أدبيات تعالج موضوع الولاية والتوريث في الحكم، ولا أدبيات تتطرّق للعدالة الاجتماعية في الإسلام، وحقوق غير المسلمين؛ كل همّها اليوم، هو منصبّ على تقييد حرية البشر الفكرية، ومعاقبة من يجرؤ على أن يطرح مشروعاً سياسياً، وهي أيضاً تتصدّر القضاء الذي يحكم على الآخرين بالكفر والالحاد، والخروج على وليّ الأمر، وتقويض دعائم الأمة، واستئصال الفتنة.

وفي الوقت الراهن، حسب الرشيد، فإن المؤسسة التقليدية لا تحتكر الخطاب الديني، بل هي مضطرة إلى أن تتقاسم، مع ما يسمّى بالصحويين الإسلاميين، الحيّز الديني. وقد إستطاع هؤلاء أن يتعاطوا عن طريق خطاب تعبوي سياسي ديني، مع أمور تلقى تجاوباً من قبل الشباب. ولكن المؤسسة الصحوية ذاتها، لم تستطع أن تصمد أمام بطش النظام، والذي زج بأعلامها في السجون فترة التسعينيات. وعندما خرج هؤلاء، اضطروا إلى أن يعيدوا صياغة أنفسهم، وكأنهم اليوم من أعلام التغيير والتنوير. واضطر هؤلاء إلى أن يلعبوا هذا الدور، وبخاصة بعد أن اتهمهم أعلام النظام والأمراء بخاصة، بأنهم المنظّرون الفكريون لتيار العنف في السعودية، والذي انفجر بشكل واضح خلال السنوات الثلاث الماضية. وبعد إعادة تأهيل التيار الصحوي، أصبح هذا التيار قادراً على انتقاد الغرب وهيمنته فقط، والمجتمع وتخلّفه، فرموزه يحمّلون التراث والثقافة المحلّية السائدة مسؤولية التطرّف والتخلّف، ويبرّئون النظام من كل مشكلة، بل حتى أن منهم من يثني على النظام ويمدحه بطريقة مبتذلة، وبخاصة أننا نعلم أن منهم من كان له تحفظات كثيرة على هذا النظام، والذي لم يتغير حسب رؤيتهم، بل اتّجه على نحو معاكس لما كانوا يطالبون به، وشطح شطحات كبيرة في الاتجاه المعاكس. ربما أن هؤلاء اليوم يتبنون خطة استراتيجية تهدف إلى مهادنة النظام في الوقت الحالي، والله أعلم.

وفي موضوع الملف النووي الايراني، حيث أثارت تصريحات وزير الخارجية الامير سعود الفيصل الحادّة ضد ايران خلال محاضرة مشتركة مع وزير الخارجية البريطاني جاك سترو أسئلة عديدة حول توقيت التصريحات وعن الاسباب الحقيقية لحدة اللهجة غير المألوفة لمسؤول سعودي، ترى الرشيد بأن: تصريحات سعود الفيصل التي تردد تخوّف السعودية، وتحفّظها على مشروع إيران النووي، ما هي إلا صدى للخطاب الأميركي الضاغط على إيران. وفي النهاية، فإن السعودية لا تستطيع أن تتّخذ موقفاً مخالفاً للولايات المتحدة، فهي تتّفق مع المخطط الأميركي، بل هي جزء لا يتجزأ من هذا المخطط. أميركا تعتمد على السعودية في تمرير سياستها في المنطقة العربية. ما يخيف أميركا ويقلق راحتها، هو أيضاً بالضرورة يقلق السعودية كنظام، وليس بالضرورة كشعب. السعودية لا تستطيع أن تتحمّل أن تنافسها إيران في المنطقة العربية، أو حتى في العالم الإسلامي. لذلك نراها تتململ من تصريحات نجاد المعادية لإسرائيل، وتعتبرها نوعاً من الغوغائية التي تلقى استجابة في الشارع العربي والإسلامي، وتحاول أن تعطي الانطباع أن سياستها الخارجية قائمة على الهدوء والتروّي؛ ولكن الواقع يختلف، إذ إن هناك لحمة بين الموقف الأميركي من إيران والموقف السعودي. تريد السعودية دائماً أن تتصدّر الاعلام، وتظهر نفسها أنها مدافعة عن قضايا المسلمين، وهذا من أجل الاستجابة للشارع السعودي نفسه، الذي يطلب مثل هذا الموقف، ولكن لم يعد هذا الشارع مقتنعاً بالكلام فقط.

وإستطراداً في تحليل الاصطفاف السعودي خلف الموقف الاميركي، تلفت الرشيد الى أن الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة في المنطقة، وهي التي تفرض العمل السياسي وتوجّهاته. عندما نسمع حوارات الكونغرس الأميركي في الشأن المتعلق بالسعودية، نجد أن التركيز ينصبّ دوماً على ما يمكن أن يفهم منه اقتناع الكونغرس بالدور المساعد والمساند الذي تلعبه السعودية، إزاء الوجود والمصالح والمشروع الأميركي. وفي جلسة انعقدت مؤخراً، تحدّث أحد الأكاديميين الأميركيين، المقرّبين من النظام السعودي، أمام الكونغرس، عمّا أسماه بمدى التعاون السعودي مع الولايات المتحدة، في الحرب على الارهاب، وعمّا أسماه أيضاً بمناصرة السعودية للموقف الأميركي، في القضايا المتعلقة بنيكاراغوا وأفغانستان، مشيداً بدور الحكم السعودي في المخطّط الأميركي، وقال أن الدور السعودي أصبح من أهم العوامل التي تضمن النجاح للمشاريع الأميركية.

وحول التناقض بين النزعة الدينية التكفيرية للنظام السعودي كما تترجمها عملياً معاول التدمير في الآثار الاسلامية في المدينتين المقدّستين مكة والمدينة، وبين الافراط في الاهتمام بتخليد كل أثر خاص بالعائلة المالكة، تتحدث الرشيد على أفق أوسع بالقول بأن: المدن السعودية تحوّلت بالفعل إلى متاحف أثرية للنظام السعودي ورموزه، من خلال مسمّيات وملكية الشوارع والمستشفيات والمساجد، والمطارات والمعاهد والجامعات، والمباني العامة والخاصة، والمدارس؛ وجميع المرافق العامة تحمل أسماء الأمراء، الذين تغطّي صورهم الكبيرة الحجم جدران هذه المرافق، بل حتى الأرصفة، وخلفية السيارات والشاحنات. هذا الابتذال الواضح، يسترعي الانتباه في بلد يفتخر بأنه يمارس أنقى وأصفى أنواع التوحيد بالله، الذي لا يقبل الشرك وأنواعه. عجباً! كيف تقبل المؤسسة الدينية السعودية بمثل هذه الصور، وهي التي تعتقد أنها وحدها المدافعة عن التوحيد، والحامية له، وهي وحدها التي تستأصل البدع والممارسات الدينية الشركية؟!

استغلال سعودي لموسم الحج

وعن المكسب المادي والمعنوي الذي تجنيه العائلة المالكة خلال مواسم الحج، تشرح الدكتورة الرشيد هذه النقطة بشيء من المرارة وتقول بأن النظام يستغل هذا الموسم الديني كيما يبيّن للعالم بأنه حامي الحرمين، وأنه الساهر على راحة المسلمين القادمين من أجل الحج. ولكن أزمات الحج هذا العام وكل عام، تعرّي هذا الخطاب الدعائي. فقد صوّرت الدعاية السعودية الحجّاج وكأنهم جهلة أمّيون، وحمّلتهم مسؤولية الكارثة التي حصلت في مكّة هذا العام. ومع الأسف، يبدو لي أن الحاج المسلم القادم إلى مكّة كل عام، هو موضع شك وريبة! فالنظام ومؤسسته الدينية تشككان بالتزام الحاج بالتوحيد، عندما تصدر منه بعض الشعائر، والتي لا تتفق مع الأجندة السعودية، وحتى أن بعض الفكر المخالف للنظام السعودي من قبل الحاج، يعتبر جريمة كذلك، عندما تلقى مسؤولية الكوارث على الحاج نفسه!. أما مادياً، فالحج يوفّر الكثير للنظام ولشريحة كبيرة من المستثمرين والمسؤولين عن الخدمات، وما توفير ما يحتاج إليه الحاج من وسائل نقل وبيع وشراء ومعاملات، إلاّ مجالات واسعة للكسب السريع والموسمي. فعندما يتشدق النظام السعودي بتكلفة توسيع الحرم، ومدى إنفاقه على المشاريع المطوّرة لبنية مناطق الحج، فإنه يبرز وجهاً واحداً فقط للحقيقة. لماذا لا يعلن النظام في الوقت نفسه عن المدخول الذي يوفّره الحج للتجار السعوديين، وأصحاب الفنادق، وشركات النقل، إلى ما هنالك من خدمات مرتبطة بموسم الحج؟! عندها فقط تكتمل الصورة بشفافية واضحة.

في سؤال حول النزعة الميكافيلية للنظام السعودي، كجزء من منهجية إدارة الدولة والمجتمع، تؤكد الرشيد بأن أي نظام يقوم على القهر، هو نظام يطبّق وصايا ميكافيلّي، والتي إحداها تعتمد على مبدأ التخلّص من أصدقاء الأمس، الذين يوصلون الأمير إلى كرسي الحكم. هذا الأمير لا يستطيع أن يمارس سلطاته من دون أن يتخلّص من هؤلاء الأصدقاء، وبطريقة استئصالية عادة. وهذا ما حصل بالفعل للنظام السعودي، في طريقة تعامله مع من أوصله إلى الحكم؛ فقد اعتمد أول ما اعتمد، على قوة عسكرية قبلية، ومن ثم تم القضاء عليها، عن طريق استغلال واضح لعلماء الدين في الرياض. وبعد أن قوي هؤلاء، نرى أن النظام اليوم يحاول تقليم أظافرهم، حسب طلبه هو، وتحت مظلّة تجديد الخطاب الديني؛ وهمّه أن يكسر شوكتهم، ويقلل من شعبيتهم أمام جمهورهم. ويعتمد في هذه المهمة على طيف كبير من الكتّاب الليبراليين، وحتى الإسلاميين الذين يطمحون إلى مناصب تخوّلهم أن يصبحوا هم المؤسسة الدينية الجديدة. أرجو أن يتذكّر هؤلاء نصائح ميكافيلّي، التي لا ترتبط بحدود الجغرافيا والثقافة المحلية، بل هي معممة على كافة الثقافات، لأنها تصف السلطة المطلقة، والتي تمارس بالشكل نفسه، في كل مكان رغم اختلاف الثقافات المحلية.

وحول تجديد الخطاب الديني السلفي بخاصة، ترى الدكتورة الرشيد بأنه لا يوجد اليوم مجدّد ديني في السعودية له ثقله الفكري في الثقافة الدينية. كل ما عندنا هو حالة تشظٍّ وشرذمة، يدخل فيها العلماء في صراعات جانبية، نتيجة استقطابهم من قبل السلطة السياسية. فيعتزل عالم ما الدعوة، ويكتب قصيدة ويعود عن قراره، بعد تدخّل أمير. ويصدر عالم أخر فتاوى حسب الطلب، أي نتيجة تدخّل السلطة مرة أخرى. فأي تجديد للخطاب الديني سيحصل في ظل هذا الوضع المزري! الخطاب الديني يتجدد عن طريق علاقة ديالكتيكية مع الواقع السياسي والاجتماعي.

وفي قرائتها الاجمالية للواقع السياسي الراهن في السعودية، تتوقع الدكتورة الرشيد بأن الوضع لن يستقيم عن طريق مراسيم ملكية، وتشرح ذلك بالقول: اليوم، الطفرة الاقتصادية شغلت أطيافاً كبيرة وكثيرة في المجتمع. النظام السعودي يتبنى سياسة ''الاقتصاد هو الحل''، وكأنه بذلك يروّج لمقولة '' المال أفيون الشعوب''. النظام في السعودية يشتري الوقت.. ولن يستقيم الوضع، إلا إذا انخرطت الشرائح الشعبية في مشروع الاصلاح. ولكن يجب على هذه الشرائح، أن تعرف أولويّاتها. ربما أنها تطمح فقط، إلى أن تعيش حياة رغيدة ورفاهية، ولا يهمّها المشروع الاصلاحي السياسي، وهذا خيارها يجب أن نتقبّله وأن نحترمه. ولكن هل يا ترى، ستعمّم الطفرة، وستوزّع الثروة بشكل يصل إلى تلك المجموعات المهمّشة في داخل المدن السعودية، وإلى أطراف البلاد في الشمال والجنوب؟ هل سيرضى الجميع أن يكونوا ماكينة استهلاكية تجترّ منتجات الغير، وهي نفسها غير قادرة على الانتاج؟!

الصفحة السابقة